فواصل١
وكتب صاحبنا مذكِّراته، وروى سيرته الذاتية «مشيناها خطًى» (كتاب الهلال، ديسمبر ٢٠٠٤م)، وجاءت كالعهد به: صريحةً واضحة، تفيض بساطةً وعمقًا وجدية وعطاءً ونبلًا؛ وهذه معالم شخصية الإنسان المصري. وهذا هو رءوف عباس الطفل ابن عامل السكة الحديد (وهو يُفاخر بذلك، على عكس ما يفعله البعض في أيامنا هذه)، والتلميذ المكافح، والباحث الجاد، والأستاذ الجامعي (من طراز خاص)، والمؤرخ الكبير. ومن خلال سيرته، وعلى وقع الخطى والأقدام، وعبر الأيام والسنين، يُقدِّم صورةً متكاملة المعالم تنبض حيوية، وتفيض حبًّا عن مصر، ونهوضها، وتطوُّرها، وصعودها وهبوطها، وثورة يوليو وأياديها عليه وعلى أمثاله من أبناء العُمَّال والفلاحين والعامة وبسطاء الناس؛ ولذلك لا يُخفي انتماءه لها، دون جعجعة أو صوت عالٍ، ودون إخفاء للسلبيات والأخطاء. ولعل في حياة رءوف عباس وسيرته وقصة حياته دفاعًا عن هذه الثورة وأمجادها التي فتحت الأبواب واسعةً لأبناء مصر وأبناء البسطاء من الناس كي يحتلُّوا المكانة اللائقة بهم في سُلَّم الحياة.
وهنا، سنجد الآلاف وعشرات الآلاف ممن حظوا بذلك وتمتَّعوا به، ولم يتنكَّروا له، ولكنَّك في كل الأحوال وفي جميع الحالات لن تجد إلا رءوف عبَّاس واحدًا، صاحبنا، الحكَّاء بامتياز، والكاتب بمهارة، والمؤرخ بموضوعية وبأستاذية، والذي تتدفَّق كتاباته كحياته وأعماله وأياديه البيضاء على زملاء وتلاميذ، تتدفَّق بساطةً جميلة، وتفوح جمالًا بسيطًا، وتنتشر عطرًا يرد الروح في لحظات اليأس. فمن يقرأ بعض فصول هذه المسيرة، ومن يتوقَّف عند حديث صاحبنا عن الجامعة وما دبَّ ويدب فيها من فساد وإفساد، قد يُصاب بخيبة أمل، أو لفحة يأس؛ فقد وصل الفساد إلى النخاع. ولكن مواقفه هو وتلاميذه وزملائه دفاعًا عمَّا هو صحيح ونبيل، والانتصارات البسيطة التي أحرزوها لا بد أن تُنعش فينا روح الأمل في ظل سواد اليأس وطوفان الفساد. كيف لا ترقص أرواحنا فرحًا ونحن نقرأ عن أعمال بل وأمجاد الأساتذة الدكاترة أحمد عزت عبد الكريم، أحمد عبد الرحيم مصطفى، محمد أنيس وغيرهم، أو عن الأساتذة والدكاترة عادل غنيم، وعُبادة كُحيلة، وحسن حنفي، وسمير غريب … وغيرهم وغيرهم.
لقد أُتيح لي أن أعرف الدكتور رءوف عباس منذ وقت مُبكر من ستينيات القرن الماضي، حينما جيء به إلى قسم الأبحاث في جريدة الجمهورية الذي أنشأه وأداره سنوات الدكتور محمد أنيس، وهذه في ذاتها قصة طويلة لم تُكتب كاملةً وبصدقٍ بعد. ولكن الأيام باعدت بيننا، إلى أن عدنا والتقينا من جديد في بداية تسعينيات القرن الماضي من خلال الصديق الجميل الراحل الذي لا يُنسى، الصحفي المؤرخ والمؤرخ الصحفي جلال السيد، ومنذ ذلك الوقت توثَّقت علاقتي وصداقتي مع الأستاذ المؤرخ الكبير الذي قدَّم لي يد العون صادقةً حينما تولَّيت رئاسة تحرير الأهالي، وقد أشار مشكورًا إلى بعض كتاباته التي أثارت أصداءً واسعة، وكنت قد بدأت استكتاب الأساتذة الكبار في الصفحة الأولى، وأسهم في هذا صاحبنا وأستاذي الدكتور عبد العظيم أنيس.
وإلى جانب هذا قدَّم على صفحات الأهالي دراساتٍ تاريخيةً عميقة وكتب يوميات جميلة، اكتشفت من خلالها مقدرته في الحكي البسيط الجميل، من خلال التقاط أحداث عادية ولكنَّها زاخرة بالمعاني. ولعل هذا، وغيره، كان دافعي ودافع أصدقاء عديدين في الإلحاح على صاحبنا كي يكتب مذكراته ويروي الأحداث التي شارك فيها أو عاشها. وكان يبدو زاهدًا، بتصوُّف العالم القدير، عن ذلك، وكلما ازداد الإلحاح عليه كان يتساءل: هل تظنون أنَّ هذا الكلام يستحق التسجيل؟ ولم نكن نتردَّد لحظةً في تأكيد أنَّ لديه ما يستحق الكتابة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الإلحاح، لم أكن أتصوَّر أنَّ صاحبنا سيفرغ من كتابة مذكراته بسرعة، فاجأتني وفاجأت أصدقاءه الآخرين، ولكنَّها أسعدتنا. وإن كنت — بيني وبين نفسي — أظن أنَّه فرغ من كتابتها بسرعة، فقد حدث هذا في الصيف الماضي، في رحلة يقوم بها سنويًّا إلى ابنه الوحيد في إحدى دول أوروبا.
وحين فرغت من قراءتها، والْتهمت صفحاتها، وعشت بعض ما رواه شفاهةً وهو مكتوب على الورق؛ أحسست بمتعة، تمنَّيت معها لو أنَّه أمتعنا أكثر، وباح بكل ما لديه، وأفاض في مواقف رواها بسرعة شديدة، مثل الفصل الخاص ببناء مبنى جمعية الدراسات التاريخية، وهي قصة عشت وصحبه معه كثيرًا من فصولها، وهي فصول جديرة بأن تُكتب حرفًا حرفًا؛ لأنَّ كتابتها تفصيلًا ستقطع الطريق على كثير ممَّا يُمكن أن يُقال، خاصةً أنَّ المتقوِّلين كُثُر، وناكري الجميل، ومن ينسَون الأيادي أكثر وأكثر.
لقد أصبح النص الشهادةَ بين أيدينا، ويجب أن نتعامل معه كوثيقة أو شهادة على العصر، أو عمل أدبي من طراز رفيع … أمَّا الإضافة إليه والتوسُّع فيه فمهمة أخرى.
وهنا يجب أن أذكر بالتقدير الصديق القديم أيضًا الأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال وكتاب الهلال، الذي سارع إلى إصدار هذه المذكرات الجميلة، التي تأخذ مكانها المرموق في هذه السلسلة العريقة؛ إلى جانب المذكرات الجميلة، التي صدرت في السنوات الأخيرة، مثل مذكرات الدكتور يحيى الجمل والراحل الكبير عصمت سيف الدولة وغيرهما … وإن كنت آخذ على هذه الطبعة كثرة الأخطاء النحوية، وعهدي بالدكتور رءوف أنَّه يُجيد قواعد النحو، فكيف تسرَّبت الأخطاء إلى مذكراته؟
لو كان الأمر بيدي، لفرضت على رءوف عباس اعتكافًا علميًّا إجباريًّا، كي يُتحفنا بالعمل الشامل الذي وعد به، والذي يقع في عدة مجلدات، ويُغطِّي تطوُّر المجتمع المصري في العصر الحديث من مختلِف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
ولو أنَّ في هذا البلد جهةً أو هيئة أو مؤسسة تهتم بما هو جاد وأصيل لزوَّدت صاحبنا بفريق من الباحثين الذين يُعينونه في إنجاز مهمته العلمية والوطنية … التي نحن في أشد الحاجة إليها، إلى جانب العديد من أعماله الأصيلة ابتداءً من رسالته للماجستير عن الحركة النقابية، وصولًا إلى مشيناها خطًى … وننتظر المزيد.
صديقي العزيز الذي أعطى لسنواتي طعمًا ومذاقًا؛ هذه مصر، وأنت ابنها، فتدفَّقا، فكلاكما نهر.