في مفرق الطرق
عاد صاحبنا إلى أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى حاملًا ما يفيد تركه العمل مستقيلًا، فلم يستحسن ذلك الموقف، ولم يستهجِنه، وإنما اهتمَّ بسؤال تلميذه عمَّا إذا كان مرتاحًا في قرارة نفسه بهذا القرار، وعندما رد بالإيجاب، قال له إن أهم شيء أن يكون قرار المرء في مثل تلك الأمور المصيرية نابعًا من اقتناعه الشخصي بعد إمعان التفكير فيه، وليس نابعًا من الاندفاع وعدم تقدير الأمور. كان ذلك دائمًا شأن هذا الأستاذ العظيم مع تلاميذه، ينمِّي فيهم روح المبادرة، ويشجِّعهم على الإقدام على ما يقتنعون به، ولا يقف منهم موقف الواعظ.
ولكن عندما قابل صاحبنا أستاذه أحمد عزت عبد الكريم، وأبلغه بأنه قد أصبح متفرِّغًا تمامًا للدكتوراه بعد استقالته من الشركة، لامه للإقدام على هذه الخطوة «المتسرِّعة»، ولفت نظره إلى أن المنحة قد لا تمتَد إلى عام آخر؛ لأن الأمر يتعلَّق بمدى توافر تمويلها من فوائض بنود ميزانية الجامعة، ولكنه عاد فالتمس له العذر لأن التفرُّغ ضروري؛ فدراسة موضوع الدكتوراه تقتضي التواجد في القاهرة حيث دار المحفوظات العمومية ودار الوثائق القومية، وسأل تلميذه عمَّا سيفعل عندما تنقطع المنحة، وهل فكَّر في ذلك الاحتمال عند اتخاذه القرار؟ فردَّ التلميذ بأن في إمكانه العمل بالتدريس بالمدارس الخاصة أو أداء أي عمل لا يعوق دراسته.
أقلقه موقف أستاذه أحمد عزت عبد الكريم؛ فقد رأى فيه دلائل عدم ارتياح الأستاذ لتصرُّفه، وخشي أن يسيء الرجل فهم موقفه، فيظن الاستقالة توريطًا له في ضرورة ضمان استمرار المنحة الدراسية. كان هذا شأن صاحبنا دائمًا في كل أموره، فهو يقلِّب الأمر على مختلِف جوانبه، ويتحسَّب دائمًا لأسوأ الاحتمالات، ويضع «السناريوهات» المناسبة لكل منها، ويجهد ذهنه في البحث عن مخرج من كل منها، وبعد مقابلة الأستاذ قرَّر بينه وبين نفسه أن يبحث عن عمل بالقاهرة في أي مجال اعتبارًا من اليوم التالي. وعندما التقى أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى بعد بضعة أيام، فوجئ عندما علم منه أن الدكتور أحمد عزت عبد الكريم معجب بحرصه على التفرُّغ للدراسة إلى حد التضحية بوظيفة تُدر عليه دخلًا يزيد على المنحة بمقدار النصف تقريبًا، رغم أنه متزوِّج وأب لطفل ما يزال في الشهور الأولى من عمره، وأن الأستاذ الجليل قدَّر للطالب عدم ارتكانه التام إلى المنحة الدراسية.
كان أحمد عزت عبد الكريم يتعامل مع طلابه بأسلوب جيل الآباء في ذلك الزمان؛ فهم لا يكشفون حقيقة مشاعرهم تجاه الأبناء، حتى لا تُفسدهم عبارات الإطراء والمديح. ويذكر صاحبنا أثناء إعداده الماجستير، وتقديمه الفصول التي يكتبها للأستاذ لمراجعتها وينتظر قلقًا لسماع رأيه وتوجيهاته، ويقدِّم رجلًا ويؤخِّر أخرى وهو في الطريق إلى لقاء أستاذه لمعرفة رأيه فيما كتب، كان يتلقَّى بعض الملاحظات الشكلية منه، فإذا سأله عن تقديره لِمَا كتب، ردَّ الأستاذ بقوله: «نصف العمى … أهو والسلام … على قد حالك.» فيفزع صاحبنا ويسأل الأستاذ عن موطن التقصير وكيفية علاجه، فيقول له: «أكمل للآخر وبعدين نشوف شغلك ينفع ولا لأ.» يشعر صاحبنا بالإحباط، ويضرب أخماسًا في أسداس حتى يلتقي بأستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى فيفاجَأ بقوله: «عمك (يقصد الدكتور أحمد عزت عبد الكريم) مبسوط منك خالص، ومعجب بمنهجك وأسلوبك في معالجة الموضوع، وبيقول الولد ده حيطلع مؤرِّخ متميِّز.» وعندما يروي له التلميذ ما سمعه من الأستاذ الجليل، يرد أحمد عبد الرحيم مصطفى بقوله: «كان دايمًا يقول لي كده واكتر … هو بيخاف لو عبَّر عن ارتياحه لشغل الطالب أن يركبه الغرور … ويرى أن هذا الأسلوب يحفِّز الطالب على بذل أقصى طاقته لتقديم أفضل ما عنده.»
حصل صاحبنا على المنحة، وأعاد ترتيب أموره والتزاماته العائلية بما يتوافق مع الوضع الجديد، مع عدم المساس بما كان يساعد به والده، والاقتصاد في أمور معاش أسرته الصغيرة. وحدث ما كان يتوقَّعه، فتوقَّفت المنحة بعد ثلاثة شهور لنفاد البند، فأعاد أستاذه تمويلها (وكان قد أصبح مديرًا للجامعة). وتصادف في الشهر الثالث من تفرُّغه للدراسة أن نُشر إعلان بالصحف عن شغل وظيفة معيد تاريخ حديث بكلية الآداب جامعة القاهرة، نُص فيه على تفضيل من يحمل درجة الماجستير في التخصُّص، فسارع صاحبنا بتقديم أوراقه إلى كلية الآداب، بعد أن سأل الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى الرأي، فنصحه بالتقدُّم ظنًّا منه أنها إحدى مفاجآت الدكتور محمد أنيس (أستاذ التاريخ الحديث بآداب القاهرة)، وكان عضوًا بلجنة مناقشة رسالة الماجستير وأبدى إعجابه بالطالب إلى حد استهلال مناقشته للطالب بالقول: «لقد قُدر لهذه القاعة أن تشهد مولد مؤرِّخ جديد من المدرسة الاجتماعية.» فاعتبر أحمد عبد الرحيم مصطفى أن الإعلان عن الدرجة في هذا التوقيت لا بد أن يكون مقصودًا، واستطرد قائلًا: «ده أسلوب محمد أنيس، لا يكشف لأحد عمَّا عقد العزم عليه.» وهكذا تقدَّم صاحبنا إلى الكلية بأوراقه معتمدًا على وجهة نظر أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى، وعندما التقى أستاذه أحمد عزت عبد الكريم في سمناره الشهير (يوم الخميس من كل أسبوع)، وذلك بعد ثلاثة أيام من التقدُّم للوظيفة، زفَّ إليه النبأ، ففوجئ به يغضب ويلومه لتقديمه الأوراق دون الرجوع إليه. ولم يشأ أن يقول له صاحبنا إنه استشار أحمد عبد الرحيم مصطفى، الذي كان حاضرًا، ولم يعلِّق على كلام الأستاذ، الذي أطرق مليًّا، ثم قال للطالب بلهجة حازمة: «لازم أشوفك بكرة الساعة العاشرة صباحًا.»
وفي العاشرة من صباح الجمعة كان يجلس إلى الأستاذ الجليل في منزله بمنشية البكري، الذي بادره بالقول: «إنت فاكر الحكاية إيه؟ هي وكالة من غير بواب؟ إزاي تخش إعلان مش بتاعك؟» فرد صاحبنا: «يا أفندم دا إعلان عن وظيفة خالية منشور في الصحف، يعني مفتوح لأي مواطن مصري، ولمَّا كنت مواطنًا مصريًّا، رأيت من حقي أن أتقدَّم طالما كانت الشروط تنطبق عليَّ.» وأطرق مليًّا ثم استطرد قائلًا: «أنا فاهم تمامًا أن الجامعة يحكمها قانون يحدِّد طريقة فرز وتقييم المتقدِّمين، ولا بد أن يكون هو واحدًا بين مجموعة من المتقدِّمين، قد يكون بينهم من يفضِّله، ولكنه لا يجد مبرِّرًا يمنعه من التقدُّم للوظيفة.» هنا قال الأستاذ: «الإعلان ده نازل لواحد معين، ودخولك معاه يسبِّب لنا الحرج، ومفيش حل غير إنك تروح بكره تسحب ورقك.»
بُهت صاحبنا، ونفر عرقه الصعيدي (كما يفعل دائمًا عندما يُحس أن ثمة شبهة مساس بكرامته) وقال للأستاذ: «يا أفندم أنا مواطن لي نفس حقوق من نزل الإعلان خصوصًا له … والصالح العام يقتضي أن تُعطى الفرصة للأفضل، فإذا كان يفضلني فهذا حقه، أمَّا إذا كنت أفضله فلن أتنازل عن حقي … ولا أرى في ذلك ما يسبِّب الحرج لسيادتكم.»
تنهَّد الأستاذ وسادت فترة صمت مطبق، فهم الطالب منها أنها دعوة للانصراف، فاستأذن في الانصراف، وهنا قال الأستاذ: «ما فكرتش تتصل بالدكتور محمد أنيس وتستأذنه قبل التقديم؟» فأجاب بالنفي لأنه ظن أن الإعلان دعوة عامة للمتقدِّمين، لا يتطلَّب استئذان أحد، وأنه سوف يتصل بالدكتور محمد أنيس إذا رأى الأستاذ ذلك، فنصحه الأستاذ بالاتصال به، وأن يبادر بسحب أوراقه إذا أبدى أنيس استياءً من دخوله الإعلان أو عدم الترحيب به.
خرج صاحبنا من بيت الأستاذ ليتصل بالدكتور أنيس من أول تليفون صادفه، وعندما ذكر اسمه رحَّب به الدكتور أنيس وقال له إنه كان على وشك الاتصال بالدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى ليكلِّف صاحبنا بالاتصال به؛ لأنه زكَّى نشر الرسالة عند محمود العالم رئيس هيئة الكتاب، وطلب منه الاتصال بالأستاذ العالم، وأعطاه أرقام تليفوناته بالمكتب والمنزل، ولم يشِر إلى الإعلان عن وظيفة المعيد من قريب أو بعيد، فأبلغه صاحبنا بما أقدم عليه، فقال: «كويس أنك قدمت … هايل.» وانتهت المكالمة بالشكر على تدبير فرصة النشر.
اتصل صاحبنا بأستاذه أحمد عزت عبد الكريم، وأبلغه بتفاصيل ما دار بينه وبين محمد أنيس في المكالمة التليفونية فقال: «اوعى تعلَّق أمل على الكلام … لأن معنى كده تجميد الإعلان … على كلٍّ شوف شغلك، وشيل الموضوع ده من دماغك.»
كان صاحبنا يحلم بأن يجد لنفسه مكانًا بين أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، ظنًّا منه أنها المؤسسة المُثلى في البلاد باعتبارها تضم صفوة عقول الأمة، وظنًّا منه أنها المؤسَّسة الوحيدة بمصر التي يُحدَّد موقع الفرد فيها حسب قدراته العلمية، وأن العطاء العلمي هو معيار التقييم في الجامعة، فكانت تلك البداية لا تبشِّر بالخير.
وفي الأسبوع التالي التقى أستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى، وعلم منه بتفاصيل الموضوع كما سمعه من الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ومن الدكتور محمد أنيس؛ فالدرجة أُعلن عنها خصوصًا لسكرتير مدير جامعة الإسكندرية الذي حصل على درجة الماجستير من قسم التاريخ بآداب الإسكندرية بتقدير ممتاز. وطلب رئيس الجامعة من رئيس قسم التاريخ هناك أن يعلن عن درجة معيد خالية بالقسم ليُعين عليها السكرتير، فرفض رئيس القسم. ولمَّا كان السكرتير أثيرًا لديه، فقد طلب من صديقه الحميم عبد اللطيف أحمد علي (عميد آداب القاهرة) أن يؤدِّي له خدمةً بتعيين السكرتير معيدًا بآداب القاهرة، ثم يتم نقله بعد ذلك بدرجته إلى آداب الإسكندرية، وهو إجراء يدخل في سلطة مدير الجامعة، ولا يملك رئيس قسم التاريخ بآداب الإسكندرية الاعتراض على النقل، ولمَّا كان عبد اللطيف أحمد علي رئيسًا لقسم التاريخ (في نفس الوقت)، فقد اتخذ قرار الإعلان دون الرجوع إلى الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث، ومن هنا جاء ترحيب أنيس بتقدُّم صاحبنا إلى الدرجة؛ لأنه يتميَّز في درجات الليسانس عن الشخص الذي نُشر الإعلان من أجله، وبذلك يُحبط مساعي العميد، فيُضطر إلى تجميد الإعلان وينتهي الموضوع عند هذا الحد.
عجب صاحبنا للطريقة التي تُدار بها أمور التعيين في سلك أعضاء هيئة التدريس، وشعر بخيبة الأمل والمرارة؛ لأنه رأى في هذه الواقعة لونًا من الفساد أخطر ممَّا رآه في الشركة التابعة للقطاع العام التي استقال منها. وزاده هذا الموضوع إصرارًا على التمسُّك بموقفه. وعندما أبلغ أستاذه أحمد عبد الرحيم بذلك قال له: «كيفك … بس لو اضطروا يعينوك حيحطوك في دماغهم، وعبد اللطيف أحمد علي لن يغفر لك.» ووجَّه انتباهَ صاحبنا إلى أن المنحة الدراسية التي خصَّصها له الدكتور أحمد عزت عبد الكريم هي مقدمة لتعيينه معيدًا بآداب عين شمس، وأن عليه التذرُّع بالصبر، وأن يستجيب لنصيحة الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ويسحب أوراقه. فأصرَّ صاحبنا على موقفه، وأكَّد لأستاذه أن خوض التجربة حتى نهايتها ضروري بالنسبة له حتى يرى مدى التناقض بين الشعارات المرفوعة والمبادئ المعلنة، وبين الممارسة على أرض الواقع.
كان صاحبنا يتميَّز على المتقدِّم الآخر في الماجستير باقتران تقدير الامتياز بالتوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة، وفي الليسانس بزيادة مجموع درجاته عن درجات المتقدِّم الآخر، فاتخذ مجلس كلية الآداب قرارًا بأن يكون معيار تحديد الأصلح للوظيفة هو درجات التاريخ الحديث بالليسانس، وطالب المتقدِّمين بتقديم شهادات معتمدة بدرجات التاريخ الحديث. ولمَّا كانت درجات صاحبنا في التاريخ الحديث تزيد في مجموعها أكثر من عشر درجات عن المتقدِّم الآخر، فقد أُسقط في يد العميد؛ لأنه وجَّه مجلس الكلية إلى الأخذ بمعيار لم يعد هناك مفر من الالتزام به، فقرَّر المجلس تعيين صاحبنا في الوظيفة.
وهكذا، قُدر لصاحبنا أن يُصبح معيدًا للتاريخ الحديث بقسم لا يرغب في انضمامه إليه، ويعتبره دخيلًا؛ فهو من عين شمس، وكان أساتذة جامعة القاهرة تتملَّكهم عقدة استعلاء على جامعة عين شمس، وفُجع كثيرًا عندما وجد العقدة نفسها عند محمد أنيس.
في أول لقاء معه بعد تسلُّم العمل بالكلية فاجأه محمد أنيس بطلب تحويل الإشراف على رسالته للدكتوراه إلى آداب القاهرة، متعلِّلًا باختلاف المستوى في جامعة القاهرة عنه في عين شمس، ولا بد من الاطمئنان إلى سلامة تكوينه العلمي حتى يُعيَّن مدرسًا بآداب القاهرة بعد حصوله على الدكتوراه، أمَّا إذا حصل على الدكتوراه من عين شمس، فقد يظل معيدًا إلى الأبد!
أحسَّ صاحبنا بالامتهان، ونفر العرق الصعيدي عنده من جديد، وقال للأستاذ المرموق: «إنني مندهش لسماع هذا الكلام منكم، فلم يمضِ على اشتراككم في مناقشة رسالتي للماجستير سوى عام واحد، ولا زال الجميع ممن حضروا المناقشة يذكرون امتداحكم للرسالة وصاحبها، فهل كان ذلك مجرَّد مجاملة لآل عين شمس، أم كان تعبيرًا عن قيمة العمل؟ إنني لو طلبت منكم نقل الإشراف على الدكتوراه إليكم لوجب عليكم احتقاري ورفض طلبي؛ لأنني لو أدرت ظهري اليوم لأساتذتي الذين لعبوا دورًا كبيرًا في تكويني، كان ذلك دليلًا على انتهازيتي ونكراني للجميل، وكان معناه أنني سوف أبيعكم عندما تسنح لي أول فرصة … إن ما تطلبه مني مستحيل التحقيق لأنه يتناقض مع خلقي.» فأدار له الأستاذ ظهره وانصرف غاضبًا، وظلَّ يُهمله تمامًا نحو أربعة شهور، ثم ذاب الجليد بين الطرفَين تدريجيًّا، ولكن ظل صاحبنا طالبًا للدكتوراه بآداب عين شمس؛ حيث حصل على الدكتوراه في يناير ١٩٧١م.
كان قسم التاريخ بآداب القاهرة مقسمًا إلى شيع وأحزاب، لا علاقة للعلم ومدارسه بها، بل كان العلم لا يظهر على السطح إلا لخدمة غرض شخصي إن إيجابًا أو سلبًا. ولكن البحث العلمي، والمنافسة في مجاله، كانت بعدًا غائبًا في ذلك القسم، أحقاد وإحَن وصراعات قديمة بدأت بين جيل الرواد، أورثها كل منهم لتلاميذه الذين أجادوا الزُّلفى والمَلَق حتى يستطيعوا الحياة في ذلك المُناخ غير الصحي، فالويل كل الويل لمن يكتشف أستاذُه أن له صلةً بمعسكر خصمه. وكما يحدث في الخصومات السياسية، كان كل طرف يقرِّب إليه من ينقُل أخبار الطرف الآخر، وأجاد بعض هؤلاء لعبة «العميل المزدوج» حتى يضمن مساندة الجميع له بحسبانه من أتباعهم، فإذا كُشفت لعبته كان في ذلك نهايته.
ساعد على إشاعة تلك السلبيات بين طلبة الدراسات العليا بالقسم، أنه كاد يخلو من المعيدين، فلم يكن به (حين تسلَّل صاحبنا) سوى أربعة معيدين، واحد في كل فرع من فروع التخصُّص الأربعة؛ قديم، وإسلامي، ووسيط، وحديث. وكان صاحبنا الخامس بين المعيدين والثاني بين معيدي التاريخ الحديث. وظلَّت الحال على هذا المنوال حتى أواخر عقد السبعينيات عندما حصل كل المعيدين على الدكتوراه (فيما عدا معيد تاريخ حديث استقال لمرور خمس سنوات دون حصوله على الماجستير)، ولم يعد هناك معيد واحد. ولم يفتح رئيس القسم عندئذٍ الباب لتعيين معيدين جدد، بل واربه قليلًا لتعيين بنت أحد أساتذة القسم التي حصلت على الليسانس من الكويت أثناء وجود أبيها بالإعارة هناك، ثم عُينت بضعة شهور بآداب المنيا، لتُنقل إلى آداب القاهرة، أمَّا المعيدة الأخرى التي تمَّ تعيينها فكانت ابنة أحد أصدقاء رئيس القسم. فلم تكن تربية الكوادر من اهتمام ذلك القسم، والكثير من أقسام الكلية الأخرى، بحجة الحاجة إلى التدقيق في الاختيار، ونادرًا ما كان ذلك الاختيار يُصيب أصحاب الكفاءة، فإذا أصاب بعضهم كانت الزُّلفى للأستاذ البابَ الذي يوصله إلى نيل حقه.
وهكذا ظل التطلُّع إلى التعيين يراود طلاب الدراسات العليا (وهو تطلُّع مشروع ما في ذلك شك)، ولكن السعي لتحقيقه جعل الكثيرين يتخذون مواقعهم في أحد المعسكرات التي وُجدت بالقسم، مع محاولة استدرار عطف أحد المعسكرات الأخرى خفية. جو خانق غريب واجهه صاحبنا، ذلك الدخيل الذي هبط على القسم دون استئذان. حاول في البداية أن يُقيم علاقةً طبيعية مع الجميع، فلم يلقَ استجابةً سوى من الدكتور سعيد عاشور الذي درس عليه في مرحلة الليسانس بآداب عين شمس، أمَّا عبد اللطيف أحمد علي الذي درس عليه أيضًا وتأثَّر به — علميًّا — تأثُّرًا كبيرًا فكان لا يطيق رؤية ذلك المعيد الذي أفسد عليه فرصة تقديم خدمة لصديقه مدير جامعة الإسكندرية، حاول — ذات مرة — إهانته أمام الملأ بعد إحدى المحاضرات بمقر الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، فناداه: «إنت يا … إنت.» فلم يرد عليه وتجاهله، فكرَّر النداء: «إنت يا عباس … إزاي تكون بتشتغل عندي وما بتجيش الكلية؟!» فردَّ عليه بصوت جَهْوَري: «أنا مش شغال عند سيادتك. أنا معيد بجامعة القاهرة ورئيسي المسئول عن متابعة عملي هو أستاذ التخصُّص.» فردَّ العميد: «لكن عليك واجبات للقسم لازم تعملها، تعالى قابلني بكرة الساعة عشرة.»
كان صاحبنا حريصًا على ملازمة الدكتور أنيس يوم وجوده بالكلية، وكان لا يحضر سوى يوم الخميس لإلقاء محاضرته على طلبة الليسانس؛ حيث كان مشغولًا بمهام موقعه في الاتحاد الاشتراكي بأمانة الدعوة والفكر، بالتدريس بمعهد الدراسات الاشتراكية، وحيثما وُجد أنيس بالكلية أحاط به الأصدقاء والمريدون؛ صحافيون، بعض أساتذة الجامعة، وغيرهم، فكانت حجرة التاريخ الحديث تزدحم بهم يوم الخميس، وتصبح قاعًا صفصفًا بقية أيام الأسبوع. وكان صاحبنا يحضر في التاسعة صباحًا؛ لأن الأستاذ يلقي محاضرته في الثامنة وينهيها في التاسعة (بدلًا من العاشرة)، ثم يقضي الوقت حتى الواحدة أو الثانية بعد الظهر في أحاديث تتناول الشأن العام، يطرح فيها على زُواره تحليله للمواقف السياسية، ويردها إلى أصولها التاريخية بأسلوب منهجي أخَّاذ. وكانت مواظبة صاحبنا على حضور تلك الجلسة (رغم تجاهل أنيس له لمدة ثلاثة أو أربعة شهور على الأقل)، ومشاركته في المناقشات، وطرح رأيه فيما يتم النقاش حوله، سببًا في إذابة الجليد وجسر الفجوة التي حرص الدكتور أنيس على وجودها خلال فترة التجاهل، وتحوَّلت العلاقة إلى ود وصداقة كادت تصل إلى مستوى علاقته بأستاذه أحمد عبد الرحيم مصطفى.
وفي مجلس أنيس تعرَّف صاحبنا إلى أحمد عباس صالح، وسعد زهران، وإبراهيم صقر، وحسام عيسى، ولحمي شعراوي، وجلال السيد. وعرف عن طريقه كامل زهيري، ومحمود العالم، وغيرهم. فكان لهذه الجلسات دورها الأساسي في تكوينه الفكري والمنهجي. كما أتاح محمد أنيس له فرصة الكتابة بمجلة «الكاتب» (وكان عضوًا بمجلس تحريرها)، كما أشركه في «قسم الأبحاث» الذي أقامته جريدة الجمهورية ردًّا على إقامة جريدة الأهرام لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية (وكان التنافس على أشدُّه عندئذٍ بين دار التحرير والأهرام)، فكان أنيس مشرفًا على القسم، يعمل معه جلال السيد، وفتحي عبد الفتاح، وأميمة أبو النصر (من محرِّري الجمهورية)، إلى جانب بعض المتخصِّصين من الخارج يذكر منهم جمال نوير، وآخرين من المتخصِّصين في الاقتصاد والتخطيط والعلوم السياسية، انتقاهم الدكتور أنيس من بين تلاميذه بالمعهد الاشتراكي، إضافةً إلى صاحبنا الذي انضمَّ إلى القسم كخبير بشئون العمل والعمال والنقابات. واتجه جُل نشاط القسم إلى معالجة قضايا التنمية بمختلِف أبعادها؛ الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والثقافية، والبحث في أسس تهيئة المُناخ لنجاح التجربة الاشتراكية. وكانت البحوث تُنشر على صفحة كاملة من «الجمهورية» بعدد الخميس (الأسبوعي)، ولكن بعد أن تخرج من تحت يد الرقيب، ويذكر صاحبنا أنه قدَّم دراسةً عن أوضاع العمال في القطاع العام ليُنشر على صفحة كاملة، فحوَّلها الرقيب إلى ربع صفحة، لا يستطيع القارئ — مهما بلغ من الذكاء — أن يفهم منها شيئًا؛ فقد حُذفت فقرات كاملة متتالية، هنا وهناك، ثم أعيد صف ما بقي من فقرات بعضها وراء البعض، دون أن تُعاد صياغتها. وترك أنيس قسم الأبحاث بعد خلاف مع فتحي غانم (رئيس التحرير عندئذ)، وأصبح فتحي عبد الفتاح مشرفًا على القسم، فاشترك صاحبنا معه في المجموعة التي تدرس أوضاع القطاع العام في صياغة ما بقي من حلقات الدراسة، وجاء النشر مهينًا لكل من يحرص على سمعته، بعدما أطاح مقص الرقيب أو قلم رئيس التحرير بمعظم الفقرات التي تكشف السلبيات المترتِّبة على أسلوب إدارة القطاع العام، فآثر ترك القسم.
كذلك أشرك الدكتور أنيس صاحبنا معه في «مركز تاريخ مصر المعاصر» التابع لدار الكتب والوثائق المصرية منذ تأسيسه على يدَيه حتى قُبيل تنحيه عن الإشراف عليه، فعمل صاحبنا معه مشرفًا على الباحثين إلى جانب بعض أعضاء هيئة التدريس، وشهدت فترة العمل بالمركز فتور العلاقة ثم توتُّرها لأسباب تتعلَّق بشخصية صاحبنا، وحساسيته الشديدة لِمَا يرى فيه استغلالًا ماسًّا بكرامته، ورغم أنه واجه الأستاذ القدير بموقفه صراحة، وجهًا لوجه دون أن يشرك في ذلك طرفًا ثالثًا، لم يقبل الأستاذ بذلك وبالغ في موقفه، فكان يصف صاحبنا — كلما سمع اسمه — بأنه كان «عميلًا للمباحث» دُس عليه دسًّا.
ورغم ذلك يبقى فضل محمد أنيس على صاحبنا عميما؛ فقد تعلَّم منه الكثير، رغم أنه لم يكن تلميذًا مباشرًا له، وكان له فضل إتاحة الفرصة أمامه لنشر رسالته للماجستير التي استُقبلت استقبالًا حسنًا من الوسط الثقافي، وحظيت بثلاثة عروض في مصر وعرض بسوريا وآخر بالمغرب، في أهم الدوريات الثقافية والسياسية، فإذا أضفنا إلى ذلك فرصة النشر في «الكاتب»، وفي «الجمهورية» أيام قسم الأبحاث، أدركنا أن الذيوع النسبي لاسم صاحبنا في الوسط الثقافي الوطني على نحو لم يتحقَّق لمن برز من أقرانه إلا بعد عدة سنوات، يعود الفضل فيه لمحمد أنيس دون أدنى شك. ويحرص صاحبنا في كل مناسبة عامة أو خاصة على تأكيد أنه مدين في تكوينه العلمي لثلاثة من أعظم أساتذة التاريخ الحديث في مصر والوطن العربي هم: أحمد عزت عبد الكريم، وأحمد عبد الرحيم مصطفى، ومحمد أحمد أنيس. وسيظل هذا موقفه إلى أن يلقاهم جميعًا في رحاب الله، عندما تفرغ كأس الأجل.
ورغم أهمية دَور أحمد عبد الرحيم مصطفى في تكوين صاحبنا واتساع نطاقه، إلا أن دور أحمد عزت عبد الكريم كان تأسيسيًّا تطبيقيًّا، فإذا كان قد تعلَّم المنهج من عبد الرحيم وأنيس، فقد تعلَّم أصول الكتابة، وفن تحرير الأعمال العلمية المشتركة، وتنظيم الندوات العلمية وإدارتها، وأصول الترجمة، تعلَّم ذلك كله على يد أحمد عزت عبد الكريم، وظل يتعلَّم منه حتى قُبيل رحيله عندما ساعده في تحرير الكتاب الذي ضمَّ بحوث ندوة «البحر الأحمر في التاريخ والسياسة المعاصرة»، الذي قُدم للمطبعة قبل وفاة الأستاذ الجليل بأسبوع واحد، وصدر عقب وفاته.
وما تعلَّمه صاحبنا من منهج ومهارات علمية على يد أولئك الأساتذة العمالقة الثلاثة، كان بمثابة العُمُد الأساسية التي قام عليها بناء قدراته العلمية، وحياته الأكاديمية. والكثير من القيم الخلقية الأكاديمية التي التزم بها، تعود إلى تأثير أحمد عزت عبد الكريم وأحمد عبد الرحيم مصطفى في تكوينه.
ولعزت عبد الكريم مكرُمة لا تُنسى يدين له بها صاحبنا، عندما نصب رجال المباحث العامة شباكهم حوله وهو في مفرق الطرق عشية حصوله على المنحة الدراسية، فقد كان محمد يوسف المدرك من بين المصادر التي اعتمد عليها أثناء إعداده رسالة الماجستير عن الحركة العمالية في مصر، وكان نقابيًّا شيوعيًّا، وقياديًّا على مستوى الحركة العمالية الدولية، تم اختياره عام ١٩٤٦م عضوًا بمجلس إدارة اتحاد النقابات الدولي، وقد التقاه صاحبنا غداة خروجه من المعتقل بعد خمس سنوات ونصف قضاها بسجن أوردي أبو زعبل ومعتقل الواحات، وقدَّم لصاحبنا مادةً هامة. وبعد انتقال صاحبنا للإقامة بالقاهرة عام ١٩٦٦م في أعقاب حصوله على الماجستير استمرَّ على صلة بمحمد يوسف المدرك؛ فكان المدرك يزوره كل يوم جمعة بمنزله بحدائق شبرا، ويقضي سحابة اليوم معه، يصليان الجمعة معًا، ويتناول الغداء مع أسرته الصغيرة، وينصرف حوالي الخامسة أو السادسة مساءً. وكان هذا الوقت يُقسَّم بين مناقشة تدور حول الحركة الشيوعية، ودَور العمال فيها، وحول ذكرياته التي كان يصوغها صاحبنا في سلسلة من المقالات تُنشر بنشرة الثقافة العمالية باسم المدرك، لقاء خمسة جنيهات عن كل مقال من المقالات التي بلغت عشر مقالات، لم ينُشر منها إلا حوالي خمسة، حصل المدرك نظيرها على ٢٥ جنيهًا في وقت لم يكن يملك فيه قوت يومه، وكان لعاصم الدسوقي (صديق عمره) فضل المساعدة على نشر المقالات، التي ربما جاء توقُّف نشرة الثقافة العمالية عن نشرها لأسباب تتصل بما تعرَّض له صاحبنا.
كان المدرك تحت رقابة المباحث العامة الذي رصدت تردُّده على بيت صاحبنا، وتلقَّى الأخير استدعاءً من المباحث لمقابلة النقيب أحمد إدريس في السادسة من مساء اليوم التالي، فذهب إلى هناك ليلتقي ذلك الضابط الصغير المغرور الذي «لطعه» ساعتَين قبل أن يستقبله ليبدأ معه ما كان شبيهًا بالتحقيق بحضور كاتب يسجِّل كل كلمة، وبعد نحو الساعة من الأسئلة الغريبة عن تاريخ حياته وعلاقاته وأقاربه وأصدقائه، سأله أحمد إدريس عن اسم لم يرد في إجاباته هو محمد يوسف المدرك، وردَّ عليه صاحبنا بقوله: «ياه … كل الهيصة دي عشان المدرك … ده حطام إنسان … ولو كان في بلد ثانية لنال ما يستحق من تكريم … يتعمل له تمثال.» فأصاب السُّعارُ أحمد إدريس، وطلب من الكاتب تسجيل كل تلك الكلمات. وانتهى التحقيق حوالي التاسعة مساءً طالبًا منه ألَّا يذكر هذا اللقاء لأحد، وأن يبقيه سرًّا حرصًا على مصلحته.
وبعد أسبوعَين تلقَّى استدعاءً آخر لمقابلة الضابط حسن المصيلحي (رئيس قسم مكافحة الشيوعية) في السادسة من مساء اليوم التالي، ولم يستبقِه المصيلحي سوى نصف ساعة قابله بعدها، ودار معه حديث حول المدرك بدأه المصيلحي بقراءة العبارات السابقة التي ذكرها صاحبنا في التحقيق الذي أجراه أحمد إدريس معه. واتجه صاحبنا في تبرير استمرار صلته بالمدرك بالعطف على رجل في حاجة للمساعدة، مؤكِّدًا أن الوقت الطويل الذي يُمضيه في بيته يتحدَّث فيه عن ذكرياته. واحتجَّ على طريقة الاستدعاء التي تجعله موضع الشبهات عند جيرانه، وعرَض على المصيلحي أن يبقى عندهم حتى يتأكَّدوا من سلامة موقفه، فضحك المصيلحي قائلًا: «دا احنا ضيافتنا صعبة، ربنا يكفيك شرها.» وبعد أن تصفَّح نسخةً من رسالة الماجستير المنسوخة على الآلة الكاتبة (ولم يكن الكتاب قد ظهر بعد) وأبدى بعض الملاحظات حول ما وقعت عليه عينه من معلومات، واحتفظ بالنسخة لديه، وطلب من صاحبنا أن يتصل به تليفونيًّا (وأعطاه الرقم) بعد أسبوعَين ليحدِّد له موعدًا يتناقش معه فيه حول ما جاء برسالته. وانتهى اللقاء حوالي الساعة الثامنة والنصف مساءً.
ولمَّا كان صاحبنا قد ذكر للمصيلحي أن موضوع الماجستير من اختيار الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، فقد حرص على إبلاغ ذلك لأستاذه حتى يكون على علم بما ذكره بهذا الخصوص، فاتصل به تليفونيًّا فور خروجه من المباحث العامة بلاظوغلي، وطلب مقابلةً عاجلة معه، فسأله عن المكان الذي يتحدَّث منه، فقال له: «لاظوغلي.» فطلب منه الحضور على الفور، ووصل إلى منشية البكري حوالي العاشرة مساءً، ووجد الأستاذ الجليل في انتظاره في شرفة منزله، وأطلعه على جَلِيَّة الأمر، فاستحسن ما ذكره للمصيلحي من نسبه اختيار الموضوع إليه، ونصح تلميذه بقطع علاقته بالمدرك، وطلب منه أن تتولَّى زوجته الاتصال بالأستاذ تليفونيًّا إذا تعرَّض للاعتقال في أي وقت مساء اليوم نفسه أو صباح اليوم التالي للاعتقال، وطلب منه الحضور إلى مكتبه بالجامعة العاشرة صباحًا.
قضى صاحبنا ليلةً قلقةً لم يذق فيها طعم النوم إلا عند الفجر، وهُرع في الصباح إلى مكتب مدير الجامعة بقصر الزعفران حيث التقى أستاذة في العاشرة، فقال له ألَّا يذهب إلى لقاء أحد من ضُباط المباحث العامة إذا استدعَوه، وأن يتصل به فور تلقيه أي استدعاء، وأكَّد له أن الموضوع انتهى، ولكن عليه قطع صلته بالمدرك، وكان ذلك أشق الأمور على نفسه، ولكنه استجاب لطلب أستاذه الذي أنقذه من التعرُّض لمتاعب لا قِبَل له بها، كان أبسطها الاعتراض على تعيينه بالجامعة الذي تمَّ بعد أربعة شهور من هذه الواقعة، فكان موقف أحمد عزت عبد الكريم أبويًّا نبيلًا وشجاعًا.
حصل صاحبنا على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة، وذلك في يناير ١٩٧١م، وتقدَّم إلى رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة (الدكتور محمد جمال الدين سرور) بطلب — للإعلان عن درجة مدرس — يفيد حصوله على الدكتوراه، مرفقًا به شهادة من جامعة عين شمس، فقال له رئيس القسم: «لا يا سيد … إنت من عين شمس ومكانك مش هنا … كمان الدكتور أنيس مش عايزك.» فنفر العرق الصعيدي مرةً أخرى، وردَّ صاحبنا على رئيس القسم بقوله: «يا دكتور أنا مش شغال في طابونة، تقوللي مش عاوزينك خد حسابك وروَّح … ولا أنا خدام عندك ولا عند الدكتور أنيس. أنا أعمل في مؤسسة يحكمها قانون، وقد قدمت لك طلب مكتوب، فرُد عليَّ كتابة بالرفض إن شئت، وسوف أحصل على حقي شئتم أم أبيتم.» فقال الرجل: «يا بني أنا ما ليش ذنب، لا القسم عاوزك، ولا أستاذ التخصُّص عاوزك، وأنصحك ترجع للدكتور عزت عبد الكريم.»
كان الدكتور محمد أنيس قد أُعير لجامعة قسنطينة بالجزائر عندما دعته ظروف خاصة إلى الابتعاد عن مصر مدة عام. وقيل إنه قبل سفره طلب من يحيى هويدي (عميد الكلية) ورئيس القسم (محمد جمال الدين سرور) ألَّا يتم الإعلان عن وظيفة مدرس عند حصول صاحبنا على الدكتوراه إلا بعد عودته من الإعارة، ولم يكن القانون يسمح عندئذٍ بالترقية من وظيفة إلى أخرى بغير طريق الإعلان، بقصد إتاحة الفرصة أمام الجامعة للحصول على أفضل وأكفأ العناصر. ولكن هذه الآلية أُسيء استخدامها لإذلال من يحرص على كرامته ويأبى التزلُّف للأساتذة، فتُمط الإجراءات لتستغرق شهورًا بالنسبة لوظيفة مدرس، أو يتم الإمعان في إذلال المعيد الذي يُعلَن له عن وظيفة مدرس بتحريض بعض حمَلة الدكتوراه لمنافسته في الإعلان، وقد يُعيَّن آخر من الخارج، ويُهدَر حق المعيد في التعيين. ويزداد استخدام الإعلان أداةً لإذلال من يستحق الترقية لوظيفة أستاذ مساعد أو أستاذ، وقد تُستخدم معايير التقييم المزدوجة لتعيين متقدِّم من الخارج لأسباب لا يدخل العلم طرفًا فيها. وإذا كان قانون تنظيم الجامعات الحالي قد حاول حلَّ تلك المعضلة، فقضى بتكليف أوائل الخريجين معيدين بأقسامهم وفق شروط معينة، ونصَّ على ترقية عضو هيئه التدريس في حالة إجازة لجنة الترقيات لأعماله، بطريقه آلية دون الحاجة إلى إعلان، فإن هذا (الإصلاح) حوَّل الجامعة إلى مصلحة حكومية، وملأها بالموظَّفين الذين يحملون درجات الأستاذية، دون أن تكون لهم مقوِّماتها وخصائصها.
ذهب صاحبنا إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ليجده على علم بالتفاصيل عن طريق يحيى هويدي (عميد الكلية) ومحمد جمال الدين سرور (رئيس القسم). ونصحه الأستاذ بصرف النظر عن المطالبة بالتعيين بآداب القاهرة والانتظار إلى أبريل (بعد ثلاثة شهور) ليتم الإعلان عن درجة مدرس بآداب عين شمس يتقدَّم لها، ويعود بعد ذلك إلى بيته العلمي بعد الاغتراب، فرفض صاحبنا التنازل عن حقه الذي كفله له القانون، وعندما سأله الأستاذ عن السبب: «هل لأن جامعة القاهرة لها قبة وجامعة عين شمس ما لهاش؟» أجاب صاحبنا: «إن ذلك يعني عنده الإهانة والانكسار، وهو لا يقبل بهما.» فعاد الأستاذ الجليل النبيل يلفت نظره إلى أن إصراره على التعيين سيؤدِّي في النهاية إلى تعيينه، ولكن الإجراءات ستتأخَّر شهورًا طوالًا، فإذا عُين مدرسًا سيبقى كذلك إلى الأبد؛ لأنهم لن يُعلنوا له عن وظيفة أستاذ مساعد عندما يستحق الترقية. فقال صاحبنا لأستاذه: «سوف أتبع حكمة جحا عندما قبل مهمة تعليم الحمار الكلام.» ضحك الرجل، وقال له (للمرة الأولى في حياته): «يعجبني فيك الاعتداد بالنفس، والتمسُّك بحقك. حاول معاهم فإذا لم توفَّق، مكانك محفوظ بآداب عين شمس.»
عاد صاحبنا لمقابلة رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة وأبلغه أنه أقنع الدكتور عزت بوجهة نظره؛ ولذلك يطلب ردًّا مكتوبًا على طلبه السابق، فوعده الرجل خيرًا. وبعد أسبوع عُقدت الجلسة الشهرية لمجلس القسم واتخذت قرارها ﺑ «إنشاء» درجة مدرِّس، وأبلغه رئيس القسم شفهيًّا بالقرار. وعندما ذهب إلى إدارة شئون أعضاء هيئه التدريس للاستعلام عمَّا تمَّ أحالوه إلى مدير الميزانية (محمود غباشي) الذي أفهمه أن القرار يُقصد به تعطيل تعيينه لمدة عامَين؛ لأن إنشاء الدرجة يقتضي موافقة الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وهي إجراءات تستغرق عامًا، ولا يتم إنشاء الدرجة إلا في ميزانية السنة التالية لها. أمَّا القرار المناسب فهو «تدبير» درجة؛ لأن هناك ٣٠٠ درجة مدرس بكل جامعة بقرار من جمال عبد الناصر منذ مؤتمر المبعوثين الذي عُقد بالإسكندرية في منتصف الستينيات ليتم الإعلان عن الدرجة فورًا عند عودة المبعوث أو حصول أحد المعيدين بالداخل على الدكتوراه. وبعدما استعلم مدير الميزانية من بعض المصادر الخاصة به عن سبب موقف القسم والكلية من هذا المعيد، وتأكَّد من أن المسألة مجرَّد الرغبة في إذلاله، تعاطف معه وأعد مذكرةً لرئيس الجامعة مستخدمًا كلمة «تدبير» درجة، وحصل على موافقة رئيس الجامعة في الحال، وحمل بنفسه خطاب الرد على طلب الكلية وسلَّمه بنفسه إلى العميد.
استمرَّ القسم في لعبة المماطلة، فاتخذ بعد شهر قرارًا بتخصيص الدرجة للتاريخ الحديث، وفي الشهر التالي له اتخذ قرارًا بالإعلان عن الدرجة، وهي آلية التأخير المعتادة التي تحوِّل قرارًا يمكن اتخاذه في جلسة واحدة، إلى ثلاثة قرارات. فإذا أضفنا شهرًا للإعلان وشهرَين للفحص، استغرقت العملية كلها ستة شهور، وهي تتم اليوم في ظل القانون الحالي في شهر واحد.
بعد سبعة شهور من الحصول على الدكتوراه عُين صاحبنا مدرسًا، ولم يُتخذ القرار إلا بعد عودة محمد أنيس من الإعارة، وظل منبوذًا حتى سفره إلى اليابان في مهمة علمية، فكان نصيبه من أعباء التدريس مادةً واحدة (تاريخ مصر الحديث) لطلبة ليسانس المكتبات، وعندما عاد من اليابان قام بتدريس المادة ذاتها مدة عامَين حتى أُعير إلى قطر. ولم ينل فرصةً كاملة للتدريس بالقسم إلا بعد عودته من الإعارة، وكان قد أصبح أستاذًا مساعدًا.