خطًى مشاها المؤرخ١
«مشيناها خطًى» هو عنوان السيرة الذاتية التي أصدرها المؤرخ المصري الكبير د. رءوف عبَّاس، ضمن سلسلة «كتاب الهلال» بمصر، منذ بضعة أسابيع. ولعل المؤرخ لم يقصد تكملة بيت الشعر العربي القديم الذي يقول «مشيناها خطًى كُتبت علينا، ومن كُتبت عليه خطًى مشاها»، لكي يُوضِّح لنا أنَّ هناك مساحةً للإرادة البشرية والإصرار والاجتهاد والعمل، بعيدًا عن القدر والمكتوب والجبر.
و«مشيناها خطًى» كتاب ثري بموضوعاته الساخنة، التي تستحق أن يقف عندها كل من يهتم بوطنه ليتدارسها ويتأمَّل مواقفها وشخوصها ويحصد نتائج لها أهميتها في تاريخ مصر الحديث.
أحداث متلاحقة عاشها وسجَّلها عاشق التاريخ رءوف عبَّاس مُسجلًا تجربته الذاتية بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات. وهي تجربة تروي التحوُّل الاجتماعي في مصر في نصف القرن الماضي، كما تُلقي أضواءً كاشفة على بداية تجربة القطاع العام والجامعة وغيرها مِمَّا مرَّ به في مساره الخصب.
هذه، إذن، سيرة هي نتاج لتحوُّلات مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وحكاية مواطن عاش أحداث وطنه العربي بما فيها من آمال وآلام، ولم يكن مجرَّد مُراقب لثورة يوليو، بل كان من صنائعها ومن صفوفها الفاعلة؛ ولذلك فهو يُهديه «إلى الشباب، عساهم يجدون فيه ما يُفيد، وإلى الذين يسمِّمون أمامهم الآبار، لعلهم يتعظون.»
منذ فترة وجيزة أعلن أحد مراكز البحث العالمية نتيجة استفتاء أكاديمي حول أفضل خمسمائة جامعة على مستوى العالم. وجاءت نتيجة الاستفتاء خاليةً من أي جامعة مصرية أو عربية، بينما وردت اسم جامعتَين إسرائيليتَين واسم بعض الجامعات الأفريقية ضمن قائمة الخمسمائة جامعة.
ذلك أنَّ هذه السيرة لهذا الأكاديمي الكبير والمؤرخ المعروف حافلة بثبت طويل لألوان الفساد الذي تفشَّى في الجامعات المصرية و«العربية»، وألوان الخراب السياسي والعلمي والأخلاقي الذي ضرب أركان المؤسسة العلمية العربية.
- الأول: هو الشجاعة الأدبية التي جعلت المؤرخ المرموق لا
يتحرَّج من ذكر منبته الاجتماعي المتواضع في أسرة
بسيطة عاملة، وما واكب ذلك من طموح وكفاح لديه حتَّى
وصل إلى مكانته العلمية والاجتماعية والأدبية العالية
الحالية.
هذه الشجاعة الأدبية لا تنم — فقط — عن ثقة عميقة بالنفس، بل تدل كذلك على إدراك اجتماعي رفيع مؤدَّاه أنَّ العمل هو شرف المرء لا الحَسَب والنسَب، وأنَّ الصدق هو دُرة القلب في الإنسان، سيما كان هذا الإنسان مؤرخًا، سواء أرَّخ الواقع أو أرَّخ ذاته. وكما أنَّه ليس في العلم حرج، وليس في الدين حرج، فإنَّه — كذلك — ليس في الكد والجد حرج.
انظر إليه في هذه السطور الشجاعة الفاتنة وهو يُحدِّد الشريحة الاجتماعية البسيطة التي انحدر منها:«وُلِد صاحبنا — يقصد نفسه متتبعًا استعارة طه حسين في سيرته «الأيام» — لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ. كان والده عاملًا بالسكة الحديد يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعُمَّال، في وقت كان فيه العاملون بالسكة الحديد ينقسمون إلى شريحة ضئيلة العدد من الموظفين، وقاعدة عريضة من العُمَّال، وكان جده لأبيه عاملًا أيضًا بالسكة الحديد.»
وإذا عرفت أنَّ الصبي صاحب هذه النشأة البسيطة قد صار مؤرخًا مرموقًا، ورئيسًا لقسم التاريخ بجامعة القاهرة، ورئيسًا للجمعية المصرية التاريخية، وواحدًا من الذين يضعون أسئلة التاريخ للثانوية العامة في مصر (أي يُساهم في تشكيل وعي الأجيال الصاعدة)، أدركت قصة الكفاح والجلَد والصلابة التي تقف وراء هذا المسار الشاق.
العجيب أنَّ أحد كبار المؤرخين الرسميين (مِمَّن نُسميهم مؤرخي السلطان) لم يجد في هذا المشوار الكفاحي الذي يستحق التقدير والإجلال، سوى أن يُعَيِّر صاحبه (رءوف عبَّاس) بنشأته الفقيرة، كاشفًا بذلك عن منظور متدنٍّ لمؤرخ ينبغي ألَّا يكون متدنيًا. لكن عجبنا يزول، إذا علمنا أنَّ هذا المؤرخ الرسمي السلطوي قد نال في «مشيناها خطًى» حصةً وافية من فضح ممارساته السلطوية ونفاقه الساطع واستغلاله العمل العام من أجل المكاسب الشخصية الصغيرة؛ فكان بذلك نموذجًا صارخًا من نماذج الخراب الذي تُعاني منه الحياة الأكاديمية المصرية والعربية.
- الثاني: الخط المستقيم الصريح الذي أدَّى به الكاتب سطوره
ورصد وقائعه، بلا مراوغة أو مداورة أو تزيين أو
مداهنة، وهو الخط الذي جعل هذه السيرة دامغةً تفضح
الجوانب العديدة للهاوية التي تردَّى فيها الحقل
الأكاديمي المصري، كواجهة لتردِّي المجتمع كله
سياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، سواء من جانب
الطريقة الفاسدة للترقيات التي يتعرَّض لها النابهون
من الأساتذة الناشئين (وعبَّاس نفسه تعرَّض لها)، بحيث
لا يترقَّى — في الأغلب الأعم — سوى المحاسيب والأقارب
ومنافقي السلطة والمتسلِّقين.
أو من جانب الجهل الذي يعشِّش في أذهان وثقافة الكثيرين من كبار رجال الجامعة المتنفِّذين، وهو الجهل الذي وصل — في نموذج صارخ له — إلى درجة أنَّ رئيس جامعة القاهرة — في سنة من السنوات — لم يعرف من هو أحمد لطفي السيد (أول رئيس للجامعة المصرية)، أو من جانب النفاق الرخيص الذي مارسه أساتذة أجلاء تجاه جيهان السادات ونهى السادات أثناء دراستهما في كلية الآداب، وهو النفاق الذي رفع أصحابه إلى رئاسة مجلس الشعب ورئاسة مجلس الشورى.
أو من جانب استخدام السلطة السياسية لأساتذة الجامعة كأدوات طيِّعة في تنفيذ مخطَّط السادات في محو المُناخ الاشتراكي الناصري السابق، وفي ضرب التيارات اليسارية والإسلامية المناهضة لاتجاهاته الوطنية المهادنة أو اتجاهاته الاجتماعية الانفتاحية. وقد تجلَّى ذلك في الفصل الرابع «موعد مع الرئيس» الذي جمع فيه السادات نخبةً من كبار الجامعيين في استراحته بالإسماعيلية ليُكلِّفهم بتنفيذ هذه «الثورة المضادة». فانسحب من هذه الخطة المشئومة المحترمون (ومنهم صاحبنا ود. عبد المالك عودة)، واستمرَّ الطبَّالون والزمارون.
أو من جانب منع الأساتذة التقدُّميين والأساتذة الأقباط من المشاركة في وضع أسئلة امتحانات الثانوية العامة، كما حدث — ذات سنة — مع عاصم الدسوقي ويونان لبيب رزق (وهما مؤرخان بارزان)، حين رفضهما الأمن القومي؛ الأول (التقدمي) لأنَّه وضع في عام سابق سؤالًا عن فلسطين، وتسبَّب بذلك في مشكلة مع إسرائيل حيث تنص المعاهدة بين مصر وإسرائيل على عدم ذكر فلسطين في مقررات التاريخ أو مقررات الجغرافيا! والثاني (القبطي) لأنَّه غير مأمون!
أو من جانب إدراك صاحب السيرة أنَّ «تحت القبة وهم»؛ إذ ساهمت حكومة الثورة وما بعدها في تدمير الجامعة المصرية. اقرأ هذه الفقرة المريرة:«أدَّى استوزار الثورة لأساتذة الجامعات، إلى تآكل استقلال الجامعة، نتيجة تملُّق أعضاء هيئة التدريس للسلطة، وقَبولهم لِمَا فرضه قانون الجامعات من ضوابط قيَّدت الحريات، وأخضعت الجامعة لسلطان أجهزة الأمن. فكان مدير إدارة الأمن بوزارة التعليم العالي يُمارس نفوذًا على الجامعات يفوق سلطات الوزير نفسه، وتسابق المنافقون لتملُّقه؛ فهو الذي يملك السماح لهذا بالسفر، وتعطيل سفر ذاك، ويملك تبديل فرصة الإعارة لمن يشاء. وبلغ التملُّق ذروته عندما حصل الرجل على درجة الدكتوراه من إحدى كليات الآداب. وتكرَّر نموذج «دكترة» مدير أمن التعليم العالي ومديري أمن الجامعات. هان الأساتذة على السلطة عندما هانت عليهم أنفسهم!»
وعلى الرغم من أسلوب الفضح الثابت في هذه السيرة الصادقة، فإنَّ أمانة الرجل — التي ينبغي أن يتحلَّى بها المؤرخ النزيه — جعلته دائم ذكر الفضل لأصحاب الفضل على مسيرته العريضة، لا سيما أساتذته الذين علَّموه وساندوه؛ مثل المؤرخين أحمد عزت عبد الكريم وأحمد عبد الرحيم مصطفى ومحمد أنيس، ومثل الذين وقفوا مواقف صلبةً في هذا المسار؛ سمير غريب رئيس دار الكتب آنئذ، ود. محمود الجوهري عميد آداب القاهرة آنئذ، ود. عبد الملك عودة أستاذ السياسة الدولية آنئذ، وغيرهم كثيرون؛ مثل الشيخ سلطان القاسمي، الذي ساهم مساهمةً كبرى في إنشاء مقر الجمعية التاريخية المصرية.
- الثالث: هو التوجُّه نحو «الموضوع» لا نحو «الذات»؛ فعلى الرغم من أنَّ «مشيناها خطًى» هو «سيرة ذاتية» صريحة، إلا أنَّ كاتبها (المؤرخ) لم يؤرخ فيها (نفسه) بقدر ما أرَّخ «عالمه» المحيط. لقد اعتدنا في سير الكُتَّاب غير الغارقين في ذاتهم غرقًا كليًّا أن يُسجِّلوا «ذاتهم» بصفة أساسية، ثم يعرِّجون على العالم الموضوعي بالقدر الذي يُضيء سيرة الذات ويُفسِّر أطوارها المتعدِّدة، د. عبَّاس خطا خطوةً أوسع، تناول تطوُّرات الحياة «الجامعية خاصة» بصفة أساسية، ولم يعرِّج على سيرة ذاته إلا بقدر الذي يضيء الواقع حوله ويُفسِّر لنا حركته الشخصية أو الفكرية فيه. إنَّها، إذن، سيرة مجتمع في قلبه شخص، وليست سيرة شخص حوله مجتمع، وهنا نتذكَّر «أيام» طه حسين، و«أوراق عمر» لويس عوض، و«مذكرات» ثروت عكاشة، ولا ريب أنَّ هذه الآلية الرفيعة قد أضفت على العمل علوًّا على علو، وقيمةً على قيمة.
- الرابع: هو المَسحة الأدبية التي تُغلِّف الكتاب كله. صحيح
أنَّ العمل هو سيرة شخص ومجتمع ووقائع، وأنَّ كاتبه هو
مؤرخ يتحرَّى الحقيقة والواقع لا الخيال والوهم
والتحليق، لكن ذلك لم يحرم النص من مَسحة أدبية بادية
أنقذته من الجفاف والخشونة والزعيق، وما يلتصق عادةً
بمثل هذا النوع من الكتب. تتجلَّى هذه المَسحة الأدبية
في ثلاثة ملامح؛ الأول: هو التتابع السردي المتنامي
للأشخاص والأحداث، بما يُشبه السياق الدرامي المتصاعد،
مع ما ينطوي عليه ذلك من تشابك خطوط وخيوط. والثاني:
هو «بلاغة الدقة» لا بلاغة التهويم، و«الدقة» نوع صعب
من أنواع البلاغة، فضَّله بعض حكماء العرب الأقدمين
على الاندياح والرطانة والكلام الذي لا يؤدِّي، في
موضوع يقتضي لغة الدقة التي تُصيب مبتغاها، خاصةً إذا
اتصل الأمر بالوقائع والمبادئ والمصائر. والثالث: هو
الأداء التصويري المليء بالشجن الذي يكاد يكون
شعريًّا، في مواضع عديدة من الكتاب، لا سيما تلك
السطور التي ختم بها عمله البديع حينما تحدَّث عن بعض
أمنياته المستقبلية: «وآخر الأمنيات أن يموت كالأشجار
واقفًا، وألَّا يسقط القلم من يده.»
تحيةً لهذا المؤرخ الصادق الذي يعرف أنَّ الحقيقة ذات وجوه عديدة، وأنَّه لا احتكار للصواب، فأكَّد أنَّ رصده «لا يعني أنَّ صاحبنا كان دائمًا حكيمًا، خاليًا من العيوب والأخطاء، فلا يوجد قديسون بين البشر، بل جميعهم خطَّاءون.»
وتحيةً لهذا المؤرخ المنجز «الشَّغيل» الذي يدل عنوان سيرته على أنَّ الجوهري عنده هو «الخطوات» لا الوصول وأي «الطريق» لا الهدف؛ أي «السعي» لا الحصول. والحكمة هنا أنَّه: كلما كانت الخطوات نظيفة، والطريق مبدئيًّا والسعي عادلًا، كان الوصول رفيعًا، والهدف جليلًا، والحصول زهرةً يانعة.