تلميذ بين أربع مدارس
كان أول عهد صاحبنا بالمدارس الْتحاقه بمدرسة السيدة حنيفة السلحدار الابتدائية الأميرية على نحو ما سبق ذكره، وأتاح له تردُّده اليومي على المدرسة فرصة التعرُّف على شبرا بتكوينها المختلط الغريب، مقارنةً بعالمه المحدود في عزبة هرميس، بل كان الانتقال من البيت إلى المدرسة بمثابة ارتياد كوكب آخر من بيئة تختلف تمامًا عن بيئة عزبة هرميس. كانت المدرسة تقع في شارع زنانيري بأول شارع شبرا من ناحية النفق العتيد. وكان على التلميذ الجديد أن يقطع المسافة من البيت إلى المدرسة سيرًا على الأقدام في نحو الساعة، فيغادر البيت في السادسة صباحًا حتى يصل إلى المدرسة في السابعة ليحظى بفرصة اللعب في فنائها مع أقرانه حتى يدق الجرس مؤذنًا ببداية اليوم الدراسي بطابور الصباح. وكان يقطع في مسيرته الطويلة تلك من البيت إلى المدرسة شارع مستشفى كتشنر من طرفه الشرقي عند السكة الحديد إلى مصبِّه غربًا في شارع شبرا، ثم يتجه جنوبًا في شارع شبرا حتى يصل إلى المدرسة.
كانت شبرا عندئذٍ تعكس واقع مصر كلها، فكان شارع شبرا الرئيسي حيث خطُّ الترام، وكذلك شارع مستشفى كتشنر، وجانب من شارع الترعة البولاقية، مقر إقامة الأجانب في العمارات الواقعة على جانبَي هذه الشوارع، وهم جميعًا من الطبقة المتوسطة الصغيرة ومن العُمال وباعة المحلات الكبرى. كان اليونانيون يمثِّلون الأغلبية بين الأجانب من سُكان شبرا، يليهم الأرمن (تقريبًا)؛ نظرًا لتناقص حجم الجالية الإيطالية أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن بقي لهم وجود ملموس في مهن ميكانيكا السيارات والكهرباء، ونجارة الأثاث. وكان الأرمن يشتغلون بالتجارة والمهن الفنية وبعض الحرف، فكان منهم الترزي والساعاتي والإسكافي وغيرهم من أرباب الحرف.
وكانت محال شبرا تحمل لافتات باللغة الفرنسية، وقليلًا ما كانت تُجمع إليها العربية، ويكتسي شارع شبرا حلةً من الزينات التي تُقيمها المحلات على جانبَي الشارع احتفالًا بعيد الميلاد المجيد، فتضع المحال تماثيل صغيرةً أو كبيرة لبابا نويل، وعبارات «عام سعيد» «عيد ميلاد سعيد» باللغة الفرنسية غالبًا وباليونانية والأرمنية في بعض الأحيان، ولم تكن تُضاف إليها العربية إلا في المحلات القليلة التي كان يملكها مصريون (معظمهم من الأقباط). وكانت المحال ترفع على أبوابها — بهذه المناسبة — أعلامها الوطنية وإلى جانبها (أحيانًا) علم المملكة المصرية الأخضر يتوسَّطه الهلال الأبيض والنجوم الثلاثة البيضاء.
وكان بشارع شبرا خمسة أو ستة محال جزارة مخصَّصة للحم الخنزير، كما كانت هناك نحو الأربع حانات، تَمَثَّل الوجود الوطني إلى جانبها في محل كبير لصناعة «البوظة» وبيعها على شارع شبرا في مواجهة شارع علي بك النجار الذي يقع لديه مدخل المدرسة، وكانت «البوظة» تجتذب حشدًا كبيرًا من الزبائن منذ الصباح، وقد تسمَّر صاحبنا في مكانه عندما رأى ذات يوم «عربجي» حنطور يجلس على حافة رصيف الشارع، وبين يدَيه «قرعة» (وعاء) البوظة يشرب منه ويسقي الحصان معه من الوعاء نفسه.
أمَّا الوجود المصري بين سُكان شارع شبرا وشارع مستشفى كتشنر، والمدخل الجنوبي لشارع الترعة البولاقية، فكان يقع في ظهير الشوارع الرئيسية، وكان التباين كبيرًا بين الطرز المعمارية على الشوارع الرئيسية وتلك التي تقع في ظهيرها. كما كانت الخدمات المتاحة لسكان «الشوارع الخلفية» محدودة، وخاصةً إضاءة الشوارع ليلًا بمصابيح الغاز، فتجد الجزء الملاصق للشوارع الرئيسية مُنارًا لمساحة لا تزيد عن خمسين مترًا، ثم يسود الظلام بقية الشارع. وكان شارع شبرا يتمتَّع بأكبر نصيب من النظافة، فيُكنس وتغسله تمامًا «عربات الرش»، بينما الشوارع الخلفية تبدو وكأنها في قارة أخرى. وكنت ترى فقراء الأجانب يطوفون شوارع شبرا وغيرها من أماكن سُكنى الأجانب يلعبون «البيانولا» ويؤدُّون بعض الألعاب الهزلية، ويمر المهرِّج بالبيوت يلتقط في الدف الذي يحمله بين يدَيه قطع العملة الفضية التي يقذفها «الخواجات» من الشرفات إليه. أمَّا ألعاب الحواة وعروض الأراجوز في الشوارع الجانبية فكانت وقفًا على المصريين.
كان صاحبنا يتأمَّل هذا العالم الغريب في رحلة الإياب من المدرسة؛ لأن معظم المحلات لا تفتح أبوابها قبل الثامنة أو التاسعة صباحًا فيما عدا مخبزَين «أفرنجي»، كان يشتري من أحدهما «سميطة» بمصروفه اليومي وينتحي جانبا ليأكلها قبل أن يستأنف الرحلة إلى المدرسة. أمَّا عند الانصراف عصرًا فكان يتسكَّع أمام المحلات يتفرَّج على معروضاتها وعلى هذا الخليط الغريب من البشر، ويتفرَّج على لاعب «البيانولا» وغير ذلك من مظاهر الحياة التي لا تمت بصلة إلى عالمه المحدود. وكان يدخر (أحيانًا) مصروفه اليومي (نصف القرش) فلا يفطر يومًا ليشتري به «الآيس كريم» من محل أحد «خواجات» شارع شبرا ليستمتع بمذاق هذه البدعة التي تختلف تمامًا عن «الجرنيدة» التي كان يسرح بها بائع متجوِّل يمر بعزبة هرميس. وشتان بين ما كان يدفع فيه مليمًا واحدًا، وما يدفع فيه خمسة مليمات بالتمام والكمال من حيث الكم والنوع والمذاق.
بدعة أخرى لفتت نظره هي دُور السينما، فلم يكن حتى دخوله المدرسة (عام ١٩٤٧م) قد شاهد فيلمًا سينمائيًّا، وهكذا كان يُطيل الوقوف في مدخل سينما «دوللي» يتفحَّص الصور المعروضة في المدخل للقطات من الفيلم المعروض، وغَيَّر طريق العودة خصوصًا ليمر بشارع الترعة البولاقية، ويشاهد دُور سينما «روي» (وكانت تعرض الأفلام الأجنبية)، و«فريال» ثم «شبرا بالاس»، فيتفحَّص مجموعات الصور هنا وهناك. ورأى أن الفرجة من الخارج لا تُجدي نفعًا، فقرَّر يومًا أن يستثمر بعض القروش الثلاثة التي تعطيها له أمه في نهاية الأسبوع (سرًّا، بعدما تقتصد هذا من مصروف البيت)، فاختار حفلةً بعد الظهر بأحد أيام الإثنين حيث تنصرف المدرسة في الواحدة والنصف، واشترى تذكرة «ترسو» (درجة ثالثة) بخمسة عشر مليمًا بالتمام والكمال، وتفرَّج على أول فيلم في حياته، لعله كان أحد أفلام فريد الأطرش ومعه (في العرض نفسه) فيلم أمريكي آخر. وشغل ذهنه في طريق العودة للبيت بالبحث عن مبرِّر لهذا التأخير الشديد غير المعتاد ليرويه لجدته، ولكنه لم يحتَج لذلك لأنها كانت في زيارة لبعض أقاربها، وعادت إلى البيت بعده، ولم تهتم بسؤاله عمَّا كان من شأن يومه. فنام ليلتها قرير العين منتشيًا بما حقَّق من أمل، وكأنه «جاب الديب من ديله».
آفاق أخرى أُتيحت له، تمثَّلت في حركة الطلبة وإضرابات المدارس، التي كانت تبدأ من التوفيقية الثانوية ثم تزحف على بقية مدارس الحي، تحاصرها، وتطلب مشاركتها، وكان ناظر مدرسة السيدة حنيفة السلحدار يخشى ما قد يترتَّب على رفض السماح لتلاميذ المدرسة بالخروج للمشاركة في المظاهرة من قذف الطلاب (الكبار) للمدرسة بالطوب من الخارج، فيتحطَّم زجاج النوافذ وتلحق الإصابات ببعض التلاميذ، كما حدث ذات مرة. لذلك كان يسارع بفتح أبواب المدرسة وصرف التلاميذ قُبيل وصول المظاهرة الكبرى إلى المدرسة، مع توصية التلاميذ بالعودة إلى منازلهم. فكان صاحبنا يقضي سحابة اليوم مشاركًا في المظاهرات، فتفتَّح وعيه منذ حرب فلسطين (١٩٤٨م) على هموم الوطن شأنه شأن غيره من أطفال مصر من أبناء ذلك الجيل الذي أنضجته هموم الوطن قبل الأوان.
وأضافت المظاهرات منطقة قلب القاهرة إلى عالمه، فعرف — لأول مرة — الطريق إلى قصر عابدين، وحي الدواوين حيث رئاسة مجلس الوزراء والبرلمان. فقد كان المتظاهرون يوجِّهون الترام وجهةً أخرى في الاتجاه إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن)، ومن هناك تتحرَّك المظاهرات إلى مقصدها حتى يشتِّتها جنود «بلوكات النظام» بعِصيهم الغليظة، فيهرب الطلاب إلى الشوارع الجانبية حتى إذا انفضَّ الجمع، عاد صاحبنا من قلب القاهرة إلى عزبة هرميس سيرًا على الأقدام ليصل إلى هناك بعد الغروب، فتستقبله جدته باللعنات لأنه يسير في طريق الضياع باشتراكه في المظاهرات مع «العيال البطالين» وتتوعَّده بإبلاغ أبيه. وكان حاضرًا ذات مرة وهي تقص على الأب ما حدث من ولده، فاستمع الأب للقصة ثم قال لولده: «أهم حاجة عندي إنك تأخذ الابتدائية، وبعدها كله بأمر الله.» فاعتبر هذا تصريحًا من والده بالموافقة (ضمنًا) على اشتراكه في المظاهرات، وخاصةً أن الأب كان وفديًّا حتى النخاع، ويرى أن النحاس باشا «زعيم الأمة» بلا منازع، ويعتز بمصافحته للزعيم على رصيف محطة بورسعيد عام ١٩٣٦م، وحضوره بعض المناسبات التي خطب فيها.
كانت مدة الدراسة بالمرحلة الابتدائية أربع سنوات، أمَّا المرحلة الثانوية فكانت خمس سنوات. وتنتهي المرحلة الابتدائية بالحصول على شهادة الابتدائية التي تحشر صاحبها في زمرة «الأفندية»، أمَّا الثانوية فلها شهادتان؛ أولاهما بعد الرابعة، هي شهادة الثقافة، وهنا يستطيع من لا يملك أسباب الالتحاق بالجامعة أن يُنهي دراسته، حاملًا مؤهِّلًا متوسطًا يؤهِّله للعمل بوظيفة إدارية، قد تُوصله إلى أعتاب الإدارة العليا إذا حصل على فرصة للترقي عن طريق المحسوبية أو الرشوة، وكانتا وسيلتَين معتمدتَين للترقي في وظائف الدولة. أمَّا من يواصل الدراسة الثانوية حتى نهايتها فيحصل على «التوجيهية»، وكانت تنقسم إلى شعبتَين؛ أدبي وعلمي، عندئذٍ يستطيع التقدُّم بأوراقه إلى الكلية التي يرغب الالتحاق بها بالجامعة.
كان بمدرسة السيدة حنيفة السلحدار الابتدائية ثمانية فصول: فصلان لكل فرقة من الفرق الأربع يضمها جميعًا القصر (الذي تحوَّل إلى مدرسة)، إضافةً إلى مكتب الناظر وحجرة الموسيقى، واحتلَّت حجرة الأشغال مكانًا تحت شرفة الدور الأول للقصر تم تحويله إلى حجرة بقواطع وفواصل خشبية ذات نوافذ زجاجية. أمَّا بدروم القصر فتحوَّل إلى مطعم للتلاميذ. واقتُطع جانب من الفناء أُقيمت فيه حجرة الرسم ومكتب السكرتير، وحجرة «ضابط المدرسة» وهو مدرس التربية الرياضية. واحتلَّ ملعب كرة السلة فناء المدرسة، أمَّا شرفة القصر فوُضعت بها طاولتان لكرة المضرب (البنج بونج). وفي ركن قَصي من الفناء المُطل على شارع زنانيري كانت هناك مزرعة للدواجن حيث الدجاج والبط والإوز والأرانب.
كان عدد تلاميذ الفصل الواحد في الفرقة الأولى ٣٢ تلميذًا، وعندما وصل صاحبنا إلى الفرقة الرابعة كان عدد تلاميذ فصله ٢٤ تلميذًا، وكان عدد تلاميذ المدرسة لا يصل إلى ٢٥٠ تلميذًا. وشملت برامج الدراسة بالإضافة إلى اللغة العربية والحساب والتاريخ والجغرافيا والعلوم للفرقتَين الأولى والثانية يضاف إليها الإنجليزية للفرقتَين الثالثة والرابعة، شملت برامج الدراسة الرسم؛ حيث ينتقل الفصل إلى حجرة الرسم، فيشرح المدرس قواعد الرسم ويمر على التلاميذ ليوجِّههم ويصحِّح أخطاءهم، ويولي اهتمامًا بمن يلمس لديه بعض الاستعداد فينمِّي موهبته، وجرت العادة على إقامة معرض في نهاية العام لرسوم التلاميذ. ويحدث الشيء نفسه في حصة الأشغال فيتعلَّم التلاميذ تشكيل الطين الصلصال، والزخرفة بمواد مختلفة، والأعمال الخشبية، ويهتم المدرس — أيضًا — بذوي المواهب الخاصة من التلاميذ ليزدان بإنتاجهم معرض نهاية العام. أمَّا حصة الألعاب فكانت تربيةً بدنية بحق. وكانت حجرة الموسيقى بها بيانو وآلات وترية وطبول، وكان التلاميذ يُدَرَّبون على النوتة الموسيقية تدريبًا جديًّا، ويختار من بين الطلاب الموهوبين فريق الموسيقى الذي يعزف في طابور الصباح أثناء إلقاء النشيد الوطني، وكذلك في الحفل السنوي في ختام العام الدراسي.
ولم يكن للمدرسة زي موحد، ولكن اشتُرط ارتداء البنطلون القصير (شورت) والجورب الطويل الذي يصل إلى ما تحت الركبة، مع ضرورة لبس الطربوش الذي تسبَّب في تعرُّض صاحبنا للعقاب في الأسبوع الأول من الدراسة، عندما نسيه في الفصل ونزل إلى «الفسحة» عاري الرأس فلمحه الناظر، وأمر الفراش «بعبطه» ثم ضربه على مؤخِّرته عدة ضربات بكرباجه الصغير.
كان الضرب أساسيًّا في عملية التعليم، وكان المدرس يدخل الفصل حاملًا خيزرانة، وانفرد مدرس اللغة العربية بحمل «مقرعة» عبارة عن يد جلدية كيد الكرباج تتفرَّع منها نحو خمسة سيور جلدية صغيرة. ولكن المقامات الاجتماعية كانت تُراعى عند توقيع العقاب؛ فالمدرس يحرص في بداية العام على سؤال كل تلميذ عن «وظيفة» والده، فإذا كان موظفًا اهتمَّ بالسؤال عن درجته، فإذا كان ولي أمر التلميذ موظفًا «محترمًا» حظي بعقاب متوسط، وإذا كان الوالد برتبة «بك» اكتفى المدرس بقرص أذنه، أمَّا غالبية التلاميذ من أبناء العُمال والحرفيين فكانوا يُضرَبون ضرب الإبل. وكان صاحبنا من تلك الفئة التي يُشبِع المعلِّمون فيهم ميولهم السادية. ويبلغ عقاب التلميذ ذروته عندما يُستَدعى ولي أمره ليتولَّى عقابه بنفسه أمام جميع طلاب المدرسة في طابور الصباح، فيُعلن ناظر المدرسة ما ارتكبه التلميذ من جرم، ثم يتولَّى ولي الأمر مراسم العقاب بقسوة بالغة، بل قال أحدهم لناظر المدرسة: «أرجِعه لي مكسورًا في قفة وأنا مسئول عن تجبيره، وأُعيده لك مرةً أخرى لتكسر عظامه مرةً أخرى»!
كانت المدرسة أشبه ما تكون بثكنة عسكرية تقوم على النظام والانضباط التام. وكان المدرس مهابًا، يحظى بقدر كبير من الاحترام، فلم تكن هناك دروس خصوصية خارج المدرسة، وكان التلميذ الذي يدبِّر له أهله دروسًا خصوصية خارج المدرسة على يد أحد مدرِّسي المدارس الخاصة، يُخفي ذلك عن زملائه، ولا يبوح به إلا لصديق حميم؛ لأن التلاميذ كانوا «يعايرون» من يتلقَّى دروسًا خصوصية، ويعتبرونه نموذجًا للغباء.
وهكذا تمتَّع صاحبنا في مدرسة السيدة حنيفة السلحدار بتربية لم تكن لتُتاح له في غيرها، وكان يحصل دائمًا على درجات متوسطة؛ لأنه كان يعتمد تمامًا على المدرسين، وكان يفضِّل أداء واجباته المنزلية في طريق العودة إلى المنزل في ركن من حديقة مدرسة شبرا الابتدائية المتسعة الجميلة. فلم يكن هناك ما يحفِّزه على بذل جهد أكبر؛ لأن والده كرَّر عدة مرات أمامه أنه لن يستطع تحمُّل مصروفات المدرسة الثانوية حتى بعد أن قرَّرت وزارة الوفد مجانية التعليم، وكان التلاميذ يدفعون فقط رسومًا رمزية بلغت في التعليم الثانوي نحو الثلاثة جنيهات، وهو يتجاوز القدرات المالية لوالده.
وأثناء وجوده بالفرقة الرابعة، اقتُطع جانب من فناء المدرسة أُقيمت عليه بناية ضمَّت تسعة فصول وُزِّعت على ثلاثة طوابق لتُصبح المدرسة ابتدائيةً ثانوية؛ ولذلك عندما حصل على الابتدائية عام ١٩٥١م، نُقل مباشرةً إلى الفرقة الأولى بالقسم الثانوي، وعندما وصل إلى الفرقة الثانية (العام الدراسي ١٩٥٢ / ١٩٥٣) كان العهد قد تغيَّر، وتولَّى إسماعيل القباني وزارة المعارف في أول وزارة في عهد الثورة، وتقرَّر «إصلاح» نظام التعليم — على الطريقة الأمريكية — ليتكوَّن من ثلاث مراحل؛ الابتدائي (الأساسي) ومدته ست سنوات، والإعدادي ومدته ثلاث سنوات، والثانوي ومدته ثلاث سنوات. وتحوَّل تلاميذ الفرقة الثانية الثانوية بالنظام القديم إلى طلاب الشهادة الإعدادية، وتحوَّلت مدرسة السيدة حنيفة السلحدار إلى مدرسة إعدادية. ولم تلتزم حكومة الثورة بشروط الوقفية، فقبلت المدرسة تلاميذ من الأقباط لأول مرة عام ١٩٥٢ / ١٩٥٣م، كما عُين للتدريس بالمدرسة مدرِّسان قبطيان أحدهما للرياضة والآخر للغة الإنجليزية، واختفى محمد بك الكاشف ناظر المدرسة الذي اتسم بالصرامة والشدة، وجاء ناظر آخر بدلًا منه.
وبعد الحصول على الإعدادية عام ١٩٥٣م، نُقل صاحبنا وجميع زملائه بالسيدة حنيفة السلحدار إلى مدرسة شبرا الثانوية المقامة بقصر الأمير عمر طوسون بآخر الشارع المسمَّى باسمه والمتفرِّع من شارع شبرا، ليجد نفسه في بيئة تعليمية جديدة تمامًا، تختلف عن بيئة السيدة حنيفة السلحدار.
كانت مدرسة السيدة حنيفة السلحدار صغيرة الحجم، وكانت فصولها محدودةً وكذلك عدد تلاميذها، والتعليم فيها نموذجيًّا، والنشاط الرياضي والفني والثقافي يشارك فيه جميع التلاميذ، حتى الرحلات العلمية إلى المتاحف والآثار كانت جزءًا من الدراسة تغطِّي تكاليفها الوقفية الخاصة بالمدرسة.
كذلك كانت تلك المدرسة — عند صاحبنا — نافذةً أطلَّ منها على عالم أوسع، فقرأ في مكتبتها كتبًا مختلفة مثل أعمال جرجي زيدان وخاصةً رواياته في تاريخ الإسلام، كما قرأ لسلامة موسى، وطه حسين، وبعض أعمال عبد الرحمن الرافعي في تاريخ الحركة الوطنية، وشارك في المظاهرات التي شهدتها القاهرة في أواخر الأربعينيات وبلغت ذروتها في فترة الكفاح المسلَّح في قناة السويس، وخاصةً المظاهرة الكبرى التي شهدها ميدان عابدين في ٢٥ يناير ١٩٥٢م، وهتف فيها المشاركون بسقوط الملك فاروق، وهي التي تكرَّرت في اليوم التالي في غضون حادث حريق القاهرة. وشارك في المظاهرة الكبرى التي شهدها الميدان نفسه بعد عودة محمد نجيب إلى السلطة أثناء أزمة الصراع على السلطة في مارس ١٩٥٤م، والتي شاركت فيها كل القوى المؤيدة للديمقراطية.
كانت شبرا الثانوية مدرسةً كبيرة بها ما يزيد على العشرين فصلًا، وعندما نُقل إليها الناجحون في الإعدادية من السيدة حنيفة كان عددهم ٣٢ تلميذًا، بُعثروا على ثلاثة فصول من فصول الفرقة الأولى ثانوي، وكان موقع صاحبنا بالفصل الخامس مع أربعة فقط من زملائه السابقين. وكانت نوعية تلاميذ شبرا الثانوية (عام ١٩٥٣ / ١٩٥٤م) مختلفةً تمامًا من حيث الأصول الاجتماعية، جاءت غالبيتهم من الشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة الوسطى؛ أبناء تجار، وأطباء ومحامين ومحاسبين وموظفين من مختلِف درجات الإدارة العليا والوسطى بالحكومة، وكان أبناء الكادحين الفقراء يمثِّلون أقليةً ضئيلة الحجم في تلك المدرسة عندئذ، ممَّا جعل صاحبنا يشعر بالغربة هناك.
نوعية المدرسين أيضًا كانت مختلفة، فبعد أن كان المدرس يعرف أسماء تلاميذه في السيدة حنيفة بعد أسبوع واحد من بداية العام الدراسي نظرًا لصغر حجم الفصول. كانت فصول الفرقة الأولى السبعة بشبرا الثانوية لا يقل عدد الطلاب في كل منها عن ٤٨ طالبًا، ولم يكن هناك اهتمام من جانب المدرس بمتابعة أداء كل تلميذ، على نحو ما كانت عليه الحال في السيدة حنيفة. وكان أصعب ما واجهه صاحبنا دروس الرياضة واللغة الفرنسية. كان أمين قسطندي مدرس الرياضة يبدأ الدرس بشرح بعض النماذج للمسائل، ثم يكتب على السبورة رءوس المسائل الخاصة بواجب الحصة التالية، حتى إذا جاءت الحصة التالية بدأها بكتابة حل مسائل الواجب على السبورة، ويطلب من التلاميذ أن يصحِّحوا كُراساتهم بالرجوع إلى السبورة، ثم يجمع الكراسات ويضع على كل مسالة علامة صح، ثم يضع توقيعه الكريم. ولم يكن يقبل أن يسأله التلاميذ، وعندما تجرَّأ صاحبنا وقال له إنه لم يفهم شيئًا ممَّا شرحه، سخر منه أمام زملائه قائلًا: «يكفي أن يكون بالفصل أربعة حوائط … لا حاجة لنا إلى حيطة خامسة.» وطرده من الفصل، فلم يعد إليه طوال العام، وكان يترك درس الرياضيات، ويتسلَّى بالفرجة على تدريبات التنس والجمباز؛ فقد كان الانضباط منعدمًا في تلك المدرسة الكبيرة، لا يُسأل الطلاب فيها عما يفعلون.
أمَّا مدرس الفرنسية فكان المسيو ميشيل الفرنسي الجنسية، ضعيف الشخصية لا يستطيع السيطرة على الفصل، يرجمه بعض أشقياء التلاميذ بنبال الورق على قفاه كلما استدار للكتابة، فينفجر بالشتائم بالفرنسية، وقد يغادر الفصل احتجاجًا. وكان معظم تلاميذ الفصل يلجئون للدروس الخصوصية في مادتَي الرياضيات واللغة الفرنسية أو يعتمد الفقراء منهم على بعض أقربائهم لمساعدتهم على فهم المادتَين أو إحداهما، وهو ما لم يتوافر لصاحبنا؛ فقد سدَّد أبوه بالكاد (٢٨٠ قرشا) قيمة رسوم الدراسة، وكان يعطيه ربع جنيه شهريًّا كمصروف شخصي، ويدفع لجدته مصروفًا قدره أربعة جنيهات شهريًّا كانت تعادل ثلث راتبه — عندئذ — فلم يكن بوسعه تحمُّل نفقات الدروس الخصوصية، وهو الذي تورَّط في إدخاله التعليم الثانوي لأن مدرسة السيدة حنيفة نقلت من حصلوا على الإعدادية منها إلى شبرا الثانوية، وكان يفضِّل إلحاقه بمدرسة متوسِّطة فنية أو بمعهد المعلمين (كانت مدة الدراسة به خمس سنوات بعد الإعدادية)؛ لذلك كله لم يستطع صاحبنا أن يجد حلًّا لمشكلته إلا بالاستعانة المحدودة ببعض زملائه. وكان من الطبيعي أن يرسب في المادتَين في نهاية العام، وتطوَّع بعض المتعاطفين معه من معارف والده لمساعدته على اجتياز امتحان الملحق دون جدوى؛ فقد رسب في الملحق، وأصبح باقيًا للإعادة. وكان هذا الرسوب نقطة تحوُّل في حياته؛ فقد نقله الأب إلى مدرسة طوخ الإعدادية-الثانوية لينعم للمرة الأولى بجو الحياة الأسرية بين إخوته ووالدَيه.
كانت مدرسة طوخ بالقرب من محطة السكة الحديد، تقع مقابل مساكن عُمال المحطة، فلا يفصلها عن تلك المساكن سوى شريط القطار. وكانت بها ثلاثة فصول للفرقة الأولى الثانوي لم يزد عدد التلاميذ في كل منها عن ٣٦ تلميذًا، وكانت إدارة المدرسة حازمةً تحرص على الانضباط، أمَّا المدرِّسون فكانوا على مستوًى عالٍ من الكفاءة. ولمَّا كان صاحبنا «باقيًا للإعادة»، فقد كان لامعًا بين تلاميذ فصله في معظم المواد، حتى الرياضة تعلَّمها جيدًا على يد مدرِّس كان بارعًا في شرحه للدرس، لا يترك نقطةً دون أن يتأكَّد من فهم الجميع لها، ويجمع كراسات الواجب ليصحِّحها بنفسه، ويحدِّد لكل تلميذ موطن الخطأ عنده، ويكلِّفه بواجب إضافي ليتأكَّد من استيعابه التام للدرس، تمامًا كما كان يحدث في مدرسة السيدة حنيفة السلحدار، فاستطاع الأستاذ محمد حسن أن يُصلح ما أفسده أمين قسطندي. أمَّا الأستاذ ملاك عبد المسيح معلم الفرنسية فكان — أيضًا — على درجة عالية من المقدرة على جذب التلاميذ إلى تلك اللغة الجديدة عليهم، لا يمل تكرار تصويب نطق الكلمات وشرح قواعد اللغة، وأَولى صاحبنا عنايةً خاصة عندما ذكر له تجرِبته السابقة مع المدرس الفرنسي، فاستطاع أن يحوِّله إلى محب للغة الفرنسية، فحصل على درجة عالية فيها في امتحان آخر العام.
وعندما نُقل إلى الفرقة الثانية كان عليه اختيار شعبة التخصُّص، فاختار القسم الأدبي؛ لأنه كان ميَّالًا إلى الدراسات الأدبية وإلى علم التاريخ على وجه الخصوص، واستكمل قراءة جميع ما كتبه عبد الرحمن الرافعي في تاريخ الحركة الوطنية في مكتبة مدرسة طوخ، كما قرأ بعض مؤلفات سليم حسن في تاريخ مصر القديم. وكان مستواه في اللغة الإنجليزية فوق المتوسط بفضل الأستاذ محمد شمس الدين أول من علَّمه الإنجليزية بمدرسة السيدة حنيفة السلحدار، فكان نظيرًا لمعلِّمه ملاك عبد المسيح في طريقة التدريس والاهتمام بسلامة النطق وتدريب التلاميذ على القراءة والكتابة وقواعد اللغة. وهكذا اختار صاحبنا القسم الأدبي تخصُّص تاريخ، فكان يدرس طلاب كل تخصُّص مادةً إضافية فيه لعلها كانت في الفرقة الثانية مادة تاريخ الشرق الأدنى القديم، وكان اختياره للتخصُّص في التاريخ تعبيرًا عن عشق لهذا العلم وتأثُّره البالغ بما كان يقرأ في الصحف — عندئذ — عن اكتشاف عالم الآثار أحمد فخري هرم سنفرو، وتمنَّى أن يصبح يومًا واحدًا من علماء الآثار؛ ولذلك اهتمَّ بقراءة أعمال سليم حسن وبعض الأعمال المترجَمة التي وجدها بمكتبة المدرسة.
كان تلاميذ مدرسة طوخ الإعدادية-الثانوية أقرب إلى تلاميذ السيدة حنيفة السلحدار من حيث الأصول الاجتماعية؛ فأغلبيتهم جاءت من أبناء الفلَّاحين وصغار الملاك والحرفيين والعُمال، وكان بينهم أقلية ضئيلة من أبناء التجار الكبار وأبناء الموظفين. وجاء معظم التلاميذ من قُرى مركز طوخ، يأتون إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، ويحرصون على الدرس والتحصيل. وكان النشاط الرياضي والفني والثقافي بالمدرسة متواضعًا؛ فمعظم المدرِّسين يُقيمون بالقاهرة ويحضرون إلى المدرسة بالقطار يوميًّا، واليوم الدراسي الكامل ينتهي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، فيعود المدرِّسون إلى القاهرة، وتتجه مجموعات التلاميذ كل إلى قريته، فلا تجد بها أحدًا بعد الثالثة مساءً. ولكن صاحبنا كان حريصًا على المشاركة في النشاط الثقافي، فيُلقي من حين لآخر كلمةً قصيرة بالإذاعة المدرسية عن الفراعنة مينا، ورمسيس الثاني، وإخناتون، وعن أحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد، إضافةً إلى «حكمة اليوم». وشجَّعه مدرس اللغة العربية محمد البجيرمي على إصدار مجلة حائط أسماها «الضياء»، صدرت منها نحو الخمسة أعداد، كان يحرِّر معظم مادتها، ويجتهد في إخراجها ورسمها.
لقد أكسبه ما حقَّقه من نجاح بمدرسة طوخ الثقة بالنفس، وخلَّصه من عُقده النفسية القديمة، فأصبح أكثر ميلًا للاندماج مع زملائه، ومناقشة المدرِّسين الذين كانوا لا يصدونه أو يسفِّهون أفكاره، بل يوجِّهونه ويشجِّعونه. وما كاد ينجح في الفرقة الثانية، وينتقل إلى الفرقة الثالثة حتى نُقل والده إلى قرية طنوب مركز الشهداء منوفية، وانتقلت الأسرة إلى طنوب، والتحق صاحبنا بمدرسة الشهداء الإعدادية الثانوية.
كانت مدرسة الشهداء أدنى مستوًى من مدرسة طوخ من حيث مستوى التدريس ونظام الدراسة. وجاء العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م في مطلع العام الدراسي، فشُغل صاحبنا بهذه القضية وتطوَّع في الحرس الوطني، وأتمَّ التدريب السريع على استخدام البندقية الآلية والمدفع الرشاش واستخدام القنابل اليدوية. وبعد انتهاء التدريب قابل قائد المعسكر طالبًا منه إرساله إلى بورسعيد للاشتراك في الدفاع عنها ضد العدوان، فقال له القائد (وكان من ضباط الاحتياط): «يا بني انت واخد الحكاية جد؟ دا الحكومة عايزة تلهي الشباب بالتدريب.» فمادت الأرض تحت قدمَيه، وانفجر في الضابط يتهمه بالخيانة والعمالة للاستعمار، وأكَّد له أنه سيرسل برقيةً إلى عبد الناصر بما دار معه من حديث. انزعج الرجل ومعه ضابط صغير برتبة ملازم وباشجاويش المعسكر، فالتَفُّوا حول المتطوِّع الغاضب يتحدَّثون معه بأسلوب لين، فذكر الضابطان أنهما مدرِّسان في الأصل، وأنهما يعاملانه كأحد أبنائهما، والحكومة لا شكَّ تقدِّر للشباب حماسه وحرصه الدفاع عن الوطن، ولكن ما تلقَّاه الشباب من تدريب لا يكفي لإرسالهم إلى قتال عدو مدجَّج بالسلاح، وأنه عندما ذكر القائد ما ذكر إنما أراد أن يعبِّر عن عدم وجود تعليمات لديه بإرسال المتطوِّعين إلى بورسعيد. ولم يكتفِ الرجل بذلك، بل علم من المدرسة مكان عمل والده، واتصل به تليفونيًّا طالبًا تدخُّله لمنع ابنه من التهوُّر وتقديم شكوى ضده للرئيس.
وإذا كان صاحبنا قد عدل عن شكوى قائد المعسكر، فقد أحسَّ في أعماق نفسه بالهزيمة، ذلك الإحساس الذي لازمه كلما رأى جنود الاحتلال البريطاني يتدرَّبون في ساحة الجولف أمام مساكن عُمال محطة بورسعيد (حيث ولد) ويجوسون خلال المدينة، عندما كان يزور أخواله في إجازة الصيف بصحبة أسرته، ومضت فترة الأزمة وهو مهموم بالبحث عن سبيل للتسلُّل إلى بورسعيد، والبحث عن الفدائيين الذين علم بنشاطهم من الصحف، وحسدهم على نيلهم شرف الدفاع عن الوطن. وعندما استؤنفت الدراسة، كانت متابعة الأحداث السياسية تطغى عليه معظم الوقت، وتمنَّى لو أنه كان بالقاهرة لوجد السبيل لأداء الواجب نحو وطنه.
وبعد أن استقرَّت الأمور واقترب موعد الامتحان جلس إلى والده للتعرُّف على رأيه في الخطوة التالية بعد حصوله على الثانوية العامة، فقال له والده إن ما حصَّله من تعليم حتى هذه الفترة كافٍ تمامًا لتحديد مستقبله؛ فهو يستطيع الحصول على وظيفة بالكادر المتوسط بالدرجة الثامنة الكتابية، وهي درجة لا يحلم أبوه بالوصول إليها، وذكَّره أن عبء إعالة الأسرة التي أصبحت مكوَّنةً من الوالدَين وثمانية أبناء (هو أكبرهم) قد ناء به كاهله، وأنه آن الأوان لكي يؤدِّي صاحبنا دوره في مساعدة والده على تربية إخوته حتى يبلغوا ما بلغ، وعندما قال له صاحبنا إنه يعلم أن نزوله إلى ميدان العمل مسألة ضرورية للأسرة، ولكنه يتمنَّى أن ينتسب إلى الجامعة إلى جانب العمل حتى يحقِّق أمله في أن يصبح عالم آثار؛ اعترض الأب على ذلك بأسلوب منطقي (وإن كان صاحبنا لم يرتَح له عندئذ)، وذكَّره بأن الجامعة قد تستنزف جانبًا كبيرًا من راتبه لتغطية مصاريف الدراسة والكتب، ممَّا يجعله غير قادر على تقديم مساهمة ذات قيمة في إعالة الأسرة. وحذَّر الأب ابنه من الإفراط في التطلُّع إلى ما «ليس من ثوبه»، وأن «القناعة كنز لا يفنى»، و«للضرورة أحكام».
لم يُصدَم صاحبنا لهذا الموقف من جانب الوالد؛ فهو يقدِّر تحمُّل الرجل له كل تلك السنوات، ويعلم أن مرتَّبه الضئيل لا يكفي لتوفير مستلزمات الحياة الضرورية لأسرة كبيرة العدد، ويعلم أن من واجبه أن يرد الجميل لأبيه، ويساعد إخوته على تحقيق ما عجز هو عن تحقيقه، وليترك مسألة الانتساب إلى الجامعة لِمَا تأتي به الأيام. غير أن همته فترت في السعي للحصول على مجموع مناسب للالتحاق بكلية الآداب شأنه شأن زملائه، فماذا يُجدي المجموع إذا كانت الطريق إلى الجامعة لا تتقاطع مع طريقه في الحياة التي رسمها له وضعه الاجتماعي؟! فلم يهتمَّ كثيرًا سوى بالنجاح والحصول على «الشهادة». وهكذا حصل على الثانوية العامة القسم الأدبي بمجموع بلغت نسبته ٦١٫٥٪، وكان أول الخريجين قد حصل على ٧٦٪، فلم تكن المجاميع الفلكية التي صاحبت تدني مستوى التعليم معروفةً في ذلك الحين، وكان طبيعيًّا أن تحمل الجريدة المسائية التي دأبت على نشر نتيجة الشهادات أسماء عديد من المدارس وتحتها عبارة «لم ينجح أحد». وكان ترتيب صاحبنا بهذا المجموع الصغير رقم ٩٩٦ من مجموع الناجحين بالقسم الأدبي الذين تجاوزوا المائة والعشرين ألفًا.