«مشيناها خطًى»
بلغ أدب «السيرة الذاتية» اليوم مرحلةً متقدمة في الأدب العربي، دليل ذلك شواهد عدة؛ تزايد حجم ما تطبعه المطابع العربية من سير ذاتية ينتمي كاتبها إلى مناحي المعرفة كافة، وتزايد إقبال المثقفين إلى تقديم رؤاهم حول ذواتهم فيما يُشبه صرخة احتجاج ضد بعض المفاهيم السائدة، فضلًا عن تزايد إقبال القرَّاء على قراءة التجارب الواقعية للشخصيات البارزة في المجتمع، وإمعان النظر في بحار المعاناة، التي كان على أصحاب هذه السير خوضها وصولًا إلى تحقيق طموحاتهم الكبيرة.
إلى هذا اللون الغني ينتمي كتاب «مشيناها خطًى» للدكتور والمؤرخ الكبير رءوف عبَّاس — أستاذ التاريخ الحديث والمؤرخ المعروف — والصادر حديثًا عن «كتاب الهلال» التي سبق أن قدَّمت سيرًا ذاتية بالغة الأهمية، وربما لهذا تضمَّنت قصة حياته دروسًا وعبرًا في التاريخ المصري الحديث، وكان يجب عليه أن يكتبها «إلى الشباب عساهم يجدون فيه ما يُفيد، وإلى الذين يسمِّمون أمامهم الآبار لعلهم يتعظون»، على نحو ما عبَّر إهداء الكتاب ببراعة.
كان الطالب رءوف عبَّاس يُعاني من المشكلات الجسيمة التي شهدها الواقع التعليمي المصري حين كانت الثورة المصرية في ١٩٥٢م تخطو أُولى خطواتها الناجحة، لقد مشى سنوات الشهادة الإعدادية حتَّى حصل عليها في ١٩٥٣م، فيما كانت مصر كلها تتأهَّل لتحصل على شهادة استقلالها الكامل وإصلاحاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبجملة واحدة، كانت حياة الدكتور رءوف عبَّاس في هذا الكتاب جزءًا لا ينفصل عن تاريخ مصر الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين.
انزلقت قدم مؤرخنا الكبير دائمًا بين تناقضات شتى، وبدا وكأنَّه وُلد خصوصًا ليوفِّق بينها، بدوره كأستاذ تاريخ حديث في أرقى الجامعات المصرية والعربية؛ فهو عاش صعوبات «العصر الملكي» واستغلاله، على الرغم من أنَّ المدرسة الأولى في حياته كانت وقفًا للسيدة «حنيفة السلحدار» … وتلقَّى فيها تعليمًا لا بأس به، وهو ثانيةً استفاد من إصلاحات المرحلة الناصرية ومجانية تعليمها، لكنَّه ظلَّ شاهد عِيان على ما في نظام القطاع العام من مفاسد سببها بعض المتلاعبين بالقوانين الذين سادوا عصورًا مديدة في التاريخ المصري، وكان عليه وهو المؤمن بمبدأ تكافؤ الفرص أن يخوض حروبًا ضد هؤلاء «المتلاعبين» الذين يسمِّمون الآبار التي يشرب منها شباب هذا الوطن في الجامعة، الأمر الذي جعله هدفًا بارزًا لفتن أساتذة الجامعة وحروبهم الصغيرة ومؤامرتهم البعيدة عن كل علم، وذاك هو الداء الذي ينتشر في جامعات الوطن العربي والذي دفع مؤرخنا الكبير إلى امتشاق حسامه في عدة معارك مُدوِّية.
التحق الدكتور رءوف عبَّاس بجامعة القاهرة مُدرسًا في قسم التاريخ بكلية الآداب أواخر ستينيات القرن العشرين، بعدما كان طالبًا مجتهدًا في جامعة عين شمس، ومنها حصل على الماجستير ثمَّ الدكتوراه؛ ولهذا ظل يُعامَل كدخيل في جامعة القاهرة، وعُيِّن هكذا بعد قصة مطولة كاد فيها ألَّا يحصل على حقه بسبب قانون «الواسطة» الذي كان يُوسِّع مكانًا لأحد المحاسيب، فإذا بالشاب الجسور يُقاتل فيحصل على حقه، ويُعاني سنوات من اضطهاد رئيس القسم وعميد الكلية على السواء.
شهادة الدكتور رءوف على الواقع الأكاديمي المتردِّي مثَّلت لُب مسيرته الذاتية، ولِم لا وهو لا يكاد يُشبه أحدًا من أساتذة الجامعات في هذا العصر الرجراج؛ فقد ظلَّ الرجل نسيج وحده من الكفاءة والوطنية والوعي، ولم يكن يقبل في الحق لومة لائم، لم يُجامل طالبًا ولا طالبة حتَّى لو كان هذا الطالب أو هذه الطالبة نجلًا لأهم الشخصيات، وهو مِمَّن يُدافعون عن حق الفقراء في التعلُّم، ليس لأنَّه كان طالبًا فقيرًا ذات يوم فحسب، بل لأنَّه يُدافع عن مبادئ جامعية عريقة، بغض النظر عن الأسماء والمناصب.
عبَّر الكاتب عن الحالة الأكاديمية المصرية مُشيرًا إلى ما أسماه «نزيف الكفاءات العلمية»، ومنها في جامعة القاهرة حالة الدكتور عزيز سوريال عطية الذي تعرَّض لاضطهاد مُتعدِّد الأسباب والأشكال، فهاجر من جامعة القاهرة إلى جامعات العالم حتَّى أصبح عمدةً على المستوى الدولي في مجال تخصُّصه، الأمر الذي لا يُمكن فهمه بغير الاصطلاح الذي صكَّه مؤرخنا الكبير «نزيف الكفاءات العلمية» … رحل الدكتور رءوف إلى اليابان لعدة أعوام، وهناك أقام صلات وثيقةً مع المجتمع العلمي الأكاديمي، ولم يكن بحاجة إلى التراخي حين علم أنَّ إسرائيل — خلال السنوات الأولى في عقد السبعينيات — تستعد لافتتاح قسم اللغة اليابانية في جامعة تل أبيب، فكان أن هبَّ الدكتور رءوف للاتصال بالجامعة المصرية وتعديل المشروع ليفتتح القسم الياباني في جامعة القاهرة، لتزيد مساحة التواصل بين الشعبَين الياباني والمصري العربي عبر هذا القسم لتتزايد فيما بعدُ التلاقحات بين الثقافتَين.
تحيةً للمؤرخ الكبير ولأصدقائه الذين دفعوه إلى رواية سيرته، وتحيةً لسلسلة «كتاب الهلال» التي قدَّمت إلى أدب السيرة الذاتية العربي ما يستحق التقدير …