التسلُّل إلى الجامعة
شُغل من حصلوا معه على الثانوية العامة عام ١٩٥٧م بالتقدُّم إلى مكتب التنسيق (الذي كان من جهود ثورة يوليو الإصلاحية لضمان عدالة توزيع الطلاب على الجامعات)، فلم يعد القَبول مرهونًا بالوساطة والمحسوبية كما كانت الحال في العصر الملكي. أمَّا صاحبنا فأعَدَّ كل أوراقه لغرض آخر؛ البحث عن عمل؛ فإلى جانب شهادة الثانوية العامة وشهادة الميلاد، هناك شهادات أخرى لا بد من تجهيزها أيضًا هما شهادة الجنسية المصرية وشهادة حُسن السير والسلوك، وهما تُوقَّعان من اثنَين من الموظفين لا يقل مرتب كل منهما عن عشرين جنيهًا، ولمَّا لم يكن والده يعرف أحدًا من أصحاب هذه الرواتب (الكبيرة)، لجأ إلى البديل وهو عمدة قرية طنوب الذي تولَّى مهمة إعداد الشهادتَين من مركز كفر الزيات عن طريق المأمور. هذه الأمور التي تبدو تافهةً اليوم، لا مبرِّر لها، كانت من المُعضلات التي تُواجه الفقراء في تلك الأيام.
كانت البلاد تمر — عندئذ — بفترة ركود اقتصادي، فلم تكن هناك وظائف متاحة بالحكومة. سأل الوالد كل معارفه بالسكة الحديد والتلغراف، فكانت الوظائف المتاحة تتطلَّب سلامة الإبصار «٦ / ٦»، أمَّا قوة إبصار صاحبنا فكانت «٦ / ١٨»، وكان يستخدم نظارةً طبية منذ العاشرة من عمره؛ وبذلك لا يصلح للالتحاق بمدرسة الحركة والتلغراف التي كانت تابعةً لمصلحة السكة الحديد، ومدة الدراسة بها تسعة شهور، يُعيَّن الطالب بعدها بوظيفة معاون محطة أو معاون تلغراف. فلم يتبقَّ إلا البحث عن العمل بإحدى الشركات. ودلَّ بعض أهل الخير الوالد على موظَّف بشركة مصر للتأمين يقيم بحي العباسية بالقاهرة، فتوجَّه صاحبنا لزيارته بمنزله في أقرب يوم جمعة.
كان عبد الحكيم أفندي رجلًا طيبًا عنده خمسة أولاد حصل أكبرهم على الثانوية العامة القسم الأدبي في العام نفسه بمجموع نسبته ٥٢٪، وعندما ألقى نظرةً على استمارة النجاح في الثانوية العامة الخاصة بصاحبنا، قال له: «يا بني خسارة تضيَّع فرصة دخول الجامعة، دا أنت مكانك فيها مضمون.» وراح يشرح له الظروف الاقتصادية الراهنة، وكيف أن الشركات «توفِّر» الموظفين، وأنه نفسه في وضع غير مستقر (على كف عفريت)، ونصحه بتقديم أوراقه إلى مكتب التنسيق يوم السبت، قبل أن يغلق أبوابه يوم الإثنين فتضيع الفرصة من يده ربما إلى الأبد. أمَّا الحصول على عمل فسوف يستغرق وقتًا طويلًا بسبب الأزمة، ويمكنه مواصلة البحث عن عمل أثناء الدراسة وتغيير حالته من طالب نظامي إلى طالب منتسب عندما يحصل على عمل.
وراح صاحبنا يشرح للرجل ظروفه العائلية البائسة التي تجعل حصوله على عمل هدفًا أساسيًّا، وأنه إذا قُبلت أوراقه بالجامعة، فمن أين يستطع أن يدفع مصروفات الجامعة التي كانت تبلغ ثمانية عشر جنيهًا ونصفًا، فهو مبلغ يزيد عن راتب والده بحوالي خمسة جنيهات، ثم إن ما معه من نقود يقل عن الجنيه الواحد، فكيف يدبِّر الجنيهات القليلة لرسوم التقديم والدمغات وكان يقترب من الثلاثة جنيهات؟!
أطرق الرجل مليًّا، وحوقل عدة مرات، ثم قام من مجلسه وترك الغرفة، وعاد بعد دقائق ليضع فوق أوراق صاحبنا مظروفًا صغيرًا فيه ثلاثة جنيهات، فرفض صاحبنا قَبول المبلغ، وهبَّ للانصراف كمن لدغه ثعبان، فسدَّ الرجل الباب بظهره وهو يردِّد: «صدقة … تقول إنك لا تقبل الصدقة. هذا قرض حسن أقدِّمه لك اليوم لتردَّه لي حين ميسرة.» وأقسم بالطلاق ألَّا يسمح له بالانصراف إلا إذا قبل «القرض»، فاضطُر للقَبول، وانصرف حزينًا باكيًا، غارقًا في إحساس عميق بالعجز وقلة الحيلة، يؤنِّب نفسه لتخاذله أمام الرجل وقَبول «قرض» لا يعرف متى يرده إلى صاحبه وكيف.
بات ليلته بعزبة هرميس، فلم يطرق النوم جفنَيه إلا قُبيل الفجر؛ فقد انتابته الهواجس طوال الليل، ألَا يعني تقديم أوراقه غدًا لمكتب التنسيق توريطًا لوالده العاجز عن تدبير ضرورات الحياة لأسرته؟ وما فائدة التقدُّم للجامعة وهو يعلم أن مصروفاتها بعيدة عن متناول أيدي أمثاله من أبناء الفقراء، حتى لو حصل على عمل فلن يتجاوز راتبه عشرة جنيهات، فكيف يساعد والده ويعيش ويغطِّي نفقات الدراسة في الجامعة؟! ثم يستعيد حديث عبد الحكيم أفندي معه، وهكذا حتى نام نومًا قليلًا لسويعات محدودة.
وفي الصباح الباكر ركب ترام ٣٠ من شارع شبرا في الطريق إلى الجيزة حيث مكتب التنسيق، واشترى الدمغات والاستمارات وقدَّم أوراقه، وعاد إلى باب الحديد ليركب القطار إلى منوف ومنها إلى طنوب حاملًا معه إيصال مكتب التنسيق، وطوال الطريق يفكِّر فيما يكون من رد الفعل عند أبيه.
بدأ حديثه مع والده بما دار بينه وبين عبد الحكيم أفندي من حديث الأزمة الاقتصادية وتعذُّر العثور على عمل في المنظور القريب، ثم انتقل إلى حديث الرجل حول ضرورة تقديم الأوراق إلى مكتب التنسيق ثم يبحث عن عمل، فقاطعه الأب: «قصره. قدمت ورقك للجامعة؟» فهزَّ رأسه بالإيجاب، فقال الأب: «إن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها … لا شأن لي بك. حسبي الله ونعم الوكيل (كررها ثلاث مرات).»
كانت ليلةً حزينة في البيت تداخلت فيها أسباب الحزن؛ فالأم ومن يعي من الإخوة حَزانى لموقف الأب دون إدراك لحقيقة بؤسه التي كان صاحبنا يعيها جيدًا، ويقدِّر للأب موقفه، أمَّا الإخوة الصغار فهم حَزانى لأن جو البيت تسوده الكآبة بمجرَّد غضب الأب على أحد أفراد الأسرة. ونام صاحبنا ليستيقظ فزعًا على حلم مفزع رأى فيه الأب يسقط بين يديه ميتًا، وهو يندب حظه العاثر. قرَّر بينه وبين نفسه أن يلتحق بأي عمل مهما كان شأنه ليعول نفسه حتى يجد عملًا ثابتًا يستطيع مساعدة والده عن طريقه في تحمُّل أعباء الأسرة.
وفي صباح اليوم التالي طلب من أمه أن تُخبر أباه اعتزامه السفر إلى القاهرة (وكان يحمل أبونيه مجاني يُصرف لأبناء العاملين بالسكة الحديد)؛ فقد جرت العادة أن يقاطع الأب من يغضب عليه عدة أيام. فلم يردَّ الأب بما يفيد الرفض أو الموافقة، بل نظر إليها ولزم الصمت، واعتبر صاحبنا أن هذا السكوت لا يعني الرفض على أقل تقدير، فسافر توًّا إلى القاهرة وراح يبحث عمَّن يُقرضه من أقاربه حتى يجمع المبلغ المطلوب لرسوم الدراسة فلم يجد ترحيبًا من أحد، حتى من كان باستطاعتهم مساعدته منهم امتنع بحجة عدم جدوى ذلك لأن أمامه مرحلةً طويلة، والبلد حالته الاقتصادية سيئة والبطالة تتزايد؛ فلا أمل لمن يتعاون معه في استرداد ما دفع، سيدة واحدة هي ابنة خالة أبيه قدَّمت له خمسة جنيهات كاملة، وطلبت أن يُبقي الأمر سرًّا بينهما؛ لأن تلك الجنيهات من مبلغ ادَّخرته للزمن لا يعرف عنه أحدٌ شيئًا، فكانت هذه مكرمةً لم ينسَها أبدًا لها حتى رحلت عن عالمنا في أوائل التسعينيات.
كان المجموع الذي حصل عليه صاحبنا في الثانوية العامة يكفل له الالتحاق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكانت جامعة القاهرة تتميَّز بقَبول الطلاب الأعلى مجموعًا تليها جامعة عين شمس ثم جامعة الإسكندرية، فلم يكن هناك سوى هذه الجامعات الثلاث في مصر، وكانت جامعة أسيوط في مرحلة الإنشاء، ولكنه اختار آداب عين شمس رغبةً أولى تليها آداب القاهرة، ولم يذكر أي كلية أخرى. وعندما أُعلنت نتيجة القَبول وجد اسمه الثالث بين المقبولين بآداب عين شمس، وجاء اختياره لجامعة عين شمس مرتبطًا بظروفه الشخصية؛ فكلية الآداب كانت في شبرا، وبذلك يستطيع السفر يوميًّا إلى الجامعة بالأبونيه المجاني، ويصل إلى الكلية سيرًا على الأقدام حتى لا يضطر إلى الإقامة مع جدته مرة أخرى لذلك كانت سعادته بالغة عندما قُبل بآداب عين شمس.
عندما ذهب إلى الكلية لأول مرة فوجئ بأن من حق مَن يحصل على ٦٠٪ فما فوق من غير القادرين على سداد المصروفات أن يتقدَّم بطلب للحصول على المجانية مشفوعًا ببحث اجتماعي عن حالته من وحدة الشئون الاجتماعية التابعة لمحل إقامته، فقام بإعداد الأوراق المطلوبة وتقديمها، وأُعلنت كشوف أسماء من حصلوا على المجانية بعد ثلاثة أسابيع، فلم يدفع سوى ٣٦٠ قرشًا رسوم للقيد بدلًا من المصروفات التي كانت تبلغ ثمانية عشر ونصف جنيه فيما يذكر. ولم تكن مجانية التعليم قد امتدَّت إلى التعليم العالي إلا في يوليو ١٩٦٣م، ورغم ذلك بنت حكومة الثورة سياستها على التوسُّع في منح المجانية لمن يطلبها، وكان المستنَد الوحيد الذي يبرِّر الإعفاء (البحث الاجتماعي) يتم بمجرَّد تقديم الطلب، فيسأل الطالب عن وظيفة أبيه وراتبه الشهري، وعدد أفراد الأسرة، دون مطالبته بأي مستندات دالة على صحة البيانات، ويتم تحرير البحث الاجتماعي وتسليمه لطالبه بعد ختمه بخاتم الدولة. وأغلب الظن أن أولئك الموظَّفين بالشئون الاجتماعية كانت لديهم تعليمات بالتساهل مع طلاب المجانية، فكان عدد من يُعفَون من المصروفات بالكلية سنويًّا يزيد قليلًا عن نصف جملة عدد الطلاب، وكان الاحتفاظ بالمجانية يقتضي الحصول على تقدير «جيد» على الأقل كل عام، وهو ما حصل عليه صاحبنا، واستطاع عن طريقه متابعة الدراسة حتى التخرُّج بفضل القواعد التي وضعتها ثورة يوليو للقَبول بالجامعات التي ركَّزت على التحصيل الدراسي، وأسقطت من اعتبارها الخلفية الاجتماعية للطالب، وبفضل التوسُّع في منح المجانية لغير القادرين على سداد المصروفات. ففتحت باب التعليم الجامعي أمام فئات اجتماعية لم تكن تحلم في عهد الملكية بالوقوف أمام باب الجامعة فضلًا عن الالتحاق بها. وكان صاحبنا من ضمن هؤلاء.
كانت السنوات من ١٩٥٧م (تاريخ التحاقه بالجامعة) حتى ١٩٦١م (تاريخ تخرجه) سنواتٍ عجافًا في تطوُّر مصر الاقتصادي؛ فرغم الإغراءات التي قدَّمتها حكومة الثورة لرأس المال من خلال الدراسات الجاهزة التي أتاحها المجلس القومي للإنتاج والمجلس القومي للخدمات من مشروعات استثمارية في المجالَين، ورغم تقديم ظرف تاريخي نادر وملائم للتنمية الرأسمالية عندما صدرت قرارات تمصير الشركات والبنوك الأجنبية الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية وغيرها من الشركات التي سيطرت على الاقتصاد المصري، وطُرحت أسهمها للمصريين، لم يُقبِل رأس المال الوطني على الاستثمار، كما لم تكن تلك الخطوة مشجعةً لرأس المال الأجنبي. وكانت تلك الأزمة الاقتصادية الخانقة التي لم تجد الحكومة مخرجًا منها إلا بالتحوُّل نحو القيام بأعباء التنمية بنفسها، فكانت قرارات يوليو ١٩٦١م (الاشتراكية).
كان لهذا الركود أثره البالغ طوال السنوات الأربع على سوق العمل، فكانت الفرص محدودة، ويحتاج الحصول عليها إلى وساطة، وكان التعيين في الحكومة مركزيًّا يتم من خلال مسابقات ديوان الموظفين التي كانت تكلِّف المتقدِّم نحو العشرة جنيهات، ثم يتم ترتيب الناجحين، ويتم التعيين بالدور من بين الناجحين في المسابقة حسب الترتيب، ومن لم يُصِبه الدور في السنة المالية التي دخل فيها المسابقة، كان عليه التقدُّم للمسابقة الجديدة. وكانت إعلانات ديوان الموظفين قصرًا على حمَلة الشهادات المتوسطة، فاضطُر حمَلة المؤهِّلات العليا إلى التقدُّم إلى هذه المسابقة للحصول على وظيفة كتابية أو فنية أملًا في تسوية أوضاعهم وفق مؤهلاتهم العليا فيما بعد. ولم يزِد عدد من يحصلون على فرصة التعيين بالحكومة (المجال الوحيد المتاح) عن ٢٠–٢٥٪ من جملة عدد الناجحين في تلك المسابقة.
انعكس ذلك كله على صاحبنا، فلم يوفَّق في الحصول على فرصة العمل التي تعلَّقت بها آمال أسرة كاملة، ولم تتوافر له الأسباب المادية للمغامرة في التقدُّم إلى مسابقات ديوان الموظفين، وكان بعض زملائه بالجامعة يتقدَّمون لها كل عام ولكن لا يُصيبهم الدور للتعيين، ولم ينَل بعضهم تلك الفرصة إلا في الشهور القليلة السابقة على تخرُّجه بعد طول انتظار. وظلَّ صاحبنا يبحث عن عمل دون كلل، وكاد يحقِّق أمله مرتين؛ الأولى وهو بالفرقة الثالثة عندما ساعده أحد المعارف في الحصول على وظيفة بأسوان، فلم يقبلها لأنها كانت وظيفة مشرف مقيم بإصلاحية الأحداث، تبدِّد أملَه في التخرُّج. والوظيفة الثانية كانت مؤقتةً في قسم التسويق بإحدى شركات التأمين، يُحدَّد الأجر فيها تبعًا للإنتاج، وهو قدرته على بيع بوالص التأمين في ظل اقتصاد راكد، فمضى شهر ونصف الشهر دون أن يتمكَّن من بيع بوليصة واحدة وترك العمل (الذي لم يكن عملًا جديًّا).
استطاع صاحبنا أن يسترضي والده عن طريق وساطة بعض أهله وأصدقائه، فقبل الرجل بأمر واقع لا يملك له دفعًا. وحرص على ألَّا يكلِّف الرجل أكثر ممَّا يطيق، فكان يمارس بعض الأعمال في إجازة الصيف يوفِّر منها مبلغًا محدودًا استطاع أن يسدِّد منه ديونه في السنة الأولى، وأن يدفع رسوم الدراسة البسيطة في كل عام ويشتري مستلزمات الدراسة من الكشاكيل والأقلام، والقليل والضروري ممَّا يحتاجه من ملابس.
كان لا بد له من قضاء العام الدراسي الأول بعزبة هرميس عند جدته، ولكنه اتخذ من المكان مهجعًا، فكان يظل بمكتبة الكلية حتى موعد إغلاقها في السادسة مساءً، أو يقضي اليوم بدار الكتب المصرية بباب الخلق، ويكتفي من الطعام بما يقيم الأوَد. وكان اضطراره للإقامة مع الجدة مرةً أخرى يعود إلى صعوبة الوصول إلى القاهرة من طنوب يوميًّا قبل الظهر، ممَّا يعني حرمانه من المحاضرات الصباحية، وكان عليه (في حالة السفر يوميًّا) مغادرة القاهرة الساعة الثالثة بعد الظهر، ممَّا يعني حرمانه من المحاضرات المسائية.
وهيَّأ القدر لضيقه بهذا الوضع مخرجًا، فنُقل الوالد — ومعه الأسرة — في العام التالي إلى محطة الحامول منوفية، فاستطاع السفر يوميًّا، وكان يُضطر إلى السير على الأقدام من الحامول إلى محطة منوف مسافة خمسة كيلومترات للحاق بالقطار السريع القادم من شبين الكوم والمتجه إلى القاهرة (وكان لا يتوقَّف بالحامول)، ويغادر محطة منوف في السابعة صباحًا. ولمَّا كان هذا القطار يمكِّنه من حضور المحاضرات الصباحية التي تبدأ في التاسعة، كان عليه أن يلحق به مرتَين أسبوعيًّا (على الأقل)، وكان يُضطر للعودة بالقطار الذي يغادر القاهرة في السادسة والنصف مساءً مرةً واحدة (على الأقل) أسبوعيًّا، فيصل إلى منوف في الثامنة إلا ربعًا، ثم يقطع صاحبنا مسافة الخمسة كيلومترات ليصل إلى البيت حوالي التاسعة مساءً. أمَّا كل تنقُّلاته بالقاهرة من باب الحديد إلى الكلية بشبرا، أو إلى أماكن البحث عن عمل، فكانت تتم سيرًا على الأقدام. واستمرَّ على هذه الحال حتى تخرُّجه عام ١٩٦١م، دون أن يضيق بواقعه البائس، أو يجعل أحدًا من زملائه يعرف عنه شيئًا، بل كان حريصًا ألَّا يبدو مظهره مختلفًا عن زملائه. وجاءت ملامحه الصارمة وجديته في الدراسة لتجعل زملاءه الذين يقتربون منه أو يقترب منهم يعاملونه بقدر ملحوظ من الاحترام، وخاصةً أنه كان لا يتوانى عن تقديم العون العلمي لكل من يلجأ إليه من الزملاء.
كان اختياره لآداب عين شمس — الذي دفعته إليه الظروف — اختيارًا موفَّقًا بكل المعايير؛ لأنها تميَّزت عن جامعة القاهرة في كل شيء؛ برامج الدراسة، أسلوب التدريس، نظم الامتحانات وتقييم الأداء. افتُتحت الجامعة عام ١٩٥١م باسم «جامعة إبراهيم باشا الكبير»، بعد نحو ستة أعوام من افتتاح جامعة الإسكندرية التي حملت اسم «جامعة فاروق الأول». ولعبت جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول عندئذ) دورًا هامًّا في تزويد الجامعتَين الوليدتَين بالأساتذة. وكان هناك نوع من الحافز (في الحالتَين) لتشجيع أعضاء هيئة التدريس على الانتقال إلى جامعة الإسكندرية أو جامعة عين شمس، هو إمكانية شغل كراسي الأستاذية المنشأة حديثًا بتلك الجامعات بالنسب للأساتذة المساعدين الذين كان عليهم الانتظار سنوات لا يعلم عددها إلا الله للترقية إلى درجة أستاذ عندما يخلو الكرسي برحيل شاغله إلى رحاب الله أو بلوغه سن المعاش، فحظيت كلٌّ من الجامعتَين الوليدتَين بعناصر متميِّزة من هيئة التدريس بجامعة القاهرة، انتقلت برغبتها، أو أُجبرت على الانتقال للتخلُّص من جو الصراعات التي كانت الغيرة المهنية (وليس التنافس العلمي) أبرز أسبابها، وأبرز مثال لذلك حالة الدكتور عزيز سوريال عطية الذي اقتُلع من جامعة القاهرة ونُقل إلى الإسكندرية، ليلمع هناك ويكوِّن مجموعةً من أبرز المتخصِّصين في العصور الوسطى، فأثار على نفسه غيرة زملائه، فسمَّموا الآبار أمامه، واضطُر الرجل إلى الهجرة إلى أمريكا، وذاع صيته في الغرب وكوَّن مدرسةً كبيرة هناك. وحالة عزيز سوريال عطية ليست فريدةً في نوعها؛ فتاريخ جامعة القاهرة مملوء بنزيف الكفاءات العلمية بسبب فساد الجو الأكاديمي في تلك الجامعة العريقة.
اجتذبت جامعة عين شمس من أساتذة التاريخ القديم الدكتور إبراهيم نصحي بك الذين كان أول عميد لكلية الآداب، وقد عزلته الثورة من العمادة بسبب صِلاته بالقصر الملكي؛ فقد كان أخوه حسن حسني باشا سكرتيرًا للملك فاروق، وظلَّ إبراهيم نصحي رئيسًا لقسم التاريخ والآثار حتى أُحيل إلى المعاش عام ١٩٦٦، وظلَّ يدرِّس بالجامعة حتى وفاته عام ٢٠٠٤م عن عمر يناهز الثامنة والتسعين. وكان الدكتور أحمد بدوي — أيضًا — ممن كسبتهم جامعة عين شمس من أساتذة التاريخ القديم، وقد أعادته الثورة إلى جامعة القاهرة مديرًا للجامعة. وشغل الدكتور عبد الهادي شعيرة كرسي تاريخ العصور الوسطى، كما شغل الدكتور أحمد عزت عبد الكريم كرسي التاريخ الحديث. وكل واحد من هؤلاء الأساتذة وضع نصب عينَيه أن يحقِّق في الجامعة الجديدة ما لم يتَح له أن يحقِّقه في الجامعة الأم، ولم تختلف الأقسام الأخرى كثيرًا عن قسم التاريخ والآثار.
وإلى جانب من تمَّ نقلهم من الأساتذة المساعدين وترقيتهم إلى الأستاذية، أوفدت الجامعة الوليدة بعثةً من أوائل خريجي جامعتَي القاهرة والإسكندرية من حمَلة الماجستير إلى لندن وباريس للحصول على درجة الدكتوراه، وعاد هؤلاء لتولِّي مهمة التدريس بالجامعة عامَي ١٩٥٦م، ١٩٥٧م، وكان من بين هؤلاء بقسم التاريخ والآثار الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى مدرس التاريخ الحديث، والدكتور حسن حبشي مدرس التاريخ الوسيط وزميله الدكتور عبد المنعم ماجد، أمَّا الدكتور زينب عصمت راشد أستاذ التاريخ الحديث المساعد فكانت من بين من نُقلوا من جامعة القاهرة.
وكانت برامج الدراسة بآداب القاهرة تختلف عنها في آداب عين شمس؛ فهي تقدِّم للطالب خليطًا غير متناسق من مواد من مختلِف عصور التاريخ، وُضعت تلبيةً لرغبات ومصالح أساتذة التخصُّص في تاريخ كل عصر من تلك العصور، فتحدث مزاحمة بالمناكب من أجل زيادة حصة كل عصر على حساب الآخر، بلغ هذا التزاحم ذروة المأساة عندما قُسم تاريخ العصور الوسطى إلى كرسيَّين (أي تخصصَين) الإسلامي والعصور الوسطى. وبلغت المأساة ذروتها عندما شغل كرسي التاريخ الإسلامي وكرسي التاريخ الوسيط متخصِّصان في تاريخ المماليك؛ ممَّا يعني غلَبة المصالح الشخصية على الهدف الأسمى، وهو التكوين العلمي للطالب.
أمَّا في جامعة عين شمس، فقد صاغ الآباء المؤسِّسون برامج الدراسات على نسق السوربون بباريس، فأخذت بنظام «الشهادات» الذي يبدأ بشهادة إعدادية، يدرس الطالب فيها اللغات والمنهج ومقرِّرات تمهيديةً في العصور القديمة والوسيطة والحديثة. وكان من المنطقي أن تُخصَّص الشهادة الأولى في التخصُّص للعصور القديمة، ولكن نظرًا لكون أستاذ التخصُّص كان يشغل وظيفة رئيس القسم وعميد الكلية، فقد أُرجئت إلى الفرقة الرابعة دون مبرِّر علمي لذلك، كما تسبَّب في عجز قسم التاريخ عن تخريج من يحصلون على تقدير «جيد جدًّا» ويصلحون للتقدُّم لوظيفة «المعيد»، على عكس الأقسام الأخرى بالملية نفسها التي أفرزت كوادرها الأكاديمية من بين خريجيها. وهكذا جاءت «شهادة العصور الوسطى» تاليةً للشهادة الإعدادية (الفرقة الثانية) و«شهادة العصر الحديث» في الفرقة الثالثة.
ولم تعرف آداب عين شمس — الستينيات — المذكِّرات والكتب الدراسية؛ فقد تأخَّر وصول هذا الوباء إليها إلى أوائل الستينيات؛ فكان الأستاذ يُعرِّف الطلاب في محاضرته الأولى على مكوِّنات المقرَّر، ويحدِّد ما يتولَّى تغطيته في المحاضرات، وما يتركه ليعده الطلاب بأنفسهم بالرجوع إلى قائمة المراجع التي يزوِّدهم بها، فإذا لم يجدها الطالب في مكتبة الكلية كان عليه أن يبحث عنها بدار الكتب المصرية. وكان الكثير من المراجع الأساسية بالإنجليزية؛ ممَّا يجعل الطالب مُلزَمًا باستخدامها. وكان الاهتمام كبيرًا بالجانب التطبيقي؛ فعلى الطالب أن يُعد ما لا يقل عن بحثَين في الفصل الدراسي الواحد على يد من يتولَّى تدريس «مادة البحث»، وكانت تلك المادة تؤخذ من جانب الأساتذة مأخذ الجد؛ فهناك متابعة أسبوعية لمدى تقدُّم الطالب من إعداد المقال العلمي الذي كلَّفه به الأستاذ، وهناك تصحيح دقيق لكل مقال، وإلزام الطالب بإعادة كتابته إذا لم يكن مناسبًا، وهناك حد زمني معين على الطالب الالتزام به وعدم تجاوزه لتقديم المقال، ومعنى ذلك أن الطالب يُدرَّب على كتابة مقال علمي في تخصُّص معيَّن (عصر محدَّد) أربع مرات في العام الدراسي الواحد، وكانت نتيجة «أعمال السنة» تُعلَن قبل موعد الامتحان التحريري بأسبوعَين، ويُحرم الراسب فيها من دخول امتحان الفصل الدراسي؛ فكان الرسوب فيها يعني الرسوب في أربع مواد، ممَّا يعني وضع مصيره في كف القدر، فإذا لم يحصل على درجات مناسبة في الفصل الدراسي الآخر تؤهِّله للحصول على تقدير «ضعيف»، فُصل من الجامعة؛ لأن اللائحة كانت تنص على فصل كل من يحصل على تقدير «ضعيف جدًّا»، أمَّا من يحصل على تقدير «ضعيف» فله حق الإعادة فيما رسب فيه.
وهكذا كانت مكتبة الكلية مكتظةً بالطلاب طوال اليوم من التاسعة صباحًا إلى السادسة مساءً، وانتشر طلبة آداب عين شمس في قاعات دار الكتب المصرية. أمَّا طلاب الانتساب فكانوا يُكلَّفون بدراسة موضوع معيَّن في كل فصل دراسي يحدَّد له أربعة مراجع على الأقل، يؤدُّون فيه امتحانًا تحريريًّا قبل موعد الفصل الدراسي بشهر، فإذا لم ينجح الطالب المنتسب في تلك المادة حُرم من دخول امتحان الفصل الدراسي، وتعرَّض لِمَا يتعرَّض له الطالب المنتظم من مخاطر.
ولا عجب أن تجد طلاب الفرقة الأولى عام ١٩٥٧م (الذين كان من بينهم صاحبنا) يبلغون نحو ٢٧٥ طالبًا (٢٠٠ منتظم + ٧٥ منتسبًا) تتم تصفيتهم ليصبح عدد خريجي قسم التاريخ عام ١٩٦١م (الدفعة العاشرة التي ينتمي إليها صاحبنا) ٦٨ خريجًا فقط؛ ممَّا يعكس مدى جدية الدراسة، ودقة تقويم أداء الطلاب، ونوعية تكوين الخريج. ويكفي للدلالة على ذلك كله أن أربعةً من بين خريجي هذه الدفعة تابعوا دراستهم العليا حتى حصلوا على الدكتوراه، واحتلوا مكانهم ضمن هيئة التدريس بالجامعات، كان صاحبنا واحدًا منهم.
وكان من بين شباب الأساتذة (عندئذٍ) الذين درس عليهم صاحبنا؛ مصطفى الشكعة في الأدب العربي، وحسين مجيب المصري في اللغة الفارسية، ويوسف أبو الحجاج ودولت صادق ومحمد رياض في الجغرافيا، وحليم تادرس في اللغة الإنجليزية (وكان منتَدَبًا من خارج الكلية). ومن بين أعضاء هيئة التدريس بآداب الإسكندرية درَّس له تاريخ الشرق الأدنى القديم رشيد الناضوري، والنظم اليونانية وحضارة مصر في العصر البطلمي محمد عواد حسين، ومن أعضاء هيئة التدريس بآداب القاهرة درَّس له تاريخ اليونان ومصر في عصر الرومان عبد اللطيف أحمد علي، وتاريخ مصر الفرعونية أحمد فخري، وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى سعيد عاشور. وقد ترك بعض هؤلاء أثرًا ملحوظًا في تكوينه، ومرَّ آخرون منهم في حياته مرورًا عابرًا دون أن يتأثَّر بهم. وكان همُّ أحد السكندريين بيع كتابه، يحمله معه من الإسكندرية في حقيبة كبيرة، يوزِّعه بنفسه على طالبي الشراء (وكان هذا غريبًا على جامعة عين شمس)، أمَّا الآخر، فكان يملي المحاضرات على الطلاب ببطء شديد، كلمةً كلمة على طريقة مدرس اللغة العربية بالمدرسة الابتدائية بعبارات إنشائية مليئة بالمترادفات، فكان صاحبنا يجلس (على غير عادته) في الصف الأخير من قاعة المحاضرات ويستمع إلى ما يمليه الأستاذ ثم يقوم بكتابة الأفكار الرئيسية التي جاءت بالمحاضرة، ويُهرع إلى المكتبة بعد المحاضرة ليراجع الموضوع بأحد المراجع الإنجليزية مسترشدًا بالنقاط التي جاءت بمحاضرة الأستاذ، ويصوغ لنفسه نصًّا آخر، وكان من عادة الأستاذ المرور بين صفوف مقاعد الطلاب أثناء إملائه للنص الهزيل بصوت جَهْوري، فلمح صاحبنا جالسًا في آخر القاعة لا يكتب، فاقترب منه وسأله: «لماذا لا تكتب يا ولد؟» فردَّ عليه بقوله: «إنني أستوعب ما يرد بالمحاضرة من معلومات أكتفي بتلخيصها.» وتناول الرجل الكشكول ليجد أن ما كتبه الطالب حوالي عشرة سطور بعدما يزيد على ساعة ونصف من الإملاء، فقذف الكشكول في وجهه، وطرده من الفصل، ولم يشأ صاحبنا أن يعود إلى حضور محاضرات هذا الرجل مرةً أخرى؛ فقد عُرف بقسوته في معاملة الطلاب وتنكيله بمن يجرؤ على مناقشته. وكان صاحبنا في الفرقة الرابعة على وشك التخرُّج، فكان الاحتكاك بهذا الرجل فيه خطر شديد على مستقبله؛ لذلك فضَّل الاختفاء من قاعة الدرس، فلم يكن يستفيد شيئًا من ذلك الأستاذ على كل حال.
وهناك آخر من آداب القاهرة كان له كتاب يفرضه على الطلاب (وهو أمر شائع في آداب القاهرة)، ويحفظ الكتاب عن ظهر قلب، ومحاضرته عبارة عن استظهار (تسميع) للكتاب الذي يحفظ نصه عن ظهر قلب، وكأنه من وحي السماء. استمع إليه صاحبنا مرتَين فقط، ثم فضَّل أن يستثمر وقته في قراءات حول الموضوع بالمكتبة، واكتشف — مصادفة — أن فصول الكتاب عبارة عن ترجمة لبعض فصول كامبردج في تاريخ ذلك العصر!
مدرِّس شاب أثَّر تأثيرًا بالغًا في صاحبنا هو الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، ابن سوهاج، الذي كان عائدًا لتوِّه من البعثة التي حصل بها على الدكتوراه من جامعة لندن، درس عليه مناهج البحث بالفرقة الأولى، ولم يدرس عليه مرةً أخرى سوى في الفرقة الثالثة، ولكنه ارتبط به منذ المحاضرة الأولى التي سمعها منه؛ فهذا المدرس الشاب كان يحث التلاميذ على التفكير، ونبذ المسَلَّمات ما لم يقم الدليل العقلي على صحتها، وأن الحقيقة التاريخية ليست كاملة، وأن الموضوعية مسألة نسبية. كان هذا الكلام جديدًا على صاحبنا لا في موضوعه فحسب، بل وفي طريقة طرحه، وأسلوب عرضه. وبعد المحاضرة سار صاحبنا بجوار أستاذه الشاب يناقشه في بعض ما سمعه منه، وطرح عليه سؤالًا معينًا، فإذا به يفاجأ بالرجل يقول له إنه ليس متأكدًا تمامًا من الإجابة، واقترح على التلميذ أن يبحث عن الإجابة في كتاب معين، وأن يلتقي به إذا وجد نفسه في حاجة إلى الإيضاح … لقد أراد بذلك أن يعود التلميذ المبتدئ البحث عن المعلومة بنفسه أولًا قبل الرجوع إليه.
كان صاحبنا عندما اختار الالتحاق بقسم التاريخ والآثار يظن أنه يستطيع التخصُّص في الآثار، ويحقِّق حلمه في أن يصبح من علماء الآثار. ولكنه علم بعد فترة وجيزة من التحاقه بالقسم أن شعبة الآثار لم تفتح بعد، فاستقرَّ رأيه على أن يتخصَّص في التاريخ القديم. غير أنه لم يجد فيمن درَّسوا له بالفرقة الأولى من مدرسي التاريخ القديم من يحفزه إلى اختيار هذا التخصُّص، أو يقدِّم له القدوة المناسبة التي تجعله يختار السير على الدرب.
وعندما جلس إلى أحمد عبد الرحيم مصطفى وجد فيه القدوة التي ينشدها، واتخذه مثلًا أعلى له، وتمنَّى (بينه وبين نفسه) أن يصبح مثله. ومنذ ذلك اليوم حدَّد هدفه الأساسي في الحياة، وهو العمل على أن يتخصَّص في التاريخ الحديث، وأن يتعلَّم على يد هذا الرجل.
كان الأساتذة يحرصون على ترك مسافة واسعة بينهم وبين الطلاب، حفاظًا على «هيبة» الأستاذ، القليل منهم يسمح للطلاب بمناقشته في أضيق الحدود، وغالبيتهم لا يسمحون بذلك، ويضيقون ذرعًا بمن يطرح سؤالًا أثناء المحاضرة. أمَّا أحمد عبد الرحيم مصطفى فكان إنسانًا عظيمًا، ومربيًا عبقريًّا، قبل أن يكون أستاذًا. التحم بتلاميذه، ولم يترك مسافةً بينه وبينهم. ذهب صاحبنا يومًا إلى لقائه بحجرة الأساتذة بالكلية، وكانت قاعةً واسعة بها مكتبه، ومكاتب كل من عبد المنعم ماجد، وزينب عصمت راشد، وحسن حبشي، وأحمد عزت عبد الكريم. وكانت هذه الغرفة أشبه ما تكون بقدس الأقداس في المعبد الفرعوني، لا يدخلها إلا أعضاء هيئة التدريس؛ ولذلك عندما صرَّح له أحمد عبد الرحيم مصطفى بالحضور إلى المكتب متى شاء إذا احتاج لسؤاله عن شيء، أحسَّ بالرهبة وتردَّد قليلًا، ثم طرق باب الغرفة، وفُتح الباب، فإذا بعبد المنعم ماجد ينهره، ويطلب منه إغلاق الباب، فتراجع خطوةً إلى الوراء ليسمع صوت أحمد عبد الرحيم مصطفى يأمره بالدخول ويُجلسه على كرسي بجوار مكتبه، ويستمع إليه، ويتناقش معه دون اعتبار لضيق ماجد وزينب عصمت راشد الذي تصادف وجودهما، بما يُقدم عليه هذا المدرِّس من خرقٍ للتقاليد.
وعن طريق أحمد عبد الرحيم مصطفى عرف صاحبنا الطريق إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية فيما بعد، فكان يلتقيه (بعد التخرُّج) هناك، أو في نادي أعضاء هيئة التدريس، أو في منزله بشبرا، وكانت مكتبة هذا الأستاذ متاحةً له، يُعيره صاحبها المراجع الإنجليزية التي لا يجدها في مكتبة الجامعة، ويُفيض عليه بعلمه الغزير، فيفتح له آفاقًا معرفية جديدة، فتبعه كما يتبع المريد شيخه.
أمَّا أحمد عزت عبد الكريم فقد تأثَّر به في مرحلة الدراسات العليا، وليس قبلها، ولعب هذا الأستاذ العملاق دورًا بارزًا في تكوينه، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان أستاذًا لأحمد عبد الرحيم مصطفى في مرحلتَي الليسانس والماجستير بجامعة القاهرة قبل أن يوفَد في بعثة لحساب جامعة عين شمس، ويُعيَّن مدرِّسًا بها. كان أحمد عزت عبد الكريم محاضرًا متميزًا يستقرئ المادة التي يقدِّمها في صورة تساؤلات يستخلص منها الإجابات المحتملة، جاعلًا من موضوع المحاضرة قضية، يتفحَّص شواهدَها مع طلابه، ويبحث معهم عن دلالاتها. يسمح بالمناقشات في حدود إذا كان السائل يطرح سؤالًا وجيهًا يعكس درجة استيعابه لِمَا سمعه من الأستاذ، ولكنه كان يحرص على اتساع المسافة بينه وبين طُلاب مرحلة الليسانس. وبدأ الأستاذ ينتبه إلى صاحبنا من أسئلته خلال الدرس؛ فقد وعى جيدًا نصائح أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى، فكان يُعد نفسه للمحاضرات قبل حضورها بقراءات مركَّزة في المراجع المهمة ويجهِّز أسئلته، وبعدما يستمع للمحاضرة يبحث عن إجابة للتساؤلات التي لم تجِب عليها المحاضرة، أو يسأل الأستاذ رأيَه فيما قدَّمه الآخرون من تفسير لبعض النقاط. وعندما درس على أحمد عزت عبد الكريم مادة «نصوص تاريخية بالإنجليزية»، بدأ الأستاذ درسه الأول بتكليف أحد الطلاب قراءة النص، فهاله حجم الأخطاء في النطق الصحيح لمخارج الألفاظ، وأسكت القارئ بأسلوب جارح غاضب، وطلب غيره ممن يُجيد القراءة، فتقدَّم صاحبنا، وقرأ النص قراءةً صحيحة، فكلَّفه الأستاذ بأن يقرأ النص في كل محاضرة حتى نهاية الفصل الدراسي، فكان يقرأ النص ويتولَّى الأستاذ شرحه من حيث المصطلح والمضمون. وكان الفضل في تميُّز صاحبنا على أقرانه ما لقيه من حُسن التربية على يد مدرِّس الإنجليزية في المدرسة الابتدائية، وما حظي به من حُسن التدريب على يد مدرِّس الإنجليزية بمدرسة طوخ الثانوية، كذلك حرصه على اتباع نصائح أساتذته بالجامعة باستخدام المراجع الإنجليزية.
وبلغ من حرصه على تنمية مهارته اللغوية التفكير في ترجمة كتاب اشتراه من سور الأزبكية بقرشَين عن أبراهام لنكولن الرئيس الأمريكي الذي حرَّر العبيد، وواجه الحرب الأهلية، وأطلع أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى على الكتاب فامتدحه وزكَّى ترجمته، ووعده بمراجعة الترجمة. ولمَّا كان الكتاب يقع في حوالي ٤٠٠ صفحة، فقد اقتسمه مع زميله وصديقه الحميم عاصم الدسوقي، واتفقا على الانكباب عليه في إجازة الصيف (١٩٦٠م). ورغم انشغال صاحبنا بأعمال شاقة يكتسب منها بعض الجنيهات لتُعينه على التركيز على الدراسة في الفرقة الرابعة، إلا أنه استطاع أن يترجم حوالي مائة صفحة، وعاد من إجازة الصيف ليلتقي بزميله في بداية العام الدراسي، ويكتشف أنه صرف النظر عن الموضوع، فلم يترجم شيئًا.
ومن الأساتذة الذين أثَّروا في صاحبنا، ولعبوا دورًا غير مباشر في تكوينه، عبد اللطيف أحمد علي، أستاذ كرسي علم البردي وكرسي التاريخ القديم بكلية الآداب جامعة القاهرة ورئيس قسمَي التاريخ والدراسات القديمة بها، ثم عميد الكلية فيما بعد. درس عليه التاريخ اليوناني والحضارة اليونانية، وتاريخ مصر في عصر الرومان. كان محاضرًا رائعًا يشرح الدرس بأسلوب مسرحي، فيجعل الطالب يكوِّن صورةً ذهنية درامية للأحداث التي يعرضها الأستاذ؛ فيسمع قعقعة السلاح، وتنابذ الخطباء، ويرى مجتمع أثينا ومناقشات مواطنيه، ويشهد غبار المعارك يخيِّم على الجيوش؛ فالأستاذ يقدِّم وصفًا لا يقتصر على الكلمات بل يلوِّح بيدَيه، ويعبِّر عن الحدث بقَسَمات وجهه، يبتسم عندما يقع طرف في فخ نصبه له الآخر، ويقطِّب جبينه وهو يتحدَّث عن حيرة طرف من كيفية التعامل مع طرف آخر. ويظل الطلاب مشدودين إليه، يستمعون بانتباه دون ملل مدة ساعتَين كاملتَين. وبهذه الطريقة الفريدة يستطيع الطالب النابه أن يستفيد كثيرًا من شرح الأستاذ، ومناقشته لآراء المؤرِّخين، ونقده لها. أمَّا الطالب الذي يركِّز على حركة الأستاذ جيئةً وذهابًا وحركات ذراعَيه وتعابير وجهه متسليًا بها، فيخرج صفر اليدَين.
ومن هؤلاء الأساتذة الذين لعبوا دورًا غير مباشر في تكوينه، عالم الآثار العظيم أحمد فخري الذي درس عليه تاريخ مصر الفرعونية. كان أحمد فخري هو الأستاذ الوحيد الذي عرفه صاحبنا قبل أن يجلس إليه جلسة التلميذ من الأستاذ، فقد بهرته كشوفه الأثرية التي كانت تتحدَّث عنها الصحف عندما كان تلميذًا بالمدرسة الثانوية، وقُدر له أن يراه عن قرب، ويتعلَّم على يدَيه. كان كتابه «مصر الفرعونية» بسيطًا بديعًا، ولكنه حذَّر الطلاب من الاعتماد عليه وحده، وحثَّهم على قراءة العديد من المراجع. وكان أسلوبه في المحاضرة تقديم الشواهد الأثرية، وبناء تصوُّره للحدث التاريخي استنادًا إليها بعدما يفنِّد آراء غيره من العلماء؛ فيرجِّح رأيًا معلِّلًا لأسباب هذا الترجيح، ويستبعد رأيًا آخر عارضًا أسباب الاستبعاد، ولكن حديثه يشي دائمًا بعشق نادر لمصر القديمة، واعتزاز بمساهمتها في الحضارة الإنسانية، وخاصةً في الفكر الديني. ورغم مكانته العلمية الرفيعة لم يتردَّد في الموافقة على اصطحاب طلاب الفرقة الرابعة في زيارة لمنطقة سقارة. وبمجرَّد وصول الطلاب إلى هناك ووجوده بينهم، هُرع تلاميذه من مفتشي الآثار مرحِّبين به، عاتبين لأنه لم يُبلغهم ﺑ «تشريفه»، وعرضوا أن يتولَّوا عنه الشرح للطلاب، فرفض وصرفهم إلى أعمالهم، وحظي الطلاب بأندر وأعظم شرح لآثار المنطقة على يد هذا العالم الجليل.
غاب أحمد فخري عن محاضرته الأسبوعية على غير عادته، وتكرَّر غيابه في الأسبوع التالي. سألوا إدارة الكلية عن سبب الغياب، فقيل لهم إن الأستاذ مريض، فقرَّر أربعة منهم (كان صاحبنا أحدهم) التوجُّه إلى بيت الأستاذ حاملين معهم باقة ورد صغيرة اشترَوها بقروش معدودة، وذهبوا هكذا دون موعد أو اتصال تليفوني شأنهم في ذلك شأن القرويين البسطاء من آبائهم، وطرقوا باب الشقة التي تقع في عمارةٍ على شارع النيل بالجيزة بالقرب من كوبري الجامعة، ففتحت الباب سيدة أجنبية طويلة القامة فسألوها عن الأستاذ، فاقتادتهم إلى حجرة المكتب؛ حيث كان العالم الجليل مسترخيًا على أريكة، يقرأ كتابًا. رحَّب الأستاذ بتلاميذه بأُبوة حانية، وقدَّم لهم زوجته الألمانية، وشكرهم على حرصهم على زيارته، وجاءت الزوجة بالشاي والكعك، وأفاض الأستاذ في حديث ممتع عن تجاربه في الحفائر الأثرية التي سبَّبت له حساسيةً في الصدر تحوَّلت إلى الربو الذي يُلزمه البيتَ من حين إلى آخر. وامتدَّ الحديث إلى نحو الساعتَين، كلما استأذن الطلاب في الانصراف استبقاهم، مؤكِّدًا أنه شُفي تمامًا عندما رآهم، وعند انصرافهم اعتذر لهم عن عدم قدرته على توديعهم، وصَحبتهم زوجته إلى الباب مكرِّرةً الشكر.
خرج الطلاب الأربعة مبهورين بأبوة الرجل وإنسانيته، ولم يستطيعوا إغفال المقارنة بينه وبين أستاذهم إبراهيم نصحي (بك) رئيس قسمهم، وأول عميد لكلية الآداب. كان إبراهيم نصحي يعامل الطلاب بتأفُّف واشمئناط؛ يبدأ محاضرته في التاسعة صباحًا بنظرة يمسح بها وجوه الحضور ذات اليمين وذات اليسار، ثم يرسم على وجهه علامات التقزُّز، ويقول: «الجامعة برطشت.» ويبدأ بعد ذلك الدرس. مراسم تتكرَّر في كل محاضرة، وكأنها مقدِّمة للعرض، والويل لمن يجرؤ على طرح سؤال على الأستاذ الذي يُسرف في توبيخه، ويمسح الأرض بكرامته.
كان «الاتحاد القومي» (التنظيم السياسي للثورة) ينظِّم مظاهرات طلابية في بعض المناسبات، فيجمع الفراشون سيارات التاكسي سعة الخمسة راكب من شارع شبرا، وتقدِّم إدارة رعاية الطلاب ٢٥ قرشًا لكل خمسةٍ من الطلاب بعد ركوبهم التاكسي، على أن يتوجَّه الجميع إلى ميدان التحرير حيث تبدأ المظاهرة. فكان الطلاب عادةً ما يدفعون لسائق التاكسي خمسة قروش بعد الخروج من الكلية ببضعة أمتار، ويقتسمون الباقي فيما بينهم أو يصرفونه في المقهى. أمَّا الكلية فكانت تُعطل الدراسة فيها تمامًا وتُغلِق المكتبة أبوابها في مثل هذا اليوم.
حدثت واحدة من تلك المظاهرات الساذجة يوم محاضرة إبراهيم نصحي في خريف عام ١٩٦٠م، وخشي الطلاب من مغبَّة غضب الأستاذ إذا جاء ولم يجد أحدًا؛ فقد يترتَّب على ذلك ترسيب الدفعة كلها في مادتَيه، وكانت تُروى قصص عنه من هذا القبيل؛ لذلك حرص الطلاب وكان عددهم حوالي الأربعين، على الانتظار في فناء الكلية عند المكان المخصَّص لوقوف سيارة نصحي (بك) الشيفورليه الفارهة. وبعد بضع دقائق وصل الرجل، وأوقف السيارة في مكانها، ولاحظ تجمُّع الطلاب هناك، وكان صاحبنا يقف (مصادفة) أمام شباك الباب الأيمن الذي فتحه الأستاذ أوتوماتيكيًّا (وكانت هذه بدعة جديدة لا يعرفها من برطشوا الجامعة بتسلُّلهم إليها)، وقال الأستاذ للطلاب باشمئزاز: «ما لكم عَفِّين على العربية كده» (أي إنهم كالذباب الذي يعف على الشيء). فقال له صاحبنا إن الطلاب خرجوا في مظاهرة، وإنهم ينتظرونه هنا لأن قاعات الدرس مغلقة، ليأمر بفتح إحداها لإلقاء درسه، فأغلق شباك السيارة، واتجه إلى باب الخروج دون أن يقول شيئًا لقطيع «الذباب» الذي كان بانتظاره!
قارن الطلاب الأربعة بين حفاوة أحمد فخري بهم في بيته الذي قرعوا بابه دون استئذان، وكيف عاملهم معاملةً إنسانية أبوية نبيلة، وبين من يعاملهم دائمًا باشمئزاز واحتقار، وعدَّهم من فصيلة «الحشرات». ولا يرجع ذلك إلى موقفه من نظام ثورة يوليو الذي ألغى الرتب المدنية، وأزاحه من عمادة الكلية، وفتح أبواب الجامعة أمام من كانوا (في نظره) من أولاد «الرعاع»، بقدر ما يرجع إلى أصوله التركية، وترَفُّعه على «أبناء الفلاحين»؛ فقد كان يعامل طلابه بازدراء — أيضًا — عندما كان بجامعة القاهرة.
وفي سن السبعين، تغيَّر إبراهيم نصحي تمامًا، فأصبح يمزح مع الطلاب، ويقبل بأن تناديه الطالبات ﺑ «جدو إبراهيم»، وبعد أن ظلَّ يوصد باب الدراسات العليا في تخصُّصه ما يزيد على العشرين عامًا، فتحه على مصراعَيه أمام كل من هب ودب، وسبحان مغيِّر الأحوال.
انتهى العام الدراسي الرابع، وانتهت بانتهائه بالنسبة لصاحبنا سنوات التوتُّر والشقاء (أو هكذا ظن). وأُعلنت نتيجة الليسانس، فلم يتجاوز عدد من حصلوا على تقدير جيد خمسة طلاب، كان ترتيبه الثالث بينهم وعلى الدفعة كلها. وحصل نحو الأربعين طالبًا على تقدير «مقبول»، وتوزَّع الباقون بين من رسب في مادتَين وله حق دخول دور يناير ١٩٦٢م، ومن بقي للإعادة لحصوله على تقدير «ضعيف».
استاء صاحبنا من هذه النتيجة، وخاصةً أنه بذل جهدًا مضاعفًا في إعداد مواده واستيعابها. وعندما اطلع على النتيجة اتضح أنه حصل على جيد جدًّا في ثلاث مواد، وجيد في باقي المواد، ومقبول في مادتَي إبراهيم نصحي (تاريخ البطالمة، وتاريخ الرومان)، وعجب لذلك؛ فقد بذل في المادتَين جهدًا كبيرًا، واستخدم عددًا من المراجع المهمة في إعداد مادته واستوعبها جيدًا، ولكن تبيَّن له أن أحدًا لم يحصل في المادتَين عمَّا يزيد على «مقبول»، وأن نسبة النجاح في المادتَين لم يتجاوز ٥٠٪، وأن عشرة طلاب على الأقل نجحوا في إحدى المادتَين بالتعويض (حسب قواعد الرأفة)، وأن الرسوب تركَّز في المادتَين، وفي بعض المواد الأخرى. أمَّا صاحبنا فقد حصل على عشر درجات فقط (من عشرين درجة) في تاريخ البطالمة، و١١ درجةً في تاريخ الرومان. وألقى نظرةً على كشف النتيجة ليجد أن الدرجات التي وضعها الأستاذ لمن رأى في إجابتهم ما يبرِّر نجاحهم، لم تزِد عن ١٠ أو ١١ درجة.
على كل، كان ما استطاع تحقيقه يفوق توقُّعاته، فلم يكن يضمن استمراره في الدراسة، ويتحسَّب لِمَا قد يعترض طريقه من عقبات، فإذا به يصل إلى نهاية المرحلة الجامعية الأولى، ويصبح خريجًا حاملًا درجة الليسانس في الآداب. ولكن المئات غيره من الخريجين كانوا يعانون البطالة منذ العام ١٩٥٧م، وازداد حال الأسرة بؤسًا في وقت أصبح ينتظر فيه أن يلعب دورًا إيجابيًّا لمساعدتها.
تلطَّم صاحبنا في بعض الأعمال البسيطة التي أصبحت شحيحةً بسبب وفرة أعداد طالبي العمل. كانت المدارس الخاصة تدفع للمدرس خريج الجامعة راتبًا لا يتجاوز خمسة جنيهات شهريًّا. وتقدَّم صاحبنا لمسابقة القَبول بكلية التربية للحصول على درجة الدبلوم العامة في التربية. وكانت الكلية لا تقبل سوى العدد الذي تحتاجه وزارة التربية والتعليم من المدرسين؛ لذلك كان الحصول على تقدير «جيد» شرطًا للتقدُّم إلى كلية التربية. وبلغ عدد المتقدِّمين بقسم العلوم الاجتماعية عام ١٩٦١ / ١٩٦٢ (التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والاجتماع) نحو ٢٧٠ متقدمًا، تمَّت تصفيتهم في امتحان شفوي رأَسَه الدكتور صلاح قطب عميد الكلية، فتمَّ قَبول عشرة طلاب من كل تخصُّص، كان صاحبنا واحدًا منهم. وانتظم في الدراسة في الفصل الأول قدر الطاقة، حتى أُعلن فجأةً عن تعيين جميع الخريجين، وكانت الطلبات تُقدَّم إلى مكتب بوزارة التربية والتعليم، وعندما أُعلنت النتيجة كانت سعادته بالغةً عندما وجد أمام اسمه «المؤسسة العامة للصناعات الكيماوية». وعندما تسلَّم خطابَ التعيين اتضح أن مكان المؤسسة بشارع قصر النيل بالقاهرة، فتوجَّه إليها لاستلام العمل. وبعد فترة انتظار حوالي الساعة، تسلَّم خطابًا لتسلُّم العمل فورًا بالشركة المالية والصناعية المصرية بكفر الزيات.
وإذا كان هذا التعيين قد فتح صفحةً جديدة في حياته، وبعث عنده وأسرته الأمل، فقد زوَّده العمل في شركة صناعية من الشركات التي تمَّ تأميمها في يوليو عام ١٩٦١م بتجارِب وخبرات جديدة، كان لها أثرها في تكوينه، بل وفي تحديد حقل دراسته العليا (التي بدأها عام ١٩٦٢ / ١٩٦٣م).