كتاب في كلمة … كلمة في كتاب١
قدَّم المؤرخ الدكتور رءوف عبَّاس كتابًا فريدًا في صراحته؛ صراحة عن نفسه، وعن وطنه، وعن أدغال الفساد التي خاض فيها. حدَّثنا عن قوة الفقراء وعزمهم، عن إصرارهم على العلم وتمسُّكهم بالكرامة ورفضهم للمُهادنة.
في «أيام طه حسين» حديث عن فقر الصعيد الشمالي، وعن صراع «صاحبنا» مع فقره وكف بصره، أمَّا الدكتور رءوف عبَّاس فهو يُقدِّم لنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب الممتع صورةً للإسماعيلية وعشوائيات القاهرة (عزبة هرميس، التي تقع عند مدخل الخط الحديدي إلى محطة مصر — عشوائية قديمة مكوَّنة من الأقباط والمسلمين النازحين من المنيا — كان يرى فيها مصر الصغرى).
كان فقيرًا، فقيرًا جدًّا … الوالد عامل فقير في السكة الحديد. الملاليم محسوبة، والطعام شحيح. الانتقال من المدينة إلى الريف طبقًا لعمل الوالد. المشي هو السبيل الوحيد، والمسافات على الأقدام بالكيلومترات سواء في المدينة أو الريف. سقط الطفل من الدور الثاني في ليلة فقيرة ظلماء، ولم يكتشف أحد أنَّ فكه قد كُسِر إلا بعد ٥ سنوات مُخلِّفًا له عاهةً خلقت منه انطوائيًّا منعزلًا؛ لأنَّه لم يكن يستطيع أن يفتح فمه للطعام أو للكلام سوى سنتيمترات قليلة، بإصرار العزيمة وقوة الفقر (استطاع أن يتخلَّص من عاهته تدريجيًّا، ولم يبقَ منها إلا الحرص الشديد في انتقاء الأصدقاء).
مشى خطًى بلا عدد، وقطع مسافات كأنَّها من الأرض إلى السماء، قاوم الفقر والحظ السيئ، وهرب من التعليم الأزهري ومن الأمية، ليصبح واحدًا من أعلام «مدرسة التاريخ الاجتماعي»، ونموذجًا نادرًا للأستاذ الجامعي، في زمن عزَّ فيه من يستحق هذا اللقب.
مع ثورة يوليو كان قد مشى مئات الأميال ليجد له مكانًا في جامعة «عين شمس» التي كانت قد فتحت أبوابها في الناحية الشمالية للقاهرة، في مقابل جامعة القاهرة «صاحبة القبة» في جنوب القاهرة، الجيزة. هناك في الجامعة الشابة التي تُحاول إثبات نفسها، درس التاريخ على يد الأساتذة العظام أحمد فخري وأحمد عزت عبد الكريم، وأحمد عبد الرحيم مصطفى. كما قابل هناك أنواعًا أخرى من المدرسين والأساتذة (وقد ذكرهم بالاسم) كانوا بذرة الفساد الذي شاع واستشرى في مؤسسة «النخبة» ومصنع العلم والعلماء.
مع أحلام ثورة يوليو التي قدَّمتها للفقراء وقع رءوف عبَّاس في الجانب الآخر المظلم للثورة؛ بدايات التنظيمات السياسية المريضة (القومي، والاشتراكي، والوطني)، كما رصد فترةً أشار إليها الدكتور إيمان يحيى في مقاله في العدد السابق من «القاهرة» (الدكتور إيمان أستاذ طب وواحد من تلاميذ المؤرخ الكبير وأصدقائه)، هي الفترة ما بين عامَي ٥٧ إلى ٦١، وهي فترة من أعقد فترات الثورة؛ حيث كانت الأزمة الاقتصادية طاحنة، وكان الادعاء بالقوة والنصر والافتخار بالإنجاز في أعلى درجاته. ولعل هذا التناقض هو الذي ولَّد الكذب والادعاء والانتهازية والفساد الذي أصاب قلب الثورة الأبيض النبيل، ونخر الأرض من تحت أقدام الزعيم الحقيقي صاحب المبادئ والمثاليات الثورية، التي كان من الممكن أن يُغيِّر وجه مصر.
عمل صاحبنا في شركة من شركات القطاع العام — وهو المؤرخ — في وظيفة مراجع حسابات، ولأنَّه كان فقيرًا، وكان صاحب شرف وكرامة، ولأنَّه أدرك مبكرًا علاقة التصرُّف الفردي بالمصلحة العامة، فقد كشف لنا صورةً بشعة لحال القطاع العام والخراب الذي أكل الحلم … وهناك ارتبط بالعمال ليُقدِّم لنا فيما بعدُ واحدًا من أهم مراجع تاريخ الحركة العمالية في مصر. كان رءوف عبَّاس باحثًا وطنيًّا وأكاديميًّا نزيهًا، ومع ذلك لم ينجُ من قمع أجهزة الأمن التي كانت تُطارد — وقتها — كل من يُحارب الفساد، بتلك التهمة التي ظلَّت لسنوات جاهزة؛ تهمة «الشيوعية».
من أفظع فصول الكتاب فصل «تحت القبة وهم»، والقبة هنا قبة الجامعة، أمَّا الوهم فهو ذلك الفساد العنكبوتي الذي التفَّ حول هذه المؤسسة العريقة، التي كان يجب أن تقوم فوق المجتمع لتُقدِّم له أدوات الفهم والعلم والتقدُّم، فتحوَّلت إلى «مفرخة» للفساد والمفسدين، والتجار والمتاجرين بالعلم وبالحلم الوطني.
د. رءوف عبَّاس يروي هنا بأقصى درجات الصدق والصراحة حالة الجامعة من أكبر رأس إلى أصغر فرَّاش أو طالب، وخذ مثلًا هذه النكتة المبكية؛ في اجتماع على أعلى مستوًى في الجامعة لتنظيم احتفال كان من المطلوب ترتيب كشف بمن شغلوا منصب رئيس الجامعة؛ فكتب الكشف وفي أوله «لطفي السيد»، ولكن رئيس الجامعة تدخَّل لإصلاح الكشف واضعًا أ. د. قبل اسم لطفي السيد، ووافق جمع المنافقين.
الجهل، والفساد، والتجارة، مقدَّمة هنا بصوت من لا يريد شيئًا ولا يُحاول استرضاء أيَّة جهة. إنَّه يضع أمامنا حال الجامعة. مرآة فاضحة (أعتقد أنَّه من الضروري نشر هذا الفصل على أوسع نطاق، وطرحه للنقاش). ويصل في نهاية الفصل إلى تركيز المصائب الأربع التي أصابت الجامعة؛ الأولى اختيار القيادات (يلعب فيها الدور الأكبر أجهزة الأمن).
أمَّا المسألة الثانية فهي مسألة دعم الكتاب الدراسي (تتولَّاه هيئة المعونة الأمريكية)، والثالثة هي الصناديق الخاصة، التي يُصرف منها بفساد وسفه. والمصيبة الأخيرة هي لجان الممتحنين التي تُعامَل على أنَّها عزبة من عزب المفسدين.
كل صفحات الكتاب التي تبلغ ٣٣٦ صفحةً تُقدِّم صرخةً من أجل الإصلاح، وتؤكِّد أنَّ بقاء الحال على ما هو عليه في الجامعة أمر يُشبه الانتحار أو شرب السم. يذكر الأستاذ بالخير تلاميذ وأصدقاء له؛ د. إيمان يحيى، والأستاذ الكاتب عبد العال الباقوري، والمناضل أحمد غزلان. كما يذكِّرنا المؤرخ الكبير بعدد من كُتبه المؤلفة والمترجمة؛ تاريخ الحركة العمالية، يوميات هيروشيما (اليوميات والمشاهدات) … وغيرها، التي يجب أن يُعاد طبعها لتكون مع هذه السيرة الرائعة في يد الشباب الذي أهدى لهم كتابه قائلًا: «إلى الشباب، عساهم يجدون فيه ما يُفيد، وإلى الذين يُسمِّمون أمامهم الآبار لعلهم يتعظون.»