المراجعات – الحوارات – القضايا
عندما كتب «صاحبنا» سيرته الذاتية، كان يرمي إلى أداء حقٍّ واجب الأداء لوطنه العزيز وأمته؛ فقد أعطاه الوطن الكثير، وشرَّفته أمته بالانتماء إليها. أراد أن يحكي للشباب سيرة مواطن في إطار قصة الوطن، وأن يلفت النظر إلى ما كان إيجابيًّا دافعًا إلى الأمام، وما كان سلبيًّا يعوق حركة الوطن، ويحول دون تحقيق آمال الأمة.
كانت رؤية «صاحبنا» — على اتساع نطاق تجربته الذاتية — تركِّز على «الموضوعي»، لا «الذاتي»، على الظواهر وليس الأفراد؛ فالظواهر بخيرها وشرها تعبِّر عن هموم الوطن ومشاغل الأمة، أمَّا الأفراد — مهما علا قدرهم — فزائلون، وأمَّا الوطن فباق. لذلك عندما أشار «صاحبنا» إلى بعض الوقائع اللافتة للنظر مقرونةً بذكر أسماء أبطالها، إنما كان يرمي التنبيه إلى أن عمل الإنسان — خيرًا كان أم شرًّا — يظل قرين اسمه، فمن جنح إلى الخير ذكره الناس له، ومن جنح إلى الشر حسبه الناس عليه.
ولم يكن السلوك الفردي محور اهتمامه؛ يُقوم ما اعوَجَّ منه، ويثيب من أحسن، طالما كانت العصمة لله وحده، وطالما كان الخطأ والصواب من خصال البشر (الذين ينتمي صاحبنا إليهم). ولذلك عندما أشار إلى صاحب سلوك معوج، إنما أراد بذلك أن يوصل رسالةً إلى كل من يمارسون السلوك نفسه، تُنذرهم باليوم الذي تنكشف فيه أعمالهم، لعلهم يرتدعون. وكان ذلك كله في إطار النقد المباح، البعيد تمامًا عن القذف والسب؛ فليس من خلق «صاحبنا» استخدام هذا النهج، كما أنه يمقت كل من يلجئون إليه. كان الشأن العام مرماه ومبتغاه، وليس الشأن الشخصي، وخاصةً أنه توجَّه بسيرته إلى الشباب عساهم ينتفعون بها، وجعلها نذيرًا لمن يسمِّمون الآبار أمامهم لعلهم يتعظون.
لم يدُر بخَلَده عندما صدر الكتاب (طبعة دار الهلال) في الخامس من ديسمبر ٢٠٠٤م، أنه سوف يلقى كل هذا الاهتمام من الوسط الثقافي المصري والوسط الثقافي العربي، ومن الرأي العام على السواء؛ فقد اهتمَّت الجماعات الثقافية بعقد ندوات لمناقشة الكتاب، شارك فيها كبار المثقفين، كانت أولاها في «أتيليه القاهرة» مساء الثلاثاء ٢١ من ديسمبر ٢٠٠٤م، حضرها نحو الثمانين من الكُتاب والأدباء والشعراء والفنانين، وكشف الحوار الذي دار بالندوة عن أن معظم الحضور كانوا قد قرءوا الكتاب بالفعل رغم مرور أسبوعَين فقط على صدوره. وكانت الندوة الثانية بصالون النديم الفكري مساء السبت ٣٠ من ديسمبر ٢٠٠٤م بنقابة الصحفيين، حضرها نحو الستين من المثقفين والكُتاب وأساتذة الجامعات. وعُقدت الندوة الثالثة بكلية الآداب جامعة المنصورة يوم السبت ٢٣ من إبريل ٢٠٠٥م بمدرج أحمد لطفي السيد، حضرها نحو المائتَين من الطلاب والأساتذة، وكَشَف الحوار الذي دار فيها عن أن الرسالة قد وصلت إلى الشباب بالفعل؛ فقد عبَّرت أسئلتهم وتعليقاتهم عن معرفةٍ بالكتاب. وجاءت الندوة الرابعة بدعوة من مجلة «أدب ونقد» التي تصدر عن حزب التجمُّع، وعُقدت مساء يوم الأربعاء ١٨ من مايو ٢٠٠٥م، وحضرها جمهور من المثقفين والمناضلين السياسيين وأساتذة الجامعات والشباب. أمَّا الندوة الخامسة، فنظَّمها نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنيا يوم الإثنين ٦ من يونيو ٢٠٠٥م.
وعلى عكس ما توقَّع «صاحبنا» اهتمَّ جهاز الإعلام المسموع والمرئي بالكتاب، واحتفى به احتفاءً كبيرًا، فخصَّصت إذاعة الشباب والرياضة سهرة مساء الثلاثاء ٢١ من ديسمبر ٢٠٠٤م لمناقشة الكتاب، واستطلاع رأي بعض الكُتاب من مختلِف الأعمار في الكتاب على الهواء مباشرة، كما استضافت قناة النيل الثقافية «صاحبنا» وباقةً من المثقفين في سهرة الأربعاء ٢٠ من أبريل ٢٠٠٥م ببرنامج «قمر النيل» الذي يُبث مباشرةً عبر الأقمار الصناعية إلى مختلِف البلاد العربية، كما يُستقبل في مصر على الإرسال الأرضي.
وفيما بين تاريخ صدور الكتاب (٥ من ديسمبر ٢٠٠٤م) وآخر مايو ٢٠٠٥م، نشر نحو خمسة وثلاثين مقالًا عن الكتاب بالصحافة المصرية، ونشرت بعض الصحف مقالَين أو ثلاثة مقالات عن الكتاب بأقلام كُتاب مختلفين، فنشرت الصحف القومية؛ أخبار الأدب، والقاهرة، والأهرام، وصباح الخير، والإذاعة والتليفزيون، عدة مقالات. ونشرت الصحف الحزبية؛ الأهالي، والعربي، والموقف العربي، والوفد، وآفاق عربية، عدة مقالات أيضًا. ونشرت الصحف المستقلة؛ المصري اليوم، ونهضة مصر، وصوت الأمة، ووجهات نظر، مقالات متفرقة.
وقد أشاد جميع من تناول الكتاب بجرأة صاحبه في إلقاء الضوء على مواطن الفساد في مختلِف المواقع التي قطعتها خطاه، واعتبر معظمهم الكتاب علامةً في أدب السيرة الذاتية، ولم ترد إشارة إلى مآخذ في الكتاب سوى ما اتصل بذكر أسماء بعض الشخصيات، فعلى حين رأى فيها البعض شجاعةً تُحسب للكاتب، نظر إليها السيد يس باعتبارها نوعًا من تصفية الحسابات (وهو ما لم يهدف إليه صاحبنا على الإطلاق)، وتمنَّى على الكاتب أن يستخدم الحروف الأولى بدلًا من الأسماء.
كاتب واحد فقط شذَّ عن الجميع هو عبد العظيم رمضان، وكأنه أوتي الحكمة وحده، فرأى في الكتاب ما لم يرَه غيره؛ إذ نشر مقالًا في مجلة «أكتوبر» في ١٩ من مارس ٢٠٠٥م اختار له عنوان «بل هي خُطًى مشاها خطأً!» أكَّد فيها أن الكتاب لا يحتوي إلا على أكاذيب، وأعرب عن حزنه الشديد؛ لأنه ليس من حق المؤرخ أن يكذب. واتهم «صاحبنا» إلى جانب الكذب، بالافتقار إلى الوطنية، والعمالة لجهات أجنبية؛ لأنه أقدم على ما لا يستطيع أن يُقدم عليه أستاذ إسرائيلي، وأن كل ما جاء بكتابه محض افتراءات، وطلب من علماء النفس والأجناس أن يكشفوا له عن طبيعة «صاحبنا»، فاتهمه — بذلك — بالخلل العقلي، وأخرجه من زمرة الإنسانية، وعرَّض بأصله الاجتماعي، فلأنه جاء من قاع المجتمع، فلا عجب أن «ينضح كل إناء بما فيه». وقدَّم رمضان أمثلةً من الكتاب تتصل بمن وردت أسماؤهم صريحة، ومن لم ترد أسماؤهم على الإطلاق، فتبرَّع عبد العظيم رمضان بالكشف عنها والتشهير بها.
ولمَّا كانت مقالة رمضان حافلةً بالقذف الصريح، والسب المقذع، والاتهام الخطير، فلم يكن من المناسب النزول إلى هذا المستوى المتردِّي للرد عليه، اكتفاءً باللجوء إلى القضاء. ولكن بعض أهل الخبرة في التعامل مع هذه الشخصيات، نصحوا «صاحبنا» بالرد عليه، فإذا لم تنشر «أكتوبر» الرد كان من حقِّه مقاضاة رئيس تحرير المجلة أيضًا، فكتب ردًّا بعنوان: «وقفة الحيران في أحوال رمضان»، تأخَّرت المجلة في نشره لمدة ثلاثة أسابيع (مخالفةً بذلك نص قانون الصحافة)، فنشرَته يوم السبت ١٤ من مايو ٢٠٠٥م كما نشره «صاحبنا» بجريدة «العربي الناصري» يوم الأحد ١٥ من مايو ٢٠٠٥م، وجاء النشر في أكتوبر مقرونًا بما سُمي ردًّا من عبد العظيم رمضان على مقال «صاحبنا» اختار له عنوان «أخلاقيات عباس»، أضاف فيه إلى ما رمى به «صاحبنا» من تهم، ما يمس شرفه وذمته المالية، وبذلك تردَّى عبد العظيم رمضان إلى مستوى «الرَّدْح»، فلجأ صاحبنا إلى القضاء ليلقِّن رمضان درسًا في أدب الحوار.
وكان من الواضح أن بعض من تناول الكتاب دورهم في فساد الجامعة — ممن ذُكروا بالاسم وممن ذكرت أفعالهم دون الإشارة إلى أسمائهم — قد حاولوا استعداء أجهزة الأمن ضد «صاحبنا»، وعندما لم يجدوا استجابةً حاولوا تحريك السلطات الجامعية، فلم يتم الاستجابة لهم أيضًا؛ لأنه غداة صدور الكتاب، وفي شهر يناير ٢٠٠٥م تحديدًا، نشر التقرير الدولي عن الخمسمائة جامعة ذات الاعتبار في العالم، فلم تكن أي جامعة عربية من بين تلك الجامعات، على حين كانت هناك ثلاث جامعات في إسرائيل، و١٧ جامعةً في الهند، و٢١ جامعةً في الصين، وجامعتان بجنوب أفريقيا (على سبيل المثال لا الحصر)؛ ممَّا جعل لكل ما جاء بسيرة «صاحبنا» عن الجامعة كمؤسسة أكاديمية ناقوس خطر أخذ يدوِّي في أرجاء الوطن العربي، فتناولت الكتاب بالعرض صحف خليجية ومغربية وصحف لندنية عربية، بل تناوله أحد كتاب الأعمدة في الجارديان الإنجليزية.
وفضلًا عن ذلك نشطت حركة ٩ مارس المطالِبة باستقلال الجامعات للمطالبة بكف يد الأمن عن التدخُّل في الجامعة، وضرورة إصلاح التعليم الجامعي والنهوض بالبحث العلمي، وكلها أمور تناولها «صاحبنا» في «مشيناها خطًى»؛ لذلك لم تجدِ محاولات من أرادوا استعداء سلطات الأمن وسلطات الجامعة ضد «صاحبنا»، فاستفادوا من مركب العظمة عند عبد العظيم رمضان الذي نصب نفسه حاميًا لهم، ورأى أن الفرصة قد حانت له ليصب أحقاده على «صاحبنا» بعد أن كشف ممارساته السلبية في مركز تاريخ مصر المعاصر، ولجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، مستخدمًا أحط أساليب القذف والسب.
وممَّا يكشف عن الصلة بين حملة رمضان وزمرة الفساد، تلك القضية التي رفعها حسنين ربيع وحامد زيان وزبيدة عطا (التي لم ترِد أي إشارة إليها بالكتاب)، وإيمان عامر (التي تبنَّاها صاحبنا منذ أن كانت معيدة، درست عليه الماجستير والدكتوراه، وبذل معها أقصى الجهد حتى قدَّمت رسالة الدكتوراه وتمَّت ترقيتها مدرسةً على يدَيه)، وتولَّى رفع الدعوى في ٢١ من مارس ٢٠٠٥م أستاذ في القانون.
وبعد رفع الدعوى الرباعية بشهر، رفع المحامي نفسه أستاذ القانون بالجامعة دعوى أخرى باسم عبد العظيم رمضان ضد صاحبنا بزعم أن ما جاء بالكتاب من وقائع جاء محض افتراء، وقذف بيِّن في حق المدعي، وتضمَّنت كلٌّ من الدعويَين المطالبةَ بتوقيع عقوبة السجن على صاحبنا، وإلزامه بالتعويض المدني لهم، كذلك طلبوا توقيع العقوبة ذاتها، والتعويض المدني على الأستاذ مكرم محمد أحمد بصفته رئيس مجلس إدارة دار الهلال (التي نشرت الكتاب في طبعته الأولى).
لم يكن باستطاعة صاحبنا أن يترك عبد العظيم رمضان ومجلة أكتوبر التي استخدمها منبرًا للسباب والقذف في حق صاحبنا، وتحقيره، واتهامه بالخيانة والكذب وتجريده من الوطنية، وإخراجه من زمرة البشر، ونسبته إلى مخلوقات أدنى منزلة، لم يكن باستطاعته أن يتركهما دون قصاص عادل. ولكن «أخلاقيات عباس» لم تسمح له بالهبوط إلى مستوى من قاضَوه، فلم يُقم على عبد العظيم رمضان ومجلة أكتوبر جنحةً مباشرة لطلب توقيع عقاب جنائي عليه طبقًا لنصوص المواد المتعلقة بذلك من قانون العقوبات، رغم أنه رفع دعواه قبل انقضاء فترة الشهور الثلاثة على تاريخ نشر عبد العظيم رمضان للمقالات التي ورد ذكرها، ولكنه آثر اللجوء إلى القضاء المدني، إيمانًا منه بضرورة إلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر، بل يرى أن المواد التي تنص على ذلك في قانون العقوبات يجب إسقاطها، اكتفاءً باللجوء إلى القضاء المدني.
وهكذا دخل «مشيناها خطًى» ساحة القضاء المصري العادل، فتمَّ نظر دعوى الجنحة (الرباعية) أمام محكمة جُنح مدينة نصر على مدى سبع جلسات بالدرجة الأولى (من ١٨ مايو ٢٠٠٥م إلى أول مارس ٢٠٠٦م) التي أصدرت حكمًا بالإدانة، ثم أمام محكمة جنح مستأنفة مدينة نصر على مدى ثلاث جلسات (من ٩ مايو إلى ٢٥ يوليو ٢٠٠٦م)، فأصدرت حكمها العادل بإلغاء الحكم الابتدائي، وبراءة المُدَّعى عليه (صاحبنا) ممَّا نُسب إليه، ورفض الدعوى المدنية.
أمَّا بالنسبة للجنحة المباشرة التي أقامها عبد العظيم رمضان ضد صاحبنا، فقد نُظرت أمام محكمة جُنح مدينة نصر على مدى خمس جلسات (من ٢٧ يونيو ٢٠٠٥م إلى ٣٠ يناير ٢٠٠٦م)، وصدر فيها الحكم برفض الدعويَين الجنائية والمدنية. كذلك نظرت محكمة الهرم المدنية دعوى صاحبنا ضد عبد العظيم رمضان على مدى خمس جلسات أيضًا (من يوليو ٢٠٠٥م إلى ٢٦ نوفمبر ٢٠٠٦م)، وأصدرت حكمها بإدانة عبد العظيم رمضان ورئيس تحرير «أكتوبر» وإلزام كل منهما بالتعويض المدني وأتعاب المحاماة.
ولا يستطيع صاحبنا أن يُخفي ما أصابه من ضيق وقلق عندما وجد نفسه متهمًا يساق إلى محكمة الجنح؛ لأنه لم يشأ أن يكون «شيطانًا أخرس»، يدق الطبول للباطل، ويُنكر الحق. غير أنه لم يشك — لحظةً واحدة — في عدالة «الحق» سبحانه وتعالى، أو في نزاهة القضاء المصري العظيم.
لم يسبِق لصاحبنا أن وقف أمام القضاء مدعيًا أو مدعًى عليه إلا عندما استأنف حكمًا غيابيًّا صدر ضده عام ١٩٧٥م في جُنحة إصابة خطأ، وهو ما قد يمر به — عادة — كل مَن يقود سيارةً في شوارع المحروسة. ولم يعرف الطريقَ إلى مكاتب المحاماة؛ لذلك لجأ إلى أحد الأصدقاء من أهل القانون يُعَد من المؤرخين البارزين في مصر، يسأله أن يدله على محامٍ ضليع يعينه على مواجهة ما تحيكه له زمرة السوء، فاقترح عليه الصديق اسم محامٍ كبير معروف له نشاط ثقافي وسياسي واسع، ويحتل منصبًا قياديًّا في منظمة إسلامية دولية، وذكر له أنه أنسب من يستطيع إبراء ساحته. غير أن صاحبنا أبدى خشيته من أن يستصغر ذلك المحامي الكبير شأن هذا النوع من القضايا فيوكِّله إلى بعض صغار المحامين، وخاصةً أن الرجل كثير الأسفار، مشغول دائمًا بالكتابة في الشأن العام، والظهور في القنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن يُطل علينا على الشاشة الصغيرة، أو نقرأ له مقالات في أكثر من صحيفة. ولكن الصديق أكَّد لصاحبنا أن هذا المحامي الكبير لن يتردَّد في قَبول المهمة تقديرًا له.
لم يقتنع صاحبنا بما سمعه من مبرِّرات خشية أن تقع قضاياه على هامش اهتمامات الأستاذ الكبير، فإذا بصديق عزيز آخر يقترح عليه — مصادفةً — اللجوء إلى المحامي نفسه، وأكَّد له أنه صديق قديم له، وأنه سمع منه شخصيًّا تقريظًا للكتاب، وبدَّد مخاوف صاحبنا من أن تلقى قضاياه الإهمال؛ لأن الأستاذ الكبير يُكِن له كل التقدير.
اتصل صاحبنا بالأستاذ الكبير الذي أفاض في التعبير عن تقديره الشديد للكتاب وصاحبه، وأشاد به، واعتبر اللجوء إليه مكرمة، وحدَّد موعدًا للقاء بمكتبه بمصر الجديدة، وقبل أن تنتهي المكالمة سأل صاحبنا عن أسماء المدعين واسم محاميهم، فذكرهم له.
ويوم اللقاء، تصادف أن كان صاحبنا على موعد مع صديقه إيمان يحيى، فذهبا سويًّا للقاء الأستاذ الكبير، ووصلا إلى المكتب الفخم في الموعد المحدَّد تمامًا، ولكن الأستاذ لم يستقبلهما إلا بعد فترة انتظار طالت. وعندما تمَّت المقابلة كان حديث الأستاذ مختلفًا تمامًا عمَّا سمعه صاحبنا منه في المحادثة الهاتفية؛ فراح يؤكِّد له أن موقفه في القضية حرج للغاية، وأن حكمًا بالإدانة لا بد أن يصدر بحقه، وأنه يريد أن يجنِّبه ذلك، ولحسن الحظ تربطه صداقة حميمة وزمالة قديمة بمحامي المدعين، وأنه سيحدِّثه في أمر الصلح حتى لا يتعرَّض أساتذة الجامعة لتبادل «المهاترات» أمام المحاكم، على أن يتضمَّن الصلح طريقةً يتفق عليها لإعلان اعتذار صاحبنا عمَّا أورده في الكتاب من حديث طال المدعين من قريب أو بعيد.
بالطبع رفض صاحبنا تمامًا أن يعتذر عن كلمة حق قالها، وقال للأستاذ الكبير إنه يقبل مواجهة القضاء ويثق في عدالته، فإذا بالأستاذ الكبير الشهير يقول له: «لاحظ إن هجوم عبد العظيم رمضان عليك بداية لحملة واسعة ضدك، وقد يجدون فتاةً تدَّعي أنك تتحرَّش جنسيًّا بها، أو طالبًا يدَّعي عليك بالتلاعب في درجات امتحانه … لا تغلق باب الصلح وسوف أتصل بالأستاذ الصديق محامي الخصوم وأبلغك النتيجة الليلة، فإذا كنت مصرًّا على المُضي في القضية فسوف أدلك على محامين «أوساخ» لأن هذا النوع من القضايا لا يقبله إلا هؤلاء.»
غادر صاحبنا وصديقه المكتب وهما لا يصدِّقان ما سمعاه، ويعجبان لهذا التهديد الصريح، والمستوى المحزن للحوار الذي دار. قال له الصديق: «لا تحزن فسوف نعرض على أحمد نبيل الهلالي الأمر، ونطلب منه أن يتولى القضية.»
قبل المحامي العظيم والمناضل الوطني الكبير أحمد نبيل الهلالي دعوة الأصدقاء، وعندما سألوه عن الموعد الذي يستطيع صاحبنا أن يقابله فيه، أصرَّ على أن ينتقل هو إليه وبصحبته الأستاذ عبد المحسن شاش المحامي، وكوَّن ذلك الرجل العظيم فريق دفاع ضم ثلاثةً من أقطاب المحاماة الوطنيين الشرفاء هم: أحمد نبيل الهلالي والأستاذ الدكتور صلاح صادق، والأستاذ محمد الدماطي، تطوَّعوا جميعًا للدفاع عنه دون مقابل، بل أصرَّ الأستاذ الدكتور صلاح صادق أن يدفع رسوم الدعوى المدنية التي رفعها ضد عبد العظيم رمضان من جيبه الخاص.
جاءت هذه التطوُّرات لتكشف لصاحبنا عن معادن الرجال، تأثَّر كثيرًا بما أحاطه به أصدقاء أعزاء من حدب ورعاية، إلى حد تفكير البعض في تشكيل «لجنة مناصرة» تكون فريق دفاع عنه يتحمَّلون عنه أتعابها، ولم يقتنع الأصدقاء بالعدول عن الفكرة إلا عندما تأكَّدوا من وجود ذلك الفريق الرائع من كبار الأساتذة المحامين، الذين حرصوا على حضور جميع الجلسات، وتقديم المذكِّرات والمرافعات بأنفسهم، ولم يتخلَّف «قديس الوطنية» نبيل الهلالي إلا عن مرافعة الاستئناف، وكان يتابع ما يدور في المحكمة مع الأستاذَين الدكتور صلاح صادق ومحمد الدماطي وهو على فراش المرض قبل أن ينتقل إلى رحمة الله بساعات.
وكان لتطوُّع الكثير من الزملاء لمد صاحبنا بكل ما تحتاجه الدعاوى من أدلة ثبوتية تؤكِّد صحة ما أورده بالكتاب، إضافةً إلى ما بين يديه منها، واستعداد الكثيرين للشهادة أمام المحكمة إذا طلب منهم ذلك، كان له أبلغ الأثر في دعم إيمانه بالحق، ورسوخ قيم العدل والخير، ويقينه أن الرسالة التي حملها على عاتقه في سيرته قد وصلت لأصحابها، ولم يندم لحظةً على كلمة جرى بها قلمه. كما أكسبته التجربة صداقات غاليةً جديدة يدين لها بالفضل؛ المرحوم نبيل الهلالي، والدكتور صلاح صادق، والأستاذ محمد الدماطي، ويسأل الله أن يجزيهم على جميل صُنعهم خير الجزاء.
ولعل من حق أصحاب الفضل جميعًا، ومن حق من أولَوا صاحبنا وخطاه اهتمامهم أن نضم إلى هده الطبعة من «مشيناها خطى» المقالات التي تناولت الكتاب (ما عدا سبع أو نحوها مقالات في أبواب عروض الكتب ببعض الصحف المصرية والعربية التي قدَّم محرِّروها نُبذًا عن الكتاب). وكذلك «غزوة» عبد العظيم رمضان وردود صاحبنا عليها، ونصوص عرائض الدعاوى القضائية والأحكام، مع بعض الحوارات المهمة التي أدارها بعض الكتاب مع صاحبنا لِمَا فيها من إضافات مهمة إلى خطاه. ليكتمل بهذا الملف الضافي إطار قضية شغلت الرأي العام وجمهور المثقفين والجامعيين، لعها تضيف إلى حياتنا الثقافية أبعادًا يذكرها التاريخ.