حوار مع مجلة المُصوِّر١
کتاب د. رءوف عبَّاس «مشيناها خطًى» الذي نشرته «دار الهلال» أثار اهتمامًا واسعًا داخل الأوساط الجامعية وخارجها، صحيح أنَّه كان سيرةً ذاتية لصاحبه، إلا أنَّه لمس من خلال سيرته الذاتية أوجاع الجامعة والمجتمع كله.
وهذا الحوار مع د. رءوف عبَّاس سوف يُثير أيضًا اهتمامًا واسعًا بين أساتذة الجامعة وطُلَّابها والمسئولين عن التعليم … فهو يتحدَّث بصراحة شديدة عن أوجاع جامعاتنا التي خرجت للأسف في آخر تقييم من مضمار المنافسة العالمية!
هنا بروح الأستاذ الجامعي ومنطق المُؤرِّخ، يفضح الدكتور رءوف عبَّاس العديد من الأكاذيب التي راجت حول التعليم الجامعي، والتي ساهمت في تراجع جامعاتنا، وتردِّي أحوالها، وسوء مستوى خريجيها.
تبرير سوء حال التعليم الجامعي بالأعداد الكبيرة في جامعاتنا أكذوبة؛ لأنَّ اليوم الدراسي — بسبب مصالح الأساتذة — غير مستغل بالكامل مثل كل جامعات العالم، والكتاب الجامعي أكذوبة أخرى هدفها استنزاف بعض الأساتذة لجيوب الطلَّاب إلى آخر مدًى.
ويقترن بذلك النظام الوحيد السائد في تقييم الطلاب وهو نظام «الترم» والذي يسمِّيه الدكتور رءوف امتحان البرشامة، الذي يعتمد فيه الطالب على المذكرات المتواضعة.
واللجان العلمية الخاصة بترقيات الأساتذة هي أكذوبة أخرى لأنَّها تفتقر للجدية، فضلًا عن أنَّها لجان ملاكي تحكمها الشللية وليس المعايير العلمية.
وأزمة التمويل أكذوبة أيضًا وحجة لتبرير الأخطاء؛ فالجامعات لديها أموال الصناديق الخاصة، والإنفاق من أموالها حقٌّ لرئيس الجامعة فقط وبأوامر منه، وهذه الصناديق غير خاضعة لرقابة أيَّة جهة في الدولة.
ورغم كل ذلك فإنَّ إصلاح الجامعة كما يرى د. رءوف عبَّاس ليس صعبًا ولدينا الأدوات، فقط المطلوب أن تُخلص النيات، وأن تتراجع المصالح الشخصية.
– لقد تحدَّثت في كتابي عن المشاكل والمعوقات التي قابلتني من خلال واقع مُعايشتي له داخل هذه الجامعة «القاهرة»، وهذا ليس معناه أنَّ هذه المشاكل تُوجد فيها فقط، ولكنَّه مُجرَّد مثال، وحينما تحدَّثت عمَّا حدث معي تحدَّثت عن واقع جامعاتنا في الخمسينيات والستينيات وليس الآن، أمَّا الآن فالوضع تراجع في جامعاتنا كافةً بدون استثناء، والإحصاء العالمي الذي جرى إعلانه أخيرًا يؤكِّد حقيقة أنَّنا خرجنا خارج المنافسة، وأنَّنا لا نُطبِّق الأُسس العالمية المُتعارف عليها للتعليم والبحث والجودة.
– الجامعة لها وظيفتان هما: التعليم والبحث العلمي … ونحن الآن أصبح دورنا في معظمه يقتصر على الشق الأول وهو التعليم، وحتَّى في إطاره لم نعد نهتم بمعايير التقييم والجودة، في حين أنَّ المعيار عالميًّا أصبح قياس كفاءة الطالب، وللأسف نحن أصبحنا نهتم فقط بالأعداد التي تتخرَّج سنويًّا وأرقام هذه الأعداد بصرف النظر عمَّا يُدرَّس ليُؤهِّل هذه الأعداد التي يتم تخريجها سنويًّا.
– القصور يأتي من أنَّنا نعتمد على نظام وحيد فقط وهو تقييم الطالب من خلال امتحان الترم، وهو ما أُطلق عليه لفظ امتحان «البرشامة»؛ ففيه يستذكر الطالب بعض المعلومات من خلال الاعتماد على الملخَّصات والمذكرات «الحقيرة»، بل إنَّ بعضها منقول من بعضه، وبالتالي أصبحت مدارك هذا الطالب ومعارفه قاصرةً للغاية، ومستواه لا يرقى إلى مستوى الطالب الحقيقي كما يتم في الخارج … وأنا هنا لا أقصد في الخارج الجامعات الغربية فقط، إنَّما أتحدَّث عن مستوى جامعات في الكونغو، زيمبابوي، وموريتانيا. وعلى سبيل المثال لقد صادفت على مدار سنوات عديدة متصلة حينما كنت أُدَرِّس في معهد البحوث العربية طلابًا لمنح من موريتانيا، وفوجئت بمستواهم المنهجي المرتفع بل ومستوى إجادة اللغات الأجنبية، وقبلها إجادة اللغة العربية حديثًا وكتابة، والمعنى الذي أستخلصه هو أنَّ هؤلاء الطلَّاب وهم حاصلون على درجة الليسانس فقط، أفضل من عديد من طُلَّاب البحث لدينا، بل وأفضل مِمَّن يحملون درجات علمية من أعضاء هيئة التدريس، وأنا لا أتحدَّث عن حالات فردية معينة، ولكن عن ظاهرة عامة.
– تلك أكذوبة أخرى تُقال لتبرير استمرار الأوضاع كما هي؛ فالأعداد الكبيرة لها حل، والإحصائيات العالمية لا تُقاس بأعداد الطلاب الكبيرة التي تُقبل فقط، ولكنَّها تُقاس بنسبة أعداد الطلاب إلى هيئة التدريس التي تُدرِّس للطلَّاب … إذن نحن يُمكن أن نتغلَّب على هذه المشكلة بزيادة أعداد أعضاء هيئات التدريس وكفاءتهم، كما أنَّنا لا نُطبِّق الاستخدام الأمثل للأماكن، وأقصد قاعات الدرس والمعامل وغيرها؛ ففي كل جامعات العالم الكليات تعمل من الصباح الباكر حتَّى الثامنة مساء، وحتَّى أساتذتنا أنفسهم حينما يُسافرون إلى الخارج في إعارة يلتزمون بالمواعيد التي تُحدِّدها الإدارة لعملية التدريس طبقًا للجداول الموضوعة لذلك. ولكن عندنا لا يحدث ذلك؛ ففي بداية كل عام دراسي وعند إعداد الجداول الدراسية نجد الطلبات والمعارك والاشتراطات من الأساتذة لاختيار المواعيد المناسبة لهم، وغالبًا ما يتم اختيار المواعيد صباحًا فقط؛ لذلك نجد النتيجة هي ازدحام شديد في أوقات مُحدَّدة من اليوم وتُصبح جامعاتنا مثل سوق عكاظ، في المقابل فراغ كامل في أوقات أخرى يصل إلى حد أنَّ جامعاتنا تبدو کما لو كانت قد هجرها الطلاب، وحتَّى هذه المشكلة للأسف تُواجَه بمُعوِّقات لمن يريد الإصلاح؛ فلو وُجِد مثلًا عجز في قسم أو تخصُّص ما وقرَّرنا تعيين مُعيدين في هذا التخصُّص لمزيد من الإعداد للمستقبل، نُواجه بمعارضة شديدة من أساتذة القسم، وقد واجهت هذه المشكلة كثيرًا أثناء عملي كوكيل لكلية الآداب للدراسات العليا … رغم أنَّ تعيين مُعيدين جدد بالأقسام لن يُمثِّل خطرًا على الأساتذة، لأنَّه يلزمهم فترةً لا تقل عن عشر سنوات للإعداد العلمي للتدريس، ولكنَّه خوف الأساتذة على مصالحهم من توزيع الكتب التعليمية والمذكرات وليس صالح التدريس أو الطلَّاب أن يقف في طريق ذلك.
– ما يُطبَّق في جامعات العالم هو الكتاب الجامعي المرجعي، وهو الكتاب الذي يشمل الأُسس أو المبادئ في التخصُّص، أمَّا ما يُطبَّق عندنا فهو الكتاب المُقرَّر وما يُصاحبه من مذكرات في نهايته أسئلة وأجوبة، وغالبًا ما تكون بألوان مختلفة حتَّى يضمن الأستاذ أنَّ الطالب قد اشترى الكتاب، وهذا ما أقصده بفساد وبدعة الملخَّصات والمذكِّرات. ومن هنا برزت ظاهرة تأزُّم العلاقة بين الطالب والأستاذ، وطالب الجامعة اليوم لم يعد يحترم الأستاذ، وأصبحت النظرة إليه أنَّه مثل التاجر الذي يبيع بضاعته والطالب مُلزم بشرائها؛ لذلك أُصيبت العلاقة بين الطرفين بالدمار والبوار.
– نعم هاجمت النظام السابق لأنَّ تطبيقه كان يُصاحبه مشاكل، خاصةً تعنُّت الأساتذة في عمل إعلانات الوظائف، ورحَّبت باختفاء ذلك وإعطاء الأولوية في التعيين للأوائل، ولكن الآن علينا أن ننظر حولنا لِما يتم تطبيقه في جامعات العالم … فهذه الجامعات تُطبِّق نظام المنح الدراسية، فهم لا يلجئون إلى التعيين «الأوتوماتيك» للمُتفوِّق فور تخرُّجه، وإنَّما يُعطون الطلَّاب المتفوقين منحًا دراسية؛ أي يعمل الباحث بشكل مؤقت لمدة محددة، وإذا أثبت تفوُّقه يتم تعيينه، ولكن عندنا لأنَّ النظام الاجتماعي مختلف والوظيفة لدينا دائمةً على مدى الحياة حتَّى وفاة صاحبها لا يُمكن تطبيق هذه النظم بسهولة، خاصةً أنَّ تطبيق هذه المنح هناك يُصاحبه إجراء اختبارات شفهية للمتقدمين، ونحن في مصر لا نثق في مثل هذه الاختبارات؛ لذلك أقترح الآن حلًّا وسطًا بين النظامين وهو إعطاء الأوائل الأولوية في المنح الدراسية، وأن يُنص على أنَّها تكون قابلةً للمد والتجديد متى ثبت كفاءة الخريج، وبعد فترة مُحدَّدة من العمل والبحث يُحدِّدها القانون يُعيَّن بعد ذلك. بالإضافة إلى أنَّه يُمكن الاستعانة أيضًا بتطبيق نظام الإعلان عن الوظائف ووضع المعايير المُحدَّدة لذلك. والعبرة ليست في النصوص القانونية التي يتضمَّنها أي قانون، وإنَّما في تطبيق هذه النصوص نفسها؛ فنحن قد نملك أفضل النصوص القانونية في العالم ولكن مع التطبيق الرديء تكون النتيجة سلبيةً ونصل إلى ما وصلنا إليه.
وللعلم، قانون الجامعات المصرية الحالي به نصوص تسمح بتطبيق نظام المنح الدراسية أو ما يُسمَّى «منح بحث» مقابلها المادي ضعيف للغاية ولا يتعدَّى مائتي جنيه فقط؛ أي إنَّنا نُعاقب الطالب الذي يريد التفرُّغ للبحث العلمي؛ فالمكافأة المرصودة له لا تكفيه حتَّى مواصلات الذهاب إلى الجامعة ويُصبح من الأفضل الهروب منها، بل نحن لا نكتفي بإحباط الشباب فقط فلا يحرص على التفرُّغ وإنتاج بحث علمي جاد، وإنَّما الأمر امتدَّ أيضًا لأعضاء هيئات التدريس أنفسهم؛ فالقانون يسمح بعام تفرُّغ للبحث العلمي لمن يعمل لمدة ٦ سنوات متصلة، ولكن خلال هذا العام الذي يمنحه القانون لا يُمنح الأستاذ إلا مرتبه الأساسي فقط؛ أي أقل من ٤٠٠ جنيه مصري، مع أنَّه لو استمرَّ بعمله بدون التفرُّغ للبحث العلمي يحصل على مرتبه كاملًا، وهو في حالتي مثلًا قد وصل إلى ٢١٠٠ جنيه في العام ١٩٩٩م، في حين أنَّه عادةً يحصل المُتفرِّغ في الخارج على مرتبه كاملًا داخل بلده بالإضافة إلى «تمويل إضافي» لتسهيل مهمته في جمع المادة العلمية اللازمة لإجراء بحوثه، والخارج الذي نتحدَّث عنه ليس أمريكا والغرب، بل إنَّه في جامعات أفريقيا والبلاد العربية وآسيا أيضًا، بل إنَّ الأمر وصل الآن إلى عدم وجود بنود مالية للصرف على قضية مهمة وهي الاحتكاك العلمي بالخارج؛ أي السماح للأستاذ بالسفر والاطلاع وحضور المؤتمرات العلمية في الخارج، وهي قضية رئيسية لازمة للعمل العلمي الجاد.
والغالبية العظمى من أعضاء هيئات التدريس لا يتوافر لهم طوال حياتهم فرصة السفر والاحتكاك العلمي الخارجي، وأنا بعد أن وصلت إلى سن ٦٥ عامًا لم أُسافر إلى مهمة علمية واحدة على حساب الجامعة، كما لم أحصل على مقابل لتذكرة سفر، وكل المؤتمرات الدولية التي حضرتها تحمَّلت الجهة الداعية نفقات سفري وإقامتي … فما بالنا بأوضاع المدرسين والأساتذة المساعدين، ولن أقول شباب الخريجين؟!
– بحوثنا العلمية لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ونحن لكي ننشر بحوثًا علمية جادة ترقى لمستوى النشر الخارجي لا بُد أولًا من أن نطَّلع ونعرف ما هو الذي يُنشر بالخارج، وهذه النقطة غائبة الآن في حياتنا الجامعية؛ فنحن لدينا فقر مُدقع في المكتبات وفي الدوريات والمجلات العلمية المُتخصِّصة، وإذا سألنا عن أسباب ذلك كانت الإجابة هي عدم توافر بند العملة الأجنبية للكُتب والمجلات العلمية وفروق الأسعار إلى آخره، وهي الأسباب التي أراها — من وجهة نظري — واهيةً وحججًا «فاضية». بالإضافة إلى أنَّ النشر الذي يتم الآن هو نشر داخلي لا يعرف عنه أحد بالخارج شيئًا، فنحن لا نسعى خاصةً في التخصُّصات النظرية إلى النشر الخارجي، بل لا نسعى لتسجيل مجلاتنا العلمية في الخارج وفق الأُسس العالمية المُعترَف بها للتسجيل، وعلى الجميع أن يسعى لأن تكون مجلاتنا على مستوًى راقٍ ومعترف به حتَّى لو كانت البداية بعدد ضئيل. أليس هذا أفضل من وجود العشرات من المجلات العلمية التي تُصدرها الأقسام المختلفة بجامعاتنا ولا يعرف أحد عنها شيئًا؟
– نعم قواعد العمل باللجان العلمية وخاصةً لجان الفحص والترقيات أصبحت تفتقر إلى الجدية الكافية؛ لذلك يجب إعادة النظر في هذه القواعد لأنَّها تُمثِّل نقطةً أساسية ومحورية في أي تطوير جاد نريد أن نصل إليه في جامعاتنا، بمعنى ألَّا يكون التطوير شكليًّا أو تحكمه العلاقات الشخصية والشللية والمجاملات، بل والنفوذ الشخصي للمسئولين في المناصب الجامعية؛ فمثلًا يَنُص قانون تنظيم الجامعات على ضرورة الابتكار في الرسائل الجامعية، ولكن هذا لا يحدث ولا يُطبَّق الآن. وبداية التدهور حدثت في اللجان التي تُقيِّم الأبحاث والرسائل الجامعية، وأصبح كثير من هذه اللجان الآن نُطلق عليها اللجان «الملاكي» التي تحكمها الشللية أكثر من المعايير العلمية الموضوعية، وأعتقد أنَّ العدوى قد وصلت أيضًا إلى الرسائل العلمية، فنظرة سريعة على قوائم الأسماء للجان الحكم على الرسائل سوف تجد تكرارًا وتواترًا لأسماء بعينها …
ففي جامعات الخارج، هناك نظام مُتَّبع للتقييم والترقي؛ فعلى سبيل المثال في بريطانيا بعد أن ينتهي الطالب من إعداد رسالته العلمية يُرسل الأستاذ المشرف عليه إلى الجامعة، يُخبرها بانتهاء الباحث من عمله وتقوم الجامعة باختيار لجنة المُمتحنين أو المُقيِّمين من خلال قائمة لديها في كل تخصُّص، وتُرسل إلى الطالب والأستاذ بالأسماء التي تمَّ اختيارها، فإذا لم يعترض الطالب أو الأستاذ خلال فترة مُحدَّدة يُعتبر قرار مجلس الجامعة نافذًا، وتستمر الإجراءات. وبهذا ابتعدوا عن المصلحة والشللية، بالإضافة إلى أنَّ هناك قواعد صارمةً تحكم الوقت الذي تستغرقه الرسالة والنسبة والعدد الذي يُشرف عليه الأستاذ من رسائل علمية وهي في أفضل الأحوال في الخارج لا تتعدَّى أصابع اليد الواحدة، وليس كما هي الحال عندنا تجاوز لدى البعض عشرين رسالة، حتَّى إنَّه في بعض الأحيان ينسى الأستاذ اسم الباحث لديه وموضوع البحث من كثرة تكرار إشرافه، الذي يكون بجانب قيامه بعمله الأصلي داخل الجامعة وخارجها أيضًا.
– العكس هو الصحيح؛ فالمقابل المادي لإشراف الأستاذ على الرسالة مُحدَّد ﺑ ٣٠٠ جنيه فقط لا غير، وهو كما نرى مُقابل زهيد للغاية، وحتَّى هذا المبلغ لا يتم صرفه مُقدَّمًا للأستاذ، بل يُصرف فقط بعد اعتماد الرسالة ونجاح الطالب، وإذا فشل الطالب في استكمال رسالته لا يحصل الأستاذ على أي مقابل.
– هذه الظاهرة واقع بالفعل في جامعاتنا ومُتوغِّلة للغاية في الأنشطة والحياة الجامعية كافة، ويكفي أنَّ الأمن هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في اختيار القيادات الجامعية بدءًا من أصغر المناصب وحتَّى أعلاها شأنًا وهو منصب رئيس الجامعة.
– كل شيء في الحياة يُمكن إصلاحه، وفي قضية التعليم الجامعي يُمكن الإصلاح، ونحن لدينا الأدوات، فقط تخلص النيات، فمثلًا يُمكن لكل جامعة أن تبدأ في وضع الخطط؛ مثل ميزانية دعم الكتاب الجامعي وتمويله (والتي كانت تأتي حتَّى وقتٍ قريب من أموال المعونة الأمريكية)، هذه الميزانيات يُمكن أن تذهب إلى بند طبع الكتب المرجعية في التخصُّص، وهذا مُمكن أن يتم من خلال تطبيق شرط التأليف الجماعي كما هو مُطبَّق في جامعات العالم؛ أي إنَّه ليس بدعةً جديدة، فمن خلال المطبعة والتي تمتلك أغلب جامعاتنا مطابع خاصةً بها يُمكن أن تطبع هذه الكتب المرجعية وتُباع للطلاب، بجانب أنَّه يُمكن لكل قسم وكلية أن يأخذ مجلسها قرارًا بأنَّه لن يتم تدريس إلا أسماء مُحدَّدة من الكتب المرجعية التي سيتم الاتفاق عليها. ولكن هذه الكُتب أيضًا لا بُد من وضع الشروط لها بحيث تكون كُتبًا مرجعية وعلمية وعلى مستوى الجودة المطلوبة طبقًا للمواصفات العالمية في التخصُّص، وليس من أجل المظاهر فقط ومن أجل الشللية والأصدقاء؛ أي أنْ تُوضع القواعد بحيث لا يُساء تطبيقها لصالح البعض … وأليس غريبًا بل ومخجلًا أيضًا أنَّ العديد من الجامعات العربية تلجأ إلينا كمُحكِّمين للكُتب والمُقرَّرات العلمية التي تُدرَّس لطلاب هذه الجامعات، ولا نُطبِّق المعايير نفسها في جامعاتنا؟
– بالتأكيد كانت هذه خطوةً جيدة للإصلاح، ولكن أين هو الآن هذا الجهاز؟ للأسف لقد تمَّت محاربته من قِبل الأساتذة لأنَّه يقف ضد مصالحهم … فالمشكلة ليست في وجود الأُطر التي تنظِّم العمل أو حتَّى في النصوص القانونية، ولكن المشكلة في النظام المُؤسِّس نفسه لجامعاتنا؛ بمعنى أنَّ الجامعة كمؤسسة لديها قواعد تحكم هذا العمل، ولكن هذه القواعد للأسف في أغلب الأحيان مُعطَّلة والقانون سمح بذلك عندما أضاف إلى قواعده كلمة «يجوز»، وهي الكلمة السحرية التي يتم من خلالها التجاوزات التي نسمع ونقرأ عنها كل يوم، والتي وصلت صفحة الحوادث بالصحف اليومية.
– أزمة التمويل أيضًا حجة لتبرير ما يحدث، وإنِّي أتساءل لماذا لم يتوقَّف الكثيرون ويسألون أين تذهب أموال الصناديق الخاصة التي تمتلئ بها جامعاتنا وفي أي البنود تُصرف، ولماذا يحق فقط لرئيس الجامعة الصرف منها وبأوامر منه، ولماذا لا تُراقبها أجهزة الدولة مثل الجهاز المركزي للمحاسبات … للأسف الدولة لا تُراقب هذه الصناديق الخاصة، الدولة تُحصِّل فقط الرسوم الرسمية للتعليم، في حين أنَّ الطالب يدفع ما بين ١٦٠، إلى عدة مئات من الجنيهات كمصروفات دراسية، الدولة تُحصِّل منها نسبةً لا تتعدَّى أصابع اليد الواحدة والباقي تُحصِّله الجامعة تحت صناديق دعم مختلفة، وهذه الصناديق للأسف کما قلت خارج رقابة الدولة؛ أي ليست إيرادات عامة … أليست هذه الأموال التي يدفعها الطلاب كمصروفات يجب أن تذهب لدعم العملية التعليمية، وأن تُراقبها الدولة؛ فالبناء المؤسسي لجامعاتنا جيد جدًّا، ولكن به ثغرات أصبحت أكبر من الثقوب.
– أبدًا لم أُهاجم نظام الانتخابات أو تطبيق الديمقراطية في جامعاتنا أو في أي مكان في العالم؛ لأنَّ الديمقراطية هي الآلية الأفضل لمحاربة الفساد، ولكنِّي هاجمت وتحفَّظت على أسلوب الانتخابات الذي كان مُطبَّقًا في جامعاتنا؛ فهو ليس نظامًا انتخابيًّا بالمعنى الصحيح؛ فالأستاذ لم يكن يتقدَّم لترشيح نفسه، ولكن المُتَّبع عندنا أنَّ الأساتذة المُقيَّدين في مجلس الكلية يتم توزيع كشف عليهم يتضمَّن أسماء الأساتذة طبقًا للأقدمية المُطلقة، وعلى كل أستاذ منهم أن يختار ثلاثة أسماء من الأسماء التي يتضمَّنها الكشف ويُعطيها صوته؛ أي لم يكن هناك ترشيح ولكن كان كل أستاذ اسمه بالقائمة يسعى ويتحالف لكي يكون اسمه واحدًا من الثلاثة الذين سيتم الاختيار من بينهم لمنصب العميد، وهنا حدثت المشاكل والتجاوزات؛ لأنَّ القانون أعطى لرئيس الجامعة حق اختيار واحد من بين الثلاثة الذين حصلوا على أغلبية الأصوات، ولا يلزمه بتعيين صاحب أعلى الأصوات عميدًا للكلية.
– لا التعيين كان خطأً أيضًا، وأنا سمعت من بعض الأساتذة الذين تمَّ تعيين بعض العمداء منهم أنَّه يحمد الله أنَّه تمَّ إلغاء هذا النظام السابق؛ لأنَّه بدلًا من كسب «ود» خمسين شخصًا في الكلية، سيسعى لكسب ود شخص واحد فقط هو رئيس الجامعة؛ لذلك أنا أُنادي بتطبيق الديمقراطية فعليًّا في جامعاتنا، وأن يكون هناك انتخابات حقيقية، وتشترك فيها القاعدة من أعضاء هيئة التدريس، ولا يكون أمرها مقصورًا على اشتراك النخبة في التصويت كما كان مُتَّبعًا، وأن تمتد الانتخابات لتشمل المناصب القيادية بالجامعات كافةً وليس منصب العميد فقط. ولماذا نذهب بعيدًا فالجامعة الأمريكية بالقاهرة تُطبِّق هذا النظام وهو الانتخاب لكافة المناصب القيادية بما فيها منصب رئيس القسم في التخصُّص؛ أي الديمقراطية الكاملة التي تُساعد على تطوُّر المُناخ العلمي والتي تحد من انتشار الفساد ونفوذ الأفراد أيضًا، وعلينا أن ننظر حولنا ونرى ماذا يفعل الآخرون؛ ممَّا جعلهم يتقدَّمون بينما تخلَّفنا نحن عن اللحاق بهم.
– لا أُفسِّر ما حدث بأنَّه مؤامرة، بل علينا أن ننظر إلى واقعنا الذي نعلمه جميعًا، وقد قرأت للدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق أنَّ أساس نهضة ماليزيا حاليًّا هو التعليم والبحث العلمي، وقال إنَّه دون قاعدة علمية صحيحة لا يُمكن النهوض بالبلد.
وأعتقد أنَّ هذه المقولة صحيحة مائةً بالمائة، وقد آن الأوان لإعطاء الأولوية القصوى للتعليم بدءًا من التعليم العام — وهو حجر الزاوية في التطوير — وحتَّى الجامعات والبحث العلمي، وأن نترك قضية التعامل ﺑ «القطعة» في قضايا إصلاح التعليم وأن ننظر للمنظومة بأكملها؛ فنحن نحتاج إلى إصلاح شامل في التعليم، وهذه الإصلاحات يجب أن تقوم بها لجنة إنقاذ وطني، لا تكون قراراتها مُفاجئةً كما يحدث الآن، وإنَّما يكون التطبيق مُتدرجًا وبعد تجربة، خاصةً في مجال التعليم العام … وأن تضم هذه اللجنة خبراء من العقول والتخصُّصات كافة، وألَّا يقتصر عملها على خبراء الوزارة وحدهم.