رمضان … وعبَّاس … والرئيس١
تابعت، وكلي أسًى وأسف، المعركة الدائرة على صفحات الكتب والصحف، بين المؤرخَين الكبيرَين؛ الدكتور عبد العظيم رمضان، والدكتور رءوف عبَّاس، والأسى والأسف نابعان عندي من فروق التوقيت والمُناخ العام بين المعارك الفكرية والسياسية «زمان والآن»، والتي لا بد أن تجعلك «قلقان» على مستقبل هذا البلد وشبابه، ويقيني أنَّ الدكتور رمضان انحرف بالسجال إلى مستوًى لا يليق بمكانته واسمه، وجعله أشبه ﺑ «الرَّدح» في حارة شق التِّعبان، أو موقف أحمد حلمي.
وأنا مندهش من قدرة رمضان على التنكُّر لطبقته الاجتماعية، و«معايرة» عبَّاس بالبيئة التي نشأ فيها، والتي ذكرها في «مذكراته الصادقة، التي أعتبرها شهادةً موثقة على قدرة الطبقة المتوسطة «التي كانت» باعتبارها قاطرة التقدُّم لأي مجتمع». وهي مذكرات ثرية، وتعرِّي كثيرًا من الظواهر السياسية الفاسدة في الحكم والنظام، منذ الملكية وحتَّى الجمهوريات الثلاث، في عهود؛ ناصر، والسادات، ومبارك، وهي في كشفها وتعرية صاحبنا نفسه بنفسه، إنَّما تُقدِّم لنا نموذجًا لِمَا يجب أن تكون عليه السيرة الذاتية، ليس للمشاهير فقط، لكن لآحاد الناس أيضًا، الذين يملكون تجارب وخبرات نحتاج إلى معرفتها بكل الصدق، وعدم الكذب أو التجمُّل، كما يفعل الحُكَّام والساسة، عندما يكتبون مذكراتهم، وهم في سُدة السلطة.
لقد ذكَّرتني سيرة رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى» ﺑ «أوراق العمر» للدكتور لويس عوض، وقبلها «أيام» طه حسين، بل إنَّ مذكرات فنانة عالمية مثل «جين فوندا» يمتزج فيها العام بالخاص، تكشف من كواليس التاريخ ما لا يستطيع العثور عليه أعظم المؤرخين … لذلك فإنَّني أعتبر كتاب رءوف عبَّاس من أهم وأخطر المذكرات، التي تكشف علاقة أنظمة الحكم بالجامعة وأساتذتها، وتؤكِّد ما تقوله حركة ٩ مارس، من أنَّ الجامعة يحكمها الأمن والعسكر منذ القِدم، وهو ما سنتطرَّق له لاحقًا.
لكنَّني أعود لدهشتي من الدكتور رمضان، الذي «يُعيِّر» عبَّاس ببيئته، ورمضان «طلع من البيئة نفسها، وربما أدنى منها؛ فوالده كان مثل والد عبَّاس عاملًا بالسكة الحديد، ورمضان نفسه عمل كمساريًّا، لينفق على نفسه، وهو ليس عيبًا أبدًا … إنَّه يُذكِّرني بقول الشاعر عن التي عيَّرته بالمشيب عندما قال:
أمَّا أساس الخلاف بين المؤرخين، فيورده عبَّاس في مذكراته المنشورة بدار الهلال قائلًا: عندما توليت الإشراف على مركز تاريخ مصر المعاصر كان المركز تحت إشراف عبد العظيم رمضان لعدة سنوات، لم يُنتج فيها شيئًا سوى ما كان ينشره من مذكرات سعد زغلول، التي كان يتولَّى أحد موظفي المركز كتباتها على الآلة الكاتبة، نقلًا عن الأصل الذي كتبه سعد زغلول بخطه، ويتولَّى رمضان كتابة مقدمة لكل جزء، بعدما أعاد ترتيب المادة بصورة تختلف عن الأصل، وتُخلُّ بقواعد التحقيق والنشر، وكانت علاقة عبد العظيم رمضان بالباحثين على درجة عالية من السوء؛ بسبب ترك معظمهم بلا عمل، وحرمانهم من المزايا المادية، لمجرَّد معارضتهم له في الرأي.
«ثمَّ يستكمل»: أمَّا عن المجلس الأعلى للثقافة، فقد استقال الدكتور عبَّاس من لجنة التاريخ بالمجلس، التي يرأسها رمضان؛ لأنَّها تحوَّلت إلى «مكلمة» على يد رمضان؛ حيث يُمضي الأعضاء فيها الوقت، ليستمعوا إلى أمجاده؛ حيث يحشر في كل مناسبة حديثًا مزعومًا دار بينه وبين الرئيس مبارك والذي يستمد منه الحكمة دائمًا — حسب قوله.
والمذكرات مليئة بالمواقف التي تُعرِّي موقف المفكرين والأساتذة من السلطة والرئيس، أمَّا ما يتعلَّق برمضان، فأنا أشهد من خلال لقاء مبارك بالمثقفين والكُتَّاب، في «مولد الكتاب السنوي»، أنَّ رمضان لم يكن «يفوِّت ولا لقاء» إلا ويكيل فيه المديح للرئيس مبارك.
وإذا كان هذا حال رمضان مع الرئيس، بينما كان عبَّاس يهرب من أي عرض رئاسي، أو إغراء حكومي، فإنَّني لا بد أن أرفع له القبعة، وأصفِّق لكل من ينتمي لحزب عبَّاس، وهو يورد موقفًا في مذكراته من السادات، عندما «شتم» الصحفيين ونعتهم ﺑ «الأوساخ» في لقاء غير مذاع عام ١٩٧٨م، مِمَّا يعني أنَّ تيار السادات ورمضان تجاه كل من يختلف مع النظام، تيار أصيل في البنية التحتية للمثقفين.
واللهم اكفنا شر حزب رمضان، وانصر حزب عبَّاس من غير مشعلي المباخر، والممالئين، الذين نجدهم ﮐ «الهاموش» هذه الأيام، في «زفة» المبايعات «المبطرخة» والميمونة … آمين … وصح النوم.