ضمير مؤرخ١
تحفل السيرة الذاتية للمؤرخ الدكتور رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى» بقيم عليا كادت تندثر من حياتنا في العقود الأخيرة، وتبدو كأنَّها تنتمي لعالم لم تعد ركائزه موجودة الآن.
عاش رءوف عبَّاس في ظل أسرة من الأسر المصرية المحدودة الموارد، فاستطاع بصبره الذي لا ينفد وتسامحه الأصيل أن يتغلَّب على انطوائه على نفسه وخجله من ناحية، واستطاع بإرادته الحديدية أن يتغلَّب على ظروف الفقر والشقاء وقلة الإمكانات والموارد من ناحية ثانية، فتنقَّل في مراحل دراسته المختلفة في الوظائف الإدارية في الحكومة ليدخر المال ليُنفق على تعليمه ويمد يد المساعدة لأسرته. وفي ظل ظروف صعبة كتلك التي عاشها، يُمكن للإنسان أن يُصبح مجرمًا، أو يكون رءوف عبَّاس العالم والمؤرخ والأستاذ، الذي نجح بالدأب والإصرار وقوة الإرادة أن يعلِّم نفسه، وساعده مجتمع ثورة يوليو التي انتمت لعالم الفقراء، على أن يصعد مهنيًّا ومكانيًّا بكفاءته وحدها، دون سواها.
وخلال رحلته الشاقة، يكشف رءوف عبَّاس بضميره الحي، ونزوعه الدائم إلى العدل واستقامته ونزاهته آفات الواقع الاجتماعي في الحقل الأكاديمي وفي خارجه، ويضع يده على التناقض بين الأقوال والأفعال، وبين الشعارات المرفوعة والواقع المؤلم خلال العهود الجمهورية الثلاثة.
وتفضح السيرة الفساد الأكاديمي والعلمي الذي تغلغل في الحياة الجامعية، والذي خاض المؤرخ معارك باسلةً لمكافحته والتصدي له، فرفض أن يتربَّح أو يصمت على مرتكبيه، وتكشف كيف أسهم هذا الفساد في تبديد أموال المنح التي تُعطى للجامعات وأموال الصناديق الخاصة التي أُنشئت ولا تخضع لأي مساءلة أو مراقبة، والدور الذي لعبته المتاجرة بالمحاضرات وملخَّصاتها، في تخريب الروح الأكاديمية وإضعافها، وإرهاق الطلاب، والفقراء منهم على وجه الخصوص. كما تُبرز السيرة الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية في ترقية الأساتذة واختيار المعيدين وتعيين العمداء ورؤساء الأقسام؛ لتتحوَّل الجامعات بعد ذلك من معقل لحرية العلم والفكر والبحث الأكاديمي إلى مواطن للفساد تُسيِّره المصالح والعلاقات العامة.
ولعل معركة رءوف عبَّاس في التصدي للتعصُّب الديني المؤسسي داخل الجامعات المصرية تُعَد واحدةً من أنبل معاركه؛ حيث فضح المؤرخ هذا التحالف غير المقدَّس بين أجهزة الأمن وبعض رؤساء الجامعات، لاضطهاد الأقباط وحرمانهم من فرص يستحقونها في الترقي العلمي والمهني في السلك الأكاديمي والجامعي، والذي يزرع في الصروح العلمية بذور الفتن والفرقة بين أبناء الوطن الواحد ويُعرِّض الوحدة الوطنية للخطر.
هذا التكوين الوجداني الوطني المتسامح، لم يكن ليأتي من فراغ؛ فقد أمضى رءوف عبَّاس طفولته وصباه في عزبة هرميس بحي شبرا، ذي الأغلبية المسيحية في زمن جميل ولَّى؛ حيث كان السكان المسلمون والأقباط يعيشون معًا كأسرة واحدة، يتبادلون برغم فقرهم أطباق الطعام، وكانت النسوة المسلمات والقبطيات يتبادلن إرضاع ورعاية أطفال بعضهن البعض.
هذه سيرة ذاتية تزخر بتجارب إنسانية وعلمية صالحة للقراءة في كل زمان ومكان، كما أنَّها تُقدِّم للجيل الجديد نموذجًا للإرادة الصلبة التي تصعد بصاحبها مهنيًّا وعلميًّا حين يأخذ حياته مأخذ الجد، لكن الأهم أنَّها صرخة في وجه أمراض الفساد العلمي والأكاديمي الذي يستشري في جامعاتنا، التي كادت تستعصي على العلاج، لعلها تجد مِمَّن يَعنيهم مستقبل هذا الوطن آذانًا صاغية.