عزبة هرميس
كانت الجدة تُقيم بعزبة هرميس، التي كانت تقع في نهاية شارع الرافعي الذي يُعد امتدادًا لشارع الجيوشي، المتفرِّع من شارع الترعة البولاقية بشبرا. ولم تكن عزبة هرميس التي وقعت عند سور مدخل الخط الحديدي إلى محطة مصر منطقةً زراعية، بل كانت منطقةً سكنية خاضعة للتنظيم من حيث التخطيط إلى شارع رئيسي تتفرَّع منه حوارٍ وتتفرَّع منها دُروب. وكان ارتفاع المباني فيها لا يتجاوز الثلاثة طوابق، تشترك معظمها في خلوِّها من المياه والصرف الصحي، فكانت هناك «حنفية عمومي» ضخمة أشبه ما تكون بصنبور الإطفاء (الآن) بجوارها «كشك» يجلس فيه العامل الذي يقوم بتحصيل مليم واحد على كل قربة ماء أو أربع صفائح مياه. وكان يتولَّى خدمة المنطقة سقاءان، لعلَّهما كانا كل ما بقي من حرفة قديمة في تلك المنطقة. أمَّا من لم يكن باستطاعتهم استئجار السقا، فكان عليهم أن يدبِّروا أمر الحصول على الماء بأنفسهم. وكان السقا يتقاضى من الجدة خمسة قروش شهريًّا، وكان لكل بيت خزان خاص تحت الأرض يتجمَّع فيه الصرف، حتى إذا امتلأ استأجر السكان عربة كسح لنقل محتويات الخزان لقاء أجر بسيط. أمَّا الكهرباء فظلَّت اختراعًا مجهولًا لا يعرفه سُكان العزبة، فكانت البيوت تنار بلمبات «الجاز»، فإذا كان هناك عرس أو مأتم أضاءت «الكلوبات» الشارع الرئيسي حيث يُنصب السرادق عادة.
كان مُلاك البيوت التي يتكوَّن منها هذا المربع السكني من أصحاب الحرف الذين حوَّلوا مُدَّخراتهم البسيطة إلى عقارات متواضعة، تؤجَّر بالغرفة الواحدة أو الغرفتَين المتجاورتَين المتصلتَين ببعضهما البعض، أمَّا الصالة التي تقع عليها تلك الغرف، فكانت مشاعًا للسكان، وكذلك المرحاض الذي يقع في كل طابق من طوابق المبنى. أمَّا الحمام فاختراع مجهول عند سكان الحي البائس، فالجميع يستحمُّون في «الطشت» داخل غرفهم. وكان سُكان تلك البيوت شركاء لمُلَّاكها في السكن والفقر، فلم يكن المُلَّاك أفضل حالًا من مستأجريهم، منهم من كان يشتغل بأحد المصانع أو بورش الصيانة التابعة للجيش البريطاني، واستطاع أن يبني بيتًا يُئويه وأهله، يؤجِّر بعض غرفه لطلاب السكن ليزيد من دخله. وعندما فقد أولئك أعمالهم بعد الحرب بسبب البطالة الناجمة عن إغلاق بعض المصانع التي ازدهرت زمن الحرب، وتسريح عُمال ورش صيانة الجيش البريطاني، لم يعد لأولئك التعساء مصدر للرزق سوى ما يحصِّلونه من إيجار ممن يمرون بالظروف ذاتها.
وما يزال صاحبنا يذكر حوادث المُشاجرات التي كانت تقع بين المُلَّاك والمستأجرين، والتي يختلط فيها السباب بالعتاب، والتهديد بالطرد من السكن بالتذرُّع بالصبر انتظارًا لِمَا يأتي به الغد، ولكن ذلك الغد لم يحمل معه الكثير من الأمل، فيُضطر المستأجر إلى الاستدانة ليسدِّد للمالك جانبًا من الإيجار، ليقينه أن تلك القروش المعدودة ضرورية لسد رمق عائلة المالك في تلك الأزمة الخانقة.
وكانت الحياة في تلك البيوت تُقيم نوعًا من الروابط الاجتماعية بين سُكان البيت الواحد، بل وسُكان الحارة والحي؛ فهم يعرفون تفاصيل حياة بعضهم البعض، تنقُل النسوة الأخبار من بيت لبيت، كما ينقُلها حلَّاق الحي الأسطى عبد العظيم الذي ينحدر من أصل يمني، وافتتح دكَّانًا على طرف العزبة، ولعب دور وكالة أنباء المنطقة؛ فهو يجمع المعلومات عمن تشاجر مع جيرانه، ويعرف لماذا غضبت زوجة فلان وعادت لأهلها، ومن تعطَّل عن العمل، ومن بات في الحبس بتهمة «التشرُّد»، إضافةً إلى من خُطبت ومن عُقد قرانها، ومن مرض، ومن تخرج من الحي ليلًا تحت أستار الظلام فلا تعود إلا فجرًا، إلى غير ذلك من أخبار لم يكتفِ بجمعها من زبائنه، بل كان يستوقف المارَّة أمام محله ليستفسر منهم عن بعض التفاصيل التي غابت عنه.
كان سُكان عزبة هرميس في معظمهم من أهل الريف الذين نزحوا إلى القاهرة طلبًا للرزق، وفرارًا من الفقر إلى البؤس والشقاء. جاء معظمهم من قرى المنيا، ولا بد أن يكون هناك من لعب دَور الريادة في اختيار المكان للسُّكنى، واجتذب وجودُه بها أبناء جلدته وقريته، فتجمَّع المنياويون في هذا المكان. ولعل أصول جدة صاحبنا المنياوية كانت وراء اختيارها الإقامة هناك حتى وفاتها عام ١٩٦٣م.
وكان سُكان العزبة مُوزَّعين توزيعًا متساويًا بين الإسلام والمسيحية في بعض البيوت، بينما كان المسلمون أقليةً في البعض الآخر من تلك البيوت. ولعلَّ تجمُّع الأقباط المنياويين الفقراء في هذا المكان يعود إلى قربه من كنيسة مار جرجس التي تقع في نهاية شارع الجيوشي. وكان فناء الكنيسة مرتعًا لأطفال العزبة من المسلمين والأقباط، فيذكر صاحبنا تلك الأيام التي شارك فيها أترابه اللعب في فناء الكنيسة، وتناول معهم لقمة القربان من يد «أبونا» القُمص. ويذكر «عمته» أم جرجس، جارة جدته التي كانت تناديها «يا أمي»، وكانت تخاطب والد صاحبنا عند زيارته لأمه «يا أخويا». وظلَّ صاحبنا حتى بلغ الثامنة من عمره، يعتقد أن «عمته» أم جرجس شقيقةً لوالده وابنةً لجدته، وخاصةً أن أبا جرجس كان ينادي الجدة «يا حماتي»، وعندما كان يحدث سوء تفاهم بين أبوَي جرجس كانت الجدة تعنِّف الزوج، فيسترضيها ويقبِّل رأسها.
لذلك كانت عزبة هرميس «مصر الصغرى». عاش سُكانها معًا وكأنهم أسرة واحدة يأكلون معًا من طبق واحد، فرغم فقرهم الشديد كانوا يتبادلون أطباق الطعام والحلوى. ولم تكن أيام صيام الأقباط العديدة عائقًا أمام استمرار هذه العادة، بل كان الجميع مسلمون وأقباط صائمين معظم العام بالمفهوم القبطي للصيام، لا تعرف «طباليهم» اللحوم إلا في المواسم والأعياد. وكانت النسوة المسلمات والقبطيات يتبادلن إرضاع أطفال بعضهن البعض، بل ورعاية أطفال بعضهن البعض إذا اضطُرت إحدى الأمهات إلى السفر إلى قريتها فجأةً لأمر طارئ. والجميع لا يفوته واجب عيادة المرضى، وتقديم التهاني في الأفراح، والتعازي في الأتراح.
ثلاثة بيوت فقط عاشت بمنأًى عن هذا المجتمع الخاص لسكان عزبة هرميس، وقعت تلك البيوت على أطراف العزبة بشارع الرافعي؛ أحدها بيت الشيخ الرافعي القاضي الشرعي الذي سُمي الشارع باسمه، وكان بيته من طابقَين خُصص لسكنى عائلته وأبنائه، لا يعرف سُكان الحي عنهم شيئًا؛ فهم يعيشون بمعزل تمامًا عن أهل تلك الجيرة الفقيرة. وأقام الشيخ الرافعي بجوار منزله زاويةً كانت مقصد سُكان الحي لأداء الصلاة، وكان صاحبنا يحرص على أداء الصلوات بتلك الزاوية، والاستماع إلى دروس الشيخ الرافعي بعد صلاة العصر في رمضان حتى يُرفع أذان المغرب، فيفطر على تمر يوزِّعه الشيخ على المصلين، ويؤدِّي صلاة المغرب ثم يعود إلى البيت لتناول طعام الإفطار.
أمَّا البيت الثاني فكان بيت أبي خالد الشامي ويجاور بيت الشيخ الرافعي، ويعلو عنه طابقًا واحدًا، صاحبه بقَّال فلسطيني نزح إلى مصر في الثلاثينيات، وشيَّد البيت له ولأبنائه، وكان له محل واسع نسبيًّا أسفل البيت يبيع البِقالة لسكان المنطقة بما في ذلك سكان عزبة هرميس، يضع على باب المحل عبارة «الشكك ممنوع والزعل مرفوع والرزق على الله». وكانت هذه الأسرة تعيش بمعزل تمامًا عن أهل تلك الجيرة، فلا يعرف أحد شيئًا عنها، حتى الأسطى عبد العظيم اليمني الحلاق رغم مهارته الفائقة في اصطياد المعلومات، كل ما استطاع التوصُّل إليه من أخبار أن أبا خالد الشامي افتتح محلًّا أكبر بشارع الترعة البولاقية.
أمَّا البيت الثالث فكان من طابق واحد، ويقع قُبالة بيت الشامي، هو بيت المعلم محمد عمر، فنان الزجاج المعشق الذي ورث المهنة عن جده الرابع، وتعلَّمها منذ نعومة أظفاره، وصقلتها الموهبة عنده. كان بيته الوحيد الذي تُظلُّ سطحَه سقيفةٌ من اللبلاب، حَوَّلها الرجل إلى «أتيلييه» خاص يُعِد فيه نماذج مصغرةً لنوافذ وأبواب وقِباب المساجد والكنائس والقصور التي أُسندت إليه عمارتها. وكان صاحبنا يرتاد بيت المعلم محمد عمر صحبة جدته التي كانت صديقة الست دولت زوجة المعلم، ولم يُرزق الزوجان أطفالًا، فتبنَّى المعلم ابنتَي شقيقة زوجته التي ترمَّلت في «عز شبابها»، ثم تزوَّجت، وتركت البنتَين لأختها. كانت كُبراهما «رشيدة» التي تكبر صاحبنا بعامَين، أمَّا الصغرى فكانت «خديجة». وكانتا تناديان المعلم «أبي» وخالتهما دولت «أمي» وأمهما الأصلية «خالتي».
واشتركت تلك البيوت الثلاثة في حسن العمارة، والانتماء إلى العصر، فكانت مزودةً بالماء والكهرباء والصرف الصحي لوقوعها عند آخر نقطة وصلتها تلك الخدمات بشارع الرافعي. ورغم دخول عزبة هرميس نطاق «التنظيم» الحضري إلا أن فقر مُلاك مساكنها جعلهم يعجزون عن توفير المال اللازم لمد تلك الخدمات إلى بيوتهم، فظلَّت النظرة إلى البيوت الثلاثة أشبه ما تكون بالنظرة إلى التخوم التي تفصل العزبة عن مجالها الحضري.
كان لهذه البيئة الشعبية الفقيرة البائسة، أبلغ الأثر في تكوين صاحبنا؛ فقد عاش بعزبة هرميس حتى عام ١٩٥٤م عندما قرَّر والده أن ينقُله من مدرسة شبرا الثانوية إلى مدرسة طوخ الثانوية بسبب رسوبه في الفرقة الأولى، وعاد إليها عام ١٩٥٧–١٩٥٨م عندما التحق بالجامعة، وشهد ثلاثة أرباع العزبة يختفي من الوجود ليُفسح الطريق لشق طريق أحمد حلمي المجاور للسكة الحديد. كان ذلك عام ١٩٦١م عندما نُزعت ملكية تلك البيوت الفقيرة وبدأت معاول الهدم تُسوِّيها بالأرض، من بينها البيت الذي أورثه عاهةً مستديمة عندما سقط من الطابق الثاني، والبيت الذي انتقلت إليه الجدة (بعد الحادث)، وبيت ثالث انتقلت إليه الجدة بعدما رغب صاحبه في الحصول على غرفتها لسكنى ولده المتزوِّج حديثًا. هذه البيوت الثلاثة التي طُويت تحت (أسفلت) طريق أحمد حلمي شهدت طفولة صاحبنا وصباه.
كان الكُتَّاب هو التعليم الذي حصَّله جده وأبوه، فقد حلم الجد والأب بالدراسة في الأزهر، والحصول على «العالِمية»؛ فالأزهر كان المؤسسة التعليمية المتاحة للفقراء الذين تُقعدهم رسوم الدراسة بالمدارس (التي لم تتوافر إلا للطبقة الوسطى) عن الالتحاق بالمدارس. وإذا كانت ظروف الجد والأب العائلية قد حالت دون تحقيق أي منهما آماله في التعليم، فقد علَّق الأب أمله على صاحبنا ليحقِّق أمله في أن يصبح والدًا لعالم من علماء الأزهر.
التحق الطفل ابن الرابعة بكُتَّاب يحمل اسم «مدرسة الفتوح الجديدة الأولية» يقع في شقة بالدور الأرضي بأرض البدراوي التي تقع في ظهير شارع شيكولاني المتفرِّع من شارع شبرا أمام مدرسة التوفيقية الثانوية (وقد أصبح اسم الشارع مستشفى كتشنر، ثم «المستشفى» بعد الثورة)، وكانت الشقة مكوَّنةً من حجرتَين وصالة، تُقيم صاحبة المدرسة (أم جلال) بإحدى الغرف، وهي أرملة صاحب الكُتَّاب، تولَّت إدارته بعد رحيل زوجها، واستعانت باثنَين من الفقهاء من قُراء القرآن الذين حصَّلوا تعليمًا دينيًّا محدودًا لا يرقى إلى مستوى الأزهر، كان أحدهما الشيخ محمد أبو السعود نصف كفيف أو نصف مبصر، والآخر الشيخ محمد حسان. كانت مهمة الأول تحفيظ القرآن، وكانت مهمة الأخير تعليم الصبية القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. أمَّا أم جلال فكانت تتولَّى تعليم الأبجدية للتلاميذ الجدد، رغم أميتها؛ فلم تكن تعرف سوى الأبجدية.
ويذكر صاحبنا يومه الأول بالكُتَّاب، عندما سأله الشيخ عن اسمه، فقال «رءوف»، ففزع الشيخ واستعاذ بالله، وأمرَه أن يفتح يده ليضربه بقطعة من جريد النخل، ثم قال له: «الرءوف هو الله … أمَّا اسمك فعبد الرءوف … اسمك إيه؟» فردَّ الطفل بصوت خنقه البكاء: «عبد الرءوف.»
كانت البداية منفِّرة، جعلت الطفل يكره الكُتَّاب. لم يجد الطفل صعوبةً في تعلُّم القراءة والكتابة وقواعد الإملاء والحساب في السنوات الثلاث التي قضاها بالكُتَّاب، ولكنه وجد صعوبةً بالغة في حفظ آي الذكر الحكيم. كان التلاميذ يجلسون أمام الشيخ يردِّدون وراءه الآيات التي عليهم حفظها ويتم «التسميع» في اليوم التالي. الشيخ يجلس أمام التلاميذ وقد افترش الجميعُ الحصير، وفي يده عصاه التي قُدَّت من جريد النخل، تهوي كيفما اتفق على التلميذ الذي يخطئ في «تسميع» الآيات، وقد تهوي العصا على رأسه أو كتفه، فإذا كرَّر الخطأ تمَّ مدُّه، فيجلس على «دكة» خاصة لذلك مُسندًا ظهره إلى الحائط مادًّا رجلَيه على الدكة، ويجلس تلميذ آخر أكبر سنًّا وأثقل وزنًا على ركبتَي المعاقَب ويكتِّف يدَيه، وينهال الشيخ على القدمَين بجريدته حتى يدميهما.
مرَّ صاحبنا بهذه التجربة المريرة أربع مرات، كانت اثنتان منها عقابًا له لخلطه بين الآيات، أمَّا الأخريان فكان عقابهما أشد؛ لأنه تجرَّأ وقال للشيخ إنه لا يستطيع الحفظ إلا إذا فهم معنى ما يحفظ، فعد الشيخ ذلك «جدالًا في كلام الله»، وسام الطفل سوء العذاب. وكانت النتيجة مرور ثلاث سنوات لم يستطِع خلالها سوى حفظ «العُشر الأخير» من القرآن الكريم.
لم يقتصر الأمر على ما لقيه الطفل من عذاب على يدَي الشيخ، بل كان والده يقرِّعه كل أسبوع عندما يراه لا يحقِّق التقدُّم المأمول في الطريق إلى حفظ القرآن واستظهاره تمهيدًا لدخوله الأزهر، وكانت جدته تروي لجيرانها قصة «خيبة الأمل اللي راكبة جمل»، فأحسَّ الطفل بالكراهية للشيخ ولأهله، بل ولنفسه، وزاده ذلك إحساسًا بالاغتراب وميلًا إلى الانطواء، والانزواء بعيدًا عن أقرانه.
كان للأب زميل في العمل وصديق يُدعى محمد أبو زيد، وكان رجلًا طيبًا لم يُرزق أبناءً، كما كان فنانًا مرهف الحس يُجيد العزف على العُود. وعندما ضاق الأب ذرعًا بخيبة الأمل في ولده، عبَّر لصديقه عن رغبته في أن يدفع بولده إلى إحدى الورش عساه يتعلَّم «صنعةً تنفعه» طالما كان لا يصلح للتعليم. فهال ذلك الأمر صديقه محمد أبو زيد وطلب منه أن يتذرَّع بالصبر ويعطيه فرصةً لسماع وجهة نظر الطفل، فقبل الأب على مضض.
جلس محمد أبو زيد، وإلى جانبه زوجته نعيمة، وأمامهما صاحبنا الذي رفض تناول الكعك الذي قدَّماه له رغم سيل اللعاب الذي يبتلعه بين الحين والآخر؛ فقد تحكَّمت فيه عقدة عدم تناول الطعام في حضور الآخرين، و«دندن» عمه أبو زيد على العود قليلًا ثم سأل الطفل عن الأسباب التي جعلت شيخ الكُتَّاب يجأر منه بالشكوى، ولماذا لم يحقِّق تقدُّمًا في حفظ القرآن، فأجابه بأنه يريد أن يفهم معنى ما يحفظه، وأن يُحس بأنه يُعامَل معاملة البشر وليس معاملة الحمير، فيُضرب كلما طالب الشيخ بشرح معنى الآيات.
نصح محمد أبو زيد والد صاحبنا بأن يصرف النظر عن حكاية الأزهر، وأن يُعطي ولده فرصةً أخيرة قبل أن يزج به إلى إحدى الورش، فيتيح له فرصة التقدُّم لامتحان القَبول بإحدى المدارس الابتدائية، فإذا نجح في الامتحان، شقَّ طريقه في التعليم العام، وإذا لم يوفَّق كان من حق الوالد أن يحدِّد مسار مستقبله كيفما شاء. قبل الوالد النصيحة، وقدَّم أوراق ابنه لمدرسة السيدة حنيفة السلحدار الابتدائية التي تقع بشارع زنانيري أمام المحكمة الشرعية بأول شارع شبرا. وجاء اختياره لهذه المدرسة، وليس مدرسة شبرا الابتدائية الأقرب موقعًا من عزبة هرميس حيث يقيم مع الجدة؛ حيث يقيم مع الجدة؛ لأن لمدرسة السيدة حنيفة السلحدار وقفًا خاصًّا للإنفاق على المدرسة التي خصَّصتها صاحبة الوقف لتعليم أبناء فقراء المسلمين، فكان الاختيار مرتبطًا بما توفِّره هذه المدرسة من ميزة تحمل الوقف الخاص بالمدرسة لثلثَي رسوم الدراسة.
أدَّى صاحبنا امتحان القَبول في الحساب والإملاء، وذهب إلى المدرسة برفقة والده لاستطلاع النتيجة عند سكرتير المدرسة، فعلم منه أن النجاح كان من نصيبه، وأنه قُبل بالمدرسة، ولكن القَبول لا يُعد نهائيًّا إلا إذا أحضر «كارت» توصية من أحد «البكوات» موجَّهًا إلى «حضرة صاحب العزة محمد بك الكاشف ناظر المدرسة». خرج الوالد من المدرسة مكتئبًا يائسًا، يصب جام غضبه — طوال الطريق إلى باب الحديد، وطوال رحلة القطار إلى أوسيم — على ولده المسكين قائلًا: «أدي آخرة كلام عمك أبو زيد … فاكرك بني آدم. ما له الكُتَّاب؟ ده من توبنا … لكن تقول إيه للخيبة؟ تقدر تقوللي أجيب لك كارت «بك» إزاي؟! لازم ترجع الكُتَّاب وتحفظ القرآن في سنة واحدة … أو أبعتك ورشة تتعلم صنعة ما دمت فقري.»
هذه الجمل، وتقاسيم أخرى تتصل بسياقها كانت سهامًا تُدمي فؤاد الطفل البائس الحائر ابن السابعة الذي نجح في امتحان القَبول، وبقي التحاقه بالمدرسة المناسبة لوضعه الاجتماعي مرهونًا بعملية «الفرز» الاجتماعي التي قد تُتيح لأبناء العُمال تجاوز حدودهم الطبقية، أو تحول بينهم وبين ذلك. كان صاحبنا مطأطئ الرأس طوال الوقت، ينتابه إحساس عميق بالظلم من والده جعل الدموع تحتبس في مآقيها. وعندما وصل صحبة والده إلى محطة أوسيم، كان من واجب الوالد صرف تذاكر السفر للركاب. أجلسه معه بمكتب التذاكر، وراح يتسلَّى بتوبيخه بما لا يخرج عن السياق السالف الذكر، وهو يبيع التذاكر للجمهور. ودخل المكتب فجأةً شيخ معمَّم مهيب الطلعة، استقبله الأب بالترحاب، كان الشيخ عمدة قرية سقيل القريبة من محطة أوسيم على خط المناشي «مديرية التحرير الآن». وعاد الأب إلى معزوفة التوبيخ في حضرة العمدة، فسأله الرجل عن السبب، وعندما علم أن «كارت» توصية من بك يحل المشكلة، نصح الأب بحسن معاملة ولده، وسأل عن اسم الولد واسم ناظر المدرسة. كان العمدة في طريقه لمقابلة البك صاحب العزبة في قريته، ورغم أنه لم يذكر ذلك لوالد صاحبنا عندما سمع منه القصة كاملة، عاد مساء اليوم نفسه حاملًا كارت التوصية. وبذلك وجد صاحبنا نفسه تلميذًا في السيدة حنيفة السلحدار، وبدأ النحس الذي لازمه منذ الرابعة من عمره ينقشع، وتحوَّل الكُتَّاب وقسوة الشيخ، وساديته في تعذيب التلاميذ، إلى مصاف الذكريات الحزينة.
وإذا كان النحس قد فارقه عند هذا المنعطف من حياته، فإن ذلك لم يضع نهايةً لعقده النفسية، فمنذ وعى، كان يسمع جدته تختتم صلواتها (التي تحرص عليها) بالدعاء على أمه، سائلةً الله أن «يحرق قلبها على أولادها»، وكانت تُعامله بجفاء شديد، فتمنعه من الخروج من الغرفة المحدودة المساحة إلى الشارع، ولم يستطع أن يتمتَّع بما يتمتَّع به أترابه من حرية اللعب إلا بعد التحاقه بالمدرسة، فكان لا يعود إلى البيت كل يوم إلا قُبيل الغروب، يتوقَّف أثناء العودة بملاعب التوفيقية الثانوية للفرجة على تدريبات الملاكمة والمصارعة والجمباز، ثم يتوقَّف في فناء كنيسة مار جرجس.
وحرصت الجدة على أن تُكلِّفه بأمور لا تفسير لها سوى إرهاقه انتقامًا من أمه في شخصه، فلا ترتاح إلا إذا أرسلته إلى حقول منية السيرج ليقطع المسافة في ساعتَين ذهابًا وإيابًا ليشتري من هناك بخمسة مليمات الملوخية والطماطم ويحصل على الفجل والجرجير (فوق البيعة)، حتى إذا عاد من تلك الرحلة المضنية، صبَّت عليه وعلى أمه اللعنات لأنه تأخَّر في مشوار هو مجرَّد «فركة كعب». وإذا احتاجت لشراء الخبز أرسلته إلى مخبز يقع على مسيرة ساعة ذهابًا وإيابًا رغم توافر الخبز عند بقَّال الحي. وكانت ترى أن وجبة العشاء مضرة ولا تنفعه؛ لأنه صغير وتناوُل العشاء قبل النوم يؤثِّر على قدرته على الفهم، وتتناول وحدها العشاء وهو يرقبها حتى تَعَوَّد ذلك، فحذف من قاموسه مصطلح العشاء. وإذا طبخت لحمًا أكلته وحدها (لأنها مريضة والحكيم وصفه لها)، وعندما تجرَّأ وأكل — سرًّا — قطعةً من اللحم ظنًّا منه أنها لن تكتشف الأمر، اتضح أنها تحمل معها «محضر الجرد»، فاكتشفت السرقة، ولعنته وأمه لأنه (مفجوع) مثلها، وتوعَّدته أن ينال من الله جزاء السارق، فيَصلى نارًا موقدة. أمَّا الإفطار فلا مكان له سوى أيام الكُتَّاب، أمَّا بعد الالتحاق بالمدرسة فلم تعد هناك حاجة إليه لأن المدرسة تقدِّم وجبةً ساخنة أيام السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء، ووجبةً جافة يومَي الإثنين والخميس، وتناوُل وجبة الإفطار يؤثِّر على قدرته على التحصيل. فكان عليه أن يذهب إلى المدرسة في الصباح سيرًا على الأقدام لمدة ساعة يوميًّا، دون أن يتناول طعامًا منذ ظهر اليوم السابق.
غير أن تطوُّرًا خطيرًا عوَّضه عن الحرمان من الإفطار؛ فقد رفع والده مصروفه اليومي من مليم واحد (أيام الكُتَّاب) إلى خمسة مليمات دفعةً واحدة عندما التحق بالمدرسة، وكانت الجدة ملزَمةً بإعطائه المصروف يوميًّا لأن والده يعطيها أمامه مصروف الشهر ويحدِّد قيمة مصروفه اليومي، فكان يُصر على الحصول على الخمسة مليمات يوميًّا، يشتري بها سندوتش أحيانًا، ويشتري بها مجلة «البعكوكة» أسبوعيًّا، وعندما اكتشف وجود مجلة «سندباد» كان يشتريها من بائع الصحف بالتقسيط، فيدفع له خمسة مليمات لمدة أربعة أيام متتالية، وظلَّ يشتري «البعكوكة»، وبذلك لم يتبقَّ له إلا مصروف يوم واحد. شكا حاله لأمه يومًا عند زيارته لأسرته في نهاية الأسبوع، فبكت وهي تستمع لشكواه، وحرصت على أن تعطيه (سرًّا) ثلاثة قروش أسبوعيًّا حتى يشتري مجلاته المحبَّبة، ويحتفظ بالمصروف اليومي لشراء سندوتش، ولكنها لم تنقُل الشكوى للأب الذي كان يتقمَّص في البيت شخصية «سي السيد» التي أجاد تصويرها نجيب محفوظ. ولم تجرؤ على البوح بما يتعرَّض له ولدها من سوء المعاملة إلا عندما رسب بالفرقة الأولى الثانوية، وفكَّر الأب في إنهاء تعليمه عند هذا الحد، فيُلحقه بعمل حتى يبلغ الثامنة عشرة، عندئذٍ يسعى لتعيينه بالسكة الحديد بوظيفة كتابية، فانفجر غضب الأم الصبورة المطيعة دومًا، وحكت للأب كل ما يعانيه ابنه، وتعرَّض الولد لاستجواب طويل من جانب الأب الذي كان يجهل تمامًا حقيقة ما يجري لولده، وعلى ضوء ذلك قرَّر نقله إلى مدرسة طوخ الثانوية (حيث كان يعمل هناك)، فأحسَّ صاحبنا لأول مرة بدفء الحياة الأسرية، وتعَرَّف على إخوته واندمج بينهم، وفُتحت بذلك صفحة جديدة من حياته، كان لها أثرها في تكوينه النفسي، فتلاشى الشعور بالاضطهاد الذي لازمه طوال حياته بعزبة هرميس، وتخلَّص تدريجيًّا من الانطواء، وتحسَّن أداؤه الدراسي كثيرًا، كما تحسَّنت أحواله الصحية. ولكنه لم يتخلَّص من كراهيته للجدة رغم اضطراره لزيارتها مرةً كل أسبوع تنفيذًا لأوامر أبيه، ويحرص على العودة في اليوم نفسه بعدما تُسمِعه معزوفتها المعتادة في نقائص أمه، وتنعى عليه ما أصابه من زيادة الوزن ممَّا يدل على أن أمه «تحشر» له الطعام، فيؤدِّي ذلك إلى «تخن» مخه وخيبته في الدراسة (بإذن واحد أحد)!
لم يعد الفتى يُلقي بالًا لهذا الهراء، طالما كانت الزيارة قصيرةً روتينية. وعندما طلب منه والده أن يقضي إجازة الصيف مع جدته بعزبة هرميس، جرؤ — لأول مرة — على رفض طلب أبيه، ولكنه برَّر ذلك برغبته في العيش مع إخوته لأنه يشعر أنه يُعامَل معاملة «المنبوذ» دون مبرِّر. واكتفى الأب بتسديد نظرة قاسية نحوه، وقد كست ملامح الغضب وجهه، ولكنه لزم الصمت. وانتهى الأمر عند هذا الحد.