وطني مصري في أواخر عهد مبارك يستيقظ متسائلًا: ماذا حدث لنا؟!١
ترجمه عن العبرية: محمد عبوُّد
رءوف عبَّاس، من أهم المؤرخين المصريين، يروي في كتابه الجديد — «مشيناها خطًى» — قصة إفساد الجامعة المصرية، ويفتح نافذةً مهمة لفهم العلاقة الديناميكية بين المثقف والمجتمع والسلطة.
في شهر نوفمبر من العام ١٩٧٨م تلقَّى المؤرِّخ المصري رءوف عبَّاس رسالةً عاجلة من مكتب الرئيس السادات، للمثول صباح اليوم التالي في مكان مُحدَّد، ومعه حقيبة ملابس تكفيه ثلاثة أيام.
في المكان المحدد انتظر عشرات من المثقفين وكبار الباحثين من جميع التخصُّصات الأكاديمية. كان يعرف كثيرين منهم، ورويدًا رويدًا أدرك أنَّ الوجوه التي لم يتعرَّف إليها كانت لرجال مخابرات تنكَّروا في هيئة أساتذة جامعيين. حُشدوا في سيارات، وبعد فترة وجيزة وصلوا إلى الإسماعيلية؛ حيث استقبلهم وزير الثقافة بترحاب، وقادهم إلى قاعة اجتماعات فسيحة داخل المبنى، الذي كان في السابق مقرًّا للإدارة البريطانية لشركة قناة السويس. وكان اختيار هذا المكان الرمزي مقصودًا؛ ليعلم الضيوف أنَّ المسألة تتعلَّق بمهمة وطنية رفيعة.
وبعد مقدمات وخطب التي تحدَّث أصحابها عن «الساعات المصيرية»، و«المهمة الصعبة المعقدة» صعد الرئيس السادات إلى المنصة، وأوضح بالتفصيل طبيعة المهمة: «لقد قرَّرت أن أُقيم أكاديميةً وطنية يتعلَّم فيها خيرة الشباب حب الوطن. وأطلب منكم أن تُعدوا برنامجًا دراسيًّا تفصيليًّا خلال اليومين التاليين. ونلتقي مجددًا.» وكلف عبَّاس بالإشراف على دراسات التاريخ المصري المُعاصر، وهو مجال حساس للغاية.
هذا المشهد العارض يرمز في السيرة الذاتية لرءوف عبَّاس، «مشيناها خطًى»، للمكانة الثقافية المتدهورة للمؤسسة الأكاديمية، التي أصبحت مؤسسةً فاسدة مشلولة بحلول نهايات القرن العشرين. واليوم، ومع بلوغه سن التقاعد، وبعد أن حصل على الجائزة المصرية التي تُقابل «جائزة إسرائيل»، قرَّر رءوف عبَّاس فتح ملف الحساب؛ مُحاسبةً للنفس والمجموع، بقلم شخص وطني بارز، شأنه شأن كثيرين في مصر التي تشهد نهايات عصر مبارك … استيقظ فجأةً متسائلًا: ماذا حدث لنا؟
بالنسبة لكثير من المصريين، خاصةً هؤلاء الذين يسكنون في المدن الكبرى، فإنَّ هذه الأيام الأكثر ملاءمةً لإجراء محاسبة من هذا القبيل؛ ففي السنوات الثلاث الأخيرة صدرت عدة مؤلفات نقدية جادة سرعان ما احتلَّت خانة الأكثر مبيعًا في مصر وخارجها. أحد أشهر هذه المؤلفات، الكتاب شبه التأريخي، للاقتصادي جلال أمين، «ما الذي حدث للمصريين؟» الذي يستعرض فيه التحوُّلات التي طرأت على المجتمع المصري في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصًا منذ سقوط الحقبة الناصرية. وبالرغم من كونه كتابًا قرائيًّا ممتعًا، إلا أنَّ جلال أمين لم يدخر سياط النقد التي هوت على الطريقة التي أُديرت بها الدولة المصرية في عهدَي السادات وخليفته.
المعادلة التي تتبناها هذه الموجة الأدبية الجديدة بسيطة للغاية: الحكم المطلق = مسئوليةً مطلقة. أو بعبارة أكثر وضوحًا: لقد آن الأوان لإحداث تغيير راديكالي في التركيبة الاجتماعية المصرية. ويوجد أيضًا حركة احتجاج سياسي عالية الصوت تُطالب بالتغيير، اسمها «كفاية». وقسم كبير من شعاراتها وجد طريقًا للتعبير عن نفسه في الأعمال الأدبية، والفكرية في الآونة الأخيرة.
لكن الأمر الذي يجعل مذكرات عبَّاس بمثابة الكلمة الأخيرة والأكثر انتقادية في هذه السوق الفكرية الصاخبة، هو طبيعة عمله كمؤرخ؛ أي إنَّه الشخص الذي يرسم حدود الإجماع الجماهيري بمصطلحات علم التاريخ التي قد تُضفي المشروعية السياسية. ولا يطرح عبَّاس في سيرته الذاتية أسئلةً معقدة حول كتابة التاريخ، أو تحطيم الأساطير القومية التي عفا عليها الزمن؛ فقد تقدَّمت به السن بما لا يسمح له بذلك، كما أنَّه شخصيًّا أحد المؤمنين المتحمسين لعدد من هذه الأساطير؛ لذلك بدلًا من مراجعة وتدقيق المغزى التاريخي، يكشف عبَّاس لقُرَّائه، بقسوة بالغة، دهاليز مؤسسات الإبداع الفاسدة في مجال التأريخ بمصر. وأي مؤرِّخ شاب وشجاع يستطيع أن يُترجم هذه القصة ويُخضعها للتفسير التاريخي الحديث، الذي قد يهدم الأنماط القائمة.
بأسلوب كتابة مباشرة، وببسالة شديدة، يضع عبَّاس أدوات العمل على المنضدة، وبالرغم من أنَّه ليس عضوًا بأي من حركات الاحتجاج السياسي، إلا أنَّه قرَّر أن يروي قصة حياته.
وُلِد رءوف عبَّاس في صعيد مصر عام ١٩٣٩م لأسرة كبيرة العدد، محدودة الموارد. كان أبوه عاملًا بهيئة السكك الحديدية، جاب جميع أنحاء مصر يتنقَّل بين فروع الشركة المختلفة. وبعد أن طلَّق زوجته، وتزوَّج من أخرى، ترك عبَّاس لدى جدته في حي قاهري فقير، يسكنه المسلمون والأقباط جنبًا إلى جنب. ولم ينسَ عبَّاس طيلة حياته حالة التضامن الاجتماعي التي تميَّز بها الحي. وبوصفه مسلمًا، أُرسِل عبَّاس في صباه للدراسة في «كُتَّاب» الحي ليحفظ القرآن. وعند بداية الدرس الأول سأله الشيخ عن اسمه، وردَّ الطفل: «اسمي رءوف.» وعلى الفور هوى عليه الشيخ بلطمة مدوية، ثمَّ قال له: «الرءوف هو الله.» ونتيجةً لهذه القسوة المرضية، ولأنَّه رفض أن يحفظ الأشياء التي لم يفهمها، انتهت قصة عبَّاس مع ما يُمكن أن نُعمِّم ونُسميه «الإسلام»؛ فهو لا يكتب كلمةً مجددًا لا عن الدين، ولا عن تجلياته السياسية، والاجتماعية والفكرية … مصر التي تراها عبر صفحات الكتاب هي كِيان علماني خالص.
لو وُلِد عبَّاس قبل عشر سنوات، كان المفترض أن تنتهي تجربته الدراسية بهذه اللطمة المدوية، ولم يكن ليحظى بالتعليم الأساسي، وما بعد الأساسي. غير أنَّ الإصلاحات التعليمية في الأربعينيات أتاحت تعليمًا مجانيًّا للأقلية القادرة. وبصعوبة بالغة نجح في مواصلة تعليمه. وفي تلك الأثناء حدثت «ثورة الضباط» عام ١٩٥٢م، وتمكَّن أبناء الشرائح الاجتماعية الفقيرة من دخول الجامعات بسهولة نسبية؛ لذلك حفظ الجميل دائمًا للحقبة الناصرية، وأبى في كتابه أن يقول كلمة نقد في حق هذه الحقبة.
وفي عام ١٩٥٧م، بدأ دراسة التاريخ في كلية العلوم الإنسانية الحديثة العهد بجامعة عين شمس، وإلى جوار الدراسة الْتحق بعمل وظيفي بأحد المصانع، ولأنَّه ابن عامل، انجذب لحياة العُمَّال، وبالذات لتاريخ الحركة العُمَّالية المصرية، ذلك المجال الذي سيُصبح بؤرة تخصُّصه فيما بعد.
وسارت حياته الأكاديمية في هدوء وسكينة حتَّى نهاية الخمسينيات، لكن سرعان ما اندلعت الخلافات الفكرية والأيديولوجية، والشخصية، بالطبع، بين الأساتذة بجامعة القاهرة التي عمل بها مُدرسًا من الخارج، والأساتذة بجامعة عين شمس، التي كان يُعدُّ فيها رسالة الدكتوراه.
تمسَّك المحاضرون في جامعة عين شمس، بزعامة المؤرخ عزت عبد الكريم، بالمدرسة التاريخية الليبرالية التي ازدهرت في العهد الملكي. وفي المقابل، في جامعة القاهرة قاد المؤرخ الشاب محمد أنيس المدرسة التاريخية الماركسية، التي بالرغم من الدوجمائية التي تنطوي عليها، إلا أنَّها كانت مدرسةً حديثة وذات مغزًی سیاسي بعيد المدى.
عبَّاس صار مُمزَّقًا بين المدرسة الليبرالية الإنسانية النزَّاعة للشك التي تربَّى عليها في عين شمس، وبين الخيار الاشتراكي بجامعة القاهرة، الذي أعلن أصحابه أنَّه من خلال تحديد القوانين التي تحكم مسار التاريخ المصري سيتمكَّنون من إعداد مصر المستقبل.
الالتزام السياسي الذي نتج عن هذه الفلسفة، والاقتراب من مراكز القوى الحاكمة التي أيَّدت هذا الاتجاه، سحرت عددًا كبيرًا من الشُّبان، وخاصةً المؤرخين الذين أهَّلتهم معرفتهم بالتاريخ المصري بميزات عديدة عندما أُنيط بهم تعبئة الإطار النظري الماركسي بالمضمون المناسب من المواد التاريخية. وتمكَّن عباس، بصعوبة بالغة، من شقَّ طريقه بين هذه المدارس الفكرية المعارضة، ومع انتهائه من الدكتوراه عُيِّن مُحاضرًا بجامعة القاهرة.
قصة عبَّاس حتَّى هذه النقطة مكتوبة بأسلوب جميل يُثير التعاطف، لكن الأحداث معروفة، وقيمتها الجماهيرية ليست بالغة. وفى مقابل ذلك، فإنَّ وفاة عبد الناصر، وانهيار الاشتراكية العلمية، واستبدالها بالرأسمالية السلطوية في عهدَي السادات ومبارك، عجَّلَت بالنضج الفكري والسياسي لدى رءوف عبَّاس، وفتحت عينَيه؛ فاعتبارًا من عام ١٩٦٧م انتهى، من وجهة نظره، عصر السذاجة، ومن ثمَّ شرعت هذه السيرة الذاتية في إثارة الانتباه.
باختصار، هذه هي التجربة التي عاشها عبَّاس في الجامعة، وبين مراكز القوى الثقافية بمصر خلال الثلاثين سنة الأخيرة؛ المحسوبية، وتعيين الأقارب والمُقرَّبين دون إعلان، أو بواسطة إعلانات مُفصَّلة حسب المقاس، أساتذة جامعيون يظلمون طُلَّابهم بالجباية غير القانونية للأموال، والابتزاز (بيع ملخَّصات الامتحان)، فساد في اختيار الأساتذة وترقيتهم، سرقات علمية منتشرة بين الأساتذة والطلبة، معايير أكاديمية متدنية، يُحاسب بناءً عليها الطلبة القادمون من إمارات النفط، الذين يشترون بأموالهم الحق في نشر أبحاثهم في المجلات العلمية، قلة عدد الأساتذة بالنسبة لعدد الطلاب، تدخُّل شمولي تقوم به المخابرات فيما يتعلَّق بإدارة الحياة الأكاديمية داخل الجامعة، «طبخ» انتخابات اتحاد الطلبة، وشاية الأساتذة والطلاب ضد زملائهم لصالح الأجهزة الأمنية، علاقات عمل عكرة، تمييز منهجي ضد الباحثين الأقباط بالمقارنة مع أقرانهم المسلمين، عمولات، وإعارات للأساتذة الذين تعاونوا مع أجهزة الأمن … إلخ.
خصَّص عبَّاس صفحاتٍ كاملةً لتاريخ عائلة السادات، وبالذات لزوجته المكروهة جيهان السادات وبناتها، وللطُّرق الكثيرة التي أفسدوا بها الجامعة. وبالإضافة إلى كل ذلك، يفتح عبَّاس نافذةً مهمة لفهم الديناميكا التي تحكم العلاقة بين المثقَّف، والمجتمع والسلطة. وتُعدُّ شروط عمل المؤرخ نموذجًا ممتازًا لفهم هذه الديناميكية. يرتبط المؤرخون، بصورة مطلقة، بالنيات الحسنة للدولة في كشف مواد أرشيفية معينة أو إخفائها. ولأنَّ قيمة الشفافية، وضرورة تقديم الحقائق للجماهير ليست جزءًا من هذه العلاقة، يُعاني المؤرخون من نقص دائم في مادة البحث العلمي؛ فأرشيف الدولة له وظائف مُتعدِّدة، لكن يبدو أنَّه لا يُؤدي الوظيفة الرئيسية التي أُقيم من أجلها. وعمليًّا، لكتابة تاريخ مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، يُمكن فقط الاعتماد على المصادر الصحفية، والمقابلات الشخصية، وأرشيفات الدول الغربية. وبسبب النفقات الباهظة التي يتكلَّفها السفر في مهام بحثية للخارج، فإنَّ مجموعةً محدودة للغاية من أساتذة الجامعات والطلَّاب يتمكَّنون من ذلك. بل إنَّ عبَّاس نفسه اكتشف وفوجئ، أنَّ عددًا من المصادر التاريخية المحدودة أصلًا، سرقه «محاضرون» من مكتبة الجامعة.
يشكو عبَّاس حالة الجمود المنهجي والفكري التي ضربت الدرس التاريخي في مصر، ومع ذلك فهو لا يُفسح مجالًا واسعًا لمُناقشة هذه القضية المُعقَّدة، ويبدو أنَّه من الصعب عليه أن يُثبت براءته في هذه المسألة، خاصةً أنَّ تشبُّثه — عبر السنين — بطريقة التفسير القومية الكلاسيكية لتاريخ مصر الحديث، يُعدُّ أحد الأسباب الرئيسية لهذا الجمود الفكري على أيَّة حال، فإنَّ الصورة الناتجة هي أنَّ الدورة الطبيعية للتفسير التاريخي لا تعمل كما ينبغي: «الميلاد، والعبور من الهوامش الثقافية إلى الإجماع الشعبي والسياسي، ثمَّ الانهيار، وفقدان الدور.»
لذلك تبدو كل هذه الانتقادات مُبالغًا فيها بعض الشيء؛ ففي نهاية المطاف، لا يعرض عبَّاس هذه الانتقادات بكل هذا التكثيف. كما أنَّ هناك إنجازاتٍ لا بأس بها تحقَّقت عبر السنين، خاصةً في مجال الأدب، والحوار الثقافي (وهما المجالان الرائدان في الفكر المصري العلماني). وكذلك الأمر في ميدان الدراسات التاريخية … تحقَّقت إنجازات لا بأس بها (عبَّاس ينسب معظمها لنفسه)؛ مثل إحياء الجمعية المصرية للدراسات التاريخية لتكون هيئةً مستقلة نسبيًّا، والنهضة التي كانت من نصيب دراسة العهد العثماني، التي أسفرت عن تحطيم عدد من المسلَّمات التاريخية المختلفة (مثل الاهتمام بتاريخ البغاء).
الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي جزء لا يتجزَّأ من النسيج الفكري، تقف كقلعة صامدة من حيث الأخلاقيات المهنية والأبحاث التاريخية المتميِّزة. ومع ذلك فإنَّ الأمور ما زالت على ما هي عليه.
عبَّاس هو شخص وطني، ومن هذا المُنطلق فإنَّه يتبنَّى موقفًا مُعاديًا لإسرائيل، ويقف بمنتهى الحزم ضد أي شكل من أشكال التطبيع. وهذه المواقف في حد ذاتها تُعدُّ مواقف مشروعةً وشائعة بمصر، إلا أنَّها تُغذِّي إطارًا من وجهات النظر المتهالكة والإشكالية، لا تنطوي على أي شكل من أشكال التعدُّدية الثقافية والكزموبوليتانية؛ أي إنَّ عباس وأمثاله يتنازلون، مقدَّمًا، عن أي إمكانية لدراسة واقع الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط بعيدًا عن الشعارات القومية والتجربة المصرية الضيقة المشتقة منها.
إنَّ الالتزام الشامل بالهُوية المصرية هو العنصر الباعث على اليأس في عمل رءوف عبَّاس؛ فالتمحور الثقافي الذي يمتدحه عبَّاس (أين اختفى الإيطاليون، اليونانيون، المالطيون، اليهود، والأرمن الذين عاشوا في مصر حتَّى الستينيات؟) ليس اختيارًا أيديولوجيًّا، وإنَّما حالة نفسية غير مرتبطة بالظروف. وبهذا المعنى، فإنَّ عبَّاس مُخلص للتراث العلماني الذي يُمثِّله جيل الستينيات. وبطريقة باعثة على اليأس، كلما نُقلِّب في صفحات الكتاب المهم، نُطالع مشاعر الألم والحب، والإظلام، والحنين، والفخر أحيانًا، وتلوح خطوط واهنة من الأمل، بالكاد يُمكن أن نُطلق عليها محاولةً للمواساة.