رءوف عبَّاس بين سيرة الوطن وسيرة المؤرخ١
تكاد السيرة الذاتية للمؤرخ الكبير رءوف عبَّاس (١٩٣٩م–…) أن تكون سيرة الوطن وأوجاعه وأحلامه التي طالت السماء يومًا، والمعارك التي خاضها على مدى أكثر من خمسين عامًا، تكاد أيضًا أن تكون هي ذاتها المعارك التي خاضها الوطن.
وإذا كان د. عبَّاس متحفِّظًا — إلى أقصى حد — فيما يتعلَّق بالجوانب الشخصية الحميمة في حياته، فإنَّه كان منطلقًا — إلى أقصى حد ممكن — فيما يتعلَّق بالأحداث والوقائع التي كان طرفًا فيها أو شاهد عيان عليها.
والحقيقة أنَّ القارئ يشعر فور الانتهاء من آخر صفحات سيرته الذاتية التي صدرت أخيرًا في سلسلة كتاب الهلال المصرية في ٣٣٦ صفحة، يشعر بالانحياز إلى صف هذا الرجل الذي عاش مرفوع الرأس، وواجه عواصف الفساد وأنواءه، وبيع النفوس والضمائر وشراءها، بثبات نادر يليق حقًّا بتاريخه العلمي وإنجازاته كمؤرخ ومُعلِّم لأجيال من الباحثين والمؤرخين.
لنستمع إلى قصة د. رءوف عبَّاس من البداية؛ فالوقائع والأحداث التي يسوقها كشاهد عِيان أبلغ من أي تعليق، بل إنَّ القارئ يشعر بأنَّ أي تعليق يبدو غير كافٍ … فنحن أمام شهادة على عصر كامل، ولا أظن أنَّني أتجاوز كثيرًا عندما أقول إنَّها واحدة من بين أهم الشهادات التي صدرت في العقد الأخير إن لم تكن أهمها على الإطلاق.
من جانب آخر لم تكن طفولة الرجل تنبئ بأي إمكانية لتخطِّي الفقر والشقاء وتجاوز الظروف الخانقة؛ فقد وُلِد في ٢٤ من أغسطس ١٩٣٩م في أحد مساكن عُمَّال السكة الحديد ببورسعيد، حيث يشتغل والده عاملًا بالسكة الحديد، وعلى حد تعبيره «يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعُمَّال».
وبسبب مشاكل عائلية بين أمه وجدته لأبيه، عاشت جدته وحدها في حي شبرا بالقاهرة مع رءوف منذ أواخر عام ١٩٤٣م لأنَّ أباه كان يحس بالذنب لتركه لها، بينما عاش الأب مع أسرته في محافظة القليوبية القريبة من القاهرة.
أمَّا عزبة هرميس بحي شبرا التي عاش فيها طفولته، فكانت منطقةً فقيرة عشوائية تخلو من المياه والصرف الصحي والكهرباء، نزح أغلب سكانها من القرى المحيطة طلبًا للرزق وفرارًا من البؤس والشقاء، وعلى الرغم من أنَّ المسلمين كانوا أقليةً في هذه المنطقة، إلا أنَّ العلاقات بينهم وبين الأقباط سادها الوئام والمحبة كأنَّهم أسرة واحدة، بل إنَّ النسوة الأقباط والمسلمات كُنَّ يتبادلن إرضاع أطفال بعضهم البعض، بل ورعاية أطفال بعضهم البعض، إذا اضطُرت إحدى الأمهات إلى السفر لقريتها فجأةً لأمر طارئ.
تلقَّى (صاحبنا) تعليمه في «كُتَّاب» ليتعلَّم القراءة والكتابة وقواعد الإملاء والحساب، ومن الكُتَّاب إلى مدرسة السيدة حنيفة السلحدار الابتدائية. قدَّم الوالد أوراق صاحبنا، وبعد أن نجح صاحبنا في امتحان القَبول، أخبره المسئولون أنَّ القَبول لا يُعدُّ نهائيًّا إلا إذا قدَّم توصيةً من أحد الوجهاء والبكوات «مُوجَّهًا إلى حضرة صاحب العزة محمد بك الكاشف ناظر المدرسة».
ولأنَّ الأب فقير وأقاربه فقراء، فقد استعدَّ لسحب أوراق ابنه بعد نجاحه في امتحان القَبول لأنَّه لا يستطيع الحصول على توصية من أحد الوجهاء، وبالمصادفة وبينما كان الأب يحكي ما جرى له أمام عمدة القرية، قام الأخير بمساعدة الأب في صمت وحمل له التوصية من صاحب العزبة!
أمَّا حياته مع جدته فكانت شقاء في شقاء لأنَّها تكره أمَّ صاحبنا، وتعدَّدت صور شقاء الطفل؛ فقد كانت تُجبره على أن يقطع ساعتَين ذهابًا وإيابًا ليشتري مثلًا من حقول إحدى القرى القريبة بخمسة مليمات ملوخيةً وطماطم«!» بل إنَّها حرمته من وجبة العشاء لأنَّها تُؤثِّر في قدرته على الفهم«!» وإذا طبخت لحمًا أكلته وحدها«!» … إلخ.
وإذا كان صاحبنا لا يزور أمه وأباه وإخوته إلا يومًا واحدًا في الأسبوع، فإنَّ هذا اليوم الوحيد كان يقضي أغلبه في إبلاغ أمه بما يحدث له وما يتعرَّض له من شقاء ومهانة، وكانت الأم والابن أيضًا يخشيان الأب ولا يُخبره أحد بما يتعرَّض له صاحبنا، حتَّى رسب الأخير في الفرقة الأولى الثانوية، فاتخذ الأب قراره بإنهاء تعليمه عند هذا الحد وإلحاقه بوظيفة كتابية بالسكك الحديدية، لكن الأم انفجر غضبها المكبوت طوال السنين الماضية، ورفعت صوتها للمرة الأولى، وأبلغت الأب بكل ما تفعله حماتها في الطفل الصغير … كتب «صاحبنا»: «وتعرَّض الولد لاستجواب طويل من جانب الأب الذي كان يجهل تمامًا حقيقة ما يجري لولده، وعلى ضوء ذلك قرَّر نقله إلى مدرسة طوخ الثانوية (حيث كان يعمل هناك)، فأحسَّ صاحبنا لأول مرة بدفء الحياة الأسرية.»
بطبيعة الحال لم تكن المدرسة هي الشفاء فقط فمن خلالها انفتح أمامه عالم المعرفة، خصوصًا المكتبة ومظاهرات الطلاب، فقد كان انقلاب الضباط الأحرار عام ١٩٥٢م قد نجح، وشارك صاحبنا في المظاهرة المؤيدة لعودة محمد نجيب عام ١٩٥٤م.
على أي حال نُقِل صاحبنا إلى مدرسة طوخ الثانوية، وفي الفرقة الثانية كان على كل طالب اختيار شعبة التخصُّص، فاختار القسم الأدبي لأنَّه كان ميَّالًا للتاريخ، وكان حلمه الأكبر أن يُصبح عالم آثار. وعندما اقترب موعد امتحان الثانوية العامة أفهمه والده بوضوح أنَّه لا يستطيع أن يستمر بعد ذلك في تعليمه؛ فعدد أفراد الأسرة تسعة وهو أكبر الأبناء، وعليه أن يلتحق بوظيفة فور نجاحه في الامتحان ليُساعد والده.
«وعندما ذهب إلى الكلية لأول مرة، فوجئ بأنَّ من حق من يحصل على ٦٠٪ فما فوق من غير القادرين على سداد المصروفات أن يتقدَّم بطلب للحصول على المجانية مشفوعًا ببحث اجتماعي عن حالته من وحدة الشئون الاجتماعية التابعة لمحل إقامته، فقام بإعداد الأوراق المطلوبة وتقديمها، وأُعلنت كشوف أسماء من حصلوا على المجانية بعد ثلاثة أسابيع، فلم يدفع سوى ٣٦٠ قرشًا رسومًا للقيد بدلًا من المصروفات التي كانت تبلغ ثمانية عشر جنيهًا ونصف الجنيه.»
ويرسم صاحبنا صورةً للجامعة في ذلك الحين تبدو كأنَّها تنتمي لكوكب آخر؛ فالأساتذة عُلماء أجلاء، والطلاب يبحثون ولا يحفظون، ليس هناك مذكرات يحفظها الطالب وينجح، بل أبحاث ومقالات ومكتبات يرجع إليها ومتابعة يومية وامتحانات حقيقية.
وإذا كان صاحبنا عندما التحق بقسم التاريخ كان حلمه أن يُصبح من علماء الآثار، إلا أنَّه اكتشف فيما بعدُ أنَّ شعبة الآثار لم تفتح أبوابها بعد؛ فتخصَّص في التاريخ الحديث بمساعدة أستاذه د. أحمد عبد الرحيم مصطفى الذي كانت له أيادٍ بيض عليه؛ فقد احتضنه واهتمَّ به واكتشف نبوغه المبكر وأعاره مراجعه، وفتح له طريق المعرفة.
وتتعدَّد أسماء أساتذته الذين يذكر فضلهم عليه مثل د. أحمد عزت عبد الكريم ود. عبد اللطيف أحمد علي وعالم الآثار الشهير د. أحمد فخري؛ فقد أسهم كلٌّ منهم في تكوينه العلمي وفتحوا له آفاقًا معرفية جديدة من خلال النقاش العلمي والأبحاث الميدانية والعكوف على المراجع والمكتبات، وهي أمور — كما يعلم القارئ — افتقدناها تمامًا، بل وتبدو — كما سبقت الإشارة — وكأنَّها جرت في كوكب آخر.
لكن الظروف الاقتصادية في ذلك الوقت كانت خانقة؛ فقد انتشرت البطالة ولم يجد صاحبنا عملًا يلتحق به، حتَّى أُعْلِن فجأةً عن تعيين جميع الخريجين؛ فقد صدرت قوانين التأميم عام ١٩٦١م وبموجبها انتقلت ملكية كل الشركات والمصانع إلى الدولة، والتزمت الأخيرة بتعيين جميع الخريجين … وهكذا أُنْقِذ صاحبنا من تشرُّد كان ينتظره، وتمَّ تعيينه في أوائل عام ١٩٦٢م ﺑ «الشركة المالية الصناعية المصرية».
«رأى صاحبنا رأي العين الرشى المادية والعينية التي تُقدَّم لمفتشي مؤسسة الصناعات الكيماوية ومفتشي أجهزة الرقابة الأخرى، ومأمور وضُبَّاط مركز كفر الزيات، وكيف كانت تتم تغطية ذلك كله بمستندات صورية أو تحت بند الإكراميات.»
لذلك نفر من الالتحاق بمنظمة الشباب الاشتراكي التي كانت في ذلك الوقت جواز مرور للتقرُّب من المسئولين، واعتذر عن عدم حضور دوراتها التدريبية، وانشغل بدراسة الماجستير واختار أن يبحث في تاريخ الحركة النقابية، مُتأثرًا بالخبرة الجديدة التي توافرت له، حيث شارك مع عُمَّال الشركة في محاولاتهم لمواجهة الإدارة الفاسدة.
اختار صاحبنا أن يدرس الحركة العمالية منذ نشأتها حتَّى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، وهو جانب مجهول ولم يلتفت إليه المؤرخون في ذلك الوقت، وأشرف على الرسالة د. أحمد عزت عبد الكريم إلا أنَّه لفت نظره إلى ضرورة الحصول على وثائق في هذا الموضوع.
كان أول الخيط في دراسة صاحبنا هو النبيل السابق عبَّاس حليم الذي لعب دورًا في صفوف الحركة النقابية قبل ١٩٥٢م، ويحكي صاحبنا الرحلة الشاقة التي كان عليه أن يقطعها ليعثر على النبيل ثمَّ يكتسب ثقته ويسمح باطلاعه على الوثائق التي في حوزته. وقادته وثائق عبَّاس حليم إلى البحث عن محمد حسن عمارة سكرتير عام اتحاد النقابات الذي رأسه حليم. وبعد مغامرات أخرى استطاع الوصول إليه وعمل على اكتساب ثقته حتَّى نجح وحصل منه على عشرات الوثائق، وهكذا وجد صاحبنا نفسه أمام منجم لم يسبقه إليه أحد، واتصل بعدد من قُدامی الماركسيين النقابيين وحصل منهم على مواد جديدة.
في هذه الفترة أيضًا خفق قلبه بالحب حيث تعرَّف إلى زميلته في الدراسات العليا سُعاد الدميري وتزوَّجا عام ١٩٦٤م، إلا أنَّه اضطُر لأن يُغامر بمستقبله بعد أن سجَّل موضوع «الملكيات الزراعية الكبيرة وأثرها في المجتمع المصري ١٨٣٧–١٩١٤م»، والذي يقتضي العمل على الوثائق المُودعة بدار المحفوظات العمومية ودار الوثائق القومية، مِمَّا يستلزم التفرُّغ الكامل، وهو ما يُمكن تدبيره بالحصول على منحة تفرُّغ إذا وافقت جهة العمل.
وبالطبع لم تُوافق جهة إدارة الشركة التي سبق له أن اصطدم معها عندما دافع عن حقوق العُمَّال ووقف ضد كبار اللصوص فيها، فقدَّم استقالته رغم أنَّ المنحة لا تقل فقط عن المرتب بحوالي النصف، بل أيضًا محدودة المدة وتتوقَّف على الوفر في الميزانية لتمويلها.
وبعد ثلاثة أشهر توقَّفت المنحة لنفاد البند، واستطاع أستاذه د. أحمد عزت عبد الكريم تمويلها بعد أن أصبح مديرًا للجامعة، إلا أنَّه كان من المتوقَّع أن تتوقَّف في أي وقت، وتصادف أن نُشِر إعلان في الصحف عن شغل وظيفة معيد تاريخ حديث بكلية الآداب جامعة القاهرة، فتقدَّم إليها صاحبنا دون أن يستشير أستاذه، وسُرعان ما اكتشف من أستاذه أنَّ الوظيفة أُعْلِن عنها خصوصًا لسكرتير مدير جامعة الإسكندرية بسبب رفض رئيس القسم هناك أن يُعلن عن درجة خالية؛ أي إنَّ الفساد قد بدأ ينخر في جامعات مصر؛ فرئيس جامعة الإسكندرية يتحايل على القانون ويطلب من صديقه رئيس جامعة القاهرة تعيين سكرتيره معيدًا.
وأصرَّ صاحبنا على أن يخوض المعركة حتَّى النهاية، وبالفعل تمَّ تعيينه في هذه الوظيفة بجامعة القاهرة، بينما كان مُسجلًا للدكتوراه في جامعة عين شمس، كما التحق في الوقت نفسه من خلال المؤرخ الراحل د. محمد أنيس الذي كان رئيسًا للقسم في آداب القاهرة بقسم الأبحاث الذي أنشأته صحيفة الجمهورية ردًّا على إنشاء الأهرام لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، إلا أنَّه عانى من مقص الرقيب ورئيس التحرير معًا فيما يتعلَّق بالدراسات التي كان يُنجزها وتقرَّر نشرها، وعمل أيضًا مع د. أنيس في مركز تاريخ مصر المعاصر التابع لدار الكتب، لكن العلاقات توتَّرت بينهما بشدة حتَّى إنَّ أنيس اتهمه بالعمالة للمباحث!
وفي هذه الفترة تحديدًا اتهمته المباحث بالشيوعية ومساعدة الشيوعيين! وكان قد تعرَّف في أثناء إعداده للماجستير على النقابي الشيوعي المعروف محمد يوسف المدرك الذي كان عضوًا بمجلس إدارة اتحاد النقابات الدولي عام ١٩٤٦م، واستمرَّت العلاقة بينه وبين صاحبنا يتزاوران ويتناقشان، والمدرك في ذلك الوقت كان رجلًا عجوزًا طاعنًا في السن، وكان قد تعرَّض للسجن والاعتقال والتعذيب والتشريد سنوات عديدة، لذلك كانت أحواله الصحية متدهورةً ولا يجد قوت يومه.
استدعت المباحث وبالتحديد قسم مكافحة الشيوعية صاحبنا بعد أن رصدت علاقاته بالمدرك، ووصل الأمر إلى مقابلة حسن المصيلحي رئيس القسم والمعروف بأعماله الإجرامية ضد الشيوعيين وتعذيبهم. في ذلك الوقت كان للأمن الكلمة العليا في كل شيء، وأطلق العِنان لأوامرهم ونواهيهم في التعيين والفصل في مختلِف الوظائف؛ لذلك كان التهديد الخفي الذي وجَّهه المصيلحي لصاحبنا حول رسالة الدكتوراه التي يُعدُّها الأخير معناه أنَّ الأمن بوسعه الوقوف في وجه حصوله عليها، بل واعتقاله إذا لزم الأمر، لكن أستاذه وقف بجانبه بشدة في مقابل وعد واحد أن يقطع صلته بالمدرك، وهو ما اضطُر إلى فعله رغم أنَّه كان من أشق الأمور عليه.
وبعد حصوله على الدكتوراه عام ١٩٧١م خاض معركةً أخرى من أجل الحصول على حقه وتعيينه مُدرِّسًا، وبعد عام واحد سافر إلى اليابان في مهمة علمية؛ حيث أُتيح له أن يطلع على أحدث المناهج العلمية، ويعمل مع عدد من ألمع المُتخصِّصين في الدراسات التاريخية على مستوى العالم، كما شارك في عددٍ من الحلقات البحثية، وأنجز كتابًا عن المجتمع الياباني.
امتدَّت إقامة صاحبنا عددًا من السنوات يعترف بأنَّها كانت انقلابًا في حياته على المستوى العلمي، ومن جانبه شارك بالكتابة والبحث التاريخي، وفي عقد أواصر الصداقة العلمية مع الباحثين اليابانيين، واكتشف أنَّ أغلبهم لا يعرفون شيئًا عن أسباب الصراع العربي الإسرائيلي، وهو الأمر الذي صرف جانبًا من جهوده لتحقيقه، ولعل من أهم ما نجح فيه هو قيام مؤسسة اليابان بتمويل إنشاء قسم لدراسة اللغة اليابانية بكلية الآداب جامعة القاهرة، بعد أن كان الأمر قد استقرَّ على إنشاء القسم بإسرائيل، لكن الجهود المتواصلة السرية التي بذلها صاحبنا تكلَّلت بالنجاح.
«وطوال السنوات الأربع التي قضاها صاحبنا في التدريس بكلية التربية بقطر، حظي بتقدير واحترام تلاميذه وتلميذاته، وخاصةً أنَّه — كعادته دائمًا — يُعطي لكل ذي حق حقه، فلا يكيل الدرجات لمن لا يستحق من أبناء وبنات الأسرة الحاكمة كما كان يفعل بعض زملائه، وكان يترفَّع في تعامله معهم ومع غيرهم من أبناء وبنات كبار التجار، في وقت كان بعض زملائه يتملَّقونهم ويلاحقونهم بطلبات عقود العمل للمعارف.»
ذات صباح في نوفمبر ١٩٧٨م، بعد عودته من قطر، تلقَّى صاحبنا مكالمةً تليفونية من رئاسة الجمهورية لحضور اجتماع سري مع الرئيس السادات وأن يُحضر معه ما يكفيه من ملابس لمدة ليلتَين أو ثلاث.
انتابته الدهشة؛ فقد كان بعيدًا عن السلطة، ولم يُعرف عنه الانضمام يومًا لأي من التنظيمات والأحزاب، بل إنَّه لم يرَ جمال عبد الناصر في حياته إلا مرةً واحدة في المظاهرة الكبرى التي شهدتها جامعة القاهرة عشية الانقلاب على الوحدة؛ حيث وقف عبد الناصر على سلم مدخل إدارة الجامعة يُلقي خطابه في الطلاب.
واضطُر لقَبول الدعوة، وذهب إلى مكان التجمُّع بمعهد الدراسات الاشتراكية بمصر الجديدة في الثامنة صباحًا؛ حيث وجد حشدًا من أساتذة الجامعات، وبدا له من استعراض من وُجِّهت لهم الدعوة مثله، أنَّ اختيارهم كان عشوائيًّا، وإن روعي فيه أن يكونوا مِمَّن لم تكن لهم صلات بالاتحاد الاشتراكي.
ركب الجميع في ست سيارات ميكروباص توقَّفت أمام المبنى القديم لشركة قناة السويس حيث كان في استقبالهم منصور حسن وزير الثقافة وعثمان أحمد عثمان المقاول الشهير وصهر السادات، واتجهوا إلى قاعة اجتماعات حيث جلس الجميع في صفوف، وكان في كل صف منها ستة من أعضاء هيئة التدريس يزاحمهم على الصف نفسه أربعة من رجال المخابرات!
بعد نصف الساعة دخل السادات، وبعد أن صافح الجميع جلس على المنصة وطلب غليونه وحشاه وبدأ يُدخِّن في هدوء واسترخاء، ثمَّ تحدَّث منصور حسن مُشيرًا إلى أنَّه جمع هؤلاء الأساتذة بناءً على توجيهات الرئيس ورُوعي في اختيارهم «الوطنية المتدفقة» لأداء واجبهم الوطني الذي يُكلِّفهم به الرئيس.
وهنا أُسقط في يد صاحبنا؛ فهي المرة الأولى التي يتعرَّض فيها لمثل هذا الوضع … لم يكن أمامه إلا الإنصات لحديث السادات الذي أشار خلاله إلى ذكرياته عن كفاحه الوطني ضد الإنجليز، وأنَّه يشعر بالقلق لعزوف الشعب عن العمل العام، وحسبما كتب صاحبنا أنَّ السبب يعود «لأنَّ مراكز القوى في الاتحاد الاشتراكي المُنحل لم يُقدِّموا له القدوة والمُثُل، كما أنَّ الكُتَّاب ورجال الصحافة لم يهتموا بالشباب، وبذلك لا يبقى للعمل العام سوى جيله هو وجيل الوسط، وهما جيلان أصابهما العفن ولا أمل فيهما في إعادة بناء مصر التي يحلم بها، ثمَّ قال بنبرة حازمة وهو يلوِّح بسبابته إلى الحضور: علشان كده جمعتكم لأنَّكم نجوتم من «الوساخات»، ولأنَّكم فخر مصر، علشان تربوا جيل نظيف يُعيد لمصر مجدها الذي أضاعه أصحاب الشعارات.» وهنا أُحيل القارئ إلى ص٢٣١–٢٣٢ ليرى كيف تحدَّث السادات عن مصطفى أمين مثلًا!
وهكذا اتضح لصاحبنا أنَّه تمَّ اختيار هذه المجموعة لتضع برنامجًا وتقوم بتدريسه لمجموعة من الشباب أعضاء الحزب الوطني الذي أسَّسه السادات. لم ينجُ من هذا المأزق إلا فيما بعد عندما قدَّم المنهج واقترح اسمَي أستاذَين قبطيَّين لتدريسه ضمن مجموعة من الأساتذة المسلمين، وعندما رفض منصور حسن، أصرَّ صاحبنا على ضرورة عدم التمييز بين المصريين على أساس ديني، وكانت النتيجة استبعاده تمامًا لحسن الحظ.
وصل الفساد إلى الذرى، فكان لأجهزة الأمن مثلًا الكلمة العليا في التعيين في المناصب القيادية، والتدخُّل في نظام الإعارات، وتحديد مصير شئون الطلاب، وانشغل الأساتذة بإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه لطلابهم من الأثرياء العرب، ونُهبت الصناديق الخاصة واستُخدمت أموال الجامعة في الإنفاق على المحظوظين من الأساتذة.
ويُورد صاحبنا وقائع مُحدَّدة يندى لها الجبين وما زال أغلب أبطالها يشغلون أعلى المناصب حتَّى يومنا هذا، وهُنا أحيل القارئ مرةً أخرى إلى الصفحات من ٢٤٢–٢٤٦ فيما يتعلَّق بحصول السيدة جيهان على الدكتوراه أو دراسة ابنتها السيدة نهى السادات!
وامتدَّ هذا الفساد إلى خارج الجامعة في دار الكتب ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، ولكن صاحبنا نجا بأعجوبة من عشرات المآزق حتَّى الآن.
وقبل أن يُنهي صاحبنا أوراقه خصَّص فصلًا للجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي انضمَّ إليها عام ١٩٦٦م، وهي جمعية أهلية أسَّسها الملك فاروق عام ١٩٤٥م للاهتمام بالتاريخ، وكان آخر مكان استقرَّت فيه بشارع البستان بالقاهرة حيث استأجرت طابقًا في إحدى البنايات. ورغم بؤس المكان وتواضعه وضيقه الخانق، تمكَّنت من إصدار عدد من الكتب وأصدرت أيضًا المجلة التاريخية المصرية، إلا أنَّ مواردها تدهورت بشدة؛ فهي جمعية أهلية ولا تحصل إلا على مساعدات بالغة البساطة لا تُمكِّنها من أداء دَورها بعقد الندوات والمؤتمرات وإصدار المطبوعات.
يذكر صاحبنا أنَّ أعضاء الجمعية اختاروه رئيسًا لمجلس الإدارة في وقت كانت الجمعية تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ فلا موارد أو مساعدات، ومقرها ذاته مُعرَّض للضياع بسبب مشاكل قانونية من جانب مُلَّاك العقار الذي تستأجر الجمعية أحد طوابقه. واقترح صاحبنا اللجوء إلى الشخصيات المعروفة برعاية الثقافة في العالم العربي لبناء مقر خاص للجمعية، وأُرْسِلت بالفعل رسائل للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والسلطان قابوس والشيخ سلطان بن محمد القاسمي أمير الشارقة، والذي كان قد تبرَّع بالفعل لجامعة القاهرة لبناء مكتبة لكلية الزراعة (التي تخرَّج فيها) بتكلفة قدرها ١٢ مليون جنيه.
كما تمَّ الاتصال أيضًا بعدد من الشخصيات المحلية للحصول على مساعدات تُقيل الجمعية من عثرتها، وبفضل الجهود التي بذلها د. يونان لبيب رزق تبرَّع محمد فريد خميس بعشرة آلاف جنيه، ولويس بشارة وإحدى شركات الأدوية بخمسة آلاف جنيه، وقام سعد فخري عبد النور بسداد إيجار المقر لمدة ستة أشهر، كما تبرَّع الأمير طلال بن عبد العزيز بمبلغ ٣٦ ألف جنيه لمدة خمس سنوات.
«بدأ الرجل العظيم حديثه بالاعتذار لصاحبنا لأنَّ الرسالة وصلت قبل ثلاثة أسابيع وأنَّه لم يطَّلع عليها إلا يومها نظرًا لوجوده خارج بلاده، وأبدى قلقه على ما تُعانيه الجمعية، وشرح له صاحبنا المشكلة، وتصوُّر مجلس الإدارة لحلها باقتناء مقر يتبرَّع به أحد رعاة الثقافة العربية أو يتعاون عدد من الرعاة في تمويله، وأنَّ التصوُّر هو شراء فيلا مساحة مبانيها لا تقل عن ٥٠٠ متر لسكنى الجمعية ومكتبتها. فاعترض سمو الشيخ على هذه المساحة، وقال إنَّه يعلم أنَّ بالجمعية مكتبةً قيِّم، وأنَّها وحدها تحتاج لمثل هذه المساحة لو لم يُوضع التوسُّع في الاعتبار، ولكنَّه أبدى استعداده لشراء المقر وإعداده لسكن الجمعية وتأثيثه، ثمَّ تقديمه للجمعية على سبيل الهبة. زوَّد صاحبَنا بأرقام هاتفه الخاص والفاكس الخاص.»
«شكره صاحبنا وأثنى على ما يُقدِّمه لمصر، ذاكرًا تبرُّعه لجامعة القاهرة بمكتبة كلية الزراعة (التي تخرَّج فيها الشيخ)، فاستنكر الرجل وصف ذلك بالفضل وقال: إنَّ فضل مصر على العرب كبير، وإنَّه يسأل الله تعالى أن يُعينه على أداء بعض ما لمصر من دين، وعندما أشار صاحبنا إلى هذا الحديث في الكلمة المرتجلة التي ألقاها في افتتاح المقر الجديد بمدينة نصر (٢٣ مايو ٢٠٠١م) بحضور الشيخ ووزير التعليم العالي وبعض كبار رجال وزارة الثقافة، لاحظ عند اطلاعه على شريط الفيديو بعد الاحتفال أنَّ عيني الشيخ اغرورقتا بالدموع عندما وصل صاحبنا في حديثه إلى ذكر هذه العبارات المخلصة النادرة التي تكشف عن أصالة هذا الرجل العظيم وعمق تقديره لمصر والمصرين.»
ما سبق مجرَّد لمحات سريعة من ذكريات د. رءوف عبَّاس، وهي لا تكشف عن معدن الرجل وطبيعته ودوره، بقدر ما تكشف عن عصر كامل وحافل امتدَّ لأكثر من ستين عامًا من العطاء.