على شط القناة
وُلد صاحبنا في الرابع والعشرين من أغسطس ١٩٣٩م في أحد مساكن عُمال السكة الحديد ببورسعيد، وتقع بالقرب من كوبري الرسوة الذي يعبر عنده الخط الحديدي ترعة الإسماعيلية عند طرفها الشمالي في الطريق إلى مدخل محطة بورسعيد، وإلى الشرق من تلك المساكن يقع معسكر القوات البريطانية ببورسعيد، وتفصل بينه وبين مساكن عُمال السكة الحديد مساحة واسعة طولها يزيد عن الكيلومتر وعرضها نحو النصف من ذلك، كانت تستخدم ساحةً للتدريب على بعض الحركات العسكرية، ولممارسة الرياضة لجنود الاحتلال البريطاني.
كان هذا الوجود البريطاني في منطقة القناة، فيما عُرف «بقاعدة قناة السويس»، هو كل ما استطاع الساسة المصريون تحقيقه بعد مفاوضات مضنية دارت حلقاتها المتتابعة مع الإنجليز منذ حصلت مصر على استقلال اسمي في تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م، الذي اعترف بمصر دولةً مستقلة ذات سيادة، وأبقى أمور الدفاع، والمواصلات، والأجانب والأقليات، والسودان، لتكون موضوع مفاوضات تدور بين «الحكومة المصرية» وحكومة «صاحب الجلالة البريطانية» للتوصُّل إلى تسوية بشأنها. وانتهى المطاف إلى توقيع معاهدة ١٩٣٦م التي عقدت «تحالفًا» بين البلدَين، أصبحت مصر بموجبه ملزمةً بالدفاع عن بريطانيا ومساعدتها ضد أعدائها في حالة وقوع حرب، وتعهَّدت بريطانيا بأن تفعل مثل ذلك مع مصر، واتُّفق على أن يتركَّز الوجود البريطاني في منطقة القناة بعد وفاء مصر بالتزاماتها لتيسير سبيل تركُّز الإنجليز بالقناة، وهي إنشاء معسكرات على حسابها وفق متطلَّبات القوات البريطانية لتنتقل القوات البريطانية إليها، وإنشاء شبكة طرق تربط قناة السويس بمصر لتسهيل حركة القوات البريطانية في حالات الطوارئ. وقد ظلَّ الوجود البريطاني العسكري في طول البلاد وعرضها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فتم تركيزهم في منطقة قناة السويس بعد العام ١٩٤٦م.
وشاء القدر أن يولد صاحبنا في هذا الموقع بالذات في ظروف أزمة دولية أشعلت نار الحرب العالمية الثانية. وعندما أصبح شابًّا كان يتندَّر بهذا التوافق الغريب بين مولده وقيام الحرب العالمية الثانية، ومولد والده في أغسطس ١٩١٤م وقيام الحرب العالمية الأولى، وكثيرًا ما كان يبدي إشفاقًا على العالم من أن يتسبَّب زواجه وإنجابه في وقوع الحرب العالمية الثالثة، وعندما رُزق بولده الوحيد في ٢٤ من أكتوبر ١٩٦٦م، ظلَّ يعرب في سخرية عن قلقه على مصير العالم، ولم تمضِ نحو سبعة شهور حتى وقعت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، ولا يعني ذلك أن عائلته كانت حقًّا نذير شؤم على العالم ومصر؛ فلا علاقة بين مولد طفل بريء ووقوع حادث جلل بهذا الحجم المفزع، ولكنه يعبِّر عن حالة نفسية مزاجية تلخِّص معاناة السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمره.
فقد وُلد صاحبنا لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ. كان والده عاملًا بالسكة الحديد يشغل أدنى درجات السُّلم الوظيفي الخاص بالعمال، في وقت كان فيه العاملون بالسكة الحديد ينقسمون إلى شريحة ضئيلة العدد من الموظفين، وقاعدة عريضة من العُمال. وكان جده لأبيه عاملًا أيضًا بالسكة الحديد، نزح من قريته بجرجا من صعيد مصر إلى القاهرة حوالي عام ١٩١٠م في ظروف ظلَّت مجهولة، قيل إن أخاه الأكبر استولى على نصيبه من ميراث والده، فغضب وترك القرية والأسرة طلبًا للرزق في وقت كانت ظروف العمل فيه متاحةً أمام من يعرف القراءة والكتابة في السكة الحديد. وكان الرجل قد تعلَّم القراءة والكتابة وأتمَّ حفظ القرآن في كُتَّاب القرية، فاستطاع أن يلتحق بالعمل في السكة الحديد، ثم تزوَّج من قاهرية تنحدر عائلتها من المنيا، وكانت نتيجة هذه الزيجة مولد والد صاحبنا عام ١٩١٤م وشقيقة له عام ١٩١٦م، ثم وضع الجد نهايةً لهذا الزواج عندما طلَّق الجدة، وترك القاهرة، كما ترك قريته من قبل، ونُقل إلى بورسعيد وتزوَّج مرةً أخرى، وترك ولده مع طليقته بالقاهرة التي تزوَّجت بدورها، فعانى الصبي (والد صاحبنا) ما يُعانيه من كان مثله من الأطفال الذين يعيشون مثل تلك الظروف، فاضطُر إلى ترك الكُتَّاب والنزول إلى سوق العمل ليعول نفسه، وانتقل للعيش مع والده ببورسعيد عندما بلغ السادسة عشرة من عمره، فعانى من سوء معاملة زوجة الأب بأكثر ممَّا عاناه من زوج الأم، حتى استطاع والده أن يُلحقه بالعمل ضمن فئة العُمال المؤقتين حوالي عام ١٩٣٣م، ولم يتم تثبيته في العمل إلا عام ١٩٣٦م الذي كان نقطة تحوُّل في حياته، كما كان نقطة تحوُّل في حياة مصر كلها.
فقد تزوَّج في ذلك العام من أم صاحبنا، فتاة بورسعيدية من أصول دمياطية، يعمل والدها «بامبوطي»، وهي مهنة معروفة في بورسعيد، يشتغل صاحبها ببيع التذكارات الشرقية (من منتجات خان الخليلي) على ظهر قارب يسير بجوار السفن عند دخولها القناة، ويبيع بضاعته للركاب والبحارة بكل العملات المعروفة، ويتفاهم معهم بعدة لغات. نموذج مصري تقليدي لزيجات الفقراء ممن يعملون بوظيفة حكومية دائمة، فيسعَون للزواج من شريحة اجتماعية أحسن حالًا، وإن كانت تقع ضمن طبقه الفقراء. وأتاح الزواج لوالد صاحبنا حق الحصول على مسكن من مساكن العُمال، وهي مساكن ذات نمط واحد يتكوَّن كلٌّ منها من غرفتَين وصالة، ومرحاض، لا يدفع العامل إيجارًا لها، ويرتبط بقاؤه فيها باستمراره في العمل. وجاء مولد صاحبنا في واحد من تلك البيوت. واقتضت ظروف الحرب التوسُّع في خدمة السكة الحديد للمجهود الحربي للحلفاء في قناة السويس، فنُقل والد صاحبنا للعمل في محطة العجرود بين الإسماعيلية والسويس، وظلَّ هناك مع أسرته الصغيرة حتى عام ١٩٤٣م عندما نُقل إلى القاهرة، فلم تستطع الأسرة الحياة فيها بالراتب الضئيل الذي يتقاضاه الأب، الذي حُرم من السكن المجاني، شأنه في ذلك شأن من يعملون بالقاهرة، فسارع بطلب النقل إلى الريف، فكان من نصيبه العمل بمحطة أوسيم بمحافظة الجيزة عام ١٩٤٤م على خط المناشي (مديرية التحرير فيما بعد). وظلَّت الأسرة هناك حتى عام ١٩٥١م عندما رُقي الأب إلى وظيفة «ملاحظ بلوك»، ونُقل إلى طوخ-قليوبية. ومع هذه التنقُّلات تأثَّرت أحوال صاحبنا تأثُّرًا شديدًا؛ فمنذ أواخر عام ١٩٤٣م عاش بالقاهرة مع جدته لأبيه. كان الأب يحس بالذنب تجاهها لتركه لها (رغم ما عاناه من زوجها)، وخاصةً أن طلاقها من زوجها الثاني جعلها في حاجة إلى رعاية ولدها الوحيد لها، فقد كانت تكسب عيشها من الاشتغال بالخياطة لجيرانها من سكان المنطقة الشعبية التي كانت تقطنها بشبرا.
رفضت الجدة أن تترك القاهرة وتعيش مع أسرة ابنها؛ فقد كانت تكره زوجته (أم صاحبنا) لأنها كانت من اختيار طليقها (والده)، فخصَّص لها نجلها ربع دخله المحدود، وأصرَّت على أن تحتفظ بصاحبنا (الطفل) معها ليلتحق بكُتَّاب مشهور بشبرا بأرض البدراوي التي تقع مقابل مدرسة التوفيقية على شارع شبرا. وكانت فاتحة الإقامة مع الجدة، سقوط صاحبنا (الطفل) من الطابق الثاني من فوق دَرَج البيت (الذي كان بلا سياج)، ليهوي على رأسه في صحن البيت. وظلَّ صوت ارتطام رأسه بالأرض يدوِّي في أذنَيه عدة سنوات، وظل لمدة سنتَين (بعد الحادث) يهب من نومه مذعورًا يبكي لساعات. ويذكر أن الجدة وجيرانها تردَّدوا به على عدد من المشايخ، كان آخرهم بمشتهر، صنع له «حجابًا» ظلَّ معلَّقًا في رقبته نحو العامَين، ولم يعد يستيقظ بعدها في منتصف الليل مذعورًا. وذات يوم دفعه الفضول لمعرفة ما يحتويه الحجاب، فمزَّق غلافه من القماش ليجد بداخل الكيس ورقةً مطوية عدة طيات فيها حروف متفرِّقة، ورسم كهيئة الطير، وسيف غُطي نصله بالكتابة، فمزَّق الورقة، وادَّعى لجدته أن الحجاب سقط منه دون أن يدري.
ولم يكن الاستيقاظ في منتصف الليل في حالة هلع وذعر شديد هو كل ما ترتَّب على الحادث المروِّع من نتائج؛ فقد أُصيب صاحبنا بكسر في الفك الأيسر لم ينتبه إليه أحد إلا بعد نحو خمس سنوات من الحادث، ترتَّب عليه عدم استطاعته فتح فمه باتساع يزيد عن نحو واحد ونصف سنتيمتر. وأورثته هذه العاهة (التي لازمته حتى اليوم وستصحبه إلى قبره) متاعب نفسيةً شديدة في فترة المراهقة على وجه التحديد؛ فكان لا يتناول طعامًا أمام غرباء عنه حتى لا يثير فضولهم السؤال عن سبب تناوله الطعام بطريقه غريبة عن المألوف، بل جعلته هذه العاهة يحرص على أن يكون آخر من يدخل مطعم المدرسة الابتدائية، ويتلكَّأ في تناول وجبته حتى ينصرف من حوله على المائدة، عندئذٍ يُسرع بالتهام الطعام. وأورثته تلك العاهة، وحياته بعيدًا عن أسرته وإخوته الذين كان يزورهم يوم الخميس بعد انتهاء اليوم الدراسي، ويعود من عندهم مساء الجمعة، أورثته الميل إلى الانطواء، وحذرًا شديدًا في الاختلاط مع أقرانه، وحرصًا شديدًا في اختيار من يتخذه صديقًا. وصاحبَته الكثير من أعراض هذه الحالة النفسية حتى التحاقه بالجامعة، فبدأ يتخلص — تدريجيًّا — منها، فلم يبقَ منها إلا الحرص الشديد في انتقاء الأصدقاء.