ومشيناها خطًى١
«ومشيناها خطًى» سيرة ذاتية للدكتور رءوف عبَّاس، صدرت ضمن سلسلة كتاب الهلال. وعبَّاس رجل أكاديمي وأستاذ التاريخ في جامعة القاهرة لزمن طويل. وسيرة الرجل الذاتية تعج بالأحداث الشخصية والعامة، وسجَّلها بروح المؤرخ تارة، وبروح الأديب الواقعي المتمرِّد تارةً أخرى، بتوصيف دقيق وهو يتحدَّث عن طفولته عندما يستدعي الماضي ومعاناته المبكرة وحياته في «عزبة هرميس» وتلميذ في المدارس وطالب في الجامعة. ولم يمنعه الفقر من متابعة تحصيله والحصول على درجة الدكتوراه ثمَّ العمل في جامعة القاهرة، بينما كان هواه وحلمه أن يعمل في جامعة عين شمس. إنَّ قراءة السيرة الذاتية، لرجل أكاديمي تستحق الاهتمام، وبخاصة إذا كان من الطيور المغرِّدة خارج السرب.
ويبدو أنَّ صاحبنا عبَّاس، ربما كان «ماركسيًّا» في انتمائه الأيديولوجي من خلال التعبير عن أفكاره أو بحكم صداقاته، أو هكذا ظنَّ مَن هم في السلطة. وهو في أحاديثه ينتقل من دَور الأديب إلى دَور المحلِّل السياسي إلى الأستاذ الجامعي الباحث عن فضاءاتٍ للحرية، أو الرافض للواقع الجامعي أسير السلطة السياسية. وقد تحدَّث عن الحقبة الساداتية وتأثيرها على حرم الجامعة واستقواء الأجهزة الأمنية، كما انتقد تصرُّفات السادات في لقاء جمع بين نخبة من أساتذة الجامعات المصرية والرئيس بحضور مُكثَّف لأجهزة الأمن السرية. وأعترف بأنَّني أحيانًا لا أكاد أصدِّق ما يقوله الرجل، وهو صادق فيما يقول، عندما يتحدَّث عن حادثةٍ ما.
ما لفت انتباهي في السيرة الذاتية، الفصل الخاص بمرحلة معينة من تاريخ الجامعات المصرية تحت عنوان «تحت القبة وهم»، والقبة هنا هي قبة جامعة القاهرة التي تُعتبر في تصوُّري أجمل معلم معماري لجامعة عربية عريقة وتستطيع أن تُميِّزها من بين مئات «القباب»، جاء الفصل مليئًا بالحوادث والحكايات حول الجامعة المصرية. وقد اعْتُبِرت شهادة الدكتور رءوف عبَّاس، من النصوص المرجعية عند الحديث عن حالة التردي لأوضاع الجامعات المصرية أو العربية في مراحل سابقة وحتَّى في المشهد الراهن. ولا يستطيع الباحث الأكاديمي العادل إلا أن يقف أمام ما ذكره الرجل بطريقة تُعرِّي حقيقتنا الأكاديمية وبخاصة أنَّنا نسير في مقدمة النُّخَب.
مضمون الفصل «تحت القبة وهم» يُمكن أن نقرأه من عدة زوايا؛ أوَّلًا المُناخ الجامعي حيث وصف اهتمامات الأساتذة في جلساتهم الخاصة ﺑ «النميمة» وتناقل أخبار معسكر الأعداء … داخل الأقسام وإهمال القضايا العلمية. والزاوية الثانية «استيزار أو استوزار» الثورة لأساتذة الجامعات والتركيز على جامعة القاهرة، مِمَّا أدَّى إلى تآكل استقلال الجامعة، وتقييد الحريات وإخضاع الجامعة لسلطات أجهزة الأمن. وهنا يصف أوضاع أساتذة الجامعة وحرصهم على التواجد في الكليات أيام التعديل الوزاري.
ويُواصل حديثه عن الجامعة في عصر السادات، عندما عدَّلت، حسب قوله، قواعد القَبول بالجامعات حتَّى يتسنَّى لزوجة الرئيس وبناته الالتحاق بالجامعة، وفي النهاية تحصل جيهان على الماجستير وتُعيَّن معيدةً بقسم اللغة العربية. أمَّا الزاوية الثالثة فهي المتعلِّقة بتعيين عميد الكلية ورئيس الجامعة، وهنا يدخل زميلنا في تفاصيل مثيرة، ولكنَّه كما أرى بأنَّه لا يدخل في لب القضايا وإنَّما يُثير الجدل والشكوك ويشن الهجوم على الجميع، إلا ما ندر، دون هوادة. وتشتد مبالغته عندما يتهم رئيس الجامعة الذي ذكَّره في حوار خلافي، بأنَّه يجلس على كرسي أحمد لطفي السيد، لم يكن يعرف من هو أحمد لطفي السيد، مِمَّا يُثير الشكوك حول أُطروحات صديقنا التي قد تصل إلى حد المبالغة والله أعلم. ويتحدَّث عن قضايا جامعية مختلفة وامتداد الفساد المزعوم إلى نواحٍ متعددة مثل شروط الإعارة، ودعم الكتاب الجامعي، وسوء معاملة الطلبة من قِبَل أساتذتهم. وللحقيقة أقول: فإنَّني لا أعتقد أنَّ الجامعات المصرية قد وصلت إلى هذا الحد من الواقع الرديء؛ فجامعات مصر، كما عرفتها في السابق وأعرفها اليوم، وأساتذتها عندما كنت طالبًا، وأساتذتها اليوم وهم أصدقاء وزملاء من خِيرة العلماء، ولا أعتقد أنَّ الوهم، الذي وقع فيه زميلنا يُمكن تعميمه، عندما تكون الأغلبية صالحةً في العمل والنوايا.
وعلى الرغم مِمَّا قال الرجل وقلت أنا، فإنَّني تمتَّعت كثيرًا بقراءة فصول الكتاب. ومع أنَّني عرفت صاحبنا من خلال قراءة سيرته الذاتية، التي أعتقد بأنَّ عليه أن يعتز بها سيرةً ونصًّا أدبيًّا وأكاديميًّا وتاريخيًّا، وأتمنَّى لو استطاع بعضنا على الأقل، تسجيل سيرهم الذاتية بهذا العمق وهذه الصراحة لنكون عونًا للأجيال القادمة «الذين نُعِدهم لزمان غير زماننا ونُعلِّمهم علومًا غير علومنا».