أخلاقيات عبَّاس١
ربما كان الدكتور رءوف عبَّاس أقرب الأصدقاء إلى قلبي عندما كان يُظهر لي الود؛ ولذلك فقد اخترته عضوًا في كل اللجان العلمية التي ترأسَّتها، ودافعت عنه في كل مجال من المجالات التي تعرَّض فيها لأيَّة محنة أو مشكلة. وفي الوقت نفسه كنت أكتب عنه في كل مناسبة تستحق الكتابة، وقد ظلَّ كذلك حتَّى فوجئت بكتابه الذي أصدره مؤخرًا تحت عنوان «مشيناها خطًى»؛ فكشف فيه عن خبيئة نفسه، التي تبيَّنت أنَّها كانت تمتلئ بالغل والحقد؛ ممَّا جعلني أُعيد حساباتي!
وللأمانة فلم أكن أنا وحدي الذي خُدِع فيه؛ فقد خُدِع فيه كل أصدقائه من الأساتذة الجامعيين، والذين أولَوه بالغ رعايتهم، وظلَّ الأمر كذلك حتَّى صدر كتابه المذكور، فأدرك الجميع أنَّ خبيئة هذا الرجل غير ما يُظهر، خصوصًا عندما أخذ يلدغهم جميعًا بدون سابق خصومة! ومن هنا فإنَّني أود في البداية أن أعتذر للقارئ الكريم، والذي سوف يقرأ لي في هذا المقال لونًا آخر من الكتابة لم يعتد عليها مني، ولكن جرَّني إليها الرد على ما تضمَّنه ردُّ الدكتور رءوف عبَّاس المنشور في «العربي» من مستوًى كنت أتمنَّى لو ارتفع عنه كثيرًا!
كنت قد ذكرت في مقالي بتاريخ ٩ مارس بمجلة «أكتوبر» بعنوان بل هي خطًى مشاها خطأً أنَّني أكتب هذا المقال لسببين:
السبب الأول، دفاعًا عن الجامعة المصرية التي لوَّثها عبَّاس، وعن الأساتذة المصريين الذين لوَّثهم باتهامه لهم بالفساد والتعصُّب ضد الأقباط وغير ذلك، مِمَّا يعلم هو نفسه كذبه!
أمَّا السبب الثاني، فهو أنَّه إذا لم تلقَ هذه الأكاذيب والاتهامات التي حشا بها كتابه ما تستحق من تكذيب، فإنَّها تثبت مع الزمن!
ومن هنا كنت أتمنَّى أن يكون رد السيد عبَّاس على مقالي متسمًا بما يحفظ كرامته وكرامة الأستاذية التي مرَّغها بكتابه في الرغام! فيُفنِّد في رده ما اتهمته به من تجاوز في حق زملائه، وفي حق الجامعة! ولكن آثر أن يضمَّني إلى قائمة المفترَى عليهم، وأن ينزل بنفسه في هذا الصدد إلى مستوًى أليم من «الردح» الذي كان يجب أن يترفَّع عنه، والذي لا أستطيع الغوص معه فيه!
لذلك أبدأ بالرد على تساؤلاته عن نشأتي وأسرتي — وهو ما قد لا يهم القارئ في كثير أو قليل! ولكني مضطر إليه اضطرارًا ما دمت أرد على ما كتبه السيد عبَّاس! فلقد آثر السيد عبَّاس أن يكون مجال الحوار بيننا على مستوى التنابذ بالألقاب، وبالأسر والعائلات، وأراد أن يُذكِّرني بأصلي الاجتماعي، وهو ما أترفَّع عنه! فلم أدَّع في يوم من الأيام أنَّني من الطبقة الأرستقراطية، ولكني في الوقت نفسه، لم أتنكَّر أبدًا لأسرتي المتواضعة، أو أصفها بما وصف به أسرته من أوصاف بشعة تنزل به إلى أحط المستويات!
وفيما يتصل بنشأتي فمن يتتبَّع مشوار حياتي النضالي، في الحقل الوطني والعلمي والسياسي — وهو مُدوَّن بالفعل في مقالاتي وكتبي التي وصلت إلى ثمانين كتابًا — يعرف جيدًا أنَّني نشأت في أسرة متوسطة في قرية دقادوس بالدقهلية، وهي أسرة دينية ينتسب معظم أعضائها إلى الأزهر، وكانت جدة المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي هي شقيقة جدة والدي، وحين زار الشيخ الشعراوي مجلة أكتوبر في عهد رئيس تحريرها السابق الأستاذ صلاح منتصر، حكى أمام بعض المحرِّرين ومنهم الأستاذ محمود فوزي كيف كان يسعى أهل قريتنا للذهاب إلى بيت جدي لمشاهدة جمال نقوش سقفه، وأنَّ كل مساجد القرية كانت مزودةً بساعات حائط ضخمة مُهداة من جدي رحمه الله!
وقد آثر والدي أن أحذو حذو الشيخ الشعراوي وحذو بقية أفراد العائلة، فحَفِظت القرآن الكريم بالفعل وعمري أحد عشر عامًا، وتفوَّقت فيه وحصلت على جائزة من جمعية المحافظة على القرآن الكريم، والتحقت بالأزهر الشريف؛ حيث حصلت على شهادة الابتدائية منه في عام ١٩٣٧م.
ولكن تأثرًا بما فعله طه حسين فإني قطعت دراستي بالأزهر، لاستكمال تعليمي المدني، وهو ما سبَّب لي ثورة ورفضًا من والدي؛ ممَّا دفعني إلى الاستقلال والعمل والاعتماد على نفسي، ولم تدفعني إلى ذلك أسرتي كما يزعم عبَّاس، وهو مصدر فخر لي حتَّى اليوم!
وبالفعل فقد التحقت بالتعليم المدني، وقطعت المرحلة الدراسية الأولى في عامين، والتحقت بقسم التاريخ بالجامعة المصرية، التي انتهيت فيها بحصولي على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة.
أمَّا والدي رحمة الله عليه، فقد كان من قيادات الحركة النقابية في مصر، التي كانت تعمل تحت لواء «المجلس الأعلى» الذي كان يُشرف عليه الوفد، ولو كان عبَّاس قد تعمَّق جيدًا في دراسة الحركة العُمَّالية، التي ألَّف فيها كتابًا سطحيًّا، لعرف الدور النضالي لوالدي مِن تتبُّعه لصحف تلك الفترة!
وأذكر ذلك حين كان يصطحبني والدي وأنا صغير لزيارة عزيز ميرهم بك في قصره بمصر الجديدة؛ حيث كان يُشرف على الحركة النقابية الوفدية!
على كل حال، لقد كنت أنتمي بالفعل لأسرة مصرية متواضعة، لكنَّها متكاتفة متحابة تحمل قيمًا وأخلاقيات أثَّرت في حياتي، فلم أطعن في زميل أو أجرح صديقًا، أو أدعي كذبًا على أحد في يوم من الأيام! بل علَّمتني أن أكون مناضلًا من أجل الآخرين، ومن أجل ما أومن به، وهو ما كان سبب خلافي مع عبَّاس!
لقد احترمت دائمًا أسرتي المتواضعة، ولم أذكرها إلا بكل خير، ليس تصنُّعًا وإنَّما على حق، ولم أتهم جدتي على سبيل المثال، بما اتهم به جدته من أوصاف بشعة لا يُمكن أن يُصدِّقها عقل، استدرارًا لعطف القرَّاء، وتصنُّعًا للموضوعية! اللهم إلا إذا كانت بصيرة هذه السيدة الطيبة قد كشفت لها مقدَّمًا، وقد كان أمامها على فطرته الحقيقية، ما خفي من طباع عن زملائه وأقرانه وأصدقائه، وهو ما حدث معي شخصيًّا!
فنعلم جميعًا أنَّ الجدة هي أكثر الناس حنانًا وحبًّا لأحفادها، ولكنَّه يُصوِّر جدته في الشكل الذي كانت تُجسِّده الفنانة الراحلة نجمة إبراهيم في أدوار الشر وتعذيب الأطفال! فيذكر أنَّها كانت «تصب عليه وعلى أمه اللعنات»، وكانت تحرمه من وجبة العشاء، وتتناول وحدها العشاء وهو يُراقبها، وإذا طبخت لحمًا أكلته وحدها، وعندما تجرَّأ وأكل سرًّا قطعةً من اللحم ظنًّا منه أنَّها لن تكتشف الأمر، اتضح أنَّها تحمل معها محضر الجرد، فاكتشفت السرقة، ولعنته وأمه لأنَّه مفجوع مثلها … إلى آخر ما أورده في هذا الصدد. على كل حال، فهذا فيما يتصل بما يُريد عبَّاس أن يعرفه عن حقيقة نشأتي وأسرتي بعيدًا عن التضليل أو محاولات التشويه!
لقد كنت أتمنَّى لو أنَّ عبَّاس قصر رده على تفنيد ما أوردته عنه في مقالي، وردَّ عليه بموضوعية عن طريق إنكاره أو إثباته بالوقائع الدامغة، ولكنِّي فوجئت به ينقل رده إلى ساحة مهاترات ضد شخصي، وآثر أن يضمني إلى ساحة من افترى عليهم من زملائه الأساتذة بالكذب والدس الرخيص!
لقد أراد عبَّاس أن يُبرِّر ما ارتكبه في حق الجامعة، وفي حق زملائه بأنَّ ما كتبه هو نوع من السيرة الذاتية، الذي يختلف تمامًا عن نوع المذكرات التي يقول إنَّها تختلف تمامًا عن تلك التي يكتبها السياسيون والزعماء! وقد ضرب مثلًا بذلك بما كتبه كُتَّاب السيرة الذاتية من أمثال طه حسين، والعقَّاد وأحمد أمين وسلامة موسى وزكي نجيب محمود ولويس عوض وشوقي ضيف والشيخ يوسف القرضاوي.
وكنت أود أن يتواضع قليلًا فليعرف الفرق بينه وبين تلك الشخصيات العملاقة اللامعة، التي احترمت الوطن واحترمت الجامعة، وأثرت حياتنا الفكرية بغزير من الإنتاج، وبين شخصية عبَّاس الذي لم يلعب دورًا ثقافيًّا يُذكر في حياتنا الاجتماعية، والذي لا تتجاوز كتبه أصابع اليد الواحدة! في مقابل على سبيل المثال ثمانين كتابًا قدَّمها صاحب هذا القلم للمكتبة العربية!
فلم يعرف عن أحد من أصحاب هذه السير الذاتية، أنَّه تطاول على أستاذ كبير مثل الأستاذ الدكتور حسين نصَّار، ووصفه كذبًا بأنَّه «نخَّاس» — هكذا! — أو أنَّه اتهم الجامعة بالتعصُّب ضد الأقباط! فقد كانوا جميعًا مثالًا يُحتذى به في الترفُّع عن الدنايا وعفة اللفظ، والنأي بأنفسهم عن الصغائر والمهاترات!
ولقد كان بودنا أن يُنكر عبَّاس وقوعه في هذه السقطة، والتي دفعت الدكتور حسين نصَّار إلى كتابة مقال في مجلة «المُصوِّر» في عدد ٢٠٢٤٩ بتاريخ ٢٢ أبريل ٢٠٠٥م، يدافع فيه عن نفسه مثبتًا عكس كل ما قاله عنه عبَّاس، حتَّى إنَّه ختم مقاله بعبارة: «اتقِ شر من أحسنت إليه!»
وقد أدهشني انتهاز السيد عبَّاس فرصة الرد، ليحشوه بدعاية لكتابه، عن طريق ذكر المقالات التي كُتبت عنه، وينسى أنَّ هذه المقالات قد كُتبت قبل أن يظهر للمؤرخين زيف ما كتبه عنهم، مِمَّا دفعهم إلى الفزع إلى القضاء دفاعًا عن أنفسهم وشرفهم! ولقد كان هذا في الواقع ما دعانا إلى كتابة مقالنا دفاعًا عن الجامعة وعن أساتذة الجامعة، حتَّى لا تثبت الافتراءات التي حشا كتابه بها!
وقد كان في إمكان مجلة «أكتوبر» الغرَّاء أن تحذف هذا الكلام لخروجه عن موضوع الرد، ولِمَا تضمَّنه من كذب ومبالغات تنكرها أرقام التوزيع الحقيقية في دار الهلال! ولكنِّي رحبت أن يُنشر رده كما هو، حتَّى لا تبقى له حجة يفتري بها على هذه المجلة المحترمة، فيزعم أنَّها نشرت رده مبتورًا!
على كل حال كنت أتوقع أن يُدافع السيد عبَّاس عن نفسه بطريقة علمية، تقوم على تفنيد الاتهامات التي وجَّهتها له، ولكنَّه لجأ إلى هذا الأسلوب الرخيص، الذي لم ينفِ فيه شيئًا ممَّا وجهته إليه من اتهامات من واقع ما أورده فيما أسماه «سيرة ذاتية»!
فلقد كان في وسعه تناول كل ما يدعيه من مظاهر الفساد، دون ذكر أسماء ليرتفع بعمله إلى مستوى السير الذاتية الحقيقية، ولكنَّه اختار الأسلوب الوحيد الذي يستبعد عمله من قائمة السير الذاتية، ويُدخلها في باب تصفية الحسابات!
وهو ما لاحظه كاتب كبير هو الأستاذ السيد يس في مقاله بجريدة «القاهرة»، منذ بضعة أسابيع، انتقد فيه إيراد أسماء الأساتذة، واعتبره يدخل في باب «تصفية الحسابات»! لا مجال إذن لأن يُقحم السيد عبَّاس عمله في سلك السير الذاتية؛ فمكانها الحقيقي هو كتب تصفية الحسابات!
أمَّا ما ذكره عن شخصي فهو لا يختلف كثيرًا أو قليلًا عمَّا أورده عن زملائه أساتذة الجامعات من طعن وافتراءات! فقد زعم على سبيل المثال أنَّ علاقتي بأستاذي الدكتور محمد أنيس رحمة الله عليه، كانت علاقةً سيئة، حتَّى إنَّه كان رافضًا مناقشة رسالتي!
وهو أمر يثير الدهشة؛ فقد نسي عبَّاس في هذه الكذبة الكبيرة أنَّني وبلا أي غرور كنت ألمع تلاميذ الدكتور محمد أنيس! وكانت تربطني به علاقة فريدة، صوَّرتها في إهدائي له كتابي الأول «تطوُّر الحركة الوطنية في مصر»، وينسى أيضًا أنَّ الدكتور محمد أنيس كان على رأس لجنة المناقشة التي منحتني درجة الماجستير، بتقدير ممتاز مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة، ثمَّ كان على رأس لجنة المناقشة التي منحتني درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى! ولو كان كلامه صحيحًا لانعكس ذلك على علاقتي بالدكتور أنيس التي استمرت حتَّى آخر رمق في حياته، بل وبعد مماته حين توليت رئاسة تحرير سلسلة تاريخ المصريين، كان أول ما حرصت عليه، هو إعادة طبع أحد أعماله! ولكن عبَّاس في هذا الصدد يكذب ثمَّ يكذب ثمَّ يكذب حتَّى يُصدِّق نفسه!
فما ذكره غير معقول لسبب بسيط؛ أولًا: لم يكن السيد عبَّاس، وهو ما زال بعدُ مُعيدًا صغيرًا، له أن يتدخَّل في العلاقة بيني وبين أستاذي!
ثانيًا: أنَّه خريج جامعة عين شمس، وأنا خريج جامعة القاهرة، ويعلم الجميع انحياز كل جامعة لأبنائها!
ثالثًا: لم يكن من مصلحته بحال من الأحوال حتَّى لو حدث ذلك بالفعل أن يُصلح بيني وبين أستاذي؛ لأنَّ هذا يعني فقده وظيفته كمُعيد بجامعة القاهرة! بل ربما كانت مصلحته تتحقَّق بالدس والوقيعة بيني وبين أستاذي، وهو ما كنت أعلم عن طريق الدكتور أنيس نفسه أنَّه يفعله ولكني لم أكن آبه!
ومن هنا إذا كان قد حصل على وظيفة مُعيد في جامعة القاهرة، فعليه أن يعترف بفضلي في ترك هذه الوظيفة له! فالحقيقة أنَّني في ذلك الحين كانت تتملَّكني نزعة دينية، تمنعني من التنافس مع زملائي، اعتقادًا في أنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يُجازيني على خير ما أفعل! وهو ما حدث بالفعل؛ ففي حين توقَّف اعتلاء عبَّاس المناصب الجامعية عند حد وكيل كلية، فقد حصلت على منصب عميد لكليتين هما الآداب والتربية بجامعة المنوفية قبله بوقت طويل!
أمَّا ما ذكره عن رفض الدكتور محمد أنيس لتعييني في جامعة القاهرة فهو نوع من الكذب الرخيص، ولا يملك السيد عبَّاس دليلًا واحدًا عليه، وعلى العكس من ذلك قد استعان بي الدكتور محمد أنيس في الدراسة التي كنَّا نُعدها لجريدة الأهرام عن «مصر في الحرب العالمية الثانية»، ولم يستعن بعبَّاس!
وفي الوقت نفسه فهناك الكثير من أوجه التعاون بيني وبين أستاذي، ممَّا أربأ بذكره عن علاقتي به، ولكن يشهد عليها صديقي وزميلي الأستاذ الدكتور عادل غنيم، الذي كان يُرسله لي في مجال التعاون العلمي بيني وبينه!
ولقد كان من التلميحات الرخيصة التي دأب عبَّاس على توجيهها لزملائه، ما لمَّح به حول إنهائه انتدابي للتدريس في جامعة القاهرة، أثناء عمادتي لكلية التربية جامعة المنوفية، ويعلم هو جيدًا أنَّ السبب في ذلك يرجع إلى أنَّه لم يُطق الْتفاف الطلبة حولي، بعد أن شاهدوا لونًا من التحليل العلمي، والنشاط العلمي لم يعتادوا عليه على يديه! فقد نقلتهم إلى حقل الدراسة الميدانية الصحيحة، وهو ما سجَّلته في مقدمة كتاب الوزارات، الصادر عن مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر! ولا أظن أنَّ عبَّاس يبلغ به الطمع إلى الحد الذي يتصوَّر فيه مساواته كأستاذ جامعي لا تتعدَّى مؤلفاته أصابع اليد الواحدة، بأستاذ مثلي تبلغ مؤلفاته ثمانين كتابًا بالإضافة إلى مئات المقالات والدراسات التي نشرَتها الجامعات الأجنبية، وعلى رأسها جامعة شيكاجو التي اعتبرتني واحدًا من أهم أربعين مؤرخًا في العالم!
ويستمر السيد عبَّاس في كذبه وافترائه، ويزعم أنَّ هناك صحفًا قد أغلقت أبوابها في وجهي، ويكتفي بهذا التجهيل، فلا يذكر أسماء هذه المجلات!
لقد بدأت الكتابة في الصحف عندما اتصل بي الصديق أحمد عبَّاس صالح، وطلب مني كتابة مقال في مجلته اليسارية الشهرية «الكاتب»، كما كتبت في «الأهرام» ومجلة «روزاليوسف» في عصرها الذهبي أيام عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ، وكانت مقالاتي تحتل أغلفة «روزاليوسف» و«صباح الخير»، ثمَّ طلب مني الأستاذ محسن محمد كتابة مقال أسبوعي في جريدة «الجمهورية»، وقد قلت له كيف أترك «الأهرام»، وأكتب في جريدة ذات توزيع أقل، وقد أقنعني بأنَّ ذلك سوف يُساعدني على أن أنشر كل آرائي دون تدخُّل!
واستمرت كتابتي في «الجمهورية» وفي مجلتَي «روزاليوسف» و«صباح الخير»، حتَّى طلب مني الأستاذ أنيس منصور الكتابة في مجلة «أكتوبر»، وعندما صدرت جريدة «الوفد» ظَلِلت أكتب فيها مقالًا أسبوعيًّا منذ صدورها وحتَّى اليوم!
وما زلت أكتب إلى اليوم في ثلاث صحف هي «أكتوبر» و«الجمهورية» و«الوفد». ولكن السيد عبَّاس يكذب كعادته، فما هي إذن تلك الصحف التي يكذب فيدعي أنَّها أغلقت أبوابها في وجهي! ثمَّ ما له هو والكتابة الصحفية، التي لا يدري عنها شيئًا ولم يُمارسها في حياته المحدودة علميًّا وثقافيًّا!
أمَّا تدنيه إلى حد الطعن في وطنيتي وفي ذمتي عندما يُطالبني بأن أؤصل عن طريق سرد سيرتي لمبدأ «الثبات على المبلغ، وكيفية استبدال الكوشير بالكشري» (فهو هنا يلمِّح تلميحًا رخيصًا بالعمالة لإسرائيل)! حيث إنَّ «الكوشير» طعام إسرائيلي، و«الكشري» طعام مصري، وهو اتهام وضيع دفعني إلى الانضمام إلى الدعوى القضائية التي أقامها ثمانية من زملائي الأساتذة ضد المذكور!
أمَّا اتهامه لي بتغيير المبادئ كتغيير الجوارب، فربما كان أفضل من يقوم بهذا العمل هو السيد عبَّاس نفسه! بعد أن انتقل من شقته المتواضعة في مدينة نصر، إلى فيلته في العاشر من رمضان، وهو الأستاذ الذي لا يملك كتبًا تُدر عليه عائدًا ماديًّا، ولا ميراثًا من أسرته التي لم تكن باعترافه المثير عن جدته تملك شروى نقير! فمَن هنا الذي عليه أن يُعلِّم الشباب كيفية الثبات على المبلغ، وكيفية استبدال الهمبرجر الأمريكي بالفول المصري؟
ثمَّ يعرفها أكثر السيد عبَّاس حين دبَّر انقلابًا ضد أستاذه المغفور له الأستاذ الدكتور إبراهيم نصحي، انتقل به من عضوية الجمعية التاريخية إلى رئاسة الجمعية التاريخية!
وقد كنت — بكل أسف — أحد الذين خدعهم عبَّاس، وساعدوه في هذا الصدد عندما كتبت مقالًا في جريدة «الأهرام»، عن أوضاع مقر الجمعية التاريخية، وصلَت أصداؤه إلى وزارة التعليم العالي التي تبرَّعت بمبلغ من المال للجمعية، وإلى أمير الشارقة الأستاذ الدكتور الشيخ سلطان القاسمي، الذي تبرَّع بمبنًى جديد للجمعية التاريخية، كما تبرَّع بوديعة للصرف على الجمعية!
ومن المثير في هذا الصدد، وممَّا ينسجم مع طبيعة عبَّاس، أنَّه لم يكد يصل إلى رئاسة الجمعية التاريخية حتَّى قام على طريقة الانقلابات العسكرية، بفصل كل الأعضاء الذين يخشى منهم على رئاسته للجمعية، بحجة عدم دفعهم اشتراكات الجمعية دون أن يُوجِّه إليهم أيَّة إنذارات!
ولم تكن لذلك سابقة، وكنت أحد هؤلاء الأساتذة، ومعي عدد كبير من أساتذة التاريخ منهم الأساتذة الدكاترة سيدة كاشف، وحسن حبشي، وزبيدة عطا، ورفعت السعيد وغيرهم، ممَّا أتاح له الفرصة لتحويل الجمعية إلى عزبة خاصة!
وأمَّا الأعضاء الباقون فعمد إلى الاصطدام بهم وتوجيه العبارات النابية إليهم على نحو يُنفِّرهم من البقاء في الجمعية! وهو ما حدث — على سبيل المثال — مع المؤرخ المرموق الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق، الحاصل على جائزة مبارك، الذي نهره قائلًا: «اقعد عوج واتكلم عدل!» ممَّا صدم الدكتور يونان وتسبَّب في دخوله العناية المركَّزة إثر أزمة قلبية!
والعجيب في هذا الصدد ما نسيه من أنَّ الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق حصل على أعلى الأصوات وكان الأول في انتخابات الجمعية التاريخية، في حين كان ترتيب عبَّاس هو السابع! ثمَّ تنازل له عن رئاسة الجمعية! ولكن هذا هو أسلوب عبَّاس في رد الجميل! وهو الأسلوب الذي وصفه الدكتور حسين نصَّار في مقاله السالف الذكر: «اتقِ شر من أحسنت إليه!»
أمَّا ما ذكره عن أنَّني قدَّمت له دعوةً لزيارة سالزبورج، فكل هذه اللقاءات كانت بالتنسيق مع الحكومة المصرية، ممثَّلةً في وزير الدولة للشئون الخارجية الدكتور بطرس بطرس غالي، وكل من شارك فيها من خِيرة الرموز الوطنية الكبيرة؛ من أمثال الأستاذ الدكتور محمود محفوظ، والسفير تحسين بشير وغيرهم. وكانت لقاءاتنا للتنسيق حول هذه المؤتمرات تتم في مكتب الدكتور بطرس غالي بوزارة الخارجية! ومن ثمَّ فليس للسيد عبَّاس أن يفخر بأنَّه لم يكن له أي دور في حقل الجهود الوطنية التي أسفرت عن تحرير سيناء!
أمَّا ما أورده عن الأقباط، فيؤسفنا كثيرًا في هذا الصدد، أنَّه ما زال يُصر على اتهام نظامنا السياسي المصري، الذي يصفه بأنَّه يقف موقف الانحياز ضد الأقباط، ويُطالبني بأن أذكر له عدد الأساتذة المسيحيين الذين شاركوا في وضع الامتحانات العامة خلال الربع قرن الأخير. وهو اتهام بشع وحقير، يُريد به أن يضحك على عقل القارئ! فهو يُضلِّل في هذا الصدد عمدًا؛ فهو يعلم أنَّ ميدان التعليم ميدان واسع جدًّا لا يقتصر على وضع الامتحانات، وإنَّما يتعدَّاه إلى تعيين المدرسين وتعيين النظَّار والمديرين والإداريين وغير ذلك، مِمَّا يعلم هو جيدًا أنَّ الدولة في مصر لم تقف أبدًا ضد تعيين مدرس أو ناظر لأنَّه قبطي، ولكن عبَّاس يُبرهن على وطنيته الخالصة بإعطاء أقباط المهجر الذين يُهاجمون مصر الذخيرة اللازمة، التي يعلم هو جيدًا أنَّها ذخيرة فاسدة!
أمَّا ما أورده عبَّاس من أكاذيب عن تطلُّعي لترشيح الجمعية التاريخية لجوائز الدولة، فأقل ما فيه أنَّه يُثير السخرية؛ فأنا أستاذ في جامعة المنوفية، وقد كانت هذه الجامعة هي التي قامت بترشيحي لجائزة الدولة التقديرية، ولم تكن الجمعية التاريخية التي لم أكن في حاجة إلى ترشيحها كما فعل هو، حين كتب بيده مبرِّرات ترشيحه!
أمَّا محاولته الإيقاع بيني وبين زملائي الذي رشَّحَتْهم الجمعية التاريخية لنيل جوائز الدولة، فهي أكذوبة أخرى من أكاذيبه يُطلقها! فلم أتعرَّض إلا لحالة واحدة هي إصراره على ترشيح الجمعية التاريخية لأستاذ منعته جامعته من الإشراف على السيدات والآنسات! وهو ما نُشِر في مجلة «المُصوِّر» في حينه، ولم يتعرَّض للتكذيب من الجامعة المعنية، وهو ما يعلمه جيدًا! في حين أنَّ أساتذةً أجلاء آخرين لا يُنْكر علمهم أحد تجاهلهم في ترشيحات الجمعية التاريخية، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور حسن حبشي، والأستاذة الدكتورة سيدة كاشف وآخرون!
وقد كان لومي ﻟ «عبَّاس» بعدم ترشيح الجمعية التاريخية لهؤلاء، هو ما أغضبه وجعله ينسحب إلى غير رجعة من لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة!
أمَّا عن طعنه في نشاط لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة التي أشرف برئاستها، فهو هنا يضحك على نفسه! فاللجنة حتَّى لحظة كتابة هذه السطور تَشْرُف بعضوية أكبر أساتذة التاريخ في مصر، منهم خمسة يحملون جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وأستاذ يحمل جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية، ولا يُطاول قاماتهم أحد في الجمعية التاريخية، بعد أن تخلَّص عبَّاس من كل الأعضاء الكبار بحجة عدم دفع الاشتراكات! وجميع هؤلاء الأعضاء يُشاركون بجهدهم العلمي حتَّى لحظة كتابة هذه السطور!
وبعد هذا كله فمن المؤسف حقًّا أن يزج عبَّاس باسم السيد رئيس الجمهورية في رده، فيزعم أنَّني كنت أزج باسم الرئيس مبارك، في اجتماعات اللجنة، مُدَّعيًا أنَّ «الرئيس يتصل بي يوميًّا ويحرص على استلهام الحكمة مني!» وهو كذب ودس رخيص، بل هو إفراز عقلية مباحثية، لا تفترق كثيرًا عن عقلية رجال صلاح نصر الذين كانوا يُلفقون التُّهم ضد الأبرياء، فيشهد على كذبه وافترائه في هذا الصدد كل أعضاء لجنة التاريخ، بالمجلس الأعلى للثقافة، وهم أكبر مؤرخي مصر، والذين يملكون ضميرًا حيًّا لست أظن أنَّ عبَّاس فيما كتبه وادَّعاه يملكه!