حديث مع جريدة «نهضة مصر»١
أثار كتاب الدكتور رءوف عبَّاس أستاذ التاريخ الحديث والمُعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة ورئيس الجمعية التاريخية عاصفةً من ردود الفعل المختلفة؛ فالكتاب الذي يجيء في إطار كتابة السيرة الذاتية كشف الكثير والكثير عن أوضاع الحياة الجامعية بجميع أبعادها من تدريس ومناهج وتدخُّل أمني في الجامعة وأوضاع الأساتذة والكتاب الجامعي والسياسة في الجامعة، وصولًا إلى أحوال التعليم في مصر. والكتاب يُقدِّم بشجاعة فائقة رسالةً إلى الشباب فحواها أنَّه مهما كانت الصعاب التي يُمكن أن تُواجه أي فرد فعليه أن يتغلَّب عليها ويثق في قدراته ويُطوِّرها من أجل المستقبل؛ فالظروف الحياتية التي عاشها الدكتور رءوف عبَّاس في بداية حياته لم تكن تُرشِّحه أبدًا لأن يتبوَّأ أعلى المناصب الجامعية، وأن يُصبح واحدًا من أهم كُتَّاب الوطن ومثقفيه الآن. کما تكشف مُذكرات د. رءوف عبَّاس عن أحوال المجتمع المصري بأكمله، وماذا حدث لذاكرة الأمة وتاريخها وكيف يُكتَب هذا التاريخ، تاريخ حُكَّام على حساب حياة الشعوب وتاريخهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
هذا الحوار مع الدكتور رءوف عبَّاس في مقر الجمعية التاريخية الأكثر من رائع، وبصفتي أحد خريجي قسم التاريخ في كلية آداب القاهرة … فقد أحسست بالسعادة لوجود هذه الجمعية بمقرها الجميل الذي أهداه لمصر الشيخ سلطان القاسمي خريج جامعات مصر، والذي أراد من خلال هذه الهدية، كما يقول رد بعض الدَّين لهذا البلد.
– أولًا هي ليست مذكرات؛ فقد قصدتُ أن أكتب رسالةً إلى الشباب وهم الجمهور المستهدف، وأن أقول لهم لا تدَعوا الإحباط أو الظروف الصعبة سواء على مستوى الحياة الشخصية في البيت أو في المدرسة أو في الجامعة وبانتظار العمل أن تهزمكم. لا تدعوا أي ظروف مهما كانت أن تؤدِّي إلى إحباطكم.
وقد أبديت اهتمامًا خاصًّا بأن يكون الكتاب في حجم صغير حتَّى يُتاح للقراء الشباب خاصةً وأوسع جمهور وبسعر منخفض حتَّى تصل الرسالة إلى الجميع.
– المؤكَّد أنَّ نظامنا التعليمي يتعرَّض لمصاعب كثيرة، وهناك أسباب مُتعدِّدة منها نظام كليات التربية التي لا تُخرِّج مُدرسًا مُكتملًا ولا تربويًّا مكتملًا، وأحوال المدرس وهو عماد العملية التعليمية … معروفة، وأصبح التركيز على الدروس الخصوصية كمخرج لحل مشاكله، وحالة الإحباط التي تنتابه بسبب السياق خاصةً الاجتماعي، وهناك أحوال المدارس نفسها وتجهيزاتها من معامل وملاعب وقاعات للمحاضرات والفصول. وهنا نحن نركِّز على التعليم العام لأنَّه أساس القضية، وأذكر عندما كنت تلميذًا أن قام أحد مُدرسينا بعقاب تلميذ لأنَّه حصل على درجات ضعيفة قائلًا له: «بعد عشرين سنة في التعليم عاوز تهدر سُمعتي ويقولوا في تلميذ سقط عندي.» ذلك عندما كان المُدرِّس صاحب رسالة.
وهناك دول كثيرة بدأت نهضتها بإصلاح نظام التعليم؛ الولايات المتحدة عندما وجدت القفزة اليابانية كلَّفت عددًا من كبار الخبراء في جميع المجالات بدراسة الموقف وخرجوا بتقرير «أمة في خطر»، وبناءً عليه تمَّ إصلاح نظام التعليم بأكمله.
ونحن بدأنا قبل دول كثيرة في العالم … بدأنا قبل اليابان نفسها، ولنرَ كيف تطوَّر نظام التعليم عندهم وأصبح قائمًا على منظومة جماعية؛ الاهتمام بالتعليم والثقافة الجماعية، وتنمية مهارات يومية؛ فيُطلب من كل تلميذ صغير أقل من عشر سنوات أن يكتب في مفكرته اليومية انطباعاته والأشياء التي استلفتت نظره في اليوم السابق ويعرضها في المدرسة؛ ولذلك تجد كل ياباني لديه مُفكِّرة يومية يستخدمها في تدوين معلومات، وليس مجرد حسابات ومواعيد.
تنظيف المدرسة والفصول وطلاؤها عملية جماعية، والأهم هناك إذا أردت أن تُعنِّف تلميذًا تقول له: الولد الياباني لا يقوم بذلك. لا مجال للفردية والأنانية، وإنَّما تربية على الأداء والتعاون والتكامل مع التنافس للوصول إلى الأفضل.
بينما عندنا تجارب مستمرة وعن استقرار الابتدائي ٥ سنوات ثمَّ ٦ سنوات، الثانوية العامة فصل واحد ثمَّ فصلين، ثمَّ يتم تطبيق هذه التجارب على المستوى الوطني والضحايا مئات الآلاف، وعندما يتم إصلاح النظام يكون جيل كامل قد ضاع.
وهناك التركيز على الحفظ والتلقين والتسميع في أوراق الإجابة، وهذا ينعكس على علاقة التلاميذ بالكتب، وبعد الامتحانات في كل عمارة تجد مئات الكتب ملقاةً أمام أبواب الشقق، حيث يتم التعامل مع الكتاب كأنَّه زبالة، يُضاف إلى ذلك نوعية المدرس وإعداده، بالإضافة إلى وجود فئة في وزارة التربية والتعليم تحتكر الكتب ونظام الدراسة لمصالح خاصة.
وفي الجامعات فإنَّ تطوير أي لائحة يأخذ سنوات طويلة، وهناك مشكلة الكتاب الدراسي وتقنينها، وأصبحت الجامعة تتبنَّى الكتاب الدراسي حيث يتم تحديد سعر الكتاب والملزمة، وبعض الأساتذة يقومون بتسويق الكتب بطرق رخيصة.
المستوى المتدني للكتاب الدراسي، وأسلوب التلقين، وعدم وجود فرصة أن يتلقَّى الطالب تدريبًا عمليًّا على كيفية كتابة بحث وتكوين رأي، وهذا كله مُرتبط بالمجتمع نفسه.
فإذا كان هناك قمع للمواطن وكبت لقدرة الشخص على إبداء رأيه، فذلك سينعكس على الجامعة بجميع عناصرها، وبدلًا من أن تدفع الجامعة المجتمع حدث العكس؛ فالسلبيات الموجودة بالمجتمع انعكست على الجامعة.
– التاريخ لا تكتبه لجنة رسمية، ولو عُدنا إلى التجربة اليابانية نجد الاهتمام بالدراما التاريخية التي تُظهر تغيُّر الأفكار، الحراك الاجتماعي، تربية الأجيال، تحقُّق التواصل بين الأجيال.
تاريخ أسرة محمد علي مثلًا اهتمَّ به الملك فؤاد، وأنشأ دار الوثائق الملكية في عابدين، وجمع وثائق محمد علي والخديوي إسماعيل، وأحضر المؤرخين من أوروبا، وشجَّع كتابة تاريخ محمد علي في الجامعة المصرية لهدف سياسي؛ لإظهار منجزات الأسرة العلوية الحاكمة.
ومع هذا تمَّت كتابة كتب كثيرة هامة جدًّا وتنظيم الوثائق بشكل علمي، فلمَّا جاءت ثورة يوليو اعتبرت الماضي لاغيًا، والبدء بتاريخ الثورة، ونقلوا الوثائق إلى مخزن مهمل حيث تمَّ إنشاء دار الوثائق القومية ثمَّ نُقِل الأرشيف إلى القلعة، وحدثت عملية إهدار كبيرة للوثائق بسبب هذه النظرة الضيقة لنظام الثورة.
تاريخ يوليو ليس لدينا وثائق تتعلَّق بالثورة في الأرشيف المصري، لا أحد يعلم أين ذهبت الوثائق التي جمعتها لجنة تاريخ الثورة التي أنشأها السادات، ولا أوراق جمال عبد الناصر التي يستخدمها هيكل، بالتالي فالبحث عن الوثائق عن الثورة أصبح بالغ الصعوبة.
– بالقطع هي موجودة ولكن أين نجدها هذه هي المشكلة. هناك قانون للحفظ يُحدِّد مدة حفظ الوثائق، وكل الوزارات السيادية لا تلتزم بهذا القانون، الخارجية عندما ضاق بها نظام حفظ الوثائق أعطت بعضها لدار الوثائق، واشترطت أن يكون الاطلاع بتصريح منها.
وأذكر أنَّ الدكتور محمد أنيس رحمه الله جمعنا وكنَّا في مركز تاريخ مصر المعاصر، وجمعنا تبرُّعات واشترينا أجولةً وذهبنا إلى قصر عابدين عندما تحوَّل إلى مقر محافظة القاهرة، وجمعنا وثائق العصر الملكي، ونقلناها على عربة نقل وجمعها الدكتور أنيس بعد إنشاء مركز تاريخ مصر، وكانت هذه الوثائق على وشك تسليمها لشركة صناعة الورق لإعادة تدويرها.
حتَّى عندما أرسلوا للمركز وثائق المشير عبد الحكيم عامر وجدنا أوراقًا غير مهمة على الإطلاق، أوراقًا خاصةً بحرب فلسطين والوثائق الأساسية أُخْفِيت. ولا يستطيع الباحث أن يطَّلع على الوثائق في أرشيف الوزارات؛ فكلها تضع خاتم «سري جدًّا» ويستمر هذا إلى الأبد.
وطالبنا مرات بأن تكون دار الوثائق جهازًا تابعًا لرئاسة الجمهورية مثل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء؛ حتَّى تقوم الوزارات بنقل وثائقها إلى هذا الجهاز الذي سيحظى بدعم هيئة الرئاسة، ومعظم دول العالم يكون أرشيفها القومي تابعًا لهيئات سيادية وله سلطة مُلْزِمة، ولا بُد أن يكون قانونًا مُلزِمًا بالاطلاع على الوثائق.
– الجامعة لم تكن مستقلةً لا قبل الثورة ولا بعد الثورة، ولكي نكون موضوعيين كان هناك دائمًا نضال من أجل استقلال الجامعة، وعدا أحمد لطفي السيد فمعظم رؤساء الجامعات هم من رجال الحكومات.
والثورة تعاملت مع الجامعة كمصدرٍ للقلق الأمني … كمؤسسة لا بُد من احتوائها، وبالتالي بدأت سلطة الأمن تطغى بدايةً من ١٩٥٤م، وقلت إنَّ مدير الأمن في التعليم العالي كان أهم من العميد، ثمَّ كان هناك المجلس الأعلى للجامعات كجهاز تحكُّم ورقابة، وهذا كله أفقد الجامعات استقلالها إذا كان لديها استقلال أصلًا.
وعندما جاءت مرحلة استوزار الجامعيين كان لذلك أثر سلبي كبير، عندما أُريد أن ألفت نظر السلطة أكتب تقارير في زملائي، فيه ناس من كُتَّاب التقارير وصلوا لفوق، وفيه طلبة بدئوا هذه اللعبة وهم طلبة في البعثات، وهذا أجهض أي محاولة لأن تكون الجامعة مركزًا للتفكير الحر.
عبد الناصر كان عارف إنَّ الجامعة بؤرة للحياة السياسية، ولكي تحتوي الحياة السياسية تحتوي الحركة الطلَّابية، ولمَّا جاء السادات كمل باللائحة وأصبح الأمن مسيطرًا على الأوضاع وتمَّ تفريغ الجامعة من السياسة.
وهناك الأثر السلبي للتوسُّع في الإعارات والجري وراء العمل في الدول العربية، وانقطعت الصلة بين المُدرِّس وجامعته وطُلَّابه وأصبح يهتم بمعرفة سعر الدولار واليورو والدينار وأنواع السيارات والجمارك، وانتهى البحث العلمي، وانهارت المكتبات والمعامل إلى درجة أنَّ هناك مُدرِّسين ظلُّوا في الخليج أكثر من ١٥ سنة، وتحوَّلوا إلى آلات لجمع الأموال واستثمارها في أنشطة غير علمية.
ومن هو موجود ويُدرِّس مُحبط، ويُحاول أن يجمع أكبر أموال من الداخل من خلال الملزمات والكتب، وتوقَّف معظم أعضاء هيئات التدريس عن أداء واجبهم، والمدرج مليء بآلاف والمُدرِّس يُلقي المحاضرة بلغة ركيكة، ومُدرِّس وصلت به الحال إلى تهديد الطلبة قائلًا: «وحياة أمي إذا الكتاب ما اتبعش … محدش حينجح.» والزائر في الجامعة يجد الطلبة في الطرقات بين الكليات والكافيتريا، وتغيَّر حتَّى شكل الجامعة وقدسيتها، والحرم الجامعي، وأصبحت الجامعة مثل السوق؛ مطاعم ومقاهٍ ولغة جديدة للطلبة بعيدًا عن أصول التعليم.
– هناك احتقان في المجتمع مع غياب مشروع وطني، والضياع الذي يُعانيه الشباب، والبديل أصبح الانتماء الديني بشكل تعصبي، وهذا انعكس على الجانبين، وبحكم تربيتي يقلقني جدًّا ما يتعرَّض له هذا الوطن من أخطار بالغة نتيجة التهوين من هذه المشكلة، ولا يكفي إفطار الوحدة الوطنية في رمضان والقبلات، هناك مشكلة حقيقية يجب تداركها والتعامل معها بشكل جدي.
التهوين من هذه المشكلة خطر جدًّا ويجب البحث عن حلول فعلية لحلها والمسألة واضحة جدًّا في النقابات المهنية، والمناصب الرئيسية التي تتم بالاختيار ما بين السطور مواقف تعصبية، يجب أن نُعالج مصدر الداء بشكل جدي.
هذه أسوأ فترة في تاريخ مصر تُعاني فيه المُناخ الطائفي الخطير، هناك سياسات حمقاء كثيرة مهنية وإدارية تُضخِّم من المشاكل الصغيرة.
– نحن أحوج ما نكون إلى جبهة وطنية تضم كل القوى المنظمة في أحزاب أو غير المنظمة في أحزاب للبحث عن خطة عمل مستقبلية سياسية شاملة لإنقاذ هذا الوطن تستمر لعقدين قادمين من الزمن. إذا لم نمضِ في هذا الاتجاه سنتعرَّض لضغوط وتدخُّلات خارجية.
– إصلاح الجامعة أن تكف السلطة يدها عن الجامعة، وأن تكون هناك خطة لإصلاح التعليم العام، وأن يتم الاستعانة بالأكْفاء، والأهم أن تستمر الخطط ولا تتغيَّر بتغيُّر كل وزير. السياسة يجب أن تستمر، ولا يأتي كل وزير بخطة إصلاح التعليم فيهدم ما قبله وكأنَّنا نبدأ من الصفر. مؤتمرات لتطوير التعليم تُهيل التراب على الماضي وتبدأ المهرجانات التي سرعان ما تتوقَّف بتغيير الوزير. الخطة القومية للتطوير والإصلاح التعليمي لا يجب أن يرتبط بمجيء وزير وذهاب آخر، وأن يستمر سنوات حتَّى يُحقِّق نتائجه؛ فالإصلاح يبدأ من التعليم ولا حل آخر غير ذلك.