مرايا١
أجمل ما في السيرة الذاتية مشيناها خطًى للمؤرخ القدير، الدكتور رءوف عبَّاس، أنَّها احتوت على صراحةٍ واضحة، وصلت إلى حد أنَّه قال للأعور: أنت أعور في عينيك … كما احتوت على تواضع العلماء؛ فالرجل يُلخِّص تاريخه الوطني المُشرق في بند المحاولة، رغم ما قدَّمه من أدوار رائدة في مجاله العلمي كمؤرخ وطني بارز، وما قدَّمه في المجال العام من خدمات وطنية جليلة حسب ما أتاحت له الظروف.
صدرت سيرة مشيناها خطًى قبل شهور، وتناولها الكثيرون، ولم أستطِع مقاومة شوقي للكتابة عنها بعد قراءتها مؤخرًا، خاصةً أنَّها لمست جزءًا من وجداني تمثَّل في أنَّ صاحبنا تحدَّث عن جزء من مرحلة نشأته في مدينة طوخ بالقليوبية وهي مسقط رأسي، كما أنَّه التحق بمدرستها الثانوية وهي مدرستي. وأهم من دافعي هذا الوجداني أنَّ د. رءوف الذي سمَّى نفسه في السيرة بصاحبنا لم يكن يومًا في سلطة سياسية، ولم يسعَ إليها، وبالتالي ليس مدينًا لأحد في هذا الشق سوى ما أملاه عليه ضميره الوطني … وظلَّ هذا الضمير — منذ تفتَّح وعيه — بوصلته الرئيسية في اختياراته العامة، وأضفى تحرُّر صاحبنا من الارتباط بالسلطة على سيرته طابعًا شعبيًّا، تمثَّل في الْتقاطه لتفاصيل التفاصيل التي عاشها بين جنبات المجتمع المصري من قاعه إلى قمته … وجمعها فيما يُشبه اللوحة التشكيلية التي تخطف بصرك أولًا في منظرها الكلي، ثمَّ تُجبرك على تأمُّل تفاصيلها المتداخلة التي صنعت مشهدها النهائي … وفي التفاصيل أشار إلى الكثير والكثير وجمعه في منمنمات جاذبة، غير أنَّ بيئة الفقر التي وُلِد وعاش مراحله الأولى فيها، هي أكثر ما استوقفني.
ولم تكن تلك البيئة خاصةً به، وإنَّما خاصة بوطن كامل يئن أبناؤه من ضيق الحال … وإذا كان هو قد استطاع هزيمة هذه الحالة بالعبور إلى العلم بموهبة إرادة صلبة، فكم يا تُرى من هم كانوا في مثل موهبته لكن الفقر أماتهم؟ وبطريقة واضحة يُفسِّر هذا البُعد لماذا ارتبط الشعب المصري بثورة يوليو وقائدها جمال عبد الناصر الذي أشهر أسلحةً كثيرة لمحاربة الفقر، أبرزها مجانية التعليم، وهذه القضية واحدة من التفاصيل التي يتحدَّث عنها د. رءوف مُشيرًا إلى ما أحدثته من حراك في المجتمع المصري … أمَّا التعليم الجامعي فيظل أكثر المواجع التي ينقلها د. رءوف من واقع تجربته كأستاذ في الجامعة … فالفساد يتمكَّن منه، والذي يأتي انعكاسًا طبيعيًّا عن مُناخ عام فاسد خارج أسوار الجامعة …
ومن واقعة إلى أخرى، يكتب صاحبنا بأسلوب حكَّاء عظيم، لا يهمل معلومةً ضرورية، ولا يُعظِّم أخرى سلبية، ويذكر بالفضل أساتذته وزملاءه المؤرخين، ويكشف في المقابل هؤلاء الذين يبيعون الحقيقة لأجل منافعهم الذاتية. وفي الإجمال أعطى لنا الدكتور رءوف عبَّاس سيرةً مدهشة، أخطأت في تأجيل قراءتها عدة أشهر.