مراجع الحسابات
كانت الشركة المالية والصناعية المصرية شركةً مساهمة يملك قسطًا كبيرًا من أسهمها بعض كبار الرأسماليين من أمثال أمين يحيى (الذي كان رئيسًا لمجلس الإدارة قبل التأميم) والبدراوي وسراج الدين، وغيرهم. وكان مديرها العام الدكتور محمد شفيق حنطور يحمل درجة الدكتوراه في الزراعة، ويقترب من السبعين، وقد أصبح رئيسَ مجلس الإدارة بعد التأميم. وتخصَّصت الشركة في إنتاج حامض الكبريتيك بمختلِف درجاته، وإنتاج سماد السوبرفوسفات. وكانت تستورد الكبريت الخام من الخارج، أمَّا الفوسفات فيأتي من المناجم التابعة لها بمنطقة «السباعية» غرب أسيوط. ورغم وجود المصانع بكفر الزيات، كان المركز الرئيسي للشركة بالإسكندرية، وكانت مكاتب الإدارة بكفر الزيات تضم قسم الحسابات وقسم المراجعة، وقسم المخازن والتوريدات وقسم المشتريات. أمَّا عدد العمال فبلغ ١٥٠٠ عاملًا، استفاد نحو ١٢٥٠ عاملًا منهم بالقانون الذي جعل الحد الأدنى للأجر اليومي للعامل خمسةً وعشرين قرشًا، فارتفعت أجورهم اليومية من ثمانية قروش إلى ٢٥ قرشًا، وشملتهم مظلة التأمينات الاجتماعية. أمَّا الإداريون فانقسموا إلى قسمَين؛ فئة الموظفين ذوي الرواتب الشهرية، وكانت فئةً متميزة يبدأ الراتب الشهري لصاحب المؤهِّل المتوسط بستين جنيهًا شهريًّا (أي خمسة أصناف مرتب زميله بالحكومة)، ولم يكن بالشركة من بين الموظفين حمَلة المؤهل العالي سوى أربعة من المهندسين. أمَّا الإداريون فكانوا من حمَلة دبلومات التجارة والصنايع. وكانت هناك شريحة أخرى من الموظفين تُعامل بالأجر اليومي، فكانت بداية تعيين حمَلة المؤهلات المتوسِّطة من هذه الفئة جنيهَين يوميًّا عن كل يوم عمل، فلا يُحتسب الأجر عن أيام الراحة الأسبوعية والعطلات الرسمية.
هبط على الشركة، نتيجةَ القانون الجمهوري بتعيين الخريجين، أربعة موظفين جدد دفعةً واحدة، تسلَّموا العمل في فبراير ١٩٦٢م، منهم ثلاثة من خريجي الآداب، فلسفة (١٩٥٧م)، وجغرافيا (١٩٥٧م)، وتاريخ (١٩٦١م)، وخريج حقوق (١٩٥٨م). كان صاحبنا أحدث الخريجين المُعَينين بالشركة، وعدَّه زملاؤه الثلاثة من المحظوظين؛ فقد تقلَّب ثلاثتهم بين مختلِف الأعمال؛ فكان خريج الفلسفة يعمل كاتبًا باليومية بشركة مياه غازية من مارس إلى أكتوبر ويُعاني البطالة من نوفمبر حتى فبراير. وحصل خريج الجغرافيا بعد بطالة دامت عامَين على إحدى وظائف المؤهلات المتوسطة عن طريق مسابقات «ديوان الموظفين»، فكان كاتبًا بمصلحة الآثار، أمَّا خريج الحقوق، فقد أنهى فترة التدريب بمكتب أحد المحامين لم يتقاضَ عنها أجرًا، وسجَّل اسمه في جدول المحامين، وكان أحسن الأربعة حالًا، لم يعانِ الفاقة مثلهم لأن والدته الثرية كانت تنفق عليه ببذخ لكونه وحيدها.
لم يتضمَّن القرار الصادر من المؤسسة للشركة بتعيين الخريجين الأربعة أي إشارة إلى الراتب الذي يتقاضاه كلٌّ من هؤلاء «الدخلاء» الأربعة (هكذا كان يُنظر إليهم)، فلم يكن هناك كادر محدَّد للشركة أو غيرها من الشركات، وإنما كان تحديد الراتب متروكًا لتقدير رئيس مجلس الإدارة الذي قرَّر أن يكون الراتب ٢٦ جنيهًا شهريًّا، وكان هذا مبلغًا محترمًا؛ لأن من عُينوا بالحكومة حصلوا على خمسة عشر جنيهًا، ولكنه كان يعدل ثلث الراتب الذي كان يحصل عليه من يُعيَّن بمؤهل متوسط قبل التأميم.
بقيت مشكلة أخرى هي تحديد وظائف أولئك «الدخلاء»؛ فلا علاقة بين مؤهلاتهم ومجال العمل بالشركة الذي يتطلَّب الهندسة والعلوم والتجارة، فتمَّ اختيار حجرة كانت مخصَّصةً لمراقب الشحن والتفريغ، وُضعت فيها أربع طاولات وأربعة كراسٍ، كانوا يجلسون فيها معًا من الثامنة حتى الثالثة بعد الظهر دون عمل، يتندَّرون على ما يصل إلى أسماعهم من أحاديث العُمال بشأنهم: «دول بتوع الحكومة بعتاهم يراقبوا البوظان اللي في الشركة»، أو «دول تَبَع المباحث جابهم حنطور لجل يلَجِّم العمال» … إلى غير ذلك من تخمينات، ولا يكن أولئك العُمال التعساء ليدرون أن هؤلاء «الأفندية» لا يقلُّون عنهم من حيث قلة الحيلة، وأن الْتحاقهم بالعمل بالشركة جاء بعد طول معاناة.
بعد مرور أسبوعَين تحدَّدت وظيفة خريج الحقوق فأصبح محقِّقًا بإدارة شئون العاملين، وبعد أسبوع آخر تحدَّدت مواقع خريجي الآداب، فأصبح الفيلسوف موظَّفًا بقلم الأجور بالإدارة نفسها، والجغرافي مساعدًا للخواجة يني (اليوناني الجنسية) المتخصِّص في استيراد الكبريت، وأصبح صاحبنا مراجعًا بالإدارة المالية، وهي الوظيفة التي شغلها ٦٢ شهرًا حتى استقال من الشركة في أبريل عام ١٩٦٧م.
كان قسم المراجعة مختصًّا بمراجعة المستندات المالية قبل الصرف، ومراجعة سجلات الأجور، ومستندات المخازن والمشتريات، وكلها أمور لا علاقة لها بالتاريخ، ولكن لا علاقة لها — أيضًا — بأي تخصُّص آخر، فيما عدا المراجعة الحسابية، ولم تكن تشكِّل صعوبةً كبيرة مع وجود الآلة الحاسبة (وكانت يدوية). امتنع الفيلسوف عن العمل لمدة أسبوع طالبًا أن يكون رئيس القسم، وانضمَّ إليه المحامي الذي طلب أن يكون رئيسًا للشئون القانونية، أمَّا الجغرافي فارتاح إلى العمل مع الخواجة يني، الذي لم يتجاوز إعداد المحرَّرات العربية التي تُرسل إلى المؤسسة وغيرها من الجهات الرقابية بشأن ما تستورده الشركة من مستلزمات الإنتاج، وكانت تلك المحرَّرات محدودة. أمَّا صاحبنا فكان حريصًا على أن يُثبِّت أقدامه في عمله الجديد، وأن يمارسه بطريقة سليمة؛ ولذلك عكف على دراسة كل الإجراءات الإدارية والمالية التي عليه أن يتولَّى مراجعتها، ولم يمضِ شهر واحد حتى كان قد ألمَّ بكل أصول الصنعة التي لا تتطلَّب ممن يقوم بها سوى حسن البديهة.
كان قسم المراجعة يضم رئيسًا (دبلوم تجارة) من الفئة المتميِّزة من الموظفين، يعمل معه اثنان أحدهما شاب (دبلوم تجارة)، والآخر لاعب كرة معتزل (ابتدائية قديمة)، وهما من عُمال المياومة، فكان صاحبنا الموظف الثاني بالقسم من حيث الترتيب الإداري، ولكنه جاء في الترتيب الثالث من حيث الأجر الشهري؛ فقد كان اللاعب المعتزل يحصل على ما يزيد قليلًا عن ضعفَي أجره. وكان الزملاء الثلاثة على مستوًى راقٍ في تعاملهم معه، وخاصةً أن رئيس القسم كان مرشَّحًا لعضوية مجلس الإدارة عن الموظفين متحالفًا مع عامل نقابي ضد رئيس المخازن، وعامل آخر. كانا مرشحَي رئيس مجلس الإدارة، فكان رئيس القسم — بذلك — ينتمي إلى المعارضة، وشديد الإعجاب بعبد الناصر.
كان بالشركة مطعم يقدِّم وجبة غداء مدعَّمةً مكوَّنة من اللحم أو الدجاج والأرز والسلطة وثمرة فاكهة مقابل اشتراك شهري قدره «١٧٥ قرشًا»، فاشترك صاحبنا وذهب إلى المطعم لأول مرة ليُلاحظ وجود مكان خاص للموظفين (وكانوا جميعًا من المعيَّنين باليومية) في طرف قاعة المطعم بعيدًا عن العمال رغم أن الوجبة واحدة، فاختار أن يتجه بالصينية الخاصة به إلى مكان العمال وجلس وسطهم، فلاحظ توقُّفهم عن الحديث والتزامهم الصمت وتبادلهم النظرات، فقدَّم لهم نفسه، وقال لهم إن جدَّه كان عاملًا، وأبوه ما يزال عاملًا، وإنه يُحس ﺑ «الونس» بينهم، فلماذا يتهيَّبون منه؟ فردُّوا بالاعتذار والترحيب لأنهم لم يتعوَّدوا أن يجلس بينهم موظف (لله في لله)، فلا يحدث ذلك عادةً إلا إذا كانت الإدارة تُدبِّر لهم أمرًا. قال لهم صاحبنا إن الشركة الآن ملك الشعب فهم من أصحابها، وإن الإدارة لا تستطيع أن تفعل بهم ما كانت تفعله في الماضي. وشيئًا فشيئًا ذاب الجليد بينه وبينهم، وبدأ يتعرَّف على ما كان يدور في الشركة من خلالهم. قصَّ عليه أحدهم ما عاناه العُمال من ضعف الأجور وغياب الرعاية الصحية وإجراءات الأمن الصناعي؛ فالكثير منهم يعانون من الربو، ويتعرَّضون للحروق المميتة عندما ينفجر أنبوب في وحدة إنتاج حامض الكبريتيك القديمة، وأنهم يريدون تحسين ظروف العمل. وعندما سألهم عن دَور نقابة العُمال في ذلك كله، قالوا له إن النقابة الموجودة من صنع أصحاب الشركة قبل التأميم بالاتفاق مع الشئون الاجتماعية والداخلية، وأسرَّ إليه أحدهم أنهم بدءوا يجمعون التوقيعات لإسقاط مجلس النقابة القديم، ودعاه لحضور اجتماع بهذا الخصوص في أحد المقاهي التي تقع على أطراف البلدة.
حضر صاحبنا الاجتماع. كان الحضور خمسةً من العُمال الفنيين (الأسطوات) واثنَين من رؤساء الورديات (حملة دبلوم الصنايع). أمَّا رُواد المقهى فكانوا من الفلاحين الذين يأتون إلى كفر الزيات لقضاء مصالحهم، وينتظرون وسيلة مواصلات تحملهم إلى قُراهم. عرض الحضور نص عريضة المطالبة بإسقاط مجلس إدارة النقابة، فأعمل صاحبنا قلمه في النص يُصلح من صياغته، وارتاحوا للنص الجديد، وطالبوه أن يساعدهم في صياغة العرائض التي سيُقدِّمونها للسلطات المعنية، فرحَّب بذلك، ولكنه اعترض على الطابع السري للاجتماعات، واقترح عليهم أن يتخذوا من مقر النقابة مركزًا لنشاطهم؛ لأن مجلس الإدارة لا يملك المقر؛ فهو ملك لجميع الأعضاء، ويمكن اللجوء إلى السلطات إذا منعهم مجلس النقابة من ذلك.
أعجبتهم الفكرة، وعُقد اجتماع أوسع بساحة النقابة التي كانت تحتل شقةً واسعة تمثِّل الدور الأرضي بإحدى بنايات وسط المدينة، بها فناء يتسع لحوالي ثلاثين مقعدًا. وحضر صاحبنا الاجتماع، وبهره ذلك القدر من الوعي الذي لمسه عند المتحدِّثين من العمال البسطاء، وتمَّ نسخ عشرات الصور لنص العريضة، كتب عشرًا منها بخطه، وتمَّ جمع التوقيعات عليها خلال نوبات العمل (الوَرَادي)، ثم عُقد اجتماع آخر تمَّ فيه فرز العرائض (وكانت من صورتَين)، فحرَّر صاحبنا خطابًا موجهًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وآخر موجَّهًا لوزير العمل، ووُضعت كل صورة في مظروف وتمَّ تسجيلها للجهة الموجَّهة إليها. ولم يحدث — حتى ذلك الحين — أي احتكاك بين المجلس القديم ومن تزعَّموا هذه الحركة والعمال الذين شاركوا فيها.
ولكن رئيس مجلس إدارة الشركة الذي كانت له عيونه بين منظمي الدعوة لإسقاط مجلس إدارة النقابة (وكان أحد رؤساء الورديات)، أصدر قرارًا بإلغاء اشتراك الموظفين في المطعم بحجة أن الدعم للعمال وحدهم، وبذلك لم يعد هناك مبرِّر لوجود صاحبنا في المطعم. وبعد صدور ذلك القرار بأسبوع تلقَّى اتصالًا من ضابط المباحث العامة بمركز كفر الزيات يدعوه للالتقاء به في نادي الموظفين الذي يقع على فرع رشيد أمام المركز مساءً «للتعرُّف عليه»، فالتقاه هناك ليجد معه رئيس الوردية الذي كان حاضرًا اجتماع المقهى مع زميل آخر له، وقال الضابط إنه نُقل حديثًا إلى كفر الزيات، وإنه يريد التعرُّف إلى الموظفين الشباب، وإن ذلك الشخص اقترح عليه التعرف إليه لأنه يحب إقامة روابط الصداقة مع المثقفين. وباسم التعارف وجَّه حزمةً من الأسئلة إلى صاحبنا الذي ضاق ذرعًا بها وسأله عن مغزى كل تلك الأسئلة، وهل هي للتعارف أم أسئلة تحرٍّ وتحقيق؟ فضحك وتعلَّل «بحكم» المهنة. وفي نهاية اللقاء قال الضابط: أرجو أن نظل أصدقاء، وألَّا يحدث ما يشوب هذه الصداقة. وصمت برهةً ثم قال: «يا ريت تبعد عن الجماعة إياهم … إنت مش قد البهدلة.»
بعد أيام معدودة قال زميله الجغرافي الذي يعمل مع يني (وكان يشاركه السكن) إنه علم من الخواجة يني أن شفيق بك حنطور (رئيس مجلس الإدارة) سينقُله إلى المناجم بالسباعية عندما يرى آخرة «الهوجة» التي شارك فيها. وقال إن الخواجة يني مستعد لترتيب مقابلة مع «البك» ليعتذر له، عندئذٍ يصرف النظر عن نقله إلى المناجم.
كان صاحبنا قد بادر مساء اليوم نفسه الذي التقى فيه ضابط المباحث العامة، بادر بزيارة الأسطى منصور عبد النبي (أحد قادة حركة جمع التوقيعات) في بيته ليُخبره باختصار بما دار بينه وبين الضابط، ويحذِّره من رئيس الوردية عميل الإدارة والمباحث. وفي اليوم التالي كان العمال جميعًا قد علموا بحقيقة رئيس الوردية، وعاملوه معاملة المنبوذ، وعزلوه تمامًا عن كل ما اتصل بنشاطهم؛ ولذلك فهم صاحبنا الرسالة التي حملها زميله من يني على أنها تصعيد للتهديد، بعدما أحسَّ رئيس مجلس الإدارة بعدم جدوى تهديد ضابط المباحث العامة، بعدما قاطع العمال جاسوسه واحتقروه.
ولكن لم تمرَّ بضعة أيام حتى وصل مسئول كبير من وزارة العمل التقى بالعمال وزعمائهم بمقر نقابتهم، واستمع إلى مبرِّرات طلبهم إسقاط مجلس الإدارة القديم. وبعد أسبوع واحد صدر قرار حل مجلس النقابة، وتعيين لجنة إدارية لإدارة أعمال النقابة لحين تحديد موعد انتخابات التشكيل النقابي ونظامه على مستوى الجمهورية. وكان أعضاء اللجنة الإدارية من بين التسعة الذين وردت أسماؤهم في العرائض التي وقَّع العمال عليها. وجاءت بعدها انتخابات عضو مجلس الإدارة عن العمال والموظفين، ففاز فيها الأسطى منصور عبد النبي عن العمال وفاز محمد سلام (رئيس المراجعة) عن الموظفين.
وهكذا، وجد صاحبنا نفسه في زمرة المغضوب عليهم من الإدارة. علم من بعض العمال أن ثلاثة أوناش شوكة صغيرة اشترتها الشركة ذهبت إلى عزبة «البك». وبعدها بأيام عُرضت عليه أوراق العملية لمراجعتها؛ محضر الشراء بالممارسة من أحد تجار وكالة البلح، محضر الاستلام، وإذن إضافة المخزن للأوناش كعهدة، والفاتورة بالقيمة. والأوراق على هذا النحو سليمة وكاملة، ولكنه لم يكتفِ بها بل راجع أُذون الصرف الخاصة بالمخازن ليكتشف أنها صُرفت في يوم الإضافة نفسه لحساب «عملية دمنهور»، ولم يكن هناك عملية بهذا الاسم، فأعدَّ صاحبنا مذكرةً وافية بالموضوع طالبًا التأكُّد من جهة الصرف؛ لأنه يرجِّح أن عملية الشراء كانت وهمية، ممَّا يعرِّض أموال الشركة للضياع. وأقنع رئيسه (عضو مجلس الإدارة المنتخب) برفع الأمر إلى رئيس الشركة.
وفي اليوم التالي استدعاه رئيس الشركة وسأله: «إنت اللي كتبت المذكرة دي؟» فرد بالإيجاب، فقال الرجل: «إنت قدامك مستندات سليمة … إيه دخلك في خطة التشغيل؟» فرد عليه قائلًا: «ما ليش دخل إزاي؟ … دانا صاحب مصلحة.» فتعجَّب الرئيس وسأله: «مصلحتك إيه بقى إن شاء الله؟» فقال: «الشركة ملك الشعب، وأنا واحد من الشعب، ومن حقي أن أُحافظ على مصلحة الشعب.» هنا ثار الرئيس قائلًا: «يا بني إنتم بتصدقوا الكلام الفارغ اللي بيقوله عبد الناصر؟ دا عاوز بس يضحك على الناس … امشي شوف شغلك وخليك في حالك.»
عاد صاحبنا إلى المكتب ليجد وجه رئيسه محتقنًا، كان من الواضح أنه لقي الكثير من التأنيب، وأبلغه أن مراجعة فواتير المشتريات أصبحت من اختصاص زميل آخر، فغلى الدم في عروقه، وسارع بكتابة شكوى إلى جمال عبد الناصر ذكر فيها الموضوع باختصار، وركَّز على ما قاله رئيس مجلس الإدارة عن عبد الناصر.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع استدعاه رئيس مجلس الإدارة، ورفع في يده المذكرة التي أرسلها إلى الرئيس عبد الناصر بعينها، وسأله: «خطك ده؟» فردَّ بالإيجاب. قال: «عرفت إن عبد الناصر بيضحك على المغفَّلين اللي زيك؟! إحنا ردينا بأن الشكوى كيدية لأنك موظف مهمل … وعلى فكرة مخصوم منك خمسة أيام وعندك حرمان من العلاوة الدورية … ابقى خلِّي عبد الناصر ينفعك.»
ما كان يجهله صاحبنا أن محمد شفيق حنطور (رئيس مجلس الإدارة) كان من أخوال شمس بدران، وأنه كان «مسنودًا». وكان ذلك النموذج المؤسف بارزًا في القطاع العام، فتحوَّلت معظم شركاته إلى «عزب» لرؤسائها.
رأى صاحبنا رأي العين الرشا المادية والعينية التي تقدَّم لمفتشي مؤسسة الصناعات الكيماوية، ومفتِّشي أجهزة الرقابة الأخرى، ومأمور وضباط مركز كفر الزيات، وكيف كانت تتم تغطية ذلك كله بمستندات صورية أو تحت بند «الإكراميات». ورغم التوسُّعات التي شهدتها الشركة على يد القطاع العام، وتأسيس مصنع آخر بأسيوط، إلا أن الفساد الإداري على مستوى المؤسسة، وغياب الرقابة الشعبية بتحجيم دَور الحركة النقابية، كان بمثابة السوس الذي ينخر في عظام القطاع العام.
ولعل ذلك كان من أسباب نفور صاحبنا من «منظمة الشباب»، واعتذاره مرتَين عن عدم حضور دورة تدريبية بحجة انشغاله بالدراسات العليا؛ فقد كان يرى البَون شاسعًا بين الشعارات المرفوعة، وما يراه ماثلًا أمامه على أرض الواقع؛ فبعد عام واحد من حل اللجنة النقابية القديمة بدأت انتخابات التنظيم النقابي، فتمَّ توقيع العزل السياسي على العناصر الناشطة الواعية من النقابيين الناصريين، وتُرك الحبل على الغارب للعناصر الانتهازية التي سيطرت على التنظيم السياسي والتنظيم النقابي معًا.
كان صاحبنا قد أنهى السنة التمهيدية للماجستير بالنجاح بتقدير جيد جدًّا، وقبل أن يُنهيها شغل باله الموضوع الذي سيُعد فيه رسالة الماجستير، وحسمت التجرِبة التي عاشها بين عمال كفر الزيات اختياره؛ فقد لاحظ أن أولئك العمال الذين نجحوا في إسقاط اللجنة النقابية وراءهم خبرة نضالية لم تأتِ من فراغ. وراح يبحث عن كتاب في تاريخ الحركة النقابية في مصر، فلم يجد سوى كتابات لا تُغني ولا تسمن، ووجد عشرات الكتب الإنجليزية عن الحركة العمالية في أوروبا عامةً وبريطانيا خاصة، فعقد العزم على دراسة الحركة العمالية منذ نشأتها حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م.
استشار أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى فرحَّب بالموضوع، ولكنه اعتذر عن عدم الإشراف (رغم أنه كان قد أصبح أستاذًا مساعدًا)، وفضَّل أن يعرض صاحبنا الموضوع على أحمد عزت عبد الكريم، فإذا قبله ورأى إسناد الإشراف إليه كان بها، وإذا تولَّى هو نفسه الإشراف، فإنه يتوقَّع من أحمد عبد الرحيم مصطفى كل عون ممكن.
عرض صاحبنا الموضوع على أحمد عزت عبد الكريم في سمناره العتيد في أكتوبر ١٩٦٣م، فطلب منه الحضور إلى منزله بمنشية البكري في العاشرة من صباح الجمعة، فذهب في الوقت المحدد، وسأله الأستاذ عن دوافع اختياره لهذا الموضوع بالذات، فشرح له كيف كانت تجرِبته بكفر الزيات وراء الاختيار. وسأله الأستاذ مرةً أخرى سؤالًا مباشرًا عمَّا إذا كان هناك اتجاه سياسي معين وراء الاختيار، فنفى الطالب ذلك، وأكَّد أن دوافعه علمية صرفة. وعندما سأله عن مصادر الدراسة الوثائقية، قال للأستاذ: سوف أبحث عنها حتى أجدها، فقال الرجل: «على بركة الله.» ووقَّع على الأوراق بالموافقة، وبعد التسجيل بعدة شهور بدأ أمين عز الدين ينشر بالطليعة سلسلة مقالاته الشهيرة عن فجر الحركة النقابية في مصر، فاطمأنَّ الأستاذ إلى سلامة الاختيار.
كان لا بد من التقاط طرف الخيط الذي يوصل إلى المصادر، وعلم من بعض قراءاته الأولية أن النبيل عباس حليم كان له دور في الحركة النقابية، وتحرَّى عن مكان وجوده، فعلم أنه مقيم بالإسكندرية، ورجع إلى دليل تليفون الإسكندرية ليقع على رقم عباس حليم، فاتصل به فإذا بلكنة المتحدِّث تبدو أجنبية، وحدَّد له موعدًا الثامنة صباح الجمعة، فسافر صاحبنا إلى الإسكندرية مساء الخميس حيث استضافه محمد الخولي أحد أصدقائه من موظفي شركة المبيدات بكفر الزيات، ووصل إلى شوتس برمل الإسكندرية في السابعة والنصف صباحًا ليبحث عن البيت، فوجد أمام محطة الترام قصرًا قديمًا يحمل الرقم الذي يبحث عنه، فجلس على مقعد المحطة نحو ربع الساعة، ثم قرَّر استكشاف المكان.
كان القصر قديمًا كالحًا، والحديقة جرداء إلا من بعض الأشجار المعمِّرة، وبوابة القصر مفتوحةً على مصراعَيها لا يحرسها أحد. تلفَّت صاحبنا ذات اليمين وذات الشمال وهو يتقدَّم عبر البوابة في اتجاه القصر، فوجد كلبًا ضخمًا يرقد تحت إحدى الأشجار، هدَّه الكِبر، رفع رأسه ليرمق الزائر الغريب بنظرة، ثم أغمض عينَيه من جديد، وكأنه رأى أن المسألة لا تستحق النباح. فمضى صاحبنا في طريقه باتجاه القصر، فإذا برجل عجوز يُطل من نافذة زجاجية بالدور الأول يناديه: «عباس أفندي؟» فرد بالإيجاب، فقال الرجل: تفضَّل. فصعد الدرج حتى باب السلاملك لتفتح الباب له خادمة عجوز ردَّت على تحية الصباح الرد المحبب لديه: «يسعد صباحك.» قادته إلى المكتب حيث كان «أفندينا» النبيل عباس حليم يقف أمام المكتب. وبعد تبادل التحية، قال له: «قبل أن نتكلَّم سويًّا أُريد أن أُريك أولًا ما فعله «المعرصين» بالعمال.» ووضع أمامه عدد «المصوِّر» الذي غطَّى إعدام البقري وخميس وحكمًا بالسجن على عدد من عمال كفر الدوار في الشهور الأولى للثورة. وسأله رأيه في هذا المشهد، فأجاب: «إنها نقطة سوداء في تاريخ النظام ما في ذلك شك.» قال «أفندينا» الذي كان يتحدَّث العربية على طريقة الخواجات: «هل تُحب أن نتحدَّث بالإنجليزية أم الفرنسية؟» فاختار صاحبنا الإنجليزية.
كان النبيل عباس حليم يحتفظ بألبومات ضخمة تضم قصاصات الصحف التي تحمل أخباره وأخبار النشاط العمالي، جُمعت بعناية، وأُلصقت بالألبومات وفق تسلسلها الزمني. ولمَّا علم أن صاحبنا موظف بكفر الزيات وأنه يقيم هناك، وافق أن يعيره في كل أسبوع ثلاثة ألبومات، فكان يلتقيه كل أسبوع على مدى شهرَين يناقشه فيما قرأ، ويُعيد ما استعاره ويحمل معه الدفعة التالية حتى تجمَّعت لديه في النهاية مادة كانت تحتاج إلى ما يزيد على العام لو جمعها بنفسه من الدوريات المودَعة بدار الكتب المصرية.
تردَّد اسم محمد حسن عمارة سكرتير عام «اتحاد نقابات عمال القُطر المصري» الذي رأَسَه عباس حليم، وكان الرجل في الوقت نفسه رئيسًا لنقابة الحلاقين. وعندما سأل عباس حليم عنه صب عليه اللعنات واتهمه بسرقة جميع أوراق الاتحاد، فأصبح العثور على الرجل على درجة بالغة من الأهمية. فاتجه صاحبنا إلى شارع كلوت بك حيث كان قد لاحظ وجود صالون حلاقة قديم عُلقت على بابه برطمانات دود العلق، فذهب إلى هناك، وسأل صاحب المحل عن «عم الأسطى محمد حسن عمارة»، فأجاب الرجل: «عاوزه ليه يا أفندي؟» ردَّ بقوله: «أصله كان زوج المرحومة عمتي، وعاوزه علشان مسألة عائلية.» وفكَّر الرجل مليًّا ثم طلب من «الأفندي» أن يعود إليه بعد صلاة المغرب.
وقد كان … وجد أمامه محمد حسن عمارة كما رآه في الصور التي شاهدها عند النبيل عباس حليم، ولكن بعد إضافة عوامل الزمن، استطاع أن يرتب معه لقاءات أيام الجمعة بمقر إقامته بالمطرية، وعندما كسب ثقته بعد عدة زيارات جرَّ من تحت السرير حقيبة سفر جلديةً قديمة، كانت تضم مجموعةً هامة من وثائق اتحاد العمال وغيره من التنظيمات النقابية التي شارك فيها محمد حسن عمارة، فاشتغل صاحبنا بنسخ ما وجده مهمًّا لدراسته.
وعن طريق محمد حسن عمارة، سمع عن سيد قنديل رئيس نقابة عمال الطباعة في الثلاثينيات والأربعينيات، واستطاع العثور عليه عن طريق بعض المطابع القديمة التي كانت تقع حول حديقة الأزبكية، وحصل منه على سجل محاضر «حزب العمال الاشتراكي». كما استطاع الاتصال بالنقابيين الماركسيين؛ محمد يوسف المدرك، ومحمود العسكري، وأحمد طه عن طريق زميله وصديقه سعد صمويل الفيشاوي. وحصل منهم ومن غيرهم على بعض الأوراق المهمة، والدوريات العمالية المجهولة، واستعان بخطيبته سعاد الدميري في تجميع بعض ما احتاجه البحث من مادة الدوريات من دار الكتب المصرية. وبذلك اكتملت المادة التي أعدَّ منها رسالته التي نوقشت في نوفمبر ١٩٦٦م.
وفي خطٍّ موازٍ للدراسات العليا، سار مشروع زواج صاحبنا من زميلته في مرحلة الليسانس سعاد الدميري التي خفق قلبه بحبها وهو طالب في الفرقة الثانية، وظلَّ يحبها (من بعيد) ليقينه أن من كان في مثل ظروفه لا أمل له في التفكير في ذلك. وفي الشهور التي أعقبت التخرُّج وأثناء تردُّده على أحد سماسرة التشغيل بالمدارس الخاصة، طلب منه الرجل مساعدته في العثور على خريجة تعمل مدرسة مواد اجتماعية حتى يجد له مكانًا في مدرسة خاصة. فذهب إلى الكلية حيث كان لها أختان بقسم اللغة الإنجليزية، فوجدها معهما مصادفة، وصحبها ووالدها في اليوم التالي إلى السمسار. وعندما علم أنها عُينت بأحد البنوك بالقاهرة كتب لها وقابلها (في ٢٣ مايو ١٩٦٣م)، وصارحها بحبه واتفق معها على الزواج، وباركت أسرته هذه الخطوة، فعقد القران في فبراير ١٩٦٤م، وتمَّ الزواج بعد ذلك بأربعة شهور. ولمَّا لم يكن للبنك فرع بكفر الزيات، نُقلت إلى فرع طنطا، وأقامت معه بكفر الزيات حتى صيف ١٩٦٦م عندما نُقلت إلى القاهرة تمهيدًا لولادة نجله حاتم (٢٤ / ١٠ / ١٩٦٦م)، واستطاع صاحبنا أن يعثر على شقة بحدائق شبرا قرب بيت صهره، ونقل مقر إقامته إلى هناك، وظلَّ يسافر يوميًّا بالقطار إلى كفر الزيات حتى استقال من خدمة الشركة في أبريل ١٩٦٧م.
وللاستقالة قصة تستحق أن تُروى، فقد حصل صاحبنا على الماجستير بتقدير ممتاز، وزكَّى الدكتور محمد أنيس (عضو اللجنة) نشر الرسالة عند الأستاذ محمود العالم، رئيس هيئة الكُتاب عندئذ، واستُقبلت الرسالة استقبالًا حسنًا. وسجَّل موضوعًا لرسالة الدكتوراه «المِلكيات الزراعية الكبيرة وأثرها في المجتمع المصري (١٨٣٧–١٩١٤م)»، وهو موضوع يقتضي العمل على الوثائق المودعة بدار المحفوظات العمومية ودار الوثائق القومية، فكان لا بد من التفرُّغ للدراسة، وقال له أستاذه أحمد عزت عبد الكريم إنه قد دبَّر له منحة تفرُّغ يمكنه الحصول عليها إذا وافقت جهة العمل على تفرُّغه.
كتب صاحبنا طلبًا لرئيس الشركة شفيق حنطور يطلب منحه إجازة تفرُّغ لمدة عام للحصول على الدكتوراه. ولمَّا كان يعلم أن الرفض هو القرار المتوقَّع، فقد كتب أيضًا خطاب استقالة حمله معه عند مقابلة شفيق حنطور الذي قرأ الطلب المرفق به شهادة تفيد الحصول على الماجستير وأخرى تفيد تسجيله للدكتوراه. قرأ رئيس مجلس الإدارة طلب إجازة التفرغ ثم سأله: «تاريخ إيه اللي رايح تاخد فيه دكتوراه؟ هي دي حاجة تستحق الدكتوراه.» وجد صاحبنا الفرصة مواتيةً لتلقين الرجل درسًا لعله لا ينساه، فقال له: «لو أنا ما بفهمش كنت قلت لسيادتك دكتوراه في الزراعة إيه دي اللي إنت واخدها، والفلاح المصري اخترع الزراعة من آلاف السنين، والفلاحين طول عمرها بتزرع من غير دكتوراه، لكن الزراعة علم، والتاريخ كمان علم، والتخصُّص في كل منهما يستحق الحصول على درجة الدكتوراه …» فاحتقن وجه الرجل وقال: «طبعًا مش موافق لأن الشركة ما لهاش مصلحة في التاريخ. امشي يا أفندي على مكتبك وشوف أكل عيشك.» فضحك صاحبنا، وقال له: «هذا طلب آخر لا تملك رفضه.» وسلَّمه الاستقالة. فبُهت الرجل، وأطرق مليًّا، ثم قال: «إنت عيبك إنك ما بتقدرش العواقب … شاب مندفع، متعرفش مصلحتك فين.» ووقَّع على الاستقالة بالقَبول.
ورغم أن صاحبنا مدين للشركة من حيث كونها فرصة عمل كانت بالنسبة له طوق نجاة من الشقاء، كان الفضل لحكومة الثورة في حصوله عليها، ورغم الخبرات العملية التي كسبها، والتي استثمرها في حياته العملية ونشاطه الأهلي خير استثمار، ونجاحه في تحقيق أمله في الدراسات العليا، وفي الزواج بمن أحب، إلا أنه كان يُحس أن بقاءه في الشركة سوف يعوق حصوله على الدكتوراه، ويبدِّد أمله في أن يسير على درب أحمد عبد الرحيم مصطفى. كان القرار نوعًا من المغامرة لأن المنحة الدراسية محدودة المدة تتوقَّف على وجود الوفر في الميزانية لتمويلها، ولكنه أقدم عليها دون تردُّد، على أمل أن يولد له مستقبل آخر جديد.