مذكرات وذكريات١
في قسم التاريخ … بكلية الآداب … جامعة القاهرة … عرفتُ الدكتور رءوف عبَّاس حامد، وتتلمذتُ على يدَيه … فقد كان رئيسًا للقسم آنذاك، ودرَّس لنا تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وتعلَّمنا منه معنى الوطن والوطنية، والانتماء؛ فهو عاشق لمصر ولتراب مصر، دائمًا كان يُناقش الطلاب أثناء المحاضرات في الأحداث الجارية ليطرح وجهة نظره، وحتَّى يعرف ماذا يدور في عقول الطلاب، وأتذكَّر في إحدى المحاضرات أنَّه توقَّف فجأةً وسأل الطلاب … من منكم شاهد مسرحية «الملك هو الملك»، وكانت المسرحية تُعرَض على مسرح السلام بشارع قصر العيني، وكانت مثارًا للجدل وللمناقشة آنذاك لجرأة نص سعد الله ونوس المكتوب، والأداء العالي لمحمد منير وصلاح السعدني وباقي أبطال المسرحية.
وفوجئ الدكتور رءوف عبَّاس بنصف الطلاب الموجودين في المدرَّج يرفعون أيديهم وقالوا لقد شاهدنا المسرحية، فابتسم الدكتور رءوف وقال: «والله كويس … ده إنتو مصحصحين ومتابعين.» لقد كان مثالًا يُحتذى به للأستاذ الجامعي المحترم، الكل يهابه ويحترمه وفي الوقت نفسه يُحبونه، وكان قريبًا من الطلاب يسمعهم ويُحاورهم كأب حنون، حريص على مصلحة الطلاب وكأنَّ كل واحد منهم ابن من أبنائه.»
وفي سيرته الذاتية «مشيناها خطًى» حاول الدكتور رءوف عبَّاس أن يطرح خلاصة تجربته موجِّهًا كلامه إلى الشباب … عساهم يجدون ما يُفيد، وإلى الذين يُسمِّمون أمامهم الآبار … لعلهم يتعظون … وفي سيرته الذاتية نجد محطات رئيسيةً لحياته، كل محطة تركت بصماتها على شخصيته، وكان صريحًا في عرض كل محطة بعمق ووضوح بصورة لم نألفها في السير الذاتية؛ لأنَّ أغلب أصحاب السير الذاتية، كانوا يُحالون تجميل أنفسهم والدفاع عن أنفسهم في الملاحظات والاتهامات التي وُجِّهت لهم، ولم أجد هذا في سيرة د. رءوف عبَّاس … عرض لنا لحظات العناد والإصرار والصبر، وأيضًا لحظات الإحباط والعجز وخيبة الأمل … بكل صراحة.
والمحطة الأولى في سيرة الدكتور رءوف عبَّاس … كانت النشأة والطفولة، بكل ما فيهما من صعوبات ومعاناة وإصرار على تحدي الظروف … ففي أحد مساكن عُمَّال السكة الحديد ببورسعيد وُلِد رءوف عبَّاس حامد، وبالتحديد في أغسطس ١٩٣٩م، وتلك المساكن تُطل على معسكر القوات البريطانية ببورسعيد ووُلِد في ظل ظروف دولية ملتهبة، أشعلت نار الحرب العالمية الثانية؛ فقد كانت أسرته شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ، كان والده عاملًا بالسكة الحديد يشغل أدنى السلم الوظيفي للعُمَّال، وجده أيضًا كان عاملًا بالسكة الحديد، نزح من جرجا، سوهاج إلى القاهرة عام ١٩١٠م.
وتنقَّل الأب في العمل ما بين بورسعيد والسويس حتَّى نُقِل إلى القاهرة، فلم تستطع الأسرة الحياة فيها بالراتب الضئيل الذي يتقاضاه الأب، فسارع بطلب النقل إلى «أوسيم». ولكن الجدة رفضت ترك القاهرة، فوافق ابنها ورصد لها ربع دخله وترك معها طفله الصغير «رءوف» في عزبة هرميس في شبرا، واستمرَّ الوضع هكذا حتَّى الثانوية، ولعبت الجدة دورًا سلبيًّا في شخصية رءوف عبَّاس لقسوتها وإصرارها على إرهاقه انتقامًا من أمه في شخصه لأنَّها لا تُحبها، وكانت تحرمه من الطعام ولا تُعطيه إلا أقل القليل، ويحكي رءوف عبَّاس، عندما تجرَّأ وأكل — سرًّا — قطعةً من اللحم ظنًّا منه أنَّها لن تكتشف الأمر، واتضح أنَّها تحمل معها «محضر الجرد» فاكتشفت السرقة، ولعنته وأمه لأنَّه «مفجوع» مثلها. ولم يتخلَّص من كراهيته لجدته.
ومن البصمات المؤلمة التي تركتها محطة النشأة والطفولة، عندما سقط من الطابق الثاني من فوق درج البيت ليهوي على رأسه في صحن البيت، وظل صوت الارتطام بالأرض يدوي في أذنَيه عدة سنوات، وأُصيب بكسر في الفك الأيسر، ولم يتنبَّه إليه أحد إلا بعد نحو خمس سنوات من الحادث، ترتَّب عليه عدم استطاعته فتح فمه باتساع يزيد على نحو واحد ونصف سنتيمتر، وأورثته هذه العاهة — التي لازمته طوال حياته حتَّى الآن — متاعب نفسيةً شديدة في فترة المراهقة على وجه التحديد، فكان لا يتناول طعامًا أمام الغرباء، وأورثته الميل إلى الانطواء والحذر الشديد في الاختلاط مع أقرانه، وحرصه الشديد في اختيار من يتخذه صديقًا، وصاحبه الكثير من أعراض هذه الحالة النفسية حتَّى التحاقه بالجامعة، فبدأ يتخلَّص تدريجيًّا منها، فلم يبقَ منها إلا الحرص الشديد في انتقاء الأصدقاء.
البصمة الثانية في هذه المرحلة جاءت من صديق والده «محمد أبو زيد» عندما أنقذه من العمل في إحدى الورش التي أصرَّ والده على الالتحاق بها بعد أن أخبره شيخ الكُتَّاب أنَّ ابنه لا يحفظ القرآن ويجد صعوبةً في ذلك، رغم أنَّه تعلَّم القراءة والكتابة وقواعد الإملاء والحساب في السنوات الثلاث التي قضاها بالكُتَّاب، وكان رءوف يطلب من الشيخ أن يُفهمه الآيات أولًا حتَّى يحفظها، واعتبر الشيخ هذا الكلام تطاولًا من هذا الطفل المتمرِّد، وأقنع والده أنَّه لا يصلح للتعليم، ففكَّر في دفعه للعمل في إحدى الورش، ولكن محمد أبو زيد أقنعه بأن يُقدِّمه لامتحان القَبول بإحدى المدارس الابتدائية وتجاوز عقبة الواسطة ودخل المدرسة … وبدأ مرحلةً جديدة حتَّى أصبح واحدًا من أبرز مؤرخي التاريخ الحديث في مصر.
المحطة الثانية … بدأت بالالتحاق بالجامعة رغم رفض والده الفكرة، وطلب منه البحث عن عمل ولكنَّه لم يجد، فالتحق بالجامعة مِمَّا أغضب والده … ولكن سرعان ما تلاشى هذا الغضب، ولأنَّه حاصل على ٦١٫٥٪ في الثانوية العامة، أُعفي من المصروفات مِمَّا أزال آخر عائق بينه وبين الجامعة، ويرصد الدكتور رءوف عبَّاس الأساتذة الذين تعلَّم على أيديهم؛ منهم د. أحمد فخري، ود. سعيد عبد الفتَّاح عاشور، ود. رشيد الناضوري، ود. عبد اللطيف أحمد علي، ود. محمد عواد حسين، وكيف ترك هؤلاء أثرًا ملحوظًا في تكوينه، وكيف مرَّ آخرون من حياته مرورًا عابرًا دون أن يتأثَّر، ولكنَّه أفرد صفحات ليحكي عن تأثُّره البالغ بالمدرِّس الشاب د. أحمد عبد الرحيم مصطفى ابن سوهاج؛ لأنَّ هذا المدرس الشاب كان يحث التلاميذ على التفكير ونبذ المسلَّمات ما لم يقم الدليل العقلي على صحتها، وأنَّ الحقيقة التاريخية ليست كاملة، وأنَّ الموضوعية مسألة نسبية، ووجد رءوف عبَّاس في د. أحمد عبد الرحيم مصطفى القدوة التي ينشدها واتخذه مثلًا أعلى له؛ لأنَّه كان أستاذًا عظيمًا ومربيًا عبقريًّا قبل أن يكون أستاذًا، التحم بتلاميذه ولم يترك مسافةً بينه وبينهم.
وفي مرحلة الدراسات العليا، تأثَّر رءوف عبَّاس بالأستاذ العملاق أحمد عزت عبد الكريم، ويقول عنه: لقد كان محاضرًا متميزًا يستقرئ المادة التي يُقدِّمها في صورة تساؤلات يستخلص منها الإجابات المحتملة، جاعلًا من موضوع المحاضرة قضية، يتفحَّص شواهدها مع طلابه، ويبحث معهم عن دلالتها، يسمح بالمناقشات في حدود إذا كان السائل يطرح سؤالًا وجيهًا يعكس درجة استيعابه لِما سمعه من الأستاذ.
وتأثَّر رءوف عباس بأستاذَين عملاقَين بشكل غير مباشر، هما: الدكتور عبد اللطيف أحمد علي أستاذ كرسي علم البردي، وكرسي التاريخ القديم بكلية الآداب جامعة القاهرة ورئيس قسمَي التاريخ والدراسات القديمة بها؛ فقد كان مُحاضرًا رائعًا يشرح الدرس بأسلوب مسرحي فيجعل الطالب يُكوِّن صورةً ذهنية درامية للأحداث التي يعرضها الأستاذ. وأيضًا الدكتور أحمد فخري عالم الآثار العظيم، وكان رءوف عبَّاس مبهورًا بأبوته وإنسانيته، وقارن بينه وبين أستاذه إبراهيم نصحي أول عميد لكلية الآداب جامعة عين شمس؛ حيث كان إبراهيم نصحي يُعامل الطلاب بتأفُّف واشمئناط، ويُلقي المحاضرة ويرسم على وجهه علامات التقزُّز، ويقول «الجامعة برطشت»، والويل لمن يجرؤ على طرح سؤال على الأستاذ الذي يُسرف في توبيخه ويمسح الأرض بكرامته، بينما الدكتور أحمد فخري يُعاملهم بإنسانية وأبوية عكس من عاملهم دائمًا باشمئزاز واحتقار، وعدَّهم من فصيلة «الحشرات»!
المحطة الثالثة … بدأت بفتح صفحة جديدة في حياته عندما حصل على الليسانس عام ١٩٦١م وتعيينه في «المؤسسة العامة للصناعات الكيماوية» في كفر الزيات، مِمَّا بعث الأمل عنده وعند أسرته؛ فقد زوَّده العمل في شركة صناعية من الشركات التي تمَّ تأميمها في يوليو عام ١٩٦١م، بتجارب وخبرات جديدة، كان لها أثر في تكوينه، بل وفي تحديد حقل دراسته العليا التي بدأها عام ١٩٦٢–١٩٦٣م، وفي هذه الفترة اعتذر مرتَين عن حضور دورة تدريبية في «منظمة الشباب» بحجة انشغاله بالدراسات العليا؛ فقد كان يرى فرقًا شاسعًا بين الشعارات المرفوعة، وما يراه واقعًا أمامه على أرض الواقع. وعندما أنهى السنة التمهيدية للماجستير، بالنجاح بتقدير جيد جدًّا، شغل باله الموضوع الذي سيُعد فيه رسالة الماجستير، وحسمت التجربة التي عاشها بين عمَّال كفر الزيات اختياره؛ فقد لاحظ أنَّ أولئك العُمَّال الذين نجحوا في إسقاط اللجنة النقابية وراءهم خبرة نضالية لم تأتِ من فراغ، وراح يبحث عن كتاب في تاريخ الحركة النقابية في مصر، فلم يجد سوى كتابات لا تُغني ولا تُسمن، ووجد عشرات الكتب الإنجليزية عن الحركة العمالية في أوروبا عامة، وبريطانيا خاصة، وعقد العزم على دراسة الحركة العمالية منذ نشأتها حتَّى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، فعرض الموضوع على أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى، فرحَّب بالموضوع ولكنَّه اعتذر عن عدم الإشراف، وعرضه على د. أحمد عزت عبد الكريم فوافق.
وبدأ رحلة جمع المادة فذهب إلى الإسكندرية وقابل النبيل عبَّاس حليم صاحب الدور في الحركة العمالية، ومحمد حسن عمارة سكرتير عام اتحاد نقابات عُمَّال القطر المصري، وسيد قنديل رئيس نقابة عُمَّال الطباعة في الثلاثينيات والأربعينيات، كما استطاع الاتصال بالنقابيين الماركسيين محمد يوسف المدرك – محمود العسكري – أحمد طه – سعد صمويل الفيشاوي، وحصل منهم ومن غيرهم على بعض الأوراق المهمة، والدوريات العمالية المجهولة، واستعان بخطيبته «سعاد الدميري» في تجميع بعض ما احتاجه البحث من مادة الدوريات من دار الكتب، وبذلك اكتملت المادة التي أعدَّ منها رسالته التي نوقشت في نوفمبر ١٩٦٦م، واستقال من شركة كفر الزيات في أبريل ١٩٦٧م، وسجَّل موضوعًا لرسالة الدكتوراه «الملكيات الزراعية الكبيرة وأثرها في المجتمع المصري» ١٨٣٧–١٩١٤م، فكان لا بُدَّ من التفرُّغ للدراسة، ونجح أستاذة أحمد عزت عبد الكريم في تدبير منحة تفرُّغ، وحصل على الدكتوراه في يناير ١٩٧١م، ونجح في التسلُّل إلى آداب القاهرة في وقت كان القسم مُقسَّمًا شيعًا وأحزابًا لا علاقة للعلم ومدارسه به، بل كان العلم لا يظهر على السطح إلا لخدمة غرض شخصي إن إيجابًا أو سلبًا، ولكن البحث العلمي والمنافسة في مجاله، كانا غائبَين في هذا القسم، أحقاد وصراعات قديمة بدأت بين جيل الروَّاد، أورثها كلٌّ منهم لتلاميذه الذين أجادوا الزلفى والتملُّق حتَّى يستطيعوا الحياة في ذلك المُناخ غير الصحي، فالويل كل الويل لمن يكتشف أستاذه بأنَّ له صلةً بمعسكر خصمه، كما يحدث في الخصومات السياسية، وأجاد بعض هؤلاء لعبة «العميل المزدوج» حتَّى يضمن مساندة الجميع له بحسبانه من أتباعهم، فإذا كُشفت لعبته كان في ذلك نهايته.
واعتبروا رءوف عبَّاس دخيلًا هبط على القسم من دون استئذان، حاول في البداية أن يُقيم علاقةً طبيعية مع الجميع، فلم يلقَ استجابةً سوى من الدكتور سعيد عاشور، أمَّا الدكتور عبد اللطيف أحمد علي الذي تأثَّر به علميًّا فكان لا يُطيق رؤية ذلك المُعيد الذي أفسد عليه فرصة تقديم خدمة لصديقه مدير جامعة الإسكندرية، حتَّى إنَّه حاول — ذات مرة — إهانته على الملأ بعد إحدى المحاضرات بمقر الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، فناداه: «إنت يا … إنت.» فلم يردَّ عليه وتجاهله، فكرَّر النداء: «إنت يا عبَّاس … إزاي تكون بتشتغل عندي وما بتجيش الكلية؟» فردَّ عليه بصوت جَهْوري: «أنا مش شغال عند سيادتك … أنا مُعيد بجامعة القاهرة، ورئيسي المسئول عن متابعة عملي هو أستاذ التخصُص.» فردَّ العميد «د. عبد اللطيف أحمد علي»: «لكن عليك واجبات للقسم لازم تعملها … تعالَ قابلني بكره الساعة عشرة.»
وكان رءوف عبَّاس مُلازمًا للدكتور محمد أنيس يوم وجوده بالكلية، وكان لا يحضر سوى يوم الخميس لإلقاء محاضرته لطلبة الليسانس، وفي مجلس محمد أنيس تعرَّف رءوف عبَّاس على كلٍّ من أحمد عبَّاس صالح – سعد زهران – إبراهيم صقر – حسام عيسى – حلمي شعراوي – جلال السيد، وعرف عن طريقه كامل زهيري ومحمود العالم وغيرهما، وأتاح له محمد أنيس فرصة الكتابة بمجلة «الكاتب»، ثمَّ أشركه في «قسم الأبحاث» الذي أقامته جريدة الجمهورية ردًّا على إقامة جريدة الأهرام لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وترك أنيس قسم الأبحاث بعد خلاف مع فتحي غانم «رئيس التحرير عندئذ»، وأصبح فتحي عبد الفتَّاح مشرفًا على القسم، فاشترك رءوف عبَّاس في المجموعة التي تدرس أوضاع القطاع العام، وجاء النشر مهينًا لكل من يحرص على سمعته، بعدما أطاح مقص الرقيب أو قلم التحرير بمعظم الفقرات التي تكشف السلبيات المترتِّبة على أسلوب إدارة القطاع العام، فآثر ترك القسم.
وبعد ذلك أشركه د. محمد أنيس معه في «مركز تاريخ مصر المعاصر» التابع لدار الكتب والوثائق المصرية منذ تأسيسه على يدَيه، وشهدت فترة العمل في المركز فتور العلاقة بينهما، وتوتَّرت لأسباب تتعلَّق بشخصية رءوف عبَّاس الحساسة جدًّا لِما يرى فيه استغلالًا ماسًّا بكرامته، وواجهه بذلك، ورفض أنيس هذا الأسلوب، ووصل الأمر أنَّه يصف رءوف عبَّاس — كلما سمع اسمه — بأنَّه «عميل للمباحث» «دُسَّ عليهم دسًّا».
وبعد حصول رءوف عبَّاس على الدكتوراه تقدَّم بطلب للدكتور محمد جمال الدين سرور رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة يطلب تعيينه مدرسًا بالقسم، فرفض بحجة أنَّه حصل على الليسانس من جامعة عين شمس وقال له: «وكمان الدكتور محمد أنيس مش عايزك!» فذهب يشكو إلى أستاذه أحمد عزت عبد الكريم فوجده على علم بالتفاصيل عن طريق يحيى هويدي عميد الكلية، ومحمد جمال الدين سرور رئيس القسم، ونصحه عبد الكريم بصرف النظر عن المُطالبة بالتعيين بآداب القاهرة، والانتظار إلى أبريل «بعد ثلاثة أشهر» ليتم الإعلان عن درجة مدرس بآداب عين شمس يتقدَّم لها، ويعود بعد ذلك إلى بيته العلمي بعد الاغتراب، إلا أنَّه رفض، وأصرَّ على الحصول على حقه كاملًا؛ لأنَّ التراجع يعني «الإهانة والانكسار»، فردَّ عليه د. أحمد عبد الكريم: «يعجبني فيك الاعتداد بالنفس والتمسُّك بحقك. حاول معاهم، فإذا لم تُوفَّق مكانك محفوظ بآداب جامعة عين شمس.»
وبالفعل عُيِّن مدرسًا بعد سبعة شهور من الحصول على الدكتوراه، ولم يُتَّخذ القرار إلا بعد عودة د. محمد أنيس من إعارة إلى الجزائر، وظل منبوذًا في القسم حتَّى سفره إلى اليابان في مهمة علمية، فكان نصيبه من أعباء التدريس مادة واحدة «تاريخ مصر الحديث» لطلبة ليسانس المكتبات، وعندما عاد من اليابان قام بتدريس المادة نفسها مدة عامَين حتَّى أُعير إلى قطر، ولم ينَل فرصةً كاملة للتدريس بالقسم إلا بعد عودته من الإعارة، وكان قد أصبح أستاذًا مساعدًا.
المحطة الرابعة … العلاقة مع السلطة … لم يحتكَّ رءوف عبَّاس بالسلطة إلا في عصر السادات، واستطاع في البداية أن ينجو بنفسه من ورطة التعاون مع السادات — على حسب تعبيره — بالفرار من الانضمام لحزب خدم السلطان «حزب مصر». ولكنَّه سرعان ما واجه مأزقًا جديدًا يقول عنه في سيرته الذاتية: «فقد استدعاه عميد الكلية يومًا لمقابلته وقاله له: «السيدة جيهان السادات عايزة تشوفك.» … فسأله رءوف عبَّاس عن السبب، فقال له العميد: «يبدو أنَّها تُريد استشارتك في مسألة تاريخية تتصل بدراستها، وأنَّ بعض من تثق بهم زكَّاك لها وعليك الحضور لمقابلتها يوم الثلاثاء.» فردَّ رءوف قائلًا: «أنا لا أحضر إلى الكلية إلا أيام السبت والإثنين والأربعاء، وإنَّه أستاذ مساعد يجب أن يسعى إليه المعيد، وهي معيدة بقسم اللغة العربية وبالتالي تستطيع مقابلتي في مكتبي في أحد تلك الأيام الثلاثة كما يفعل غيرها من المعيدين.» وأدار ظهره للعميد وانصرف. ويوم السبت استدعاه العميد مرةً أخرى وقال له: «جيهان السادات تُريد الاستعانة بك في أمر يتصل بابنتها التي تدرس الماجستير في تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية.» وطلب منه تحديد موعد الذهاب إلى بيت الرئيس، فكرَّر رءوف عبَّاس على العميد ما قاله في المقابلة السابقة، وأكَّد على أنَّ من يريد استشارته يأتي لمكتبه بالقسم في الأيام التي يتواجد فيها بالكلية، وأدار ظهره للعميد مرةً أخرى وانصرف.
وفي يوم السبت التالي استدعاه العميد في الحادية عشرة، وعندما دخل إلى مكتب العميد، كانت هناك فتاة سمراء نحيفة القوام قدَّمها له «السيدة نهى السادات»، ثمَّ غادر حجرة المكتب وتركهما معًا … فقالت له: أنا أدرس الماجستير بالجامعة الأمريكية، وأُعدُّ بحثًا عن «حزب الوفد»، وأنا بحاجة إلى استشارة أستاذ متخصص، ولا يوجد نظيره في الجامعة الأمريكية، فنصحها باللجوء إلى د. عبد العظيم رمضان أو د. يونان لبيب رزق فهما المتخصصان بهذا المجال، ولكنَّها قالت إنَّها متأكدة من أنَّه أنسب المتخصصين لمساعدتها، فاعتذر وقال لها استعيني بوالدك؛ «لأنَّه الوحيد في مصر الذي يعرف حقيقة حزب الوفد»، وتركها في حجرة العميد وانصرف، وبعد نحو ساعتَين، بينما كان يتأهَّب للانصراف، استدعاه العميد وذهب للقائه، فوجد الغرفة خالية — على غير العادة — إلا منه، وشكره العميد على لقائه بالسيدة نهى، ثمَّ تردَّد قليلًا وقال على استحياء: «إنَّ اختيارها لك يعود إلى أنَّك الوحيد الذي له كتابات بالإنجليزية، وأنَّها في حاجة إلى من يكتب لها البحث!» فهبَّ رءوف عبَّاس واقفًا وانفجر في العميد قائلًا: «إنت عارف قاعد فين؟ … قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخَّاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد!» وخرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه. حدث هذا في ربيع ١٩٨١م، وكان رءوف عبَّاس يتأهَّب لتقديم أوراقه إلى لجنة الترقيات للحصول على درجة الأستاذية، وكان قياس الأمور بمعايير المصلحة الشخصية يسوقه إلى مداهنة العميد وليس إهانته إلى هذا الحد، وخاصةً أنَّ زميله د. حسن حنفي تأخَّرت ترقيته لِمَا يقرب من العامين لأنَّه اعترض في مجلس الكلية على حصول جيهان السادات على درجة الليسانس بتقدير امتياز، رغم أنَّها لم تظهر بقاعة الدرس إلا أيامًا معدودة طوال العام الدراسي، ولكن شيئًا من هذا لم يدخل في حسابه؛ فقد أحسَّ هو نفسه بذروة الإهانة عندما طلب منه العميد أن يكتب البحث لبنت الرئيس.
ومضت الشهور وجاء سبتمبر ١٩٨١م ونُكِبت كلية الآداب بنقل عدد من أساتذتها خارج الجامعة في أحداث سبتمبر الشهيرة، وفي أول مجلس كلية يُعقَد بعد هذه الكارثة بأسبوع واحد، عُرِض على مجلس الكلية طلب مُقدَّم من السيدة جيهان أنور السادات «البنت الصغرى للرئيس» — المعيدة بكلية التربية فرع الفيوم — تطلب فيه نقلها إلى قسم اللغة الإنجليزية بالكلية لقربها من مكان منزلها، فاستشاط رءوف عبَّاس غضبًا، «وكان عضوًا بالمجلس عن الأساتذة المساعدين»، وقال للعميد إنَّ عرض هذا الموضوع فيه امتهان للمجلس وأعضاء هيئة التدريس بالكلية واستفزاز لمشاعرهم، والأحرى بالمجلس أن يُرجئ النظر فيه لأجل غير مُسمًّى، وردَّ العميد بأنَّ مجلس قسم اللغة الإنجليزية وافق على الطلب، ونحن أمام حالة روتينية متكرِّرة ولا يجب أن تزر وازرة وزر أخرى، فأصرَّ رءوف عبَّاس على طرح الموضوع للتصويت، ففوجئ بموافقة الأغلبية على الطلب!
كانت أوراق ترقية رءوف عبَّاس إلى الأستاذية بين يدي اللجنة المختصة، وكانت هناك شائعة قوية أنَّ هناك قرارًا آخر سيصدر بعد احتفالات السادس من أكتوبر بإبعاد الآخرين خارج الجامعة، ولكن رءوف عبَّاس كان يُعاني الحسرة والاكتئاب، ويرى أنَّ جو الجامعة قد سمَّمه الفساد، والتذلُّل إلى السلطة، وأنَّه لو بقي بالجامعة أو طُرِد منها سيان.
واغتيل السادات في السادس من أكتوبر وعاد الزملاء المبعدون إلى أعمالهم، واستقالت — فيما بعد — جيهان السادات — الأم والبنت — وبدأت العناصر الانتهازية تُعيد ضبط مواقفها. وحصل رءوف عبَّاس على الأستاذية في ديسمبر واختاره نفس العميد رئيسًا لقسم التاريخ في أبريل ١٩٨٢م، بعد وفاة رئيس القسم رغم كونه أحدث الأساتذة الثلاثة الموجودين بالقسم، لاعتبارات رأى فيها الرجل أنَّ من مصلحة القسم أن تُسنَد أموره إليه، وبعدما ترك العميد العمادة، جمعته برءوف عبَّاس فرصة لقاء فقال: «أنا مدين لك بالاعتذار عن واقعة بنت الرئيس.» فردَّ رءوف بأنَّه هو الذي يجب أن يعتذر عن الطريقة التي ردَّ بها، وظلَّت علاقته بالأستاذ الجليل وديةً إلى أبعد الحدود.
لم يستطع رءوف عبَّاس أن يُخفي حزنه على حال الأساتذة في الجامعات وتآكل استقلال الجامعة؛ نتيجة تملُّق أعضاء هيئة التدريس للسلطة، وقَبولهم لِمَا فرضه القانون الخاص بالجامعات من ضوابط قيَّدت الحرية، وأخضعت الجامعة لسلطان أجهزة الأمن، وهان الأساتذة على السلطة عندما هانت عليهم أنفسهم، فلم يستطع الحريصون على استقلال الجامعة وتقاليدها تنظيم حركات احتجاجية على ما يجري للجامعة.
ويحكي رءوف عبَّاس عن واقعة شهدها بنفسه، أثناء الحملة الانتخابية لوحدة الاتحاد الاشتراكي بالكلية، عندما وقف أحد المُرشَّحين من الأساتذة على السلم الرئيسي المؤدِّي إلى مكتب العميد، يعرض برنامجه في خطبة عصماء، ركَّز فيها على المُطالَبة بتحسين الأوضاع المادية لأعضاء هيئة التدريس، وأنهى خطابه بتحذير الأساتذة من إعطاء أصواتهم لعميد الكلية يحيى هويدي؛ لأنَّ أخاه «أمين» كان رئيسًا للمخابرات، وردَّ عليه العميد من الشرفة المُطِلة على السلم بصوت جَهْوري: یا دکتور فلان أنا لي الشرف أن يكون أخي رئيس المخابرات، لكن تحب أقول للناس دي مين اللي بيكتب تقارير عن زمايله للمخابرات وغيرها من أجهزة الأمن؟» فلم ينبِس الدكتور ببنت شفة، واختفى عن الأنظار!
ويُضيف رءوف عبَّاس: لم يكن أسلوب اختيار القيادات الجامعية وحده أبرز مظاهر الفساد الجامعي الذي بدأ مع عهد السادات، وترعرع بعده واستشرى واستوحش؛ فقد ابتُدِعَت آليات للفساد هي دعم الكتاب الدراسي والصناديق الخاصة ولجان الممتحنين.
وعندما وصل رءوف عبَّاس إلى منصب وكيل الكلية للدراسات العليا أقنع مجلس الكلية بضرورة تطوير الدراسات العليا بالكلية، وشُكِّلَت لجنة لهذا الغرض استمرَّ عملها لمدة شهور، ووضعت مشروعًا يضع من الضوابط والقيود ما يكفل رفع مستوى الدراسات العليا، ولقي المشروع حتفه عند عرضه على مجلس الكلية بالحذف والإضافة مِمَّا أفقده ٥٠٪ من قيمته، وعندما أُجيز بعد عام آخر كان هم الأقسام الأساسي التحايل للالتفاف حول الضوابط التي وضعتها اللائحة الجديدة، ولم يرتَح لهم بال إلا بعد إلغاء العمل بها عام ٢٠٠٣م.
وهنا أدرك رءوف عبَّاس أنَّ الجامعة مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع بما فيه من تناقضات وما يُعانيه من علل وأوجاع.