تأمُّلات١
ما زالت أصداء السيرة الذاتية للمؤرخ المعروف الدكتور رءوف عبَّاس تتردَّد في الأوساط الثقافية؛ ولذلك تفسيرات متعدِّدة، لعل أهمها أنَّه حكى بكل صراحة عن أصوله الطبقية، وأبرز أنَّه كان ينتمي إلى أسرة مصرية فقيرة مكافحة، غير أنَّ هذه الأسرة ساعدته بقدر استطاعتها على إكمال تعليمه الأساسي. وناضل هو لكي يستكمل تعليمه الجامعي، إلى أن استطاع أن يحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ ويُعيَّن في الجامعة، لكي يُصبح من بعدُ أستاذًا ومؤرخًا مرموقًا.
سيرة كفاح تردَّدت ربما آلاف المرات مع مئات من المثقفين والأكاديميين المصريين الذين ينتمون في غالبيتهم العظمى إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة. ومن هنا يُمكن التأكد أنَّ سلالة هاتَين الطبقتَين على مر الزمن هي التي منحت مصر المحروسة عقلها الحديث والمعاصر.
ولعل هذا ما دعاني ونحن نناقش كتابًا للدكتور بطرس غالي أسرف فيه في بيان أصول طبقته الأرستقراطية، ووصف قصر آل غالي في شبرا والذي كان يتكوَّن من أربعين غرفة، أن أقول له لم تكن محتاجًا يا دكتور بطرس إلى تأكيد أصولك الطبقية الرفيعة؛ لأنَّ ما وصلت إليه كأستاذ جامعي مرموق، ورئيس تحرير مجلة «السياسة الدولية»، ومن بعدُ أمينًا عامًّا للأمم المتحدة لم يكن بفضل انتمائك الطبقي، ولكن بفضل موهبتك المبدعة، وحرصك على التميُّز عن أقرانك من أهل الطبقات الغنية الفارغة! … ودليل ذلك أنَّ عقول مصر المبدعة في الفكر والأدب والفن، جاءت من معين الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تعكس بصدق أصالة الشخصية المصرية، غير أنَّ إحدى ميزات رءوف عبَّاس — كما تظهر من سيرته — أنَّه كان يُحب الاستقامة على المستوى الفردي والمجتمعي؛ ولذلك دخل في معارك شتى منذ صَدْر شبابه.
غير أنَّ سيرته تُصوِّر الفساد الأكاديمي في الجامعة أبلغ تصوير. وميزة هذا الشق من السيرة أنَّه يكشف الحقيقة التي مؤدَّاها أنَّ الإنسان الأكاديمي ليس بالضرورة هو الإنسان المبرَّأ من العيوب، والخالي من العقد، والمُحصَّن ضد الفساد!
وليس هذا غريبًا على كل حال؛ ففي كل مهنة من المهن صالحون وفاسدون، هكذا هو الأمر في مهنة الطب، ومهنة المحاماة، ومهنة الهندسة، ومهنة الصيدلة؛ ولذلك ينبغي حين التعرُّض لقضية الإصلاح الجامعي — كما فعلت مكتبة الإسكندرية في مؤتمرها الشامل عن إصلاح التعليم — لا يجوز الظن أنَّ الإصلاح مهما بذل من الجهد في سياساته سيمر ببساطة! … وذلك لأنَّ هناك أساتذةً وأكاديميين فاسدون، وليست لهم أي مصلحة في الإصلاح؛ لأنَّهم أنفسهم هم زعماء الفساد في الجامعة. ونحن نعرف تزايد حالات السرقات العلمية والتي لم يُحاسَب مقترفوها الحساب الصارم، الذي كان يقضي بفصلهم نهائيًا من الجامعة؛ لأنَّ بعض العمداء وبعض الذين وصلوا إلى مناصب رؤساء الجامعات سبق لهم أن مارسوا السرقات العلمية، ورُقُّوا على أساسها!
غير أنَّ هذا شيء، وذِكر المفسدين الأكاديميين بأسمائهم الحقيقية شيء آخر! … وأنا في الواقع ضد هذه الممارسة على طول الخط؛ لأنَّها قد تختلط بمسألة تسوية الحسابات بعد أن انتهت المسيرة أو كادت، وقد تُصبغ العوامل الذاتية أحكام صاحب السيرة وتنال من موضوعيته، ويُصبح احتمال التشويه غير المبرَّر لبعض الشخصيات قائمًا. هذا هو اجتهادي … والله أعلم!