ناصية١
النص المكتوب واحد، إلا أنَّ قراءته تختلف بحيث تُصبح هناك عشرات النصوص بعدد القُراء. البعض سيرى في كتاب د. رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى» (كتاب الهلال) كشفًا للفساد في الجامعات وتردِّي أحوال العلم، وقد يجد البعض أنَّ الكتاب يعكس بشكل ما رحلة مصر الاجتماعية والثقافية منذ ثورة ١٩٥٢م إلى يومنا، متبلورةً في رحلة د. رءوف عبَّاس ذاته وحياته الحافلة بالعطاء العلمي. لكن الجانب الذي لفت نظري في الكتاب هو شخصية الكاتب، الذي كلما اعتصرته أزمة تمس كرامته «نفر في جبينه العرق الصعيدي»، على حد تعبيره الذي ورثه من جدِّه النازح من جرجا إلى القاهرة. والده عامل بالسكك الحديدية، أنجبه في ظل الفقر والحاجة، ومن أجل تحصيل العلم كان د. رءوف عبَّاس يمشي مسافات طويلةً إلى أبعد المدارس، ويقضي سنوات من طفولته بلا عشاء، ويشتري بالملاليم التي يُوفِّرها من مصروف طعامه مجلات مختلفة، ولولا المصادفة التي تدخَّلت مرتَين في حياته، ولولا الشوق للمعرفة، ما أكمل تعليمه ليُصبح أحد مؤرخي مصر البارزين. قادته صور النساء المسلمات والقبطيات وهنَّ يتبادلن عند الحاجة إرضاع أطفال بعضهن البعض إلى إيمان عميق بالوحدة الوطنية، والدفاع فيما بعدُ عن حق مُعيدة قبطية في العمل بقسم التاريخ بالجامعة ومناهضة كل أشكال التفرقة الدينية. وهكذا وجد رءوف عبَّاس نفسه في الناحية الأخرى من المجتمع حيث تحتشد الغالبية العظمى، فاختار أن يُعدَّ أول رسالة له عن الطبقة العاملة، ثمَّ مذكرات محمد فريد، ثمَّ الحركة العمالية من جديد في ضوء الوثائق البريطانية، ثمَّ ترجمة دراسات في تطوُّر الرأسمالية، ومع حبه الغامر لثورة يوليو ولعبد الناصر، إلا أنَّه لم ينضم إلى أيًّ من منظماتها السياسية لإدراكه أنَّها مجرَّد أشكال فُرِّغت من محتواها الشعبي. وخلال وجوده في الجامعة يرتطم رءوف عبَّاس بإصرار نهى ابنة الرئيس السادات الطالبة بالجامعة الأمريكية على أن يتولَّى هو ذاته كتابة الرسالة الجامعية لها نظرًا لإتقانه اللغة الإنجليزية! ويرفض. ثمَّ يعرض لقصة إعداد جيهان السادات لرسالة ماجستير قائلًا إنَّها كانت «فصلًا مُحزنًا في تاريخ الجامعات المصرية» تمَّت إذاعة جلسة مناقشتها كاملةً مرتَين في التليفزيون كأنَّها من جلسات مجلس الشعب! وفي المقابل نكَّلت إدارة الجامعة بالدكتور حسن حنفي لأنَّه اعترض على حصول جيهان على تقدير «ممتاز»! ويتطرَّق د. رءوف لِمَا أسماه د. محمد أبو الغار إهدار استقلال الجامعات، ويُبيِّن كيف تصعد سلم الترقِّي فقط تلك الكوادر العلمية التي تتفاهم مع أجهزة الأمن، وتتعاون معها في إجهاض أي تحرُّك سياسي طلابي. وهناك واقعة يستشهد بها د. رءوف تُعرِّي مدى التدهور الذي لحق بالتعليم؛ وذلك حين تقدَّم طالب من أبناء أسرة حاكمة في قطر لتسجيل رسالة دكتوراه، وتنافس على الإشراف على الرسالة أستاذان، فلمَّا انتقد أهل التخصُّص مشروع الرسالة صاح أحد الأستاذَين؛ يكفينا أنَّ سعادته اختار قسمنا «قسم التاريخ» ليدرس فيه … شرف كبير والله العظيم.
ثمَّ يكشف كيف أنَّ سؤالًا في الامتحانات وضعه الدكتور عاصم الدسوقي عن فلسطين سبَّب لوزارة التعليم حرجًا شديدًا؛ لأنَّ اتفاقيات التطبيع تمنع ذلك!
يقول د. رءوف عبَّاس في مقدمة كتابه «مشيناها خطًى» إنَّه كان مستقلًّا، بينما تشهد حياته كلها، وكتابه هذا، وأعماله أنَّه أفنى حياته في الانحياز إلى قضايا المجتمع المصري، والوطنية، وكتابه مصر بعيون فقرائها، دون أن يُفارقه خلال تلك الرحلة الطويلة شعوره الشديد بكرامته، الأمر الذي يجعله يُغدق الثناء على من يُحب مثل جابر عصفور وحاكم الشارقة وسمير غريب، أو يصب غضبه على من أساء إليه، أو على الأوضاع التي لا تُرضيه.
قدَّم د. رءوف عبَّاس إلينا سيرةً ذاتية ممتعة، تكاد في بعض صفحاتها أن تقترب من الكتابة الأدبية، أهم ما فيها أنَّها تشكيل لذلك النهَم الغريزي للعلم الذي يتميَّز به العقل المصري في أشق الظروف، فيجعله يشق طريقه بإرادة وصبر مذهل نحو النور.