رءوف عبَّاس … سيرة عظيمة لأستاذ جليل١
قليلون أولئك الذين كتبوا سيرتهم الذاتية، ومن بين القليلين من كتب سيرته متوخيًا الحقيقة. أمَّا أقلية الأقلية فهم الذين يتوخَّون الصراحة المطلقة، ومن أقلية الأقلية تلك خرج الدكتور رءوف عبَّاس أستاذ التاريخ الحديث بسيرته الذاتية التي صدرت عن دار الهلال في سلسلتها المتميِّزة كتاب الهلال، ولم يكن غريبًا على رئيس تحرير السلسلة مصطفى نبيل أن يلتقط الكتابات المتميِّزة؛ لينشر لها في السلسلتَين اللتَين يرأس تحريرهما، سلسلتا كتاب الهلال وروايات الهلال.
في القراءة الأولى لسيرة رءوف عبَّاس تجد نفسك تسير مع الرجل على أشواك الحياة القاسية، ونُعاني معه من مشاكلها، مشكلاته الشخصية البدنية، وتربيته مع جدته، ومشكلاته العامة مع وطنه وبلده. وخلال كل مرحلة من مراحل حياته لا يخجل الرجل من شيء، ولم ينكر كالكثيرين معاناته في التعليم، وسيره على الأقدام خمسة كيلومترات من محطة الحامول إلى منوف، دون أن يضيق بوضعه البائس أو يجعل أحدًا من زملائه يعرف عنه شيئًا، بل كان حريصًا على ألَّا يبدو مظهره مختلفًا عن زملائه، وجاءت ملامحه الصارمة وجديته في الدراسة لتجعل زملاءه الذين يقتربون منه يعاملونه بقدر من الاحترام.
وجاءت السيرة فعلًا لتجعلنا نخرج منها وقد عاملناه باحترام، دون أن نقترب منه شخصيًّا أو نتعرَّف عليه.
الأخطر في مذكراته هو تمرُّده على قسم التاريخ بسبب يعتبره البعض تافهًا، ولكنَّه اعتبره — ونحن معه — سببًا بالغ الخطورة. ومِمَّا زاد في خطورته أنَّ السبب يدخل في إطار المُحرَّمات أو المسكوت عنه، وهي الأشياء التي نتعامل معها فعلًا في حياتنا اليومية ولكنَّنا نخجل من كتاباتها أو التصريح بها أو حتَّى مجرَّد مناقشتها، وهو العلاقة مع الأقباط.
كانت أولى المشاكل التي واجهت الدكتور رءوف عبَّاس، عندما عُيِّن رئيسًا لقسم التاريخ بآداب القاهرة، هي المعارضة المستميتة من بعض عناصر الحرس القديم لانتداب أستاذ مرموق في تخصُّصه هو الدكتور يونان لبيب رزق لكونه قبطيًّا، وبلغ الاعتراض حد التصادم، وصاح أحدهم به إنَّ الله لن يغفر له هذا الجرم، وقال أشد الناس معارضةً للرجل إنَّه سيُغيِّر في الدرجات للمسيحيين على حساب المسلمين. ولكن رءوف عبَّاس كان في منتهى الصرامة في مواجهة عنصرية المعترضين. وجاء من يهمس في أذنه «وما له؟ … مفيش داعي نعكر جو القسم. في غيره كتير.» وأعلن رءوف أنَّه لا يقبل التمييز بين المصريين، وأنَّه مستعد أن يخسر القسم كله، ولا يُضحِّي بمبادئه التي تربَّى عليها. وقد حرص أحد أولئك المعترضين على أن تُسنَد إليه لجنة رصد درجات الامتحان للفرقة التي قام الدكتور يونان بالتدريس لها. وعندما أنهت لجنة الرصد أعمالها جاء المعترض وأبدى اعتذاره على ما بدر منه في حق الدكتور يونان، ولم يقبل الدكتور رءوف منه الاعتذار إلا بعد أن لقَّنه درسًا في الأخلاق.
الغريب أن تكون تلك هي الروح التي تحكم أقدم صرح تعليمي (علماني) في مصر، وربما كانت تلك هي الروح التي تسبَّبت في تأخُّرنا العلمي وخسارة جامعاتنا لعدد كبير من الكفاءات التي طاردتها لعنة التعصُّب. سواء كان هذا التعصُّب هو التعصُّب الديني كما في حالة الدكتور يونان مع قسم التاريخ، أو التعصُّب العلمي كما حالة الدكتور مجدي يعقوب وفاروق الباز وأحمد زويل وغيرهم من العلماء الذين تركوا الجامعة إلى الخارج؛ حيث برعوا بعيدًا عن تلك العقليات المدمرة.
وتكرَّرت المشكلة نفسها بصورة أخرى عندما كان من بين أوائل الخريجين بإحدى دُفع التخرُّج طالبة قبطية ترتيبها الثاني بين ثلاثة خريجين حصلوا على تقدير جيد جدًّا. وكان الدكتور رءوف يتولَّى التدريس لتلك الدفعة ويعرف الخريجين معرفةً جيدة من خلال مستواهم العلمي، فتقدَّم إلى عميد الكلية باقتراح تكليف الثلاثة الأوائل معيدين بالقسم، الأمر الذي لاقى اعتراض وكيل الكلية وكان أستاذًا في القسم نفسه، وطلب الاكتفاء بواحدة فقط، وعندما نبَّهه صاحبنا أنَّه أستاذ التخصُّص وهو الأدرى بحاجة قسمه، انفعل الوكيل وقال: إنَّ القسم تخلَّص من هؤلاء منذ ما يزيد على خمسين عامًا، وكان الوكيل يقصد التخلُّص من أحد الأساتذة الأقباط عام ١٩٤٤م بنقله إلى آداب الإسكندرية، وعندما ضاقت به السُّبل هناك هاجر إلى أمريكا، ويُعدُّ هناك من أعظم علماء العالم، ويُعدُّ برنارد لويس (أستاذ وكيل الكلية) نكرةً مقارنة بهذا الأستاذ القبطي، وأفهمه الدكتور عبَّاس بالخسارة التي لحقت بالقسم وتدهور القسم نتيجة التخلُّص منه على أيدي من خلفوه فيه. وقال عبَّاس إنَّه لو وجد أستاذًا قبطيًّا يرغب في النقل إلى القسم فسوف يُحارب من أجل ضمه للقسم، إذا كان على درجة كافية من الكفاءة.
المهم أنَّ معركة تعيين المعيدين لم تنتهِ عند حد موافقة القسم على تعيين معيدة قبطية؛ فقد تحفَّظ وكيل الكلية فلم يعترض أو يُوافق.
ولاكتمال إجراءات التعيين ينبغي أن تُدرَج موافقة القسم على جدول أعمال مجلس الكلية للموافقة، وعندما عُرِضت الأسماء الثلاثة على مجلس الكلية وجد صاحبنا أنَّ المذكرة التي عُرِضت على مجلس القسم تضم اسمَين فقط ليس من بينهما الطالبة القبطية، وأخبروه أنَّ وكيل الكلية أرجأ ترشيحها لمزيد من الدراسة، واستجاب له عميد الكلية.
كان هذا التصرُّف من جانب العميد مخالفًا للقانون تمامًا؛ لأنَّ قرار مجلس القسم يجب عرضه على مجلس الكلية دون تغيير أو تبديل، ولمجلس الكلية وحده الاعتراض مع بيان الأسباب، كما أنَّ التقاليد الجامعية تقتضي أن يُراجع العميد رئيس القسم، إذا شاء في أي قرار يصله من القسم، وإذا تمسَّك رئيس القسم بقرار القسم وجب عرضه على مجلس الكلية كما هو.
لم يحتمل رءوف عبَّاس هذا الوضع وقدَّم استقالته بسبب التمييز بين المصريين على أساس الدين واحتجاجًا على واقعة عدم تعيين المعيدة القبطية، وكان أن سلَّم الاستقالة على السر كي لتطيِّرها «وكالة أنباء النميمة». وبحكم القانون لا يُمكن قَبولها دون التحقيق في الأسباب الواردة فيها، لم تمضِ نصف ساعة حتَّى وجد عميدَ الكلية يقف أمامه وفي يده الاستقالة، مزَّق العميد الاستقالة ووافق على تعيين المعيدة القبطية.
لم يكن موقف رءوف من مسألة الأقباط مسألةً شخصية، ولكنَّها كانت موقفًا ضد الفساد بمجموعه؛ فهو يُحدِّثنا عن موقفه من أبناء الأساتذة الذين تُكال لهم الدرجات من أجل تعيينهم معيدين بالجامعة. وهذا الموقف اضطر عددًا من الأساتذة إلى اللجوء إلى القضاء.
أمَّا عن موقفه من السلطة، فإنَّه يحكيه ببساطة متناهية؛ فهو قد تلقَّى مكالمةً تليفونية بتكليفه لحضور اجتماع على مستوى عالٍ له صفة السرية، وأنَّ عليه أن يُحضر ما يكفيه من ملابس لمدة يومَين أو ثلاثة، لم تكن للدكتور رءوف أي صلة بأحد. كان الاجتماع في معهد الدراسات الاشتراكية بمصر الجديدة وفيه حشد من أساتذة الجامعات في تخصُّصات الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ. تمَّ شحن الجميع في سيارات تابعة لإحدى شركات السياحة إلى الإسماعيلية، وهناك اجتمع بهم الرئيس السادات، وطلب منهم أن يُعدوا برنامجًا تثقيفيًّا لتدريسه في معهد الدراسات الوطنية، الذي أُنشئ بديلًا عن معهد الدراسات الاشتراكية في مصر الجديدة، وطلب منهم ترشيح عدد من الدارسين الأكْفاء ليتولَّوا عملية إعداد الدارسين والتدريس لهم. رشَّح صاحبنا اثنَين من الأقباط، وعندما عرض صاحبنا الأسماء على المختص قاله «بلاش من دول، شوف حد تاني»، كان من الحاضرين مع صاحبنا الدكتور عبد الملك عودة والذي يبدو أنَّه رشَّح عددًا من الأقباط مثل صاحبنا؛ لأنَّه تضامن مع رءوف عبَّاس في موقفه. وأمام إصرار الأستاذَين رءوف وعبد الملك تأجَّل افتتاح المعهد المذكور ستة شهور دون أن يُشاركا فيه.
مواقف كثيرة دافع فيها الدكتور رءوف عبَّاس عن الأقباط؛ الأمر الذي ضيَّع عليه فرصة المشاركة السياسية بالقرب من الرئيس، منها رفضه وضع امتحان للثانوية العامة وترشيح أحد الأساتذة الأقباط، وردَّ عليه وكيل وزارة التربية والتعليم قائلًا: «إنت مش عارف إن الأمن مانع أهل الذمة من وضع الامتحانات.» كلام غريب لا يُمكن أبدًا أن يصدر عن مسئولين يقودون دولةً تتلمَّس طريقها للوقوف بجوار الدول العظمى، وتريد أن تُرسي قيم التسامح والمودة والإخاء وتُعلي مكانة الكفاءة والجودة، دون النظر إلى تلك التقاليد التي عفا عليها الزمن والتي ساهمت كثيرًا في تقهقرنا إلى المرتبة الخلفية في كل المحافل الدولية.
كان لا يجب أن تمر السيرة الذاتية للدكتور رءوف عبَّاس مرور الكرام؛ فهي ليست روايةً يتجاهلها النُقَّاد عندما لا يُعجبهم شخص الكاتب، أو لا ترضى عنها الدولة فتُحيلها مع صاحبنا إلى النسيان. إنَّه كتاب كتبه أستاذ عظيم تولَّى تدريس أجيال من الطلاب قيم الحق والعدالة والوطنية، التي من شأنها أن تُعلي قيم النبل والتسامح.
ولا شك أنَّني أتمنَّى أن يحذو إخواننا أساتذة الجامعة حذو الدكتور رءوف عبَّاس ليكتبوا عن مشاهداتهم ومعاناتهم مع تلك النوعيات، التي شاء حظها أن تكون في مواقع المسئولية وابتليت بداء التعصُّب المقيت الذي يُطل علينا بين حين وآخر ليُخرِّب ما بنيناه، وفي كل مرة نُعيد تركيب أسطوانة جناحَي الأمة والحفاظ على الوحدة الوطنية وتُقام مآدب الإفطار التي يعقبها العناق، ويعود كل واحد إلى شأنه في انتظار كارثة جديدة.