صفر الجامعة وشهادة أستاذ التاريخ١
خيرًا فعل وزير التعليم العالي باعترافه بتردِّي الأوضاع في جامعاتنا، وكانت قد تعرَّضت لموقف يُشبه واقعة «صفر المونديال الشهير» عندما طلبت الصين الشعبية من نحو ألف عالم وأستاذ ينتمون إلى ٨٨ دولةً أن يختاروا أفضل جامعات العالم وفقًا لمعايير علمية مُحدَّدة. وجاءت اختياراتهم تضم ٥٠٠ جامعة ليس من بينها أي من الجامعات المصرية، وهو ما يعني تراجع هذه الجامعات عن مكانتها التي كانت تشغلها عند الأوساط العلمية الدولية من قبل.
وتعليقًا على هذه النتائج أقرَّ د. عمرو عزت بموضوعية معايير الاختيار وعدم انطباقها حاليًّا على أيٍّ من جامعاتنا.
يُشكِّل اعتراف الوزير موقفًا عقلانيًّا مختلفًا عن ردود الأفعال الانفعالية لغيره من المسئولين عن مجالات أخرى في حالات مُماثلة؛ إذ غالبًا ما يرفضون الاعتراف بواقع تخلُّفنا في هذه المجالات، ويميلون إلى إنكار الحقائق والتغنِّي بالريادة التاريخية، أو يتهمون الآخرين بالانحياز والتآمر ضدنا، وهي لغة لا تخدع أحدًا غيرنا.
والواقع أنَّ جامعاتنا لا تحتاج لشهادة من خارجها بتخلُّفها العلمي؛ فقد سبق أن انتقد عدد من أساتذتها أوضاعها ونبَّهوا إلى خطورة استمرار الأوضاع وأثرها على كفاءة الخريجين وقيمة وجدوى أبحاثها العلمية. وهنا يجدر الإشارة إلى شهادات منشورة لعدد منهم: حامد عمار أستاذ التربية، ومحمد أبو الغار أستاذ الطب، وعبد العظيم أنيس أستاذ الرياضيات، ورشدي سعيد أستاذ الجيولوجيا، وغيرهم. وأحدث تلك الشهادات قدَّمها أستاذ التاريخ رءوف عبَّاس وضمَّنها سيرته الذاتية المنشورة في كتاب «مشيناها خطًى» الصادر عن كتاب الهلال هذا الشهر.
وتُجْمع تلك الشهادات على أنَّ السبب الجوهري في تردِّي أوضاع الجامعة، هو نظرة النظام لها وطريقة تعامله معها؛ فبدلًا من النظر إليها كمؤسسة علمية وطنية تعمل وفقًا للمنهج العلمي القائم على الحيدة والموضوعية، فإنَّ النظرة الرسمية للجامعة تتصوَّرها مؤسسةً جماهيرية يجب أن تكون بطُلَّابِها وأساتذتها تحت السيطرة. ومن هنا تُبالغ كثيرًا في هواجسها الأمنية تجاهها وتسعى لإخضاع كل نشاط فيها لتوفير استقرار الحال القائم وأمنه.
والعلم في جوهره سعي دائم للخروج من إسار الواقع لتطويره، بينما الأمن لا يشغله إلا بقاء الحال على ما هو عليه. وبينما ينتعش العلم بتعدُّد الأفكار والاجتهادات مهما كانت درجة شططها، فإنَّ الأمن يرفض كل تغيير ويُصادر كل اجتهاد جديد.
لكن بعض من صدمهم «صفر الجامعة» كما صدمهم من قبل «صفر المونديال»، تجاهلوا تلك الشهادات الوطنية، وتوقَّفوا فقط عند تواضع أجور الأساتذة، وكأنَّها السبب الوحيد لتدهور المستوى العلمي للجامعة. وتلك رؤية قاصرة وتعجيزية؛ فهي من جانب تختزل القضية في عنصر ثانوي التأثير؛ فصحيح أنَّ هذه المرتبات أقل مِن دخل بعض مِمَّن لم يلتحقوا أصلًا بأي دراسة جامعية، أو غيرها، لكن الصحيح أيضًا أنَّ هذه الأجور لم تكن يومًا أفضل مِمَّا هي عليه الآن؛ فلماذا إذن وقع التراجع؟ كما أنَّ هذا الخلل في توزيع الأجور مرتبط بجوانب الاختلال الاقتصادي الاجتماعي القائم، فهل لا سبيل لحلِّه وإنقاذ الجامعة قبل إصلاح جميع أوضاع المجتمع؟
فضلًا عن أنَّ تواضع الأجور لم يكن هو الدافع الوحيد لهجرة عدد كبير من الأساتذة.
في شهادته يُشير رءوف عبَّاس من واقع خبرته العلمية كأستاذ للتاريخ بجامعة القاهرة إلى مُناخ التسلُّط الاستبدادي على جميع العلاقات الداخلية في الجامعات، والغياب التام لفكر وثقافة الديمقراطية عنها باعتباره السبب الرئيسي في فساد المُناخ الأكاديمي ونزيف الكفاءات، بإعلائه من قيمة الولاء الشخصي قبل وفوق كل اعتبار علمي أو موضوعي، ويُضيف: «لم يكن أسلوب اختيار القيادات الجامعية وحده أبرز مظاهر الفساد الجامعي الذي بدأ مع عهد السادات وترعرع بعده، واستشرى واستوحش، فقد ابتُدِعَت في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين آليات للفساد، هي؛ دعم الكتاب الدراسي والصناديق الخاصة، ولجان الممتحنين … وكانت ثالثة الأثافي التي أشاعها نظام السادات وتركها تتغوَّل من بعده وتستشري، فكان تسخير أساتذة الجامعات لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه لزوجات كبار المسئولين وأبنائهم ليُحرزوا المجد من أطرافه.»
وقد التزم رءوف عبَّاس كمؤرخ أمين بذكر وقائع ما جرى له أو عاصره، لكن هناك وقائع أخرى لم يذكرها لأنَّه لم يُعاصرها، وهي تؤكِّد أنَّ بذور الفساد الأكاديمي لم تقتحم الجامعة فقط في عصر السادات، وإنَّما قبله منذ بدأ إخضاع الجامعة لاعتبارات «الأمن» ومعاييره، وفقدت الجامعة استقلالها الذي دافع عنه لطفي السيد وطه حسين.
وعذر رءوف عبَّاس في عنوان كتابه «سيرة ذاتية»، وقد كتبها بوعي المؤرخ لوظيفة علم التاريخ، وهي أن يُساعد الإنسان على رؤية واقعه والنظر إلى مستقبله؛ لذلك لم يشغله الجانب الذاتي والشخصي كثيرًا بقدر ما شغله أن تكون سيرته شهادة عصر تعكس تجربته كأستاذ جامعي. لعلها تنفعنا ونحن ننظر إلى ما آلت إليه أحوالنا.