خطى رءوف عبَّاس١
كانت كُتب المذكرات عبر العصور مصادر لا تنضب، لمعرفة واقعية لعصر من العصور؛ إذ تتوافر على قدرة لإضاءة زمانها من جوانبه التي يُمكن أن تخفى على الباحث والمؤرخ، فما بالنا لو كان صاحب المذكرات في حالتنا متخصِّصًا في التاريخ الاجتماعي، بعد أن كان في صباه وشبابه الأول قد «تلطَّم» في بعض الأعمال البسيطة في أوائل الستينيات، حتَّى جرى تعيينه — وهو دارس التاريخ — بالشركة المالية والصناعية المصرية بكفر الزيات، مراجعًا للحسابات، ومع ذلك فقد حسمت التجربة التي عاشها بين عُمَّال كفر الزيَّات اختياره في دراسة الماجستير، فقد لاحظ أنَّ أولئك العُمَّال الذين نجحوا في إسقاط اللجنة النقابية — الصفراء — وراءهم خبرة نضالية لم تأتِ من فراغ، وكان موضوع رسالته «الحركة العمالية منذ نشأتها حتَّى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م».
أمَّا الدكتوراه، فكانت عن «الملكيات الزراعية الكبيرة وأثرها في المجتمع المصري»؛ أي إنَّه غاص بأكثر من أداة في التاريخ الاجتماعي لبلاده، فرآه بعيون الباحث الموضوعي، وعيون الكادحين معًا.
وبوسعنا أن نتصوَّر كيف يُمكن أن ينعكس هذا الثراء في كلٍّ من التجربة الحياتية والبحثية على مذكرات يكتبها واحد من كبار المؤرخين المصريين، وهو الدكتور رءوف عبَّاس، الذي أعطاها عنوانًا دالًّا هو «مشيناها خطًى»، وأهداها «إلى الشباب، عساهم أن يجدوا فيها ما يُفيد»، واستطرد: «وإلى الذين يسمِّمون أمامهم الآبار، لعلهم يتعظون». ويُمكننا أن نُضيف: إنَّهم يواصلون تسميم الآبار، ولا يتعظون!
انحدر صاحبنا — فهكذا يُقدِّم الراوي نفسَه بضمير الغائب، تواضعًا مُستعيذًا بالله من كلمة أنا — من أسرة شديدة الفقر، كان التعليم جنبًا إلى جنب مع العناد، والمثابرة الشخصية طريقةً إلى الارتقاء الاجتماعي في مُناخٍ عام، وفَّر مثل هذه الفرصة للآلاف، في ظل ثورة يوليو، التي ما إن قرَّرت مجانية التعليم، إلا واندفع إليه أبناء الفقراء، على أمل الصعود من وهدة الفقر.
ولذلك كله، سوف نلاحظ هذا الإعجاب بثورة يوليو، وزعيمها، والامتنان الذي يشعر به الراوي لجمال عبد الناصر، دون أن يخطر في باله أن تكون تعبئة العُمَّال أصحاب المصلحة في الدفاع عن الملكية العامة، سبيلًا آخر وحتَّى إضافيًّا، بل ربما كان أكثر جدوى على المدى الطويل، وباعتبار ذلك سبيلًا أيضًا إلى انتزاع الديمقراطية وفرض الرقابة الشعبية كآلية لحماية الثورة من الانتهازيين والمنافقين، الذين سطَوا لا فحسب على شعاراتها، وإنَّما أيضًا على منجزاتها بعد أن انقلبوا عليها، وكما يقول التعبير الشائع، سار الرئيس أنور السادات على طريق جمال عبد الناصر ﺑ «أستيكة». أمَّا عبد الناصر، الذي انحاز إلى الفقراء، فقد كان شديد الحذر من الاعتماد السياسي على الجماهير، وتنظيمها سياسيًّا ومشاركتها في صنع القرار، مكتفيًا بما له من شعبية لا تكفي وحدها لحماية النظام وقت الخطر، وهو ما حدث فعلًا حين قام السادات بانقلاب القصر بعد ذلك.
وخبرة سرقة القطاع العام، وإفساده، هي واحدة من الخبرات المريرة في حياة صاحبنا، ولا تزيد عليها مرارة إلا العملية المنظَّمة لتسميم المُناخ العلمي، وتحطيم التقاليد الجامعية، عن طريق التدخُّل الأمني، و«استوزار» الأساتذة، وتحويل أصحاب الحاجات من معيدين وغيرهم إلى خدم، حتَّى إنَّه كتب فصلًا بعنوان «تحت القبة وهم»؛ حيث انتشرت حمى التنافس في غير المجال العلمي، والتجارة في الكتب والملازم، للتكسُّب على حساب طُلَّاب طحنتهم وذويهم الأزمة الاقتصادية.
أمَّا الطامة الكبرى، فكانت استدعاء العميد لصاحبنا، ليُكلِّفه صراحةً بكتابة بحث باللغة الإنجليزية، للسيدة «نهى» ابنة الرئيس السادات، «هبَّ صاحبنا واقفًا من هول ما سمع، وانفجر في العميد قائلًا: إنت عارف إنت قاعد فين؟ قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخَّاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد» … وخرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه.
وكان صاحبنا قد سبق أن رأى رأي العين الرشى المادية والعينية التي تُقدَّم لمفتشي مؤسسة الصناعات الكيماوية، التي كان يعمل بها، مِمَّا جعله يكتب الشكوى السابقة الإشارة إليها، ويُوجِّهها لجمال عبد الناصر، وبعد أسابيع استدعاه رئيس مجلس الإدارة، الذي عرف صاحبنا فيما بعدُ أنَّه من أخوال شمس بدران؛ أي إنَّه كان مسنودًا، وسلَّمه نص الشكوى سائلًا: خطك ده؟ فردَّ بالإيجاب، فقال له: «عرفت إن عبد الناصر بيضحك على المغفلين اللي زيك … احنا ردينا بأن الشكوى كيدية؛ لأنَّك موظف مهمل، وعلى فكرة، مخصوم منك خمسة أيام، وعندك حرمان من العلاوة الدورية، ابقى خلِّي عبد الناصر ينفعك.»
ويلتقط صاحبنا جوهر القضية؛ أي الفساد الإداري، من جهة، وغياب الرقابة الشعبية بتحجيم دَور الحركة النقابية من جهة أخرى؛ ليتكوَّن «السوس» الذي ينخر في قطاع الأعمال العام، وهو الوضع الذي ظلَّ قائمًا في مؤسساتنا، حتَّى بعد تصفية القطاع العام، الذي كان قد شكَّل — على الرغم من كل شيء — قاعدةً أساسية لصناعات متطوِّرة.
تُضاف هذه المذكرات الغنية — التي ما إن ننته من قراءتها، إلا ونجد أنفسنا شغوفين لمعرفة المزيد — إلى سجل طويل يبدأ من أيام طه حسين، مرورًا بأوراق العمر للويس عوض، وليس انتهاءً بحملة تفتيش أوراق شخصية للطيفة الزيات، التي تُشكِّل جميعًا مصدرًا بالغ الخصوبة للمعرفة عن التاريخ الاجتماعي، معرفة يسوقها الفاعلون لا المتفرِّجون، فما بالنا إذا كان هذا الفاعل هو واحد من أكبر أساتذة المدرسة الاجتماعية في التاريخ، الذي يعتز أيَّما اعتزاز بأنَّه قد نجا من ورطة التعاون مع نظام السادات، وحزب خدمة السلطان، وحكى عن هذا الحزب حكايات دالة، تُشين أصحابها.
وعلى الرغم من أنَّه ساند كل ما أنجزته ثورة يوليو، على طريق التحرُّر من الاستعمار، ورفع شأن الفقراء، فإنَّ هذا لم يمنعه من توجيه سهام النقد المرير لممارساتها المنافية للديمقراطية، والتي كانت سببًا رئيسيًّا في انهيارها.
ترى، هل سيقرأ الشباب هذا الكتاب الموجَّه إليهم؟!