قضايا١
كتب الدكتور رءوف عبَّاس مذكراته، وعندما يكتب مؤرخ وأستاذ تاريخ عمَّا يتصل بحياته فإنَّنا أمام احتمالَين؛ أحدهما أن يستخدم «حرفنته»؛ أي إجادته الأكاديمية وخبرته في صوغ مذكراته ليأتي منهج كتابتها محكمًا، وتأتي عباراتها وكلماتها مختارةً بدقة، وتسري أفكارها وموضوعاتها بسلاسة، وهذا كله جميل. غير أنَّ القارئ لا يجد فرصةً ينفذ منها إلى فهم علاقة صاحب المذكرات بذاته وبأهله ومجتمعه وبالعالم، ولا يستطيع أن يتبيَّن مواقف الكاتب مع من، وضد من، ولماذا وكيف، وأين ومتى؟!
وكثير مِمَّن يكتبون هذا اللون من الكتابة تجدهم بارعين في التملُّص من كل مسئولية وينسحبون من واقعهم كما انسحاب الشعرة من العجين، الذي هو انسحاب سهل وسريع، ولكنَّه صورة تُثير الغثيان بأكثر مِمَّا تُثير شيئًا آخر.
أمَّا الاحتمال الثاني، الوارد عندما يكتب مؤرخ مذكراته هو أن يُوظِّف كل طاقته النفسية والعقلية، ويشحذ أدواته العلمية والمنهجية، لتأتي كلماته صورةً حية تُجسِّد ما ينبغي أن تكون عليه شهادة المصادر الأصلية من أمانة ودقة، لتكون الشهادة مُعينًا للباحث عندما يأتي دوره ليبحث ويكتب المرجع.
وفي ظني أنَّ المؤرخ الدكتور رءوف عبَّاس قد عمد إلى أن يضع مواطنًا مصريًا تصادف أنَّ اسمه رءوف عبَّاس وأخذ يتعامل معه كظاهرة وحالة دراسة، تعامُل خبير في علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، حتَّى اكتملت «التعشيقة» بين المواطن رءوف وبين أسرته وفئته الاجتماعية والاقتصادية، وبيئته المحيطة ومراحل نموه الزمني المتواكب مع مراحل التطوُّر الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والثقافي في وطنه. وكانت النتيجة رصدًا تاريخيًا متماسكًا استُخدمت فيه كل العلوم المساعدة لعلم التاريخ.
ولأنَّنا بصدد مؤرخ يتعامل مع مصدر حي يُحاول أن يستنطق شهادته لتُصبح مكتملةً كمادة أولية، فإنَّ الأمر جاء خلوًا من المحسِّنات من أي لون، فلا محسِّنات بديعية، ولا مساحيق لتجميل أي قبح كان، ولا لتزويق أية واقعة وتزييف أي واقع، سواء اتصل بالمصدر نفسه (المواطن رءوف عبَّاس)، أو اتصل بمن هم في موقع أعلى منه، كالجدة والأب وأساتذة المدرسة والجامعة ثمَّ الزملاء تحت القبة الجامعية، وصولًا إلى الوزراء وكبار المسئولين حتَّى رأس الدولة!
ذلك أنَّ المؤرخ وهو يستنطق مصدره كان يعلم — ولا بد له أن يعلم — أنَّ الأصل في الشهادات — سواء في المجالس العرفية أو في المحاكم القضائية أو في ساحة التاريخ — هي أن تقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة؛ لأنَّ عقاب الشاهد المزوِّر هو النبذ والاحتقار والغرامة عرفيًّا، والسجن قضائيًّا، والإعدام تاريخيًّا، ومن هنا فإنَّ الأمر العجيب هو أن يتواتر استياء البعض وخاصةً من أهل «الأكاديميا» من صراحة المواطن رءوف عبَّاس عندما اعتصره المؤرخ رءوف عبَّاس ولم يترك له فرصة المراوغة أو الغمغمة في شهادته، سواء فيما يتصل بعلاقته ﺑ «حلة اللحم» التي كانت جدته تُحصي قطعها، أو يتصل بموقفه تجاه طبيخ الجامعة «الحمضان» الذي كان يطبخه أساتذة وعمداء ورؤساء، وبه قفز بعضهم من تحت قبة إلى أسفل قبة أخرى. وكان الأجدر هو أن يُبدوا الرضا عن أمانته، وأن تصله التحية على شجاعته، وأن يتوارى الفاسدون المفسدون.
ولو كان كاتب هذه السطور مكان القائمين على أمر الحياة الأكاديمية في جامعات ومراكز أبحاث هذا البلد، لتوجَّهت إلى وضع ما جاء في شهادة رءوف عبَّاس مع ما جاء في شهادات أخرى كان لها الشجاعة والأمانة نفسها، واستخلصت مِمَّا فيها من وقائع دروسًا تُفيد الجامعة ويتعلَّم منها الناشئون من الباحثين والمعيدين وغيرهم، وأول درس يتعلَّمونه هو أنَّ النفاق والانتهازية والجبن والمكسب الرخيص وامتهان أستاذ الجامعة لنفسه، أمور لا يمكن أن تتوارى أو تُحجب مهما اجتهد صاحبها في إخفائها، أو اجتهد في التعلُّل بأنَّها كانت رغم أنفه وخارج إرادته، وأنَّ الأستاذ مهما كان حجةً في تخصُّصه، إلا أنَّ هذا لا يعصمه من الزلل والذل ما لم تكن عصمته بيده.
ثمَّ إنَّ ما أشار إليه الدكتور عبَّاس حول وقائع للتمييز بين المواطنين المصريين بسبب من الدين أو الاتجاه السياسي يصلح هو الآخر لكي يضعه المهتمون المهمومون بشجون هذا البلد أمام أعينهم، وهم يُحاولون العمل على عدم اتساع الشروخ التي أصابت بلدنا وأصابتنا في مقتل؛ حيث لم تفلح تحديات أخرى كالحروب والحصار الخارجي في إحداث هذه الشروخ وتلك الإصابة.
وإذا كان من نقد يُوجَّه في هذا المقام فإنَّه يُوجَّه إلى رءوف عبَّاس، الأستاذ والمؤرخ، الذي أهمل لسنين طويلة في استخلاص ما لدى المواطن رءوف عبَّاس من إمكانات وخبرات وذكريات ومواقف، يبدو أنَّها أكبر وأعمق وأوسع وأكثر جذريةً مِمَّا ورد في تلك الشهادة التي جاءت في صفحات محدودة من القَطع الصغير.
ثمَّ تحية إلى فارس من طراز خاص يقف من وراء الإصرار والدأب على مطاردة أصحاب تلك الرؤى والمواقف ويتحمَّل بشجاعة أن يُعبِّروا عن أنفسهم بحرية كاملة، هو الفارس مصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال … الذي أطمئنه هو والمؤرخ والمواطن أنَّني وغيري جاهزون لتوصيل العيش والحلاوة.