كيف يكتب المؤرخ سيرته الذاتية؟١
لا شك أنَّ أدب السيرة الذاتية يتمتَّع بشعبية كبيرة بين القُرَّاء في المجتمعات كافة بلا استثناء، ورغم أنَّ ذلك الأدب ما زال شحيحًا في مجتمعاتنا العربية، وما يزال أيضًا مُحاصَرًا بتقليدية التناول، والابتعاد عن الصراحة، والحذر من الانزلاق إلى وقائع واضحة تتعلَّق بشخصيات معروفة قد تُبرز سلبياتها، إلا أنَّ كتب السيرة الذاتية ينتظرها قرَّاء العربية بفارغ الصبر ليرَوا الجانب الخفي من وجوه ساطعة في مسرح الحياة، وليعيشوا خبرات وتجارب عاشها الآخرون.
يبدو «مشيناها خطًى» للدكتور رءوف عبَّاس متميِّزًا ومنفردًا في هذا السياق. لقد تعوَّد القراء كتب السيرة الذاتية لشخصيات سياسية أو أدبية، أمَّا «مشيناها خطًى» فيتعرَّض لرؤية مؤرخ مرموق لحياته، ولمسيرة أكثر من نصف قرن من التحوُّل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مصر. تُرى كيف يكتب المؤرخ سيرته الذاتية؟! وهل تختلف ذاكرته وعينه الباصرة عن ذاكرة الآخرين وعيونهم؟! والجِدة في هذه السيرة أنَّ صاحبها من أبرز رموز مدرسة التأريخ الاجتماعي العربية، وهي مدرسة حديثة في مجتمعاتنا ساهم في تدشينها العملاقان الدكتور أحمد عزت عبد الكريم والدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، ويبرز التساؤل هنا: إلى أي مدًى أثَّرت تلك المدرسة على صاحبنا في سرد سيرته الذاتية وسيرة مجتمعه؟!
يتمتَّع رءوف عبَّاس بعين طازجة ترصد الحوادث والتفاصيل التي نُقابلها يوميًّا وقد لا نلتفت إلى مغزاها، فيلتقطها ويضعها في إطار كاشف من الظروف المحيطة والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويضعها على الورق بنفَس روائي أخَّاذ، فعلى سبيل المثال يكشف د. رءوف عن الفترة ما بين عامَي ١٩٥٧م و١٩٦١م تلك التي شهدت ركودًا اقتصاديًّا عمَّ المجتمع المصري، والتي لم يتوقَّف أمامها الكثيرون. كانت تلك السنوات سنوات عجافًا في تطوُّر مصر الاقتصادي، عندما تقاعست الرأسمالية المصرية عن انتهاز فرصة «قرارات التمصير» للقيام بتنمية رأسمالية كان رجال الثورة يصبون إليها، انتشرت البطالة وعانى خريجو الجامعة فضلًا عن حمَلَة الشهادات المتوسطة منها، ولم يبقَ أمامهم سوى التعيين في الحكومة من خلال ديوان الموظفين ومن خلال مسابقات تُكلِّف المُتقدِّم في كل مرة من تقدُّمه عشرة جنيهات بالتمام والكمال، ولم يزِد عدد من يحصلون على فرصة التعيين ساعتها عن ٢٠–٢٥٪ من جُملة الناجحين في تلك المسابقات، اهتمَّ رءوف عبَّاس بتلك الأزمة التي طالته أيضًا، وهو الطامح للتعيين بشهادته المتوسطة حتَّى يُساعد والده في كفالة العائلة، وحتَّى يستمر في دراسته خلال المرحلة الجامعية.
وبعد قرارات يوليو الاشتراكية وإنشاء القطاع العام يحظى رءوف عبَّاس بوظيفة ليست لها علاقة بالتاريخ بالمرة، وهي وظيفة «مراجع حسابات» بالشركة المالية والصناعية المصرية بكفر الزيات، وعبر احتكاكه بعمَّال الشركة وموظفيها من ناحية وإدارتها العليا ممثلةً بمديرها العام الدكتور «حنطور»، يرصد الكاتب أمراض القطاع العام التي وُلِدت معه فحوَّلت معظم شركاته إلى «عزب» خاصة تحكم فيها أهل «الثقة»، ويحكي الكاتب كيف قام بإرسال شكوى إلى الرئيس عبد الناصر ضد رئيس مجلس إدارة الشركة وتجاوزاته بل وتعديه على عبد الناصر شخصيًّا! وكيف أنَّه بعد ثلاثة أسابيع استدعاه رئيس مجلس الإدارة وفاجأه بالشكوى في يده سائلًا: «خطك ده؟» فردَّ بالإيجاب فقال له: عرفت إن عبد الناصر بيضحك على المغفلين اللي زيك! وخصم من راتبه خمسة أيام وحرمه من العلاوة الدورية قائلًا: «ابقى خلِّي عبد الناصر ينفعك.» يذكر الدكتور رءوف كيف كان بريئًا لدرجة السذاجة؛ فلقد كان المدير من أخوال شمس بدران المسنودين. إنَّها ملاحظة صائبة ودقيقة عن الطبقة البيروقراطية من العسكريتاريا التي أحاطت بعبد الناصر وعزلته عن الشعب وعن مؤيِّديه الحقيقيين.
ومن خلال ذكريات د. رءوف عبَّاس ومسار حياته نكتشف تقييم المؤرخ الموضوعي لثورة يوليو، هذا التقييم الذي لا يُغفل سلبياتها ولا يُقلِّل من إنجازاتها، ولعل كفاح رءوف عبَّاس من أجل الحصول على حقه في التعليم هو خير ميزان لتقييم تلك الثورة. لقد وُلِد في أسرة متواضعة يعمل فيها الأب عاملًا بالسكة الحديد، بينما كان أقصى ما يُراود طموحه أن يجعل صاحبنا يحصل على تعليم أزهري من خلال الكُتَّاب، وتتدخَّل يد القدر أكثر من مرة لتغيِّر من مصير مؤرخ المستقبل، فيلتحق بالمدرسة الابتدائية بفضل «كارت توصية» من أحد البكوات ساقته الصدفة إلى يد والده، ويبدأ مسيرةً طويلة من الجوع والحرمان من أجل الإمساك بفرصته الوحيدة في التعليم … مسيرة شبيهة بقصة كفاح علي باشا مبارك التي رواها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر إسماعيل. مرةً أخرى تتدخَّل يد القدر لتُنقذ صاحبنا من مصير مظلم كان يُرتِّبه له والده، فيتولَّى إسماعيل القباني وزارة المعارف في أول وزارة في عهد الثورة، فيتم إنشاء التعليم الإعدادي فيلتحق به صاحبنا لتُنقذه «وقفية» المدرسة من المصاريف، أمَّا حلم دخول الجامعة فيتحقَّق بمعجزة على يد رجل مصري بسيط ذهب إليه صاحبنا ليُساعده على الحصول على عمل، فهال الرجل أن يرى نبوغ صاحبنا مُعرَّضًا للضياع، فأقرضه ثلاثة جنيهات كرسوم تقديم ودمغات لمكتب التنسيق! ثلاثة جنيهات فقط أنقذت د. رءوف من مجاهل النسيان، ليصبح بعد ذلك مؤرخًا مرموقًا، وجاء تساهل حكومة يوليو مع طلاب المجانية في التعليم الجامعي ليفسح طريقًا للطلاب المتفوِّقين الفقراء، ويستطيع صاحبنا إنهاء تعليمه الجامعي.
تلك المرحلة الحافلة بالصراع من أجل التعلُّم هي خير ميزان لتقييم ثورة يوليو وإنجازاتها الاجتماعية، تلك التغيُّرات التي أحدثتها الثورة قد انعكست على حياة رءوف عبَّاس، وظهرت في سيرته الذاتية لتصدر حكمًا نزيهًا على تلك المرحلة من حياة مصر، دون استخدام كلمات كبيرة أو شعارات برَّاقة ولكن عبر أحداث من لحم ودم، وصراع يعيشه بطلنا مع الجوع والحرمان من أجل الحصول على حقه في الحياة.
في الوقت نفسه يرصد المؤرخ رءوف عبَّاس اليد الفظَّة لتدخُّل مؤسسة «الأمن» في الحياة المصرية في نصف القرن الماضي، وخاصةً في العشرين عامًا الأخيرة. وتبدو تلك اليد الثقيلة في خلفية الأحداث طول الوقت لتظهر جليةً ظاهرة وفظة في بعض اللحظات الكاشفة، يصطدم صاحبنا بها وهو موظَّف بشركة القطاع العام عندما يقترب من لجنة العمل النقابي في كفر الزيات، وعندما يحضِّر رسالة الماجستير عن الحركة العمالية في مصر تستدعيه المباحث العامة مرتَين، ثانيتهما تقابَل فيها مع حسن المصيلحي رئيس قسم مكافحة الشيوعية، ولم يُنقذ صاحبنا من تلك المطاردة سوى أستاذه أحمد عزت عبد الكريم الذي أصبح مديرًا لجامعة عين شمس آنذاك. ونلتقي مرةً أخرى بذلك الظل الثقيل أثناء عمله للجامعة، فهي تتحكَّم في تعيين العمداء وفي الانتخابات الطلابية وفي المناصب الإدارية العليا. ويبدو ذلك التدخُّل واضحًا أوضح ما يكون في اختيار رؤساء الجامعات، بل وفي حرمان بعض الأساتذة من القيام بالتدريس ورفعهم من الجداول … عديد من الوقائع والقصص المُرة يرويها الكاتب عن معايشة شخصية وحقيقية بالأسماء والتواريخ، في مكاشفة هي الأولى من نوعها لِمَا يحدث في الجامعة المصرية الآن.
ويروي د. رءوف عبَّاس شهادته عن عصر الرئيس السابق السادات ومحاولاته استغلال أساتذة الجامعة في الصراع السياسي ضد خصومه.
وفي فصل خاص بعنوان «موعد مع الرئيس» يروي المؤلف بحبكة درامية، وبرواية روائي حكَّاء، كيف جمع الرئيس السادات بعض أساتذة الجامعات تحت ستار سرية تامة في الإسماعيلية ليكوِّنوا هيئة تدريس بمعهد «الدراسات الوطنية» وليُعلِّموا الشباب الوطنية، ويُكمل د. رءوف حكايته وكيف تابع تلك التكليفات كل من منصور حسن ود. مصطفى السعيد، وكيف انهارت تلك المحاولة على صخرة العقلية الطائفية التي سادت في عصر السادات، عندما اقترح الدكتور رءوف والدكتور عبد الملك عودة محاضرين أقباطًا ليكونوا ضمن هيئة تدريس ذلك المعهد!
وتُمثِّل الجامعة وما يدور في أروقتها الجزء الأغلب من «مشيناها خطًى»، ويبرز الفساد الذي بدأ يضرب في هيئاتها في السبعينيات، وانتشر مستشريًا هذه الأيام. ويعرض لقصته مع «نهى السادات» التي حاول عميد كلية الآداب آنذاك أن يُجبره على كتابة رسالتها للماجستير عن «حزب الوفد» في الجامعة الأمريكية، فرفض بإباء وشمَم غير خائف من مصيرٍ شبيه بما حدث مع الدكتور حسن حنفي عندما تأخَّرت ترقيته عامَين لاعتراضه في مجلس الكلية على حصول السيدة جيهان السادات على درجة الليسانس بتقدير ممتاز … وتتوالى العديد من القصص والوقائع بالأسماء والتواريخ عن الفساد المستشري في مؤسسة الجامعة، وعن الأساتذة الشرفاء الذين يُواجهونه قابضين على الجمر. ويبدو «الكتاب» أكثر من مجرَّد «سيرة ذاتية» لمؤرخ؛ فهو تعرية كاملة لِمَا يحدث في الجامعة، وإن كان الواقع الحالي أسوأ بكثير مِمَّا صوَّره الدكتور رءوف، وخاصةً بعد فتح الجامعات الخاصة والأجنبية التي لم تترك بلدًا في العالم صغر أو كبر إلا وارتدت اسمه بدءًا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مرورًا برومانيا ونهايةً بزامبيا! ولعل فتح تلك الجامعات الخاصة قد أوجد مجالًا للأكابر أن يحصلوا على ما يُريدونه من أي «سوبرماركت» جامعي.
من يقرأ «مشيناها خطًى» يكتشف فورًا جرأة الكاتب على تكسير «تابو» المحرَّمات، ومنه عدم ذكر أسماء الشخصيات المعروفة والعامة التي اصطدم بها صاحبنا، ولعل ذلك يُعطي سيرته مذاقًا خاصًّا لا تنقصه الصراحة التي طالما نفتقدها في أدب السيرة الذاتية في مجتمعاتنا العربية. وتبدو شخصية الكاتب المستقيمة والمحبة للمواجهة والمستعدة للنزال فيما يراه صوابًا واضحًا للغاية في «مشيناها خطًى».