رءوف عبَّاس في سيرته الذاتية١
ما دامت الأنا حاضرة، فلدى الإنسان — أي إنسان — ميل فطري لأن يتحدَّث عن نفسه، وليس الكاتب بنجوة من هذا الميل الذي يصل به إلى أن يتقنَّع وراء شخصياته، وهو ما نلمسه بوضوح في «ثلاثية محفوظ» (بين القصرَين وقصر الشوق والسكرية)، ونلمسه كذلك في «ثلاثية الحكيم» (عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف)، كما نلمسه عند العقَّاد في «سارة»، والمازني في «إبراهيم الكاتب».
على أنَّ الكاتب في أحيان أخرى يُفارق قِناعه ليتعرَّى أمام قارئه فيما يُعرف بالسيرة الذاتية، ومع أنَّها فن قديم في تراثنا الإنساني، إلا أنَّ الأمثلة عليه قليلة قبل عصرنا هذا الحديث، بين هذه الأمثلة «اعترافات القديس أوغسطين» التي تُشابهها من وجوه عدة اعترافات الإمام الغزَّالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
وتذهب الكثرة الغالبة من الباحثين إلى أنَّ أول سيرة ذاتية في عصرنا الحديث هي سيرة جان جاك روسو، وقد حفلت بجرأة ربما كانت غريبةً في زمانها، وقد عاصرت هذه السيرة سيرة الدكتور جونسون لبوزويل، وتُعدُّ أول سيرة غيرية في الآداب الغربية.
في تراثنا العربي لدينا نموذجان مهمان للسيرة الذاتية، هما سيرة ابن خلدون التي سجَّلها في كتابه «التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا»، وهي أشبه بتقرير عن حياته وتفسير — وفي أحيان تبرير — لتحوُّلاته، ويعيبها أنَّ ملكة الوصف عنده خابية وأحاسيسه فاترة، كما أنَّه مُولع بالاستطرادات التي تعتور السياق، وكان أجمل به أن يختصر فيها، بخلاف ما كانت عليه الحال في السيرة الأخرى، سيرة الشاعر والفارس العربي أسامة بن منقذ في كتابه «الاعتبار»، فهي أشبه برواية متعدِّدة الأحداث والأجواء والمناظر، صاغها بأسلوب بسيط يقترب في أحيان من اللغة المحكية، ويبتعد في أحيان أخرى عن الزخارف اللفظية.
إذا نحن انتقلنا إلى عصرنا هذا الحديث، نجد أنَّ فن السيرة الذاتية قد تخلَّف في نشأته عن قرينه في الغرب؛ فهذا الأخير سبقنا إلى نهضة، جعلت كُتَّاب هذه السيرة من الأفراد المتميِّزين، بعد أن كانوا من الحُكَّام والمتنفذين.
تعود الإرهاصات الأولى للسيرة الذاتية في شرقنا العربي إلى أحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، لكن البداية الحقيقية لها كانت مع طه حسين في «الأيام»، وبعده تتابعت السير الذاتية عند أحمد أمين في «حياتي»، وتوفيق الحكيم في «زهرة العمر» و«سجن العمر»، وزكي نجيب محمود في «قصة نفس» و«قصة عقل»، ثمَّ تبلغ السيرة الذاتية قامةً عالية عند لويس عوض في «أوراق العمر»، فكان أكثر صدقيةً وأوفر صراحة، تطرَّق إلى ما كان مسكوتًا عنه؛ مثل علاقاته الجنسية وعلاقاته بأسرته وأشقائه.
قبل أشهر صدر كتاب في السيرة الذاتية لكاتب متميِّز ومؤرِّخ مرموق هو رءوف عبَّاس حامد؛ عنوانه «مشيناها خطًى»، وقد أثار هذا الكتاب لدى صدوره ضجةً داخل وطنه وخارج وطنه، ونفذت أعداده فأُعيد طبعه غير مرة.
إذا نحن طالعنا «مشيناها خطًى» نجد الكاتب قد التزم فيه بالشرط الأول للسيرة الذاتية؛ فقد كتبها بعد أن بدأ مرحلة الشيخوخة (٦٥ عامًا)، صحيح أنَّ نيتشه كتب سيرته في مرحلة عمرية مبكرة نسبيًّا، وعلى نهجه سار طه حسين في «الأيام»، إلا أنَّ الدارج في هذا الفن أن يكتب المرء عن نفسه، وقد بلغت تجربته الحياتية مرحلة نضجها، عركته وعركها، وشرع في تأمُّل مجرياتها بنظرة فاحصة إليها، كابد فيها ما كابد، وعاند فيها ما عاند.
من هذه الشرائط أن يكون الكاتب ذا تميُّز في منحًى من المناحي، أضاف إليه وترك بصمةً واضحة عليه … وهو ما يتحقَّق في شخص رءوف عبَّاس، وقد كتبتُ عنه ذات يوم أصفه بأنَّه «بقية باقية من جيل البنَّائين العظام الذين تعتز بهم جامعاتهم اعتزازهم بهذه الجامعات؛ فقد خلَّف في علم التاريخ مدرسةً تردَّدت أصداؤها في وطنه، وجاوزته إلى وطنه العربي الكبير. واجتمع فيه إلى كونه عالمًا كونه إنسانًا مضى به قطار العمر شامخًا مترفِّعًا عن الدنايا، لم تُعْرَف عنه زلة في صبوته، ولا هفوة في سنوات كهولته، وهو في تعامله مع عالمنا هذا الرديء، كان العهد به وما يزال شجاعًا، يقول قولة حق ومقالة صدق، لا يُقيم وزنًا لمال ولا جاه، ومناط المرء عنده عطاؤه … عطاؤه فحسب.»
حدَّد الكاتب الهدف من كتابه في إهدائه «إلى الشباب … عساهم يجدون فيه ما يُفيد … وإلى الذين يُسمِّمون أمامهم الآبار … لعلهم يتعظون»، كما حدَّد منهجه في أنَّه «إذ يروي حكايته، لا يتقيَّد إلا بما رآه وسمعه وعاشه، وكان شاهد عيان عليه، دون مبالغة في الوصف، أو تزيين أو تزييف، التزامًا منه بأمانة الكلمة، مهما كانت دلالتها، ومهما كان وقعها.»
إذا نحن تعقَّبنا الكاتب نجده قد التزم على مدار كتابه بهذه القاعدة الذهبية؛ فهو لا يخجل من الحديث عن فقره الذي كان رفيقه الأثير، منذ مولده في العام ١٩٣٩م، ابنًا أكبر لعامل بسيط فقير، بعث به إلى القاهرة — وهو بعدُ طفل صغير — ليعيش مع جدته الفقيرة بدورها، في عزبة هرميس، وهي عزبة لا تصلها الكهرباء ولا الماء، قد حذف من قاموسه مصطلح العشاء، وأضاف إليه في مرحلة تالية مصطلح الإفطار، ويعترف بأنَّ جدته حرمته من تذوُّق طعم اللحم؛ فقد احتكرته لنفسها، وحين اختلس ذات يوم قطعةً منه، لعنته وأمه لأنَّه «مفجوع» مثلها.
لا يقف القفر عند هذا الحد، بل إنَّه أُوعز لأبيه، بأن يُلحقه بالكُتَّاب، علَّه يُصبح عالمًا أزهريًّا؛ إذ ليس في إمكانه أن ينفق عليه في مدرسة. ويشاء القدر أن يتدخَّل في هيئة شخص كريم حلَّ هذه المشكلة، وصار «صاحبنا» تلميذًا في مدرسة «حنيفة السلحدار»، لكنَّها عاودته مرةً ثانية، حين فكَّر في الالتحاق بالجامعة، لولا شخصٌ آخر كريم، أقرضه قرضًا حسنًا، وسيدة كريمة أعطته مبلغًا كانت قد ادخرته، ليُعينها على تصاريف الزمن … وفي المقابل كان على «صاحبنا» أن يسير إلى كليته في كل يوم خمسة كيلومترات في الذهاب ومثلها في الإياب.
وإذا كان المرمى الأول للسيرة الذاتية هو أن يُحدِّد لنا الكاتب ملامح شخصيته، نجده إنسانًا بسيطًا يجلس وهو «الأفندي» خريج الجامعة مع العُمَّال في مطعمهم، وليس مع الموظفين، يُشاركهم همومهم، ويُدافع عن حقوقهم، غير مكترث بعسف يناله من الإدارة، وفيًّا لأساتذته يعترف بفضلهم، حتَّى من أساء منهم الظن به، «وسيظل هذا موقفه إلى أن يلقاهم جميعًا في رحاب الله، عندما تفرغ كأس الأجل.» معتدًّا بنفسه ينفر عرقه الصعيدي، عند أول إساءة، وكذا كانت حاله مع عميده، حين إعارته للخارج، فيلوِّح له باستقالته، عقلانيًّا منذ نعومة أظافره، يُمزِّق حجابًا، وضعوه له بعد حادثة أفضت إلى عاهة مستديمة، سوف تصحبه إلى قبره، يُصر على أن يفهم القرآن الكريم لا أن يستظهره فحسب، مِعطاءً لا ينتظر ثوابًا لعطائه، فيُبادر إبان مقامه في اليابان، ودون تكليف من أحد إلى المساهمة في تأسيس قسم للغة اليابانية بجامعته، ويُمهِّد السبيل لابتعاث زملاء له إلى هناك، ولدى عودته إلى وطنه يُعيد بناء قسم التاريخ، وقد صار قاعًا صفصفًا، ليُعيَّن فيه معيدون ومدرِّسون (كاتب هذه السطور أحدهم)، شجاعًا يُعرض عن كتابة بحث لابنة الرئيس الراحل، وأوراقه لدى لجنة الترقيات، دون أن يتعظ مِمَّا جرى لزميله حسن حنفي، مغامرًا لكنَّها المغامرة المحسوبة، فيُضحي من أجل استكمال دراسته بوظيفة مستقرة، مقابل منحة مؤقتة، عنيدًا يُصر على التعيين في جامعة غير جامعته، ما دام هذا حقه، متسامحًا مع إخوانه الأقباط، باعتبارهم جزءًا من نسيج هذا الوطن شأنهم شأن المسلمين، متصديًا للدفاع عن حقوقهم، غير آبه بما قد يترتَّب على ذلك من تبعات، وطنيًّا يُشارك قبل أن ينبت عذاره في مظاهرات الأربعينيات ومطالع الخمسينيات، رغمًا عن تأنيب جدته لانصياعه إلى «العيال البطالين»، ويتطوَّع مرتَين (١٩٥٦م و١٩٦٧م) للذود عن الوطن ضد أعداء الوطن.
ومع انحياز الكاتب إلى «نظام يوليو» لانحيازه إلى الفقراء، وما طرحه من مشروع نهضوي، كانت له إنجازاته التي لا يُنكرها غير جاحد؛ فإنَّه لم يكن من دراويشه، يتوجَّه إليه بسهام النقد، ولكن من داخله، فيعيب عليه افتقاره إلى الديمقراطية، وحكمه بأساليب أمنية، عانى هو نفسه منها، وعليه فلم ينضمَّ إلى أي من تنظيماته السياسية التي غلب عليها النفاق والانتهازية، وآثر أن يكون من الأغلبية الصامتة.
لكن الكاتب لا ينظر إلى نفسه — بعد هذا العمر — على أنَّه مُبرَّأ مِمَّا يُصيب البشر من أوجه القصور فيقول: «ولا يعني ذلك أنَّ صاحبنا كان دائمًا حكيمًا خاليًا من العيوب والأخطاء، فلا يوجد قديسون بين البشر، فجميعهم خطَّاءون، وكثيرًا ما يتأمَّل صاحبنا هذه المواقف التي مرَّت به ويُعيد تقييمها، فيأخذ على نفسه أنَّه بالغ في سوء الظن بمواقف أطراف بعينها، ولكن ليس كل الظن إثمًا على أي حال، حسبه أنَّه لم يتخذ موقفًا — يومًا ما — بدافع شخصي محض، وكثيرًا ما يكتشف أنَّه وضع ثقته في غير أهلها، وظن أنَّ كل ما يلمع ذهب.»
كاتب السيرة لا يقف عند وصف صورته، إنَّما يصف أيضًا صور من عاصروه؛ لأنَّه في علاقاته بهؤلاء يتكشَّف الصراع الذي يُعطي السيرة الذاتية حيويتها؛ فهو ضرورة لها، مثلما هو ضرورة للرواية؛ فهناك أخيار وأشرار ودرجات بين هذا وذاك وبكل ألوان الطيف، وإذا نحن تعقَّبنا الكاتب في سيرته نجده مولعًا برسم صور للشخصيات التي صادفها عبر رحلة حياته، خصوصًا من شغل منها مواقع في هيئة التدريس بالجامعتَين، اللتَين درَّس في إحداهما ومارس عمله في الأخرى.
بين هذه الشخصيات ذلك الموظف بدرجة أستاذ الذي صعد في مناصب جامعته ليصل إلى أعلاها، ليس بما توافر لديه من علم، فلم يكن لديه سوى اليسير، وإنَّما بما توافر لديه من صفات ذميمة ودسٍّ ونميمة، وشبكة علاقات مع من هم على شاكلته، تجمعهم المصلحة ولا يجمعهم الواجب، فكان يقف ضد تعيين المعيدين في قسمه، والمرة الوحيدة التي وقف فيها مع تعيين أحدهم كانت دون وجه حق ولمصلحة ارتآها، وحين كانت تُتاح له فرصة الإشراف على طُلَّاب في مرحلة الدراسات العليا، كان يتلذَّذ بإذلالهم ويتعمَّد تأخيرهم في الحصول على درجاتهم، بخلاف ما كانت عليه حاله مع طلاب عرب وغير عرب، وهو يقف حجر عثرة ضد تطوير الدراسة في قسمه، حتَّى يضمن توزيع كتبه ومذكراته، وعُهد عنه تعصُّبه ضد الأقباط، ووقوفه دائمًا في معسكر الفساد، واستغلاله منصبه في لجنة الترقيات، دون صعود عناصر جادة وشريفة (وكاتب هذا المقال أحدهم أو بالأحرى أحد ضحاياه).
لم يستخدم الكاتب الأسلوب التقريري المباشر في تصويره لهذه الشخصيات، إنَّما هو يحكي قصصًا له شهود عليها بأسلوب فيه من المتعة قدر ما فيه من المرارة، بحيث يستطيع أن يوصل فكره إلى قارئه على نحو سلس وشائق، وقد يلجأ أحيانًا إلى التصوير الكاريكاتيري، فعندما توجَّه في زيارة إلى جدته، بعد أن تركها ليعيش مع أبوَيه؛ ولاحظت عليه ما أصابه من زيادة في وزنه قالت إنَّ هذا سوف يؤدِّي إلى «تخن مخه وخيبته في الدراسة بإذن واحد أحد»، وعندما يصف أحد زملائه من الذين طالتهم تهمة الفساد يقول إنَّه «برئ من شبهة القدوة»، ويستعيد ذكرياته عندما كان صبيًا فيحكي عن «عربجي» الحنطور الذي يشرب من «قرعة» البوظة ويسقي حصانه معه، ويُجيد في وصف شخصية أستاذه إبراهيم نصحي «بك» وهو التركي الذي يترفَّع على أبناء الفلاحين، وينظر إليهم بازدراء، وينعى على الجامعة أنَّها «برطشت».
على أنَّ الكاتب في عرضه تلك الصور يستدرك فيقول إنَّه «في تقديمه لِمَا مرَّ به من تجارب، يحرص على تلك التي يقوم عليها شهود معاصرون (أمدَّ الله في أعمارهم)، حتَّى لا يظن أحد أنَّ بعضها أملته الأوهام وأحلام اليقظة وتصفية الحسابات، فكلها وقائع ثابتة، اكتفى بالإشارة إلى مناصب أصحابها أحيانًا، وذكر بعضهم بالاسم أحيانًا أخرى، لا بقصد التشهير بهذا أو ذاك، ولكن بغرض دق ناقوس الخطر لمن خدعتهم المظاهر، فأخفت عنهم الجوهر.»
ولأنَّ سيرة الكاتب لا تنفصل عن سيرة عصره، فإنَّ من واجبه أن يكون شاهد عيان على هذا العصر، وهو ما التزم به في هذا الكتاب بحيث إنَّنا نستمد منه بعضًا مِمَّا كانت عليه صورة مصر خلال الخمسين سنةً الأخيرة من القرن العشرين. وقد كان في هذه الشهادة منفعلًا بمشاكل وطنه وهموم وطنه، كما كان طرفًا في بعضٍ من هذه المشاكل والهموم، مشاركًا فيها أو منفعلًا بها أو مراقبًا جيِّدًا لها.
أنظر إليه وهو يرسم صورةً لعزبة هرميس التي عاش فيها صبيًّا خلال الأربعينيات ومطالع الخمسينيات، وسُكانها وكيف كانوا يعيشون حياتهم مسلمين ومسيحيين، لا يشعرون بأنَّهم مسلمون ومسيحيون قدر ما يشعرون بأنَّهم فقراء ومصريون.
يقول: «وكان سكان العزبة موزَّعين توزيعًا متساويًا بين الإسلام والمسيحية في بعض البيوت، بينما كان المسلمون أقليةً في البعض الآخر من تلك البيوت، ولعل تجمُّع الأقباط المنياويين الفقراء في هذا المكان يعود إلى قربه من كنيسة مار جرجس التي تقع في نهاية شارع الجيوشي. وكان فناء الكنيسة مرتعًا لأطفال العزبة من المسلمين والأقباط، فيذكر صاحبنا تلك الأيام التي شارك فيها أترابه اللعب في فناء الكنيسة، وتناول معهم لقمة القربان من يد «أبونا» القمص، ويذكر «عمته» أم جرجس، جارة جدته التي كانت تُناديها «يا أمي»، وكانت تُخاطب والد صاحبنا عند زيارته لأمه «يا خويا»، وظلَّ صاحبنا حتَّى بلغ الثامنة من عمره، يعتقد أنَّ «عمته» أم جرجس شقيقة لوالده وابنة لجدته، وخاصةً أنَّ أبا جرجس كان يُنادي الجدة «يا حماتي»، وعندما كان يحدث سوء تفاهم بين أبوَي جرجس، كانت الجدة تعنِّف الزوج، فيسترضيها ويُقبِّل رأسها.
لذلك كانت عزبة هرميس «مصر الصغرى»، عاش سُكَّانها معًا وكأنَّهم أسرة واحدة، يأكلون معًا من طبق واحد، فرغم فقرهم الشديد، كانوا يتبادلون أطباق الطعام والحلوى، ولم تكن أيام صيام الأقباط العديدة عائقًا أمام استمرار هذه العادة، بل كان الجميع مسلمين وأقباطًا صائمين معظم العام بالمفهوم القبطي للصيام، لا تعرف «طباليهم» اللحوم إلا في المواسم والأعياد. وكانت النسوة المسلمات والقبطيات يتبادلن إرضاع أطفال بعضهن البعض، إذا اضطُرت إحدى الأمهات إلى السفر إلى قريتها فجأةً لأمر طارئ، والجميع لا يفوته واجب عيادة المرضى، وتقديم التحية في الأفراح، والتعازي في الأتراح.»
الأهم من ذلك كله تطرُّق صاحبنا إلى المسكوت عنه … بصريح العبارة السلطة، حتَّى في عهدها الناصري الذي يتحمَّس له، ويعتبر نفسه واحدًا من المستفيدين منه، فيتحدَّث عن المباحث التي طاردته في الشركة التي عمل بها عقب تخرُّجه من الجامعة، وطاردته وهو معيد جعل أُطروحته لدرجة الماجستير عن تاريخ الطبقة العاملة المصرية، وكاد يكون واحدًا من ضحاياها لولا أستاذه أحمد عزت عبد الكريم.
يصل الكاتب بنا إلى ذروة التوتُّر الدرامي، إذا شئنا أن نستعير شيئًا من مصطلحات الأدب في الفصل الذي عقده عن الجامعة بعنوان «تحت القبة وهم»، وإن كان قد تناولها على نحو أو آخر في فصول سابقة، ويتضح لنا أنَّ الجامعة كانت بالنسبة له حلمًا ورديًّا، عندما كان طالبًا في جامعة عين شمس، فكان فيها أساتذة يتعاملون مع طلابهم على أنَّهم أبناؤهم، يعلِّمونهم ثمَّ هم يُعلِّمونهم كيف يتعلَّمون … لكن هذا الحلم تبدَّد لدى التحاقه بجامعة القاهرة مُعيدًا، ثمَّ عضوًا بهيئة التدريس؛ فالأساتذة غير الأساتذة، ولم يكن العلم في جملة أولوياتهم، وكانوا في جلساتهم الخاصة لا حديث لهم إلا في النميمة.
وما دام لكل شيء سبب، فالسبب يكمن — أولًا وقبل كل شيء — في تدخُّل السلطة في شئون الجامعة، وجامعة القاهرة على نحو خاص باعتبارها الجامعة الأم، خصوصًا أنَّها لوَّحت لأساتذتها بمناصب الوزارة، فهُرع الكثيرون منهم إليها وجعلوا أنفسهم في خدمتها وخدمة أمنها، الذي صار مديره في الجامعة يفوق في سلطاته سلطات رئيس الجامعة، ويأتي لنا بمهازل عن انتخابات الاتحادات الطُلَّابية، ومهازل أخرى عن انتخابات الاتحاد الاشتراكي في كليته، وكيف تحوَّل بعضٌ من كبار الأساتذة إلى عملاء للمباحث وكتبة تقارير. ثمَّ هو يأتي بصور عمَّا أفرزه هذا المُناخ الفاسد، منها أنَّه أتاح الفرصة لزوج الرئيس السابق وبناتها لأن يلتحقن بالجامعة دون وجه حق، فتحصل هذه الزوج على أعلى الدرجات وتُعيَّن معيدة، بل تحصل على درجة الماجستير (وبعدها الدكتوراه) في وقت قياسي، وقد أحاطت بها جَوقة من الأساتذة المنافقين الذين كوفئوا على «خدماتهم الوطنية» بأعلى المناصب، كما يأتي بصور أخرى عن جهلاء وفاسدين وصلوا إلى مناصب الجامعة العليا، لدرجة أنَّ أحدهم كان يجهل من هو أحمد لطفي السيد أول رئيس مصري لجامعته وأستاذ لأجيال متعاقبة من المصريين، وأخيرًا وليس آخرًا تعديل شروط الإعارة، لخدمة أغراض شخصية لا علاقة لها بالعلم.
يتحدَّث الكاتب بعد ذلك عن آليات الفساد التي تتمثَّل في دعم الكتاب الجامعي، والصناديق الخاصة، ولجان الممتحنين، ولجان الترقي التي حرمت الجامعة من أستاذ جليل ذي سمعة عالمية هو أيمن فؤاد سيد، بعد أن تحكَّم في مصيره من لا يصلحون لأن يتتلمذوا على يدَيه.
لكن الكاتب مع حزنه الشديد على ما آلت إليه حال الجامعة، إلا أنَّه وهو العالم الذي يؤرخ لأزمنة سابقة على زمانه بمنهج علمي صارم ورؤية نقدية موثَّقة، يعلم جيدًا أنَّ الجامعة مؤسسة لا تنفصل عن المجتمع الذي تنتمي إليه، وهو مجتمع يمر بخلل بنيوي خطير، فيقول وهو ممرور: «هذا غيض من فيض، عايشه صاحبنا تحت قبة الجامعة التي ظنَّها يومًا مثالًا للنزاهة والنقاء خلت من الآفات التي يُعانيها المجتمع. كان يظن أنَّ الجامعة «بيت الحكمة»، العقل المُفكِّر الذي يرسم للأمة خطاها، فاكتشف أنَّه كان واهمًا، وتبيَّن له أنَّ الجامعة خلية من خلايا المجتمع، تتأثَّر بما يصيب بقية الخلايا من عطب ومن أمراض، وأدرك أنَّ الجامعة مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع بما فيه من تناقضات، وما يُعانيه من علل وأوجاع.»
يبقى بعد ذلك أن نتساءل … لماذا كانت الصور التي تتابع عبر صفحات الكتاب في معظمها صورًا قاتمة كابية وحزينة، مع أنَّ الواقع لا يخلو من صور أخرى وضيئة؟ … لا نجد لذلك من تعليل إلا أنَّ الكاتب تملَّكته — كما قال شللي — «شهوة إصلاح العالم» … هذه الشهوة التي جعلته يلتفت إلى هذه الصور الحزينة ويُعرض عمَّا سواها، ويحضرنا في هذا الشأن تلك السطور من «حياتي في الشعر» حين يقول صلاح عبد الصبور: «يصفني نقادي بأنَّني حزين، ويُدينني بعضهم بحزني، طالبًا إبعادي عن مدينة المستقبل السعيدة، بدعوى أنَّني أُفسد أحلامها وأمانيها، بما أبدوه من بذور الشك في قدرتها على تجاوز واقعها المزدهر (في رأيه) إلى مستقبل أزهر. وقد ينسى هذا الكاتب أنَّ الفنانين والفئران هم أكثر الكائنات استشعارًا للخطر، ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتُلقي بنفسها في البحر، هربًا من السفينة الغارقة، أمَّا الفنانون فإنَّهم يظلون يقرعون الأجراس ويصرخون بملء الفم، حتَّى يُنقذوا السفينة أو يغرقوا معها.»
لنا في النهاية عتاب على الكاتب ورجاء … عتاب لأنَّه لا يسترسل كثيرًا في ذكرياته عن حياته العائلية، ومنها حياته العاطفية، وربما اعتذر عن هذه بشغله وأسرته بطلب القوت، ثمَّ شغله هو بطلب العلم، وربما كان السبب زواجه في سن مبكرة من زميلة له، اطمأن إليها، وكانت عند حسن ظنه في الحال والاستقبال، وخير مُعين في رحلة الحياة، لكنَّنا نحسب أنْ ليس له عذر حين لا يتحدَّث باستفاضة عن علاقاته بأبيه وأمه وأشقائه وأصدقائه ورفاق الصبا؛ لأنَّ هذه العلاقات وما يترتَّب عليها، تُشكِّل عنصرًا أساسيًّا في بناء شخصيته، وفي تفسير مواقف عديدة وحادثات عرضت له.
كذلك فمن اللازم لمؤرخ مرموق ترك بصماته واضحةً على علم التاريخ، وهي بصمات غير منكورة، أن يُسهب في الحديث عن موارد ثقافته؛ فمعروف عن رءوف عبَّاس ثقافة موسوعية، أعانته في فهمه للتاريخ وإحاطته بتفصيلاته وبواعثها … هذه الثقافة لا تتأتَّى إلا بمطالعات في مجالات شتَّى؛ لكنَّه يكتفي بذكر ولعه بمشاهدة الأفلام السينمائية في صباه، ومطالعة «البعكوكة» و«سندباد»، ثمَّ قراءة بعض الكتب للرافعي «المؤرِّخ» وبعض الكتب لطه حسين وسلامة موسى وجُرجي زیدان (لا حديث عن العقَّاد)، ولا يذكر لنا ما عدا ذلك وأظنُّه كثيرًا.
أمَّا عن الرجاء فهو أن يُتْحِفنا الكاتب بكتاب آخر عن الشخصيات التي عرفها، وعرض للمحات من حياتها … وهكذا فعل غيره من سابقيه، وبينهم العقَّاد وطه حسين وهيكل والبشري وفتحي رضوان وغيرهم، فيصير شاهدًا على رجال عصره، مثلما كان شاهدًا على عصره.