رحلة شاقة إلى «نهاية» الجامعة المصرية١
احتلَّ التعليم مكانًا متميِّزًا في تاريخ الاستنارة المصرية، كتب فيه الطهطاوي صفحات طويلة، وكرَّس له المُربِّي الكبير أحمد لطفي السيد جزءًا من حياته، وساوى هيكل بينه وبين التطوُّر والارتقاء. أمَّا طه حسين فقد أكَّد التعليم مرجعًا للحداثة الاجتماعية، فاشتقَّ من المدرسة مجتمع المستقبل، واشتقَّ المدرسة المستقبلية من دولة تؤمن بالتعليم الحديث. ولم يكن سِفْره الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» كتابًا عن «المتوسطية» والشخصية المصرية، بقدر ما كان كتابًا عن دور التعليم في تحديث العلاقات الاجتماعية. وهذا ما أدرج على لسانه جملةً شهيرة تُساوي بين التعليم و«الماء والهواء». وربما يكون يقينه — الذي لا تحفُّظ فيه — هو ما أثار خصومًا تحدَّثوا عن احتمال «فساد الماء والهواء»؛ ذلك أنَّ التعليم، وهو جهاز من أجهزة السلطة، على صورة القائمين على شئونه. وما كتاب رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى»، الصادر أخيرًا، إلا شهادة نادرة على سطوة الفساد السلطوي، الذي يُغيِّر من طبيعة التعليم والماء والهواء معًا.
«مشيناها خطًى» سيرة مجزوءة لإنسان عصامي نموذجي، جاء من صفوف الفقراء، وتسلَّل إلى الجامعة، وأصبح علمًا في الميدان الذي كرَّس له اجتهاده؛ أي «علم التاريخ»، غير أنَّ الكتاب، في بُعده المسيطر، هو سيرة «الجامعة المصرية» منذ نهاية الحكم الملكي، تقريبًا، وصولًا إلى نهاية القرن العشرين. سيرتان، تتوازيان وتتقاطعان، تكشف إحداهما عن نزاهة فرد، أو أفراد، وتُعلن ثانيتهما عن علاقات إدارية سلطوية، تتجاوز نيات الأفراد جميعًا. تتوالى العهود، في صفاتها المختلفة، مؤكِّدةً فكرة «فساد الأزمنة»؛ إذ «الجامعة الملكية»، على مستوى احترام التعليم والكفاءات العلمية، أكثر شرفًا من «جامعة تقدُّمية» لاحقة، تحتفي ﺑ «جماهير المحرومين»، وتمتهن الكفاءات، وتعبث بحرمة الجامعة. فإذا كان في السياسة التعليمية المحافظة ما يؤمِّن «طبقية التعليم»، الذي يُعيد إنتاج «البكوات المتعلِّمين»، من دون عبث في المعايير الجامعية، إلا استثناءً، فقد غدا العبث بالتعليم في السياسات اللاحقة قاعدةً ذهبية لا يُمكن كسرها؛ ففي الفترة الناصرية، التي عاين عبَّاس تناقضاتها بنزاهة كبرى، عرفت الحياة الجامعية المصرية ثلاث ظواهر جديدة؛ أولاها: تأكيد موالاة السلطة قيمة معرفية؛ فالموالي هو العالم الحق والأكاديمي النقدي مشبوه ناقص المعرفة. شجَّعت هذه الظاهرة، بأشكال لا متكافئة، الضحالة العلمية والهزال الأخلاقي في آنٍ.
أمَّا الظاهرة الثانية فتكشَّفت في كسر حرمة الجامعة بواسطة «إمبراطورية المخابرات»، التي تجعل من «المخبر الكبير» مسئولًا كبيرًا، ومن الأستاذ النقدي موظفًا صغيرًا مرعوبًا. وتأتي الثالثة، والحال هذه، محصلةً للظاهرتَين السابقتَين؛ حيث على التنافس بين الأساتذة الجامعيين؛ أي معشر العلماء، أن ينتقل من حقل البحوث العلمية إلى سراديب الموالاة، والسؤال هنا: كيف يستقيم البحث العلمي في دولة وطنية إذا كان القائمون عليه يفتقدون إلى الأخلاقية المعرفية، أو يمتهنون العلم والأخلاق في آنٍ واحد؟ لهذه الأسباب كان أمرًا خطيرًا أن يحاور رءوف عبَّاس، وهو يُعدُّ رسالة ماجستير عن الحركة العمالية في مصر، نقابيًّا شيوعيًّا قديمًا، حوَّله التعذيب إلى «بقايا إنسان»؛ لأنَّ إظهار الموالاة أكثر أهميةً من التدقيق العلمي. بحث لا حرية فيه أو بحث حر يُهدِّد صاحبه، تمهيدًا لعقلية أكاديمية هجين، ترى في الأوامر السلطوية قواعد معرفة منهجية.
أسَّست الفترة الناصرية لتلك الثنائية المُهلكة، التي تُساوي الموالاة بالحقيقة والنقد بالضلال، محتفظةً بفضل مبادئها الوطنية التحرُّرية الصادقة، بما يُمكن أن يُدعى ﺑ «الخوف العقائدي» الذي يأمر الأكاديمي الوطني المسئول، وهو حال رءوف عبَّاس، أن يضع المصلحة العامة فوق مصلحته الشخصية، سواء اتفق مع السلطة أو اختلف معها. أفضت هذه السياسة إلى تهديم البحث العلمي، الذي زادته إعاقة «هجرة العقول»، إلى أن دخل في فترة لاحقة، إلى بوابة الخراب الكبير. فمع بداية سبعينيات القرن الماضي، كان على الظواهر السلبية الثلاث، وقد عرفت تراكمًا كميًّا وكيفيًّا، أن تتوالد في ظواهر غير مسبوقة؛ اكتسحت المصلحة الخاصة، في شكل كبير، مواقع المصلحة العامة وتحوَّلت الجامعة، «مصنع العقول» بلغة قديمة، إلى مسرح عبثي أبطاله الأساسيون السلطة و«خدم السلطان»، بلغة عبَّاس، وما تبقَّى متفرِّجون، من دون النظر إلى كفاءاتهم العلمية.
وربما يُعطي مآل الراحل الكبير جمال حمدان صورةً مأساوية عن هذا المسرح المبتذل، تجلَّى العنصر الجديد الثاني في «شخصنة السلطة في الحياة الجامعية»؛ إذ قريب السلطان أكاديمي بالضرورة، وإذ قريبة السلطان مركز الحياة الأكاديمية، تغدَق عليها الألقاب الرفيعة، ويُعاقب من يريد أن يكون أمينًا، حال حسن حنفي. السلطة الجديدة لم تكتفِ ﺑ «إمبراطورية المخابرات» القديمة، فاستقدمت ذاتها مباشرةً إلى الجامعة؛ كي تختار بالمعاينة المشخِّصة «الأكاديميين الكبار»، تُغدِق عليهم المصالح ويُغدِقون عليها ألوان الحكمة الكاذبة. حين طلب عميد الكلية من عبَّاس أن «يُساعد تلميذةً مرموقة»، أجابه الأخير: «إنت عارف إنت قاعد فين؟ قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد!» كان زمن طه حسين قد رحل، ورحلت معه صورة «جامعة فؤاد»، وبانت بطانة تقايض الشرف الجامعي برضا السلطة. لا غرابة أن يُصبح دور التعليم، في هذا الطور الحفاظ على ديمومة السلطة. ولا يحق «للذمي» أن يُسهم في وضع أسئلة الامتحانات، ومن الصعوبة ترفيع «الذمي» أكاديميًّا لأنَّه «سيُسارع إلى مسايرة نظائره من «الذميين»». بعد «الأكاديمي المخبر» يأتي «الأكاديمي الطائفي»، ويتكافل الطرفان في اختزال الجامعة المصرية إلى شكل خارجي فقير يمتنع عليه الخوض في القضية الفلسطينية، ويُسرف في الحديث عن «مصر الخالدة» وعن: «إذا جنحوا للسلم فاجنح لها»، في سياسة تلفيقية تعود إلى «المقدَّس» حينًا، وتقفز فوق المقدَّس حينًا آخر.
في فصل جميل من فصول هذا الكتاب النزيه عنوانه «موعد مع الرئيس»، يكشف رءوف عبَّاس، بنبرة يختلط فيها الرثاء بالسخرية، عن مدى هوان الجامعة في «زمن الانفتاح» أو «زمن الانفلات» كما يقول؛ فرجال المخابرات يختارون «صفوة العلماء» للقاء «المرجع الأعلى»؛ الأمر الذي يفرض جلوس الجميع بتنظيم معيَّن «في كل صف ستة من أعضاء هيئة التدريس بينهم أربعة من ضباط المخابرات». هكذا يُصبح رجال المخابرات، بالمعنى الرمزي، من أعضاء الهيئة التدريسية، بقدر ما يغدو «العلماء» أفرادًا في أجهزة المخابرات، وصولًا إلى جامعة، هي إلى المعتقل أقرب، وإلى أساتذة يخضعون إلى التراتب العسكري (عندها يستطيع الأستاذ أن يطلب من المعيد أن يشتري له حوائج بيته)، وإلى تلاميذ بين السمسرة والاعتقال والعلم الزائف والاغتراب الشديد.
بعد جامعة طه حسين تأتي أنقاضها، وبعد الأنقاض يأتي فولكلور حزين، يتضمَّن تجارة الكراسات و«مافيا الدروس الخصوصية» والعبث بأموال الجامعة و«الهدايا الأمريكية»، التي لها أكثر من استعمال، والمسئول الجامعي الكبير الذي لا يعرف اسم أحمد لطفي السيد، وتزوير الانتخابات، والعميد المستوزر، وصولًا إلى أستاذ غريب هو سبب «قلق الدولة المصرية»؛ لأنَّ «أحد أبناء أو بنات مسئول في المخابرات رسب في امتحاناته …» لا غرابة أن يتضمَّن كتاب «مشيناها خطًى» فصلًا بعنوان: «تحت القبة وهم»، يرثي جامعةً أصيلة كانت، ويرثي معها أحلام تلاميذ نُجباء لم ينسوا بعدُ معنى الجامعة، كما ينبغي أن تكون. لا يتسلَّل الفرح إلى سطور الكتاب الأخير إلا حين يذهب كاتبه إلى «بلاد الشمس»؛ حيث الجامعة اليابانية تمحو التجهيل المنهجي الذي تلقَّنه في الجامعة المصرية.
هذا كله في مصر التي أعطت وما تزال، خيرة العقول المبدعة، بدءًا بالطهطاوي، ومحمد عبده، وصولًا إلى جمال حمدان ولويس عوض، وانتهاءً بمؤرخ لا يعرف المساومة، ترك شهادةً أخلاقية رفيعة عن دَور المُثقَّف في الدفاع عن الحقيقة ومحاربة الفساد.