ماذا بعد؟
قطع صاحبنا هذه المسيرة على طريق الحياة، مخلفًا وراءه آثار أقدام — هنا وهناك — تقف شاهدًا على ما استطاع أن يحقِّقه خلال تلك السنوات، وما عجز عن تحقيقه. وهو في تقديمه لِمَا مرَّ به من تجارب، يحرص على ذكر تلك التي يقوم عليها شهود معاصرون (مدَّ الله في أعمارهم)، حتى لا يظن أحد أن بعضها أملته الأوهام وأحلام اليقظة وتصفية الحسابات، فكلها وقائع ثابتة، اكتفى بالإشارة إلى مناصب أصحابها أحيانًا، وذكر بعضهم بالاسم أحيانًا، لا بقصد التشهير بهذا أو ذاك، ولكن بغرض دق ناقوس الخطر لمن خدعتهم المظاهر فأخفت عنهم الجوهر.
ولا يعني ذلك أن صاحبنا كان دائمًا حكيمًا، خاليًا من العيوب والأخطاء، فلا يوجد قديسون بين البشر، بل جميعهم خطاءون. وكثيرًا ما يتأمَّل صاحبنا هذه المواقف التي مرَّت به، ويعيد تقييمها فيأخذ على نفسه أنه بالغ في سوء الظن بمواقف أطراف أخرى بعينها. ولكن ليس كل الظن إثمًا على أي حال، حسبه أنه لم يتخذ موقفًا — يومًا ما — بدافع شخصي محض، وكثيرًا ما يكتشف أنه وضع ثقته في غير أهلها، وظن أن كل ما يلمع ذهبًا.
ولو أطلق صاحبنا العِنان لقلمه لتحوَّل هذا العمل المتواضع إلى سِفر ضخم، أو إلى عدة كتب، لعل أخطرها وأكبرها حجمًا ما يتصل بتجرِبته الجامعية التي اكتفى هنا بالحديث عن العلل والأمراض التي تعاني منها الجامعة محاولًا تشخيصها دون أن يتطرَّق إلى علاجها، فلديه — بحكم خبرته وتجاربه ومعرفته بأكبر جامعات العالم — وصفات كثيرة للعلاج، لم يجد من الحكمة أن يفرد لها مساحةً هنا.
كذلك لو أطلق صاحبنا العِنان لقلمه، لكتب الكثير والكثير عن الشخصيات التي عايشها، واحتكَّ بها على طول طريق الحياة؛ المغمورون منهم والمعرفون على السواء، شخصيات عبَّرت عن قسمات المجتمع المصري من الفلاحين والعُمال والحرفيين، والمثقفين، وبعض من اقتربوا من السلطة. ولعله يستطيع يومًا أن يخص تلك الشخصيات بعمل قائم بذاته، إذا امتدَّ به الأجل، ونجت ذاكرته من أمراض الشيخوخة. ولم يتناول صاحبنا — أيضًا — بعض مع عرفهم من المثقفين وأساتذة الجامعات في أسفاره وزياراته الخارجية، ولا انطباعاته عن المؤسسات العلمية في الغرب؛ فقد حرص هنا على التركيز على التجارب المتصلة بوطنه ومجتمعه، وأن يكون حديثًا «عامًّا» وليس «خاصًّا» يخاطب القراء جميعًا، ولا يركِّز على «النخبة» وحدها؛ فالرجل لم يحسب نفسه يومًا على تلك النخبة، وإن انتسب إليها بحكم موقعه، فهو — دائمًا — يجد نفسه بين بسطاء الناس، يطيب له الجلوس إليهم، ويوقف عمله العام على خدمتهم والدفاع عنهم، أداءً لحق واجب في عنقه لمن خرج من بينهم، وورث عنهم حكمة المصري القديم.
وكم يتمنَّى صاحبنا أن يختم حياته بتقديم الأعمال العلمية التي خطَّط لها، وأعدَّ مادتها، ولكن جرَّته مشاغله العلمية إلى إرجائها، ويتطلَّع إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يخلو إلى نفسه، بعدما يتخلَّص من كل التزاماته، وفي مقدمتها رئاسة الجمعية المصرية للدارسات التاريخية، ليعكف على إخراج ما في جعبته من أفكار في عمل شامل من عدة مجلدات، يغطِّي تطوُّر المجتمع المصري في العصر الحديث من مختلِف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، يختم به حياته العلمية.
وآخر الأمنيات أن يموت كالأشجار واقفًا، وألَّا يسقط القلم من يده، وأن يظل قادرًا على التفكير والإبداع حتى يجود بالنفَس الأخير.
ولله الأمر من قبلُ ومن بعد، وهو على كل شيء قدير.