مشيناها خطًى كُتبت علينا١
تركت القاهرة إلى باريس، وكان في صحبتي — كما هي العادة — كتاب من كُتب المذكرات بعنوان «مشيناها خطًى» للدكتور رءوف عبَّاس، أستاذ التاريخ والمُفكِّر المعروف والزميل في مركز الأهرام للدراسات لسنوات طويلة. وخلال أربع ساعات من الرحلة استحوذت الصفحات على عقلي بما فيها من سرد لأحداث واتجاهات كُنت أعرف الكثير منها، ولكن روايتها بعين شخصية مؤرخ يبدو لها طعم ونكهة خاصتان. وبشكل ما بدا الكتاب نوعًا من الذاكرة التي سوف يعتمد عليها المؤرخون في المستقبل للحديث عن مرحلة مرَّت في تاريخ مصر وتاريخنا الشخصي، وبينما كان استرجاعها نوعًا من اللذة الفكرية، فإنَّ النتيجة الحتمية لها هي أنَّ الأيام مرَّت ولم يبقَ منها سوى التاريخ يحكم لها أو عليها.
وكما هو معروف فإنَّ القول الذائع جاء فيه: «مشيناها خطًى كُتبت علينا … ومن كُتبت عليه خطًى مشاها»، تدليلًا على قدر محتوم وقضاء نافذ يحكم حركة الإنسان، ولكن الدكتور رءوف عبَّاس لم يكن من هذه النوعية؛ فقد مشاها خطًى بالفعل، ولكن مع كل خطوة كانت هناك معاندة صلبة لظروف قاسية لو تُركت لحال تأثيرها لَمَا وصل رَجُلنا إلى ما وصل إليه من علم ومعرفة ومكانة. فمن قلب الظروف الصعبة لأسرة عامل مصري فقير، بزغ إلى الوجود واحد من أهم المؤرخين العرب المُعاصرين، وأكثرهم تأثيرًا في الفكر التاريخي الاجتماعي. ودون مبالغة فإنَّ رَجُلَنا مع مجموعة قليلة من المؤرخين المحدثين أبرزهم الدكتور يونان لبيب رزق لم يُنقذوا عملية التأريخ المصرية فقط، بل أسهموا في إنقاذ بعضٍ من شرف الأكاديمية المصرية التي انهارت بتأثير النظرة التعبوية للثورة المصرية التي لم ترَ في الأكاديمي إلا مُبررًا ونصيرًا، والحقبة النفطية التي أخذت الأكاديمي المصري وأفقدته الكثير من عزته وكرامته.
وكنت قد تعرَّفت إلى مؤرخنا لأول مرة في خريف عام ١٩٨٢م، عندما عدت من فترتي الدراسية في الولايات المتحدة؛ حيث تزاملنا في مجلس الخبراء في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، وحيث كانت تجري مناقشات حية، كان رَجُلنا لا يتحدَّث فيها إلا قليلًا، فإذا ما تحدَّث كان قوله قيمًا مُثيرًا للتأمُّل في أحوال المدرسة اليسارية الاجتماعية وطريقتها في فهم التاريخ والعالم. وكان هذا الاتجاه في العموم من الاتجاهات المتميِّزة في المركز، ولم يكن الأستاذ سيد ياسين — مدير المركز في ذلك الوقت — وحده فيها، بل عدد غير قليل من الباحثين كان بينهم كاتب السطور حتَّى قام بمراجعتها وتبيَّن ما فيها من إشكاليات، أبرز ما فيها تلك الفجوة الهائلة بين نُبل المقاصد وفساد الطُّرق من ناحية، والمفارقة بين النظرية والتطبيق من ناحية أخرى.
وكانت هذه الفجوات والمفارقات موضوع نقاش دائم ما بين المدارس الفكرية المختلفة؛ فبينما رأى أنصار المدرسة الاجتماعية دومًا أنَّ الدولة هي القادرة على تحقيق العدل الاجتماعي وتحقيق المصلحة العامة، أمَّا ما يجري على أرض الواقع فهو نتيجة فساد الأفراد وتناقضات الظروف، فإنَّ أنصار المدارس الفكرية الأخرى رأوا في النظرية عوارًا هيكليًّا لا يجعلها تُفرز إلا ما أفرزته من نواقص وكوارث. ولعل كتاب «مشيناها خطًى» يُقدِّم أفضل الأدلة على ذلك؛ فلم يحتكَّ صاحبنا بمؤسسة عامة في مصنع أو في جامعة إلا إذا كان الفساد والهوى هما القاعدة العامة للممارسة، وما جرى من إصلاح أحيانًا كما حدث عندما قاد صاحبنا قسم التاريخ في جامعة القاهرة، فقد كان جملةً اعتراضية على واقع ممتد ما لبثت الفضائل فيه أن ذرتها الرياح؛ لأنَّ التطبيقات المؤسسية للنظرية الاجتماعية لم تكن لها أن تُفرز إلا دمارًا أخلاقيًّا وعمليًّا.
وبالطبع فإنَّ عرض هذا الخلاف الفكري ليس مكانه هنا، ولكن تجربة الكاتب تجعلنا نتعاطف مع تجربته الشخصية، ونتعجَّب بعد ذلك من ثباتها على وجهة نظر تمَّ اختبار عُقمها مع كل صفحة من صفحات الكتاب. بل إنَّنا نلمس بقدر كبير من الإشفاق حاجة رَجُلنا إلى الخلاص حينما ينضح الصفحة حزنًا — ص٢٢٣ — لأنَّ عبد الناصر أهدر ظرفًا تاريخيًّا جلبته هزيمة يونيو ١٩٦٧م حيث كان في استطاعته الاستفادة منه بإجراء إصلاح سياسي حقیقي، تتخلَّص فيه البلاد من فساد التنظيم السياسي، والمؤسسات البيروقراطية، وتوحُّش أجهزة الأمن، ويُصحِّح التجربة كلها. هذا النوع من الحسرة على ضياع الفرص يكاد يكون السمة الغالبة لكتاب مؤلفنا، ومعه الغالبية الساحقة من اليساريين النُّبلاء الذين يرَون إمكانية تصحيح المسار من خلال أفراد طيبين ولهم نوايا طيبة، رغم أنَّ الفكر الاجتماعي كله يقوم على الحقائق الموضوعية المرتبطة بالحركات والطبقات الاجتماعية.
ويُصبح الكتاب متعةً خالصة عندما يتعرَّض الكاتب لتجربته مع اليابان واليابانيين، وقد تعوَّدنا كثيرًا أن نقرأ لدارسين عرب ومصريين كتبوا عن تجربتهم في الدراسة والبحث في العالم المُتقدِّم، وحظيت باريس ولندن بقدر ملحوظ من هذه الكتابات حيث تتلاقح الأفكار وتتصادم الثقافات في أحيان كثيرة، ولكن قلةً قليلة فقط هي التي كتبت لنا عن الجانب الآخر من الأرض حيث يكون الاتجاه شرقًا، وكانت تجربة الدكتور رءوف عبَّاس تجربةً تُروى بما فيها من لحظات تنوير واكتشاف لعقل متفتِّح على المعرفة والعلم، وما فيها من مفارقات حزينة أحيانًا وباسمة أحيانًا أخرى.
ولكن أهم ما في هذه التجربة لم يكن ما عرفه رَجُلنا في اليابان، ولكن ما عرفه في مصر بعد عودته من بلاد الشمس المشرقة؛ فقد تغيَّرت قياساته ومعارفه ومناهجه، وتوصَّل في غمضة عين إلى الفجوة بين تخلُّفنا وتقدُّمهم، ليس على مستوى الآلات والتكنولوجيا وإنَّما على مستوى الأفكار والمعرفة وحتَّى الأخلاق العامة. ولا يخلو الكتاب من كثير من المرارة خاصةً ما تعلَّق بما جرى ويجري في قسم التاريخ في جامعة القاهرة، وما حدث فيها من انهيار للحياة الأكاديمية المصرية، خاصةً ما تعلَّق فيه بأخلاق الأساتذة ومستوياتهم العلمية. بل يُمكن القول إنَّ الكتاب هو في حقيقته صرخة تدعو إلى إنقاذ مؤسسة الجامعة مِمَّا آلت إليه من تخلُّف مهني وفساد أخلاقي.
ولكن كثرة المرارة أحيانًا ما تدفع الإنسان للضرب في غير موضع؛ فقد كانت تجربة رَجُلنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام غنيةً في عمومها، ولكن الرواية عن تفاصيلها لم تكن دومًا إخلاصًا للدقة؛ فإشارة صاحبنا إلى حضوره اجتماعات مجلس الخبراء، التي شارك فيها د. بطرس غالي عن المفاوضات مع إسرائيل، ومعارضته بتشدُّد مِمَّن أصبحوا بعد ذلك من مهندسي جماعة كوبنهاجن، والمقصود كاتب هذه السطور، جانبها الصواب. والحقيقة أنَّه لم يحدث أبدًا أن شاركت في مثل هذه الاجتماعات بسبب أنَّني كنت أدرس في الولايات المتحدة خلال الفترة من ١٩٧٧–١٩٨٢م، وبالتالي لم أحظَ بفضل المعارضة المُتشدِّدة التي تحدَّث عنها المؤلف، ولا بإعطائه حالةً إضافية للانقلاب الفكري.
والحقيقة أيضًا أنَّه لم يتغيَّر شيء بالنسبة لمكانة الدكتور رءوف عبَّاس في مركز الدراسات بسبب كوبنهاجن أو غيرها، ولكن الحياء دومًا من مقام الأساتذة هو الذي كان مانعًا من متابعة أعمال وأبحاث، خاصةً بعد تقاطع عمل الوحدة التاريخية مع عمل وحدة الثورة المصرية. ولكن هذه قصةٌ أخرى لا تُؤخذ من كتاب ممتع!