حديث مع جريدة «الخليج» الإماراتية١
لم تَثُر ضجةٌ على كتاب في الآونة الأخيرة بقدر ما أثار كتاب «مشيناها خطًى»، الصادر عن دار الهلال في القاهرة، للمؤرخ الكبير د. رءوف عبَّاس، الغريب أنَّ الكتاب ليس كتابًا تاريخيًّا يُضيف إلى رصيده الكثير بعد أن عاش حياته يهتم بتاريخ الحركة العُمَّالية في مصر، والملكيات الزراعية، ويتتبَّع حركة النهضة، وبعد أن أعطى لليابان مساحةً كبيرة من وقته وجهده العلمي، وأصدر أكثر من خمسة عشر بحثًا تاريخيًّا باللغة الإنجليزية، ترك الجمهور كل هذا الجهد العلمي الرائع، واحتفَوا بحياته احتفاءً خاصًّا، وبمذكراته التي تحدَّث فيها بصراحة موجعة عن نشأته الفقيرة، وتطوُّره العلمي، ورأيه في الأصدقاء والزملاء والمواقف، ورأيه أيضًا فيما يراه من فساد أوصل الجامعات إلى ما وصلت إليه من تردٍّ في العلم جعلها تخرج عن الترتيب الخمسمائة في العالم لأنَّها لم تُضِف إلى العلم ما يؤهِّلها للدخول في قائمة الخمسمائة جامعة علمية، هكذا جاء كتابه كانفجار لم تخفت توابعه حتَّى الآن.
عن رد الفعل تجاه كتابه «مشيناها خطًى» يقول د. عبَّاس: معظم الضجيج يعكس حُسن استقبال الكتاب، وأدهشني هذا؛ فقد كتب عنه ستةً وعشرين مقالًا في الصحافة المصرية والعربية حتَّى الآن، بالإضافة إلى الصحافة العربية في لندن، ومنها ثلاث صُحف نشرت عروضًا له، كما كتبت عنه المواقع الإلكترونية أيضًا، والكل اعتبره شهادةً على العصر الذي عشته، لكن الاهتمام الكبير كان عن الجزء الخاص بالجامعة لأنَّني تكلَّمت عن ضعف المستوى العلمي، والفساد وسيطرة الأمن عليها، وهو الجزء نفسه الذي أثار د. عبد العظيم رمضان، فشنَّ هجومًا علي، كما أثار الذين رفعوا قضايا عليَّ سواء من جاء ذكرهم في الكتاب بالاسم أم الذين أشرت إليهم دون اسم، وأعجبتني كلمة تقول إنَّ الكتاب قذف حجرًا في بركة آسنة فأخرجت ما بها. «دار الهلال» طبعت منه خمسة عشر ألف نسخة بيعت في شهر ونصف الشهر، ثمَّ طبعت خمسة آلاف نسخة أخرى، وهذا له مغزاه؛ فنحن دائمًا ما نلوم الناس لأنَّهم لا يقرءون، لكن الناس حين يجدون ما يستحق القراءة، خصوصًا إذا كان يتناول بصدق الواقع المصري، فإنَّهم يُقبلون عليه فورًا.
كما أنَّ ظروف الكتاب جعلتني أكتشف معادن الناس؛ فلقد تلقَّيت مكالمات تليفونيةً من مواطنين لا أعرفهم، وعندما نُشِر خبر الدعاوى القضائية المرفوعة ضدي جاءني مجموعة من الشباب يعرضون عليَّ أن يجمعوا مبلغًا من المال للإنفاق على القضية، بل إنَّ مجموعةً من كبار المحامين الوطنيين في مصر أبدَوا استعدادهم للتطوُّع للدفاع عني، واكتفيت بخمسة منهم.
بالفعل لم أكن أتوقَّع أن يهتم أحد بما أكتب، أنا مثل طبَّاخ شاطر أقام مائدةً عامرة بالطعام ثمَّ عمل طبق «سلطة» فأقبل عليه كل الناس وتركوا ما على المائدة من أطباق أخرى؛ فهذا شيء يغيظ لأنَّني أكتب في التاريخ منذ العام ١٩٦٧م، ولي أعمال مهمة في التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي، وأعمال أخرى عن اليابان: «الحركة العُمَّالية في مصر، الملكيات الزراعية الكبيرة في مصر، جماعة النهضة القومية، المجتمع الياباني في عصر ميجي، التنوير في مصر واليابان-يوكتشي ورفاعة الطهطاوي،» بالإضافة إلى أحد عشر كتابًا مُترجمًا، وكنت مشرفًا على تحرير مجموعة من الكتب في التاريخ السياسي صدرت عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وترك الناس كل هذا وأمسكوا بطبق «السلطة».
– أنتمي إلى أفكار طبقات المجتمع الفقير؛ والدي عامل في السكة الحديد، والوسيلة الوحيدة لأبناء الفقراء هي الدراسة في الأزهر. ذهبت إلى الكُتَّاب ولم أنفع، وكنت في الرابعة من عمري، وكانت مشكلتي أنَّني أريد أن أفهم معنى الكلام حتَّى أحفظه. جلس معي صديق لوالدي وكان رقيقًا ويعزف على العود، وسألني لماذا يشكو منك الشيخ؟ وكنت قد حفظت في ثلاث سنوات ثلاثة أجزاء من القرآن، وبعد الحديث معي نصح والدي بأن أدخل مدرسةً عادية، فدخلت مدرسة «السيدة حنيفة السلحدار» بشبرا، وهي سيدة أقامت وقفًا لتعليم أبناء الفقراء المسلمين. عشت مُناخًا مختلفًا في فصول صغيرة تضم ثمانيةً وعشرين طالبًا، وتفتَّحت مداركي على أشياء كثيرة منها الحركة الوطنية، واشتركت في المظاهرات وضُرِبت من جنود الأمن وأنا طفل عند اشتراكي في المظاهرات.
وذهبت إلى مدرسة شبرا الثانوية ولم يكن فيها الانضباط الذي عرفته في مدرستي الأولى؛ فرسبت في الرياضيات واللغة الفرنسية، فنقلني والدي إلى مدرسة طوخ الثانوية، وهناك أعجبت بمُدرِّس اللغة العربية محمد البجيرمي، ومُدرِّس اللغة الفرنسية ملاك عبد المسيح، ومُدرِّس التاريخ الذي نسيت اسمه رغم أنَّه كان مُبدعًا في إلقاء الدروس، وكان إقبالي على القراءة في هذا الوقت على كُتب التاريخ، خاصةً كُتب عبد الرحمن الرافعي وموسوعة سليم حسن وكُتب أخرى.
– كنت أتعلَّم وأنا غير مُتأكِّد أنَّني سأُكمل المرحلة التالية؛ أي إنَّني لم أكن متأكِّدًا من دخولي الجامعة، ولم أحلم بها، لكن أحد معارف والدي أرسلني إلى موظف شركة تأمين لكي أعمل معه، فقال لي الرجل أنت خسارة، قدِّم أوراقك للجامعة ثمَّ يأتي العمل تاليًا لأنَّ البلد كان يُعاني من بطالة شديدة، وأقرضني الرجل ثلاثة جنيهات، قلت له أنا لا آخذ صدقة، فقال لي هذا قرض حسن، سأسترده منك، وبالفعل دخلت الجامعة وبحثت عن عمل طوال أربع سنوات، لكنِّي كنت أعمل في أعمال مؤقتة صيفًا؛ عملت سبَّاكًا، ونجارًا، ورددت لصديق والدي الجنيهات الثلاثة، وعملت أيضًا في مصنع لصناعة الشنط الورق والأكياس في عطلتَين دراسيتَين.
– لا، كان لي صديق من جيراننا اسمه «جرجس» كان ميكانيكيًّا في شبرا، وامتلك ورشةً بعد ذلك، وكنت أذهب إليه بعد أن امتلكت سيارةً لأُصلحها عنده، وكنت أزوره لأشرب معه الشاي ونتحدَّث.
– بالدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، وكان عائدًا من بعثته في إنجلترا، وكان يُعطي الدرس على شكل قضايا وتساؤلات، وكان يُشجِّعنا على إبداء رأينا، وكان هذا غريبًا في ذلك الوقت الذي حرص فيه الأساتذة على ترك مسافة بينهم وبين الطلَّاب، تأثَّرت أيضًا بالدكتور أحمد عزت عبد الكريم، وهو من أشرف على رسالتي في الماجستير والدكتوراه، وهو أستاذ أحمد عبد الرحيم مصطفى.
– د. عاصم الدسوقي وهو صديقي حتَّى الآن، ود. عبد الرحيم عبد الرحمن، وحسن شعبان زعفان، رحمة الله عليه.
– كان عاصم زميلًا لي في الكلية، وبعد أن أنهينا دراسة الصف الأول ذهبت إلى مدينة منوف حيث يعمل أبي، وكنت مشغولًا بالعمل صيفًا حتَّى جاءني خطاب من عاصم الدسوقي يُخبرني فيه بأنَّنا نجحنا بتقدير جيد، ويسألني أين أنا، وبعد أن عُدنا إلى الدراسة فوجئت بأنَّه اشترى لي كتابًا عن تاريخ أوروبا الوسيط وكان ثمنه جنيهًا، وهو ثمن لم يكن في مقدوري دفعه، قائلًا إنَّه اشترى نسختين. ذهبت إلى البيت وأخبرت أمي بأنَّني لا أستطيع الذهاب إلى الكلية دون أن أدفع لزميلي الجنيه، ولا أستطيع أن أطلبه من أبي، فخلعت الحلق من أذن أختي الطفلة وأعطته لي كي أبيعه وأعطي لعاصم الجنيه، منذ أسابيع ذكرت هذه الواقعة لعاصم فلم يتذكَّرها، ومع ذلك فقد اشترى صداقتي له بهذا التصرُّف الجميل النبيل.
وكان د. عبد الرحيم عبد الرحمن «صعيدي جدع» يعمل مُدرِّسًا للمرحلة الابتدائية ومنتسبًا للجامعة في ذات الوقت، وكان يستعير مني كشاكيل المحاضرات، وكان حريصًا على تحقيق ذاته، ويربطني بأصدقائي دائمًا الهم العام والدراسة، وهي الأشياء التي دعَّمت صداقتنا مدى الحياة.
– هي حالة واحدة، زوجتي سُعاد الدميري، وهي زميلة دراسة، وكان لها ثلاث أخوات في قسم اللغة الإنجليزية، أحببتها من بعيد ولم أُصارحها إلا بعد التخرُّج.
– في فبراير / شباط ١٩٦٢م صدر قرار جمهوري بتعيين الخريجين الذين تخرَّجوا ابتداءً من العام ١٩٥٦م وحتَّى العام ١٩٦١م، وكان زملائي يعتبرونني محظوظًا لأنَّني تعيَّنت فور تخرُّجي في الشركة المالية والصناعية بكفر الزيات، وكانت تُنتج أسمدةً وحامض كبريتيك، عُيِّنت مراجعًا للحسابات، وكان راتبي ثمانيةً وعشرين جنيهًا، بينما عُيِّن زملائي في الحكومة بخمسة عشر جنيهًا، وكنت أدفع لأبي عشرة جنيهات في الشهر، وكان أول قرار لي هو إكمال الدراسات العليا.
اشتريت ثلاث بدل بالتقسيط على ثلاثة أشهر، كل شهر أربعة جنيهات، واشتريت ستة قمصان بستة جنيهات على دفعات، كل شهرين قميص، وكنت أسافر إلى القاهرة كل أسبوع لكي أحضر السيمنار، واستمتعت لأول مرة بشراء الكتب.
– قبل تعييني في الشركة ذهبت إلى سمسار يُعيِّن المُدرِّسين في المدارس، وطلبت منه عملًا، فقال لي أحتاج إلى مُعلمات وسأبحث لك عن فرصة أخرى، قلت له عندي مُعلِّمة وذهبت إلى الكلية وقابلت أخت سعاد، وطلبت منها أن تُخبرها بالأمر فجاءت مع والدها لتُقابل السمسار الذي قدَّم لها عملًا في مدرسة بسبعة جنيهات شهريًّا، وعملًا لي بخمسة جنيهات شهريًّا، وبعد أن سافرت إلى كفر الزيَّات أرسلت كارت معايدة لوالدها ثمَّ الْتقيتها بعد سنة، بعد أن راسلتني وأخبرتني بأنَّها عُيِّنت في بنك، وكنت قد حصلت على خمسين جنيهًا من أرباح الشركة، فتقدَّمت على الفور للزواج منها، ووافق والدها على أن أدفع مائة جنيه مهرًا، وألبستها الدبلة وأعطيتها خمسين جنيهًا لتشتري أشياء للبيت، وأثَّث والدها ثلاث غرف شحنها على كفر الزيَّات، واقتصر الفرح على العائلة، واستمعنا إلى الأغاني من شريط تسجيل، واصطحبتها في تاكسي ودفعت له خمسين قرشًا إلى المُصوِّر، ثمَّ بعد انتهاء الحفل ركبنا القطار إلى كفر الزيَّات.
وافقت زوجتي على ألَّا نُنجب أطفالًا لأنَّ لي سبعة إخوة، ثمَّ ضحكت علي، وفوجئت بأنَّها حامل وأنجبنا ولدًا وحيدًا هو «حاتم» الذي يعمل خبيرًا في تكنولوجيا المعلومات بشركة بترول، وأنا الآن جد لنور وأميرة.
– هي متفهمة تمامًا لظروفي وطبيعة عملي، ورغم هذا كنَّا نذهب إلى السينما مرةً في الشهر، وكنَّا نتابع الحركة المسرحية، وفي الصيف نذهب إلى بلطيم أو مرسى مطروح، وهي مُدبِّرة جدًّا لا تهمها المظاهر؛ أي إنَّها وزيرة مالية محترمة جدًّا، ولأنَّني مسئول عن أسرتي، ولعبت دورًا في مساعدة أبي فلم تتأفَّف، بل على العكس هي حتَّى اليوم التي تُنبِّهني لاحتياجات أفراد الأسرة، لهذا تحبُّها عائلتي جدًّا، وكلهم أصبحوا أطباء ومهندسين وأساتذة جامعة، والبنات يخبرنها بأسرارهن لأنَّها تلعب معهن دور الأم.
– ذهابي إلى اليابان؛ فقد كان فتحًا في حياتي العلمية، وبدأ بموقف محرج؛ إذ بعد أن عُرضت نتائج الدكتوراه في سيمنار في اليابان التي انتهيت فيها إلى أنَّ النظام الموجود في مصر في نهاية القرن التاسع عشر كان يُمثِّل تحوُّلًا رأسماليًّا من حيث المظهر، لكنَّه من حيث الجوهر كان نظامًا إقطاعيًّا؛ لأنَّ علاقات الإنتاج في الريف المصري ظلَّت إقطاعية، قال لي اليابانيون إنَّك متأثر ﺑ «موريس دوب»، قلت لهم من هو «موريس دوب»؟ وهم أناس مؤدبون، فنظروا إليَّ وقالوا لي هذا مؤرخ إنجليزي كتب كتابًا في تطوُّر الرأسمالية، ونَقَد الماركسية في أشياء كثيرة من بينها فكرة الصراع الطبقي، وقال إنَّ المعيار للحكم على أي نظام اقتصادي اجتماعي هو علاقات الإنتاج به، وكلامك يصب في هذا، قلت أنا آسف لم أقرأه، قالوا اقرأه ونتناقش، وأحضروا الكتاب (وقد قمت بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية ونُشِر عام ١٩٧٩م حتَّى لا يتعرَّض غيري للموقف نفسه)، وقرأته في أسبوع وناقشتهم.
تعلَّمت في اليابان الكثير في المنهج في نظريات التطوُّر الاقتصادي، ونظريات التنمية، وأهم من هذا اللغة التي كنت أستخدمها سواء في العروض التي أُقدِّمها أم في الكتابة، وهو ما أعطاني فرصةً للتعبير بالإنجليزية، وكنت قد طلبت منهم أن يُساعدني أحد في مراجعة أول دراسة كتبتها بالإنجليزية، فأرسلوني إلى صحافي أسترالي يعمل في «اليابان تايمس»، فطلب مني الحصول على ثلاثمائة دولار، فوافقت بشرط أن يجلس معي لكي يُرشدني إلى أخطائي، وساعدتني هذه التجربة في إتقان اللغة، وأنا الآن أنجزت أكثر من خمسة عشر بحثًا بالإنجليزية، كما أنَّني أستطيع أن أُحاضر بهذه اللغة، وفتح لي هذا نوافذ كثيرةً في الخارج.
– أول سفر لي كان إلى اليابان، وعلى طريقة القروي الساذج الذي يُسافر لأول مرة، كان ممنوعًا أن يُسافر المصري بأكثر من خمسة جنيهات، وساعدتني زوجتي على مضاعفة المبلغ لأنَّها كانت تعمل في بنك وأرشدها رئيسها لهذا، فذهبت إلى اليابان بثلاثين دولارًا ولم أرسل برقية، ونزلت مطار طوكيو في الثانية عشر والنصف ليلًا، وطلبت تاكسيًا يوصلني إلى فندق بجوار المعهد الذي سأذهب إليه، ودفعت كل ما أملك، وتبقَّى معي بعض «الفكة»، وأُصبت بالرعب لأنَّني أفلست قبل أن تبدأ رحلتي الفعلية، وفي الصباح عندما سألت موظف الفندق عن العنوان اكتشفت أنَّني لا أستطيع أن أدفع ثمن التاكسي إليه، وأنقذني شخص كان ذاهبًا إلى مكان قريب منه، واصطحبني في سيارة إليه، وهناك قابلت الزملاء وأول شيء قلته لهم إنَّني لا أملك إلا هذه الفكة، فصرفوا لي قرضًا من حساب المنحة وأنزلوني في فندق آخر، هكذا بدأت رحلتي إلى اليابان.
– إلى قطر، مُعارًا إلى كلية التربية للمُعلمين والمُعلمات التي أصبحت جامعة قطر بعد ذلك، وهنا حصل لي موقف طريف؛ إذ عند دخولي المحاضرة للبنات فوجئت بضحكات تتصاعد، فوبختهن بشدة، لكن إحدى الطالبات قدَّمت شكوى وطلبني العميد د. محمد إبراهيم كاظم، فقلت له إنَّ ما حصلت عليه منكم هو تذكرة السفر وأُريد تذكرة العودة وسأدفع ثمنها فور عودتي، حاول العميد أن يثنيني عن موقفي، ثمَّ جاء إلى بيتي واصطحبني إلى بيته، وهناك أقنعتني زوجته د. صفاء الأعصر بأنَّهم بذلوا جهدًا كبيرًا لإقناع الجامعة بأن يقوم مُدرِّس رجل بالتدريس للبنات، وعُدت إلى التدريس ومضت السنوات الأربع على خير، واكتسبت صداقات كثيرة، وأنا دائمًا ما أتعرَّض لمواقف صعبة بسبب حرصي على كرامتي التي لا أملك غيرها.
– عشقت الترحال وأصبح لي وأسرتي رحلة سنوية، فذهب أولًا إلى النمسا ثمَّ رومانيا فإيطاليا فالولايات المتحدة التي عاشت فيها أخت زوجتي، لكن أجمل ما رأيت كان في منطقة جبال الألب بالنمسا؛ لأنَّني أُحب جمال الطبيعة.
– عُيِّنت في جامعة القاهرة، ولم أنشَط إلا بعد عودتي من قطر، ونظرًا لغياب د. محمد أنيس، وكان مُعارًا، فأشرفت على تسعة طُلَّاب منهم إسماعيل زين الدين، أحمد الشربيني، أحمد الدماصي، سامي أبو النور، واشتركت في تكوين محمد عفيفي، وكنت أشعر ذلك الوقت أنَّه لا يوجد اهتمام كافٍ بتكوين الكوادر العلمية، فأسَّست سيمنار للتاريخ يتم فيه تأسيس الطلَّاب علميًّا، وعملت مجلةً علمية للمؤرِّخ المصري، من هنا ساعدت في تكوين عدد كبير من الطلَّاب بعضهم يدرس مع غيري.
– وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ليس لأنَّني رءوف عبَّاس، بل لأنَّ جامعة القاهرة كانت تحتفل بالعيد الماسي وطلبوا من رئاسة الجمهورية منح العُمداء ورئيس الجامعة ونوابه ولجنة الإعداد للاحتفالية هذا الوسام، وكنت عضوًا في هذه اللجنة، وكنت أصغرهم سنًّا، وأخذت هذا الوسام معهم، ثمَّ حصلت على تكريم من جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا الشمالية «الميسا» في نوفمبر / تشرين الثاني ١٩٩٠م، وكانوا قد كرَّموا جاك بيرك، وألبرت حوراني، وبرنارد لويس، واختاروا تكريم واحد من الشرق الأوسط، وكانت المنافسة بيني وبين أمنون كوهين من إسرائيل، وجاء التصويت لصالحي، ولهذا لم يحضر اليهود الموجودون في المؤتمر حفل الاستقبال الذي أُقيم على شرفي، ثمَّ حزت جائزة الدولة التقديرية عام ٢٠٠٠م.
– بدأت علاقتي بها أيام كان رئيسها د. أحمد عزت عبد الكريم أستاذي في الستينيات، دخلت مجلس الإدارة للمرة الأولى عام ١٩٧٩م، ثمَّ أمينًا للصندوق فأمينًا عامًّا، فرئيسًا عام ١٩٩٩م، وكنَّا نمر بأزمة طرد من المكان، واستجاب لنا صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، وبنى لنا المكان الذي يضم مكتبةً وقاعةً من طابقين، وقاعة مؤتمرات ١٣٠ كرسيًّا وقاعة سيمنار، ومكتبةً إلكترونية وهي التي أسَّسها الجيش، وقد تكلَّف المبنى ثلاثة ملايين جنيه مصري، ثمَّ قدَّم لنا وديعةً قدرها ٨٧٠ ألف جنيه مصري نُنفق من رِيعها الآن.
– أنا «راجل دقة قديمة» أحب أم كلثوم وعبد الوهاب، ولم أحب عبد الحليم، لكن بعد وفاته تذوَّقته أكثر. أحب نجاة، وأحب عروض المسرح القومي، وعلَّمني صديقي يوسف السيسي تذوُّق الموسيقى الغربية، وأذهب أحيانًا لحضور الكونشرتو.
– فلسفتي في الحياة أنَّه لا يصح إلا الصحيح، وهذا انعكاس لنظرتي للأمور؛ فلا أرى مجالًا لأنصاف الحلول أو المجاراة؛ فليس عندي سوى الأبيض والأسود، وأنا لا أحب أن أمتلك شيئًا، وهذا من بين المعارك الكبيرة مع زوجتي عندما صمَّمت على أن يكون بيتي في مدينة العاشر من رمضان باسم زوجتي.
وفلسفتي عن المال أنَّ ما لا أحتاجه من نقود لا أسعى إليه، ومع ذلك أنا مستور جدًّا والحمد لله؛ لأنِّي دائمًا ما أُرزق من سعيي بالمال الذي يقيني شر الحاجة.
ومن ضمن النعم العظيمة التي أنعم بها الله عليَّ أنَّني ضمن أسرة مصرية مترابطة جدًّا، تعيش معًا وتقف مع بعضها، وأنا أحب أن أصنع المعروف، ولا أنتظر جزاءً.
– التوتر، والعصبية، والتمسُّك بالأبيض والأسود. لا أعرف المجاملة. أهم عيوبي أنَّني أحيانًا ما أتبنَّى أناسًا وأدفعهم إلى الأمام ثمَّ لا يُصبحون عند المستوى الذي أتمنَّاه؛ أي إنَّني لا أُحسن اختيار الناس أحيانًا. من بين عيوبي أيضًا أنَّ أصدقائي معدودون؛ لأنَّني حريص جدًّا في اختيار الصديق.
– هي في حالة يُرثى لها، وهذا راجع إلى التدهور العام الذي تعيشه مصر في هذا العصر؛ ولذلك عندما كتبت في سيرتي تحت عنوان «تحت القبة وهم»، كان هذا مُعبِّرًا تمامًا عن الواقع.
ويكفي أنَّ التقرير الدولي عن أهم خمسمائة جامعة في العالم لم تكن فيه جامعة واحدة عربية، بما فيها جامعة القاهرة، أُم الجامعات العربية؛ لأنَّ المعيار هو حجم ما أضافته الجامعة إلى العلم وقيمته، وليس بعدد الطلَّاب الذين أخرجتهم.
– أعرف الكثير منهن على الصعيد المهني كزميلات، ولكن لم تربطني بأي منهن علاقة صداقة من النوع الذي تظنين.
– لم تسمح ظروفي بأن أمر بتجارب من هذا النوع في مرحلة المراهقة أو الشباب، لكن لا بد أن أذكر الزميلات اللاتي أُكنُّ لهن مشاعر الصداقة والأُخوة: د. لطيفة سالم، د. نللي حنَّا، د. منى بدر، د. نجوى كيره، ومن الأجانب جيلان الوم من فرنسا، وأشرفت عليها جزئيًّا في الدكتوراه، وهي فرنسية كانت مديرةً للسيداج، وربما تُترجم «مشيناها خطًى» للفرنسية في عام ٢٠٠٦م.
– يدرس المؤرِّخ المجتمع في حقبة زمنية سابقة، وهناك فرق بين المؤرِّخ والإخباري الذي يروي الحوادث؛ لأنَّ المؤرِّخ يرى كيف تحرَّك الحدث ولماذا؟ ويُحاول أن يُحلِّله، وكيف حدث بهذا الشكل، ثمَّ يُعيد تركيب الحديث الذي حدث في الماضي في إطار مجتمعه.
– المؤرِّخ ليس عمله وحده وإنَّما من قام بتربيتهم؛ مثل أحمد عزت عبد الكريم، أحمد عبد الرحيم مصطفى، أهم مؤرِّخ في تاريخ الأندلس والمغرب مختار العبَّادي في الإسكندرية وعُبادة كُحيلة في القاهرة، وفي التاريخ القديم أحمد فخري وعبد العزيز صالح، وكان في تاريخ البطالمة إبراهيم نصحي، ونللي حنَّا في العصر العثماني، وترجمت لها كتاب «ثقافة الطبقة الوسطى»، ومن العرب عبد العزيز الدوري في التاريخ الإسلامي ونبيه عاقل، ومن السوريين عبد الكريم رافق، وكثيرون غيرهم.
– عندما ساءت علاقتي بالدكتور محمد أنيس؛ لأنَّني كنت أحبه جدًّا، وهو أساء فهم طبيعتي في التعامل؛ لأنَّني حين أشعر بأنَّ شيئًا ما مسَّ كرامتي يكون رد فعلي عنيفًا، وساعد الناس في توسيع المسافة بيننا، وعندما عُيِّنت مُعيدًا طلب مني د. محمد أنيس أن أُحوِّل الإشراف على دراستي للدكتوراه إليه … لكنَّني رفضت وقلت له لو أنَّني ليس لي خير في أساتذتي الذين علَّموني لن يكون لي خير فيك، ثمَّ أصبحنا صديقين، ثمَّ ساءت العلاقة للأسف بعد ذلك.
الموقف الثاني الصعب كان حين وجدت في الأوراق التي أُراجعها في شركة كفر الزيَّات ما يُشير إلى تلاعب، قلت لمدير الشركة هذا فقال لي أمامك أوراق سليمة وقِّعها وكفى، قلت: لا، إنَّ لي مصلحةً في هذه الشركة التي يمتلكها الشعب، وأنا من الشعب. قال لي لقد صدَّقت كلام عبد الناصر الذي يضحك به على الأغبياء مثلك. فأرسلت شكوى بهذا إلى جمال عبد الناصر، وبعد أسبوعين عادت الأوراق إلى مدير الشركة، فأفاد بأنَّني عامل مهمل ووقَّع عليَّ خصمًا قيمته خمسة أيام وحرمانًا من العلاوة، وقال لي أنت بالفعل صدَّقت كلام عبد الناصر وهذا هو جزاؤك، وأصابني هذا الحديث بصدمة كبيرة؛ لأنَّني واجهت فجوةً كبيرة بين ما أومن به وما يحدث على أرض الواقع.
الصدمة الثالثة عندما حصلت على الماجستير وحصل لي د. أحمد عزت عبد الكريم على منحة لدراسة الدكتوراه، وكان لا بد عليَّ الحصول على موافقة جهة العمل، فرفضت، فقدَّمت استقالتي، وكانت المنحة تُعطيني تسعة عشر جنيهًا، وانقطعت بعد ستة شهور؛ أي إنَّني تركت راتبي الكبير لأنَّني كنت أحلم بأن أكون عالمًا، وهنا تأتي عظمة زوجتي التي وقفت بجواري في هذه المحنة … في غضون هذا نزل إعلان من جامعة القاهرة لتعيين مُعيدين فتقدَّمت إليها ونجحت. وعندما دخلت إلى قسم التاريخ أردت أن أُصبح مثل د. أحمد عبد الرحيم مصطفى، وأن أهتمَّ بالتاريخ الحديث.
وأنا أُقابل المواقف الصعبة بالمقاومة، ومن عيوبي الشديدة أنَّني شديد التطرُّف، وحياتي هي أبيض أو أسود، ولا أنحو نحو الحلول الوسط، وهو يُسبِّب لي الكثير من المشكلات مع الناس.