ثقافة أم شلاضيمو١
كانت «أم شلاضيمو» امرأةً تسكن عزبة هرميس، المنطقة العشوائية الشعبية بشبرا التي عشت فيها طفولتي، ووصفتها في سيرتي الذاتية «مشيناها خطًى». كانت «أم شلاضيمو» تكسب عيشها مِمَّن يستأجرونها للردح عند اللزوم، وكان الناس يخشَونها، وعندما طفح الكيل لجئوا إلى «فتوة الحتة» فطردها، وخلَّص الناس من شرها.
جال بخاطري طيف «أم شلاضيمو» عندما قرأتُ مقال عبد العظيم رمضان الذي نشره بأكتوبر ردًّا على مقالي «وقفة الحيران في أحوال رمضان»، واختار له عنوان «أخلاقيات عبَّاس»، وشحنه بخلاصة ثقافة أم شلاضيمو. وقد تنبَّه إلى ذلك الأستاذ محمد الغيطي في عموده بالمصري اليوم الذي حمل عنوان «رمضان … وعبَّاس … والرئيس»، وصف فيه أسلوب رمضان بالردح على طريقة حارة شق التعبان وموقف أحمد حلمي.
ولم أشأ أن أرد على مقال رمضان المنشور بأكتوبر المحدودة التوزيع والمصداقية، ولكن نشر المقال بالعربي الغرَّاء الواسعة الانتشار يقتضي إيضاح الأمور التي أوردها رمضان في المقال، دون تناول ما اتصل بثقافة أم شلاضيمو، اكتفاءً بطرحه في عريضة الدعوى أمام القضاء العادل.
لقد لاحظ كل من قرأ المقال تبرؤ رمضان من الطبقة الاجتماعية التي خرج منها، طبقة الكادحين الفقراء، الذين أتاحت لهم ثورة يوليو فرصة التعليم، وفتحت أمامهم الباب على مصراعَيه لخدمة الوطن في مختلِف المواقع، فادَّعى أنَّ نزوله إلى ميدان العمل بعد حصوله على ابتدائية الأزهر عام ١٩٣٧م كان ثمنًا لخروجه على تقاليد الأسرة الكريمة في الانصراف إلى التفقه في الدين على درب الشيخ الشعراوي، وأنَّ عشقه للتعليم المدني كان وراء ذلك. وهنا يتساءل القُرَّاء: أين كان عبد العظيم من ١٩٣٧م (تاريخ حصوله على ابتدائية الأزهر) حتَّى عام ١٩٥٤م (تاريخ حصوله على الثانوية العامة والتحاقه بالجامعة)؟ ولماذا لم يستطع تحقيق حلمه قبل يوليو ١٩٥٢م؟
إنَّ عبد العظيم رمضان يُراهن على ظاهرة النسيان التي تغلب على البشر، ولا يُدرك أنَّ «كل ما هو مكتوب خالد»، وأنَّ الكثير من كتاباته في الستينيات تشي بالمزايدة على أشياع الثورة، فارتدى مسوح الناصرية، وبالغ في ادعاء الانتماء إلى اليسار، حتَّى إذا انتهى عهد عبد الناصر، وجاء أنور السادات ليُصفِّي الناصريين، هرول عبد العظيم رمضان إلى خندق «السيد» الجديد، وراح يستمد من «ثقافة أم شلاضيمو» مفردات مقالاته التي أهال فيها التراب على تراث عبد الناصر، فكانت سلسلة مقالاته في أكتوبر التي اختار لها عنوان «تحطيم الآلهة»، والتي جُمِعت في كتاب بالعنوان نفسه.
وكما أفرط في الولاء الزائف لثورة يوليو وجمال عبد الناصر، بالغ في الدفاع عن سياسات السادات، ولبس عمامة إمام التطبيع، ودخل مع «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية» في سجال حول حق إسرائيل في المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، استخدم فيه ألفاظًا منتقاة من قاموس «أم شلاضيمو». ولم يكتفِ بالاشتراك في حلقات الحوار مع الإسرائيليين (الذي يزعم في مقاله أنَّه جاء بتكليف من بطرس غالي)، بل لعب دور المقاول في تجنيد بعض المثقفين، على نحو محاولته معي التي ذكرتها في مقالي، للمشاركة في حوارات المطبعين.
ولمَّا كان يحرص دائمًا على أن يكون ملكيًّا أكثر من الملك، أهال التراب على حرب الاستنزاف بعد نصر أكتوبر ١٩٧٣م، فاعتبرها جريمةً كبرى في حق الوطن، وكرَّر المقولات نفسها في المحاضرات التي دُعِي لإلقائها على الضباط من أعضاء دورات القادة، فقوبلت من الدارسين بالسخط الشديد؛ مِمَّا أدى إلى استبعاده من المشاركة في تلك الدورات. وردَّ المشير طنطاوي على افتراءاته في حديث متلفز بمناسبة احتفالات أكتوبر، أكَّد فيه على أهمية دور حرب الاستنزاف في الإعداد لحرب أكتوبر، وفي تدريب القوات المسلحة على جو المعركة.
وهكذا جاء رد عبد العظيم رمضان على صنيع ثورة يوليو التي غيَّرت مجرى حياته، والتي لولاها لما بلغ سن التقاعد في شركة ترام القاهرة، الشركة البلجيكية التي كانت لا ترعى حقوق عُمَّالها، وإذا بلغ سن التقاعد لكان على أحسن الفروض قد أصبح مفتشًا للتذاكر بالترام أو ناظرًا لإحدى المحطات.
وكان هذا شأنه مع كل من شمله بمكرمة؛ ففي معرض رده على ما ذكرته من فتح أبواب قسم التاريخ بآداب القاهرة أمامه عندما انتدبته للتدريس، رغم ما عانيت مِن معارضة مَن يصفه في مقاله بالأستاذ الجليل، وأنَّني اضطُررت لإنهاء انتدابه بعد عامين لأسباب عفَّ قلمي عن ذكرها، راح يدعي أنَّ السبب في ذلك يعود إلى المستوى الرفيع لأدائه أمام الطلاب وإلى اتجاهه إلى «الدراسة الميدانية»، ورغم أنَّه لم يُحدِّد نوع «الدراسة الميدانية» في حقل التاريخ، ولماذا خصَّ بها طالبتين من بين نحو ٢٥٠ طالبًا وطالبة؟ لقد أساء بذلك إلى زميلين فاضلين هما صلاح العقَّاد ويونان لبيب؛ فقد امتد ندب الأول لثلاث سنوات، وندب الآخر لخمس سنوات، إذ يُفهم من كلامه أنَّه فاقهم أداءً وعلمًا وكفاية، وإلا لما استمر انتدابهم، وهي فرية لا مُبرِّر لها؛ فصلاح العقَّاد هو الذي عيَّن ابنته مُعيدة بكلية البنات جامعة عين شمس عندما رفضت الآداب تعيينها، وشاركه الاهتمام «بالدراسات الميدانية» ويسَّر له مجال ممارستها، كما أنَّ يونان لبيب صديقه الحميم وزميله بمجلس الشورى والمجلس الأعلى للثقافة، وهو بإجماع الناس أستاذ فاضل ومؤرخ مرموق، عيبه الوحيد أنَّه مثلي لا تدخل «الدراسات الميدانية» ضمن اهتماماته.
وإذا كان عبد العظيم قد أنكر موقف الدكتور محمد أنيس منه، فللرجل مقال مشهور كتب رأيه فيه صراحة، كما أنَّني أعددت مفاجأةً لعبد العظيم سيراها في قاعة المحكمة عندما يشهد أقرب الناس إلى أنيس على صحة ما جاء بمقالي. وعلى كل، إذا كان عبد العظيم قد تعفَّف عن مزاحمتي في وظيفة مُعيد، فلماذا لم يُعيِّنه أنيس مُدرسًا بعد حصوله على الدكتوراه؟ لقد كان الانضمام إلى هيئة التدريس بجامعة القاهرة حلمًا ظلَّ يراود عبد العظيم حتَّى بلوغه سن الستين وتحوُّله إلى أستاذ متفرغ، فسعى سعيًا حثيثًا للنقل إلى قسم التاريخ بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية، واستخدم كل أسلحة الضغط على رئيس الجامعة وعميد المعهد، ولكن قسم التاريخ بالمعهد رفض قَبوله؛ ربما لخشيتهم من علمه الغزير بتاريخ أفريقيا، وجهلهم ﺑ «الدراسات الميدانية».
بقيت نقطة واحدة جاءت في مقاله تحتاج إلى تصحيح؛ ففي معرض متابعته لأسلوب «أم شلاضيمو» في الهجوم عليَّ، اتهمني بأنَّني بنيت «قصرًا» في العاشر من رمضان أتفاخر به، ويُثير فضول الناس وعجبهم من أين أتيت بهذا القصر المنيف، في إيحاء واضح للطعن في شرفي وذمتي المالية. ورغم أنَّ هذه السقطة مكان الحساب عليها ساحة القضاء، إلا أنَّ «القصر المنيف» بيت متواضع مساحته ١٨٦ مترًا يقع في حين الياسمين، اشتريته من شركة يملكها محمد فريد خميس (زميله بمجلس الشورى)، ومعظم جيراني من موظفي «النسَّاجون الشرقيون». وقد شرَّفني بالزيارة بعض الأصدقاء هم الدكتور يونان لبيب وحرمه، وكان بصحبتهما الدكتور جمال زكريا قاسم والدكتور محمد صابر عرب. وكان باستطاعة رمضان أن يسأل خميسًا عن الملايين التي دفعتها له ثمنًا «للقصر» المزعوم، وكان يستطيع أن يسأل يونان لبيب عن الخدم والحشم الذين كانوا في خدمته ورفاقه عندما شرَّفونا بالزيارة، والتحف والرياش والنفائس التي رأوها في «قصري»، ولكنَّها ثقافة «أم شلاضيمو» قاتلها الله.
ولقد نصحني أصدقاء أعزاء في مقدمتهم المحامي الوطني الدولي المعروف الدكتور علي الغتيت ألَّا أرد على تخرُّصات رمضان حتَّى لا أنزل إلى مستواه السحيق، فعذرًا للأصدقاء، وأعدهم بترك الأمر للقضاء العادل، ليقول كلمته، وليصدق قول العزيز الحكيم: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.