تاريخ أستاذ التاريخ!١
لكل شيء تاريخ، ولأستاذ التاريخ أيضًا تاريخ! إنَّه مثل أي شخص في الدنيا، بل ومثل كل شيء في الدنيا، له بالضرورة تاريخ … قد يكون تاريخًا عاديًّا أو مُملًّا من وجهة نظر البعض، ولكنَّه مُمتع ومثير من وجهة نظر آخرين، وقد يراه البعض مستفزًّا وباعثًا على الغيظ والغضب، لكن غيرهم قد يراه تاريخًا مشرِّفًا حافزًا للهمة وجديرًا بالاحتذاء … وبالنسبة لي شخصيًّا فقد كانت ساعات ممتعةً حقًّا تلك التي طالعت فيها السيرة الذاتية لواحد من أبرز الأساتذة المُتخصصين في تاريخ مصر الحديث، وأعني به الأستاذ الدكتور رءوف عبَّاس الذي سرد سيرته الذاتية في كتاب ظهر مؤخَّرًا عن دار الهلال بعنوان «مشيناها خطًى»، والذي أعُدُّه واحدًا من أروع كُتب السيرة الذاتية في تاريخ الكتابة العربية (رغم تلك الأخطاء النحوية التي ما كنت أتمنَّى أن ينطوي عليها الكتاب بهذا القدر من الجمال والعمق والنصاعة).
وفي تقديري، فإنَّ من أهم المزايا التي يتسم بها الكتاب أنَّ الدكتور رءوف عبَّاس لا يتنكَّر لأصوله الطبقية ولا ينحاز لأعدائها في الداخل والخارج بعد أن صعد وضعه الاجتماعي (مثلما يفعل البعض سعيًا إلى ما يتصوَّرونه مزيدًا من الصعود)، بل إنَّه يُعبِّر من خلال سيرته الذاتية عن هموم الطبقة التي شبَّ فيها وأوجاعهم، أو التي هي في النهاية هموم الأغلبية الغالبة من أبناء الشعب المصري وأوجاعهم. وهكذا فإنَّ الدكتور رءوف عبَّاس لا يروي لنا السيرة الشخصية فحسب (رغم أنَّ كتابه على المستوى الشخصي مُفعم بالدراما الإنسانية الكفيلة وحدها بجذب القارئ إلى سطوره)، ولكنَّه يروي لنا في الوقت ذاته قصة تطوُّر اجتماعي طرأ على وطن بأكمله، وقصة تحوُّل سياسي شمل أمةً بأسرها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومنذ السطور الأولى من الكتاب نعرف أنَّ والده كان عاملًا بالسكة الحديد يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعُمَّال، وأنَّ أقصى وظيفة شغلها هي وظيفة مُلاحظ بلوك، وأنَّه بمرتَّبه الضئيل كان مُطالَبًا بأن يعول سبعة أبناء بالإضافة إلى زوجته ووالدته (أي والدة رءوف وجدته)، وكان هذا كفيلًا بأن يسد أمام رءوف أبواب التعليم، لولا ثورة يوليو التي راحت تتوسَّع في منح المجانية إلى أن وصلت بها إلى الجامعة لغير المقتدرين أولًا (وقد كان رءوف عبَّاس واحدًا منهم)، ثمَّ لجميع طُلَّابها في مرحلة لاحقة.
وهكذا قُدِّر لرءوف عبَّاس أن يلتحق بالجامعة، وأن يُصبح فيما بعدُ واحدًا من أعضاء هيئة التدريس فيها، وأن يُحقِّق ذلك الحلم الذي كان يبدو له من بعيد حلمًا ورديًّا بعيد المنال، وهو أن يلتحق بتلك القلعة التي تبدو من بعيد وكأنَّها مُحصَّنة مِمَّا ينخر في المجتمع الخارجي من أمراض وعِلل، حتَّى إذا ما انضمَّ إليها تبيَّن له أنَّها خلية من خلايا جسد كبير ينعكس عليها، ما أصاب الجسد بأكمله من ضعف وفساد، وهل أدل على ذلك من أن تقبل الجامعة بين طُلَّابها الجامعيين تلميذةً حاصلةً على شهادة مُعادلة للإعدادية فحسب؟! ثمَّ تلتحق تلك التلميذة بقسم اللغة العربية وتتخرَّج بتقدير ممتاز! وتُعيَّن معيدةً بالقسم! ثمَّ تُعدُّ رسالةً للحصول على شهادة الماجستير فتُذاع المناقشة على الهواء! كل ذلك «وهو قليل من كثير» لأنَّ التلميذة سالفة الذكر واسمها جيهان صفوت رءوف، كانت زوجةً لرئيس الجمهورية!