بل هي خطًی مشاها خطأً!١
قد أغتفر الكذب في أي إنسان ولكنِّي لا أغتفره في المؤرِّخ بالذات! فالمؤرِّخ — في اعتقادي الخاص — هو ضمير عصره، وهو مرآة عصره! ولا يجتمع في إنسان أن يكون مُؤرِّخًا وكاذبًا في الوقت نفسه! فالكذب يسلب من المؤرِّخ صفته وأهليته لكتابة التاريخ!
بل لقد ذهبت إلى أنَّ كذب المؤرِّخ هو بمثابة صحيفة دعوى ضد من يكذب عليهم أو يفتري عليهم الكذب، ينشرها دون أن تُتاح الفرصة لمن أطلق عليهم ادعاءاته الكاذبة للرد!
ومن هُنا فإنِّي غاضب لِمَا أقدم عليه الدكتور رءوف عبَّاس! — وقد كان صديقًا قديمًا — من ادعاءات وكذب وافتراءات ملأ به ما أسماه مذكراته، التي نُشرت تحت اسم «مشيناها خطًى»!
وفي البداية فقد دُهشت عندما علمت بأنَّه كتب مذكراته! فلم أعرف للدكتور رءوف عبَّاس دورًا وطنيًّا في خدمة بلده، يستحق عليه أن ينشر هذا الدور على الشعب المصري أو يهتم به الشعب المصري!
أقول ذلك وأنا أعرف جيدًا متى تكتب المذكرات؛ فلي كتاب معروف، طُبع أكثر من مرة، تحت اسم «مذكرات السياسيين والزعماء»! ولم أعرف عن الدكتور رءوف عبَّاس أنَّه كان زعيمًا أو سياسيًّا! كما أنَّه لم يكن له دور وطني نضالي في أي صورة من الصور!
ثمَّ أدركت السبب في تصَدِّي الدكتور رءوف عبَّاس لكتابة مذكرات لا تهم الجماهير في شيء، ولا تُفيد تاريخ بلدنا في شيء، عندما تصاعدت الشكوى من زملائه في الجامعة بأنَّه يُصفِّي حسابه معهم تحت اسم مذكرات!
ولم أُصدِّق في البداية؛ فلست أعرف للدكتور رءوف عبَّاس صراعات بينه وبين زملائه، أو نضالًا من أجل قضايا جامعية عامة، تُوقعه في مشاكل مع زملائه الأساتذة، أو حسابات تُلزِمه بأن يُصَفيها معهم في شكل مذكرات!
وعندما شككت في ذلك أمَدني الأساتذة الزملاء بقائمة طويلة من الإساءات التي أساء بها إليهم، والافتراءات التي افترى بها عليهم!
وقد أزعجني خاصةً ما أخذ يتطاول به على أساتذة عظام أموات وأحياء يشغلون مناصب علمية رفيعة، ويُقدِّمون فيها خدماتٍ لوطنهم مصر تتوارى إلى جانبها أيَّة خدمة قدَّمها هذا الأستاذ لوطنه!
نعم لقد ذُهِلت عندما قرأت أنَّه وصف أستاذًا جليلًا، وهو محل احترام الجميع، وهو الأستاذ الدكتور حسين نصَّار — الذي يشغل حاليًّا منصب نائب رئيس المجالس القومية المُتخصِّصة — وصفًا بشعًا بأنَّه نخَّاس!
ولو كان هذا الوصف قد وُجِّه إلى الأستاذ الدكتور حسين نصَّار بحق، لربما اعتبرنا ذلك شجاعةً من الدكتور عبَّاس، وتصديًا لفساد جامعي، ولكنَّنا سوف نُذهل حقًّا حين نكتشف أنَّ هذا الوصف البشع، مبني على افتراءات وعلى أكاذيب حاكها الدكتور عبَّاس، ضد الأستاذ الدكتور حسين نصَّار! ومن السهل إثبات هذه الأكاذيب والافتراءات من الوقائع الثابتة الدامغة!
فقد نسب إلى الدكتور حسين نصَّار عندما كان عميدًا لكلية الآداب — أنَّه استدعاه إلى مكتبه لمساعدة السيدة نهى كريمة الرئيس السادات، في بحث عن حزب الوفد باللغة الإنجليزية؛ لأنَّه — حسبما يدعي — «الوحيد الذي له كتابات باللغة الإنجليزية، وأنَّها في حاجة إلى من يكتب لها البحث»!
وهُنا ينسب إلى نفسه أنَّه هبَّ من هول ما سمع، وانفجر في العميد: «إنت عارف إنت قاعد فين؟ قاعد على كرسي طه حسين، وبتشتغل نخَّاس، بتبيع أساتذة الكلية في سوق العبيد.» وخرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه!
وفضلًا عن إنكار العالم الجليل الدكتور حسين نصَّار هذه الرواية من أصلها، واعتبارها افتراءً وكذبًا، فإنَّ المُتخصِّصين في تاريخ مصر، يعرفون جيدًا أنَّ الدكتور عبَّاس كان مُتخصِّصًا في الحركة العُمَّالية، ولم تكن له دراسات في تاريخ الوفد، تدفع إلى الاستعانة به في بحث عن الوفد، تُجريه ابنة الرئيس السادات، وهو ما يعترف به بنفسه، فيقول إنَّه طلب منها أن تستعين إمَّا بعبد العظيم رمضان أو يونان لبيب رزق!
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يدفع عميد الكلية إلى الاستعانة بغير مُتخصِّص في تاريخ الوفد لكي يُساعد ابنة السادات في بحثها، خاصةً أنَّه لم يكن حتَّى ذلك الحين قد حصل على درجة الأستاذية!
والمهم هو أنَّ الأستاذ الدكتور حسين نصَّار يُنكر هذه الواقعة برمتها، وينسبها إلى افتراءات الدكتور عبَّاس!
ويستشهد الدكتور حسين نصَّار على ذلك، بأنَّه لو صحَّ كلام الدكتور عبَّاس، بما يترتَّب عليه من حرمان الدكتور نصَّار من رضاء الرئيس السادات، فكيف يستقيم ذلك مع ما قام به الدكتور نصَّار بعد أربعة أشهر فقط من هذه الواقعة الكاذبة، من تعيين الدكتور عبَّاس رئيسًا لقسم التاريخ مُفضِّلًا إيَّاه على أستاذين آخرين هما الأستاذ الدكتور سيد الناصري، والأستاذ الدكتور أمين صالح!
وهكذا نرى أستاذًا كبيرًا مثل الدكتور حسين نصَّار، يُطعَن في شرفه، وفي سمعته العلمية، ويُوصف بأنَّه نخَّاس بغير وجه حق، وبغير أي سبب موضوعي!
ولكن هذا هو ما سوف نراه في طول مذكرات الدكتور عبَّاس، من الإساءة لكل من أحسن إليه!
ولكن هذا هو واحد من افتراءات عديدة أصاب بها الدكتور عبَّاس رفاقه من أساتذة الجامعات المصرية، لا يتجرَّأ على توجيهها أي عدو لمصر وللجامعة المصرية، بل لم يتجرَّأ عليها أستاذ إسرائيلي، في طعنه للعلماء المصريين، وللجامعة المصرية! فهو يروي قصصًا خيالية يتظاهر فيها بالبطولة على حساب زملائه، وينسب إلى نفسه وقائع، يعلم هو قبل غيره أنَّها وقائع غير صحيحة!
وأنا شخصيًّا حتَّى اليوم لا أستطيع أن أفهم كيف تجرَّأ الدكتور عبَّاس على زملائه ورفاقه وأساتذته بتلك التهم الشنيعة، التي لم يكن لها أي مبرر، غير رغبة دفينة في التشهير، وحقد أسود ضد هؤلاء الأساتذة الذين لم يُسيئوا إليه في يوم من الأيام!
ولست شخصيًّا قادرًا على تفسير سبب هذا الانقلاب الغريب من أستاذ جامعي على زملائه، وطعنهم في سمعتهم وشرفهم! وربما تولَّى هذا التفسير علماء النفس وعلماء الأجناس! وربما كان في سرد الدكتور عبَّاس لنشأته ما يُساعد علماء الأجناس على تفسير غدره بزملائه، وإهانته البالغة التي وجَّهها إلى رفاق المسيرة، الذين يفوقونه علمًا وفضلًا، والذين يملأ علمهم وفضلهم على وطنهم الآفاق، ولا يستطيع أن يُنكره جاحد!
لقد كان في وسع الدكتور عبَّاس، أن يُوجِّه هذه الإهانات في حينها لرفاقه من العلماء والأساتذة العظام في وقتها، ولكنَّه آثر أن يحتفظ بسخائمه وأكاذيبه لينشرها بعد وقت تحت اسم «مذكرات»!
وما شاهدت في حياتي — وقد حقَّقت كل مذكرات السياسيين والزعماء التي كانت متاحةً لي في ذلك الوقت — مذكرات تكوَّنت معظمها من أكاذيب وضلالات كهذه المذكرات! وهو ما سوف نُوضِّحه للقارئ، ولمن خُدعوا في هذه الأكاذيب، وتصوَّروها مذكرات حقيقية!
والمؤسف حقًّا أن يُكافئ الدكتور عبَّاس المؤرخين، الذين انتخبوه رئيسًا للجمعية التاريخية بكل هذا الجحود والنكران، فيُصوِّرهم في صور نخَّاسين، وبأنَّهم تتملَّكهم العقد النفسية التي لا يُصاب بها إلا ضعاف النفوس!
وربما هذا ما يُفسر انقلابه على أستاذه، الأستاذ الدكتور إبراهيم نصحي رحمه الله، الذي رعى الجمعية التاريخية كرئيس لها وكانت في عهده بيتًا لكل المؤرخين المصريين والعرب، بعد أن أصبحت خاويةً إلا من الدكتور عبَّاس وبطانته، بعد أن فصل منها كبار المؤرخين!
وهنا أودُّ أن أقول إنَّ ما دفعني لكتابة هذا المقال، هو معرفتي التامة بأنَّ من واجب المؤرِّخ أن يُصحِّح للجمهور المصري، أيَّة أكاذيب تُشوِّه صورة المجتمع المصري، وتُشوِّه صورة الوطن، وصورة الجامعة المصرية وعلمائها، التي أخرجت لنا أحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهما.
فعسير على النفس حقًّا أن يُصدِّق أنَّ هذه الجامعة اليوم هي جامعة الأساتذة النخَّاسين والمنافقين والمُضلِّلين، التي صوَّرها الدكتور عبَّاس في مذكراته كأنَّها حقائق، وما هي إلا أكاذيب وافتراءات واتهامات باطلة، لا تستند إلى أي واقع! كما أنَّها لا تستند إلى ضمير وطني سليم!
فلقد نسب إلى أستاذ كبير، هو الأستاذ الدكتور يونان لبيب الحائز على جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية، أنَّه وقف موقفًا غير أخلاقي، عندما قَبِل أن يخلف الدكتور عبَّاس في رئاسة اللجنة العلمية المشرفة على مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر! وينسى أنَّه سبق أن قَبِل أن يخلفني في المركز نفسه!
وقد كذب عندما اتهم مستشار وزير التعليم المصري، في عهد الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم السابق، بأنَّه في عام ١٩٩٢م، رفض أن يتولَّى أستاذ قبطي هو الأستاذ الكبير الدكتور يونان لبيب وضع امتحان الثانوية العامة، بحجة أنَّ تعليمات الأمن تمنع «أهل الذمة» — على حد قوله — من وضع الامتحانات!
ولم نسمع في حياتنا مثل هذا الافتراء عن وزارة التعليم، التي تقود العملية التعليمية لشعب مصر كله بمسلميه وأقباطه! كما لم نسمع عن الدكتور حسين كامل بهاء الدين يمنع الأقباط من وضع الامتحانات! ولو كان ذلك صحيحًا لظهر أثره في امتحانات وزارة التربية والتعليم السابقة واللاحقة!
وما يوضح تمامًا كذب هذا الأستاذ وافتراءه على وطنه وعلى المؤسسة التعليمية، أنَّه لو كانت هذه بالفعل هي سياسة الدولة المصرية تجاه الأقباط، لانعكس ذلك عند تكوين لجنة كتابة مناهج التاريخ، التي كُنت أتشرَّف برئاستها! فقد كانت هذه اللجنة تشتمل على اثنين من كبار الأساتذة الأقباط هما الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق والأستاذ الدكتور إسحاق عبيد، ثمَّ ضُم إليها الأستاذ الدكتور ميلاد حنا! وقد صحَّحت بالفعل هذه اللجنة المناهج الدراسية التي تُدَرَّس اليوم في المدارس!
وقد كانت هذه اللجنة، هي التي أدخلت اسم العصر القبطي في منهج التاريخ، بدلًا من الاسم القديم، الدولة البيزنطية!
وقد تجاوزت افتراءات الدكتور عبَّاس زملاءه، إلى رجل فاضل عُرِف عنه دماثة الخلق، والأدب الجم، وهو الأستاذ الدكتور ناصر الأنصاري رئيس هيئة الكتاب الحالي، ورئيس دار الكتب ثمَّ دار الأوبرا، ثمَّ معهد العالم العربي بباريس سابقًا؛ حيث نسب إليه أنَّه وضع تعليمات متعسفةً تقضي بأنَّ من يُريد مقابلته عليه أن يُقدِّم طلبًا كتابيًّا قبل الموعد بثلاثة أيام!
وهو أمر غير معقول وأنا شاهد على التاريخ؛ فلم يُعْرَف عن الدكتور ناصر الأنصاري هذا السلوك الشاذ! ولا يُعْلَم السبب في هذا الافتراء من جانب الدكتور عبَّاس على الدكتور ناصر الأنصاري!
ولن أتناول في هذا المقال الافتراءات والأكاذيب التي ألصقها بعالم كبير هو الأستاذ الدكتور حسنين ربيع أستاذ تاريخ العصور الوسطى، ونائب رئيس جامعة القاهرة السابق، ورئيس لجنة التراث الحضاري بالمجالس القومية المُتخصِّصة حاليًّا؛ حيث نسب إليه العديد من الوقائع المُلفَّقة، التي تسيء إلى سمعته العلمية، وإلى إدارته لكلية الآداب، ومنها أنَّه انحاز إلى صف الفساد في كلية الآداب، وتسلَّق المناصب الجامعية في ادعاءات ناسيًا أنَّ القضاء المصري النزيه أثبت كذبها وافتراءها!
ثمَّ اتهامه للدكتور حسنين ربيع بالتطرُّف الديني، وبأنَّه اعترض على تعيين مُعيدتين بالقسم لأنَّ إحداهما قبطية! قائلًا: «إنَّ القسم تخلَّص من هؤلاء منذ خمسين عامًا فلا يجب أن يُسمح لهم بدخوله!» وهو اتهام يُسيء إلى وطنية الدكتور حسنين ربيع، ويصمه بتهمة العنصرية والعداء للأقباط!
ونلاحظ هنا إصرار الدكتور عبَّاس على اتهام النظام المصري، في عصر السادات ومبارك باضطهاد الأقباط، دون وجه حق!
وهي وسيلة دنيئة للتقرُّب من أقباط المهجر، وللحفاظ على استمراره للتدريس في الجامعة الأمريكية!
والمثير في هذا الشأن إصرار الدكتور عبَّاس على اتهام النظام المصري باضطهاد الأقباط! وحرمانهم من المشاركة في النشاط العلمي!
فيذكر أنَّه عندما تقدَّم بأسماء الأساتذة الذين أسند إليهم التدريس في معهد الدراسات الوطنية المُزمع إنشاؤه، وعرض اسم الدكتور يونان لبيب، والدكتور إسحاق عبيد، اعترض الدكتور مصطفى السعيد: «مش لازم دول. شوفوا حد تاني، الأساتذة كتير!» وأنَّه اعترض قائلًا: «هل معنى هذا أنَّ من يُختارون للدراسة لن يكون منهم أقباط؟ وما معنى الاعتراض على اثنين من الأساتذة الأكْفاء دون سبب سوى ديانتهم؟»
بل يتهم أساتذة التاريخ بأنَّه «عندما انتدب الأستاذ الدكتور يونان لبيب بالقسم اعترض أساتذة التاريخ لكونه قبطيًّا»!
وهو إصرار غريب للغاية من أستاذ من المفروض فيه أنَّه يعرف جيدًا أنَّ مصر لم تكن في يوم من الأيام عنصرية، وأنَّ الأقباط والمسلمين يعيشون جنبًا إلى جنب ويتولَّون المناصب دون أيَّة تفرقة!
ولقد ادعى أنَّ تعيين الدكتورة إيمان عامر بقسم التاريخ، إنَّما كان لصداقة تربط بين والدها، ورئيس القسم! وهو أمر مُضحك! لأنَّ التعيين بالجامعات لا يكون بسبب الصداقة، وإنَّما بمعايير علمية صارمة ليس فيها ابنة فلان ولا علان!
ولا يفوتني في هذا الصدد أن أكون بنفسي شاهدًا على كذبة كبيرة وافتراء محض، ولكنَّها تُصوِّر أسلوب الدكتور عبَّاس في تلفيق الحقائق!
والواقعة الحقيقية التي حدثت وشهودها ما زالوا أحياءً، وعلى رأسهم الدكتور رفعت السعيد، والأساتذة أعضاء لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، هو أنَّني كنت قد ضممت الدكتور عبَّاس إلى لجنة التاريخ، ولكنَّه كان يتقاعس عن الحضور، الأمر الذي دعاني إلى استبدال أستاذ آخر به، ولكن الصديق الدكتور رفعت السعيد أقنعني أمام بقية أعضاء اللجنة بأنَّ فصل أستاذ من لجنة التاريخ على هذا النحو، سوف يكون إهانةً كبيرة له! واقترح أن يتصل هو شخصيًّا بالدكتور عبَّاس لكي يُقدِّم بنفسه استقالته من اللجنة!
وقد وافقتُ بطبيعة الحال، وقام الدكتور رفعت السعيد بالفعل بالاتصال بالدكتور عبَّاس، وحصل منه على الاستقالة. ولكنَّه لم يكن أمينًا! فقد كتب الاستقالة بالشكل الذي يُظهره بأنَّه صاحب موقف دفعه إلى تقديم استقالته!
ولم أهتمَّ بطبيعة الحال؛ فقد كان يُهمني في ذلك الوقت الحرص على كرامة الدكتور عبَّاس!
ولقد كان السبب الحقيقي في امتناع الدكتور عبَّاس عن حضور اجتماعات اللجنة، هو ذلك الغضب المُفتعل حين طالبتُه بصفته رئيسًا للجمعية التاريخية، بأن تُرشِّح الجمعية كبار أساتذة التاريخ، الذين لهم فضل علمي كبير، من أمثال الدكتور حسن حبشي، ودكتورة سيده كاشف وغيرهما، لجائزة الدولة التقديرية، بدلًا من الأساتذة سيئي السمعة، الذين يُصرُّ على ترشيحهم في كل عام، ورغم عدم حصولهم على أيَّة أصوات في المجلس الأعلى للثقافة!
لقد أصرَّ الدكتور عبَّاس على ترشيح البعض من الفاسدين، بدلًا من ترشيح الأساتذة العظام، الذين يستحقون بالفعل هذا الترشيح!
ولقد كان مِمَّا قلته له بخصوص الأستاذ الدكتور حسن حبشي: إذا لم تُرشِّح الجمعية التاريخية هذا الأستاذ الكبير، فهل تُرشِّحه نقابة المهندسين؟ وهو ما استفزه وخرج غاضبًا ولم أرَ وجهه حتَّى اليوم! ويشهد على هذه الواقعة كل أساتذة لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة! فلماذا بالله إصرار الدكتور عبَّاس على ترشيح بعض الأساتذة الفاسدين، الذين منعَتهم جامعاتهم من الإشراف على السيدات؟ وللقارئ أن يفهم ما بين السطور!
ولقد احترت كثيرًا في فهم غدر الدكتور عبَّاس بزملائه ورفاقه، ولكنَّه أجاب عن ذلك بالفعل في مذكراته، حين تحدَّث عن نشأته وطفولته بأوصاف بشعة لم يسبقه إليها سابق! حيث اتَّهم جدته بأنَّها كانت تحرمه من الطعام عندما أقام عندها، وأنَّه تصوَّر أنَّ دخوله المجلس وإقامته عندها سوف يضع حدًّا «لعقده النفسية»!
ويقول إنَّه «منذ وعيه كان يسمع جدته تختتم صلواتها بالدعاء على أمه، سائلةً الله أن يحرق قلبها على أولادها!» وأنَّها كانت «إذا طبخت لحمًا أكلته وحدها!» «وعندما تجرَّأ وأكل سرًّا قطعةً من اللحم ظنًّا منه أنَّها لن تكتشف الأمر، اتضح أنَّها تحمل معها محضر الجرد، فاكتشفت السرقة ولعنته وأمه؛ لأنَّه «مفجوع» مثلها!»
على كل حال، فإنَّ هذه الاعترافات الخطيرة عن نشأة الدكتور عبَّاس التي طعن فيها أقرب الناس إليه بما لم يسبق له مثيل في التاريخ كله، ربما يكون فيه توضيح كافٍ لِمَا ساقه من افتراءات وانقلابات وتشهير بزملائه وأصدقائه!
فلقد حفظ لنا تاريخ الأمثال المصرية العريقة هذا المثل الكبير «كل إناءٍ بما فيه ينضح»!