في بلاد الشمس
بعد مرور شهر واحد على حصوله على الماجستير تعرَّف صاحبنا إلى باحث ياباني كان يقضي عامَين بمصر لجمع المادة العلمية والكتب والاتصال بالأساتذة، وكان نشاطه العلمي بالقاهرة تحت إشراف الدكتور محمد أنيس، الذي أعلمه برسالة صاحبنا ومن ثم فقد حرص على لقائه، ورتَّب اللقاء سيد سالم — أحد تلاميذ أنيس — في بيته بالسيدة زينب؛ حيث دار حديث بالإنجليزية بين الطرفَين على مدى ساعتَين. أمَّا الباحث الياباني فهو إيتاجاكي يوزو الذي كان يعمل — عندئذ — بمعهد لغات وثقافات آسيا وأفريقيا التابع لجامعة طوكيو للغات الأجنبية، وقد انتهت مهمته العلمية بعد هذا اللقاء بثلاثة شهور (مارس ١٩٦٧م).
وفي أبريل «١٩٦٩م»، جاء باحث ياباني آخر إلى القاهرة في مهمة علمية مدتها عامان هو هاياشي تاكيشي، وينتمي إلى «معهد اقتصاديات البلاد النامية» بطوكيو، وكانت لديه معلومات سابقة عن صاحبنا من زميله إيتاجاكي، ولم يطُل بحثه عنه، ففقد الْتقاه بصحبة محمد أنيس بمركز تاريخ مصر المعاصر. وتولَّى صاحبنا مهمة الإرشاد العلمي للباحث الزائر — الذي كان مهتمًّا بالتاريخ الاجتماعي — لمدة عام لأن مهمته العلمية كانت مقسمةً بين القاهرة ولندن يقضي في كل منهما عامًا. وقُبيل ختام مهمته بالقاهرة فاتح صاحبنا في أمر دعوته زميلًا زائرًا بمعهده لمدة عشرة أشهر للاشتراك في حلقة بحثية لدراسة التطوُّر الاقتصادي والاجتماعي في مصر واليابان في القرن التاسع عشر، يشترك فيها مجموعة من الباحثين اليابانيين المتخصِّصين في تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ اليابان. وطلب صاحبنا إرجاء الدعوة إلى ما بعد حصوله على الدكتوراه وشغله لوظيفة مدرس. وتلقَّى الدعوة فور حصوله على الدكتوراه في يناير ١٩٧١م، فطلب إرجاءها لمدة عام، وهو ما تمَّ بالفعل، فسافر إلى طوكيو في أبريل ١٩٧٢م في مهمة علمية مدتها عشرة أشهر.
كانت هذه المهمة العلمية فتحًا جديدًا بالنسبة لصاحبنا بكل المعايير، ففضلًا عن كونها المرة الأولى في حياته الذي يستخدم فيها الاختراع المسمَّى بالطائرة، وفي أطول الرحلات الجوية، والمرة الأولى التي يحتك فيها بمجتمع أجنبي له ثقافته المتميِّزة، أتاحت له تلك المهمة العلمية في «معهد اقتصاديات البلاد النامية» فرصة الاحتكاك بمجموعة من الباحثين الذين استضافهم المعهد ذلك العام، جاءوا من أمريكا، وبريطانيا، والبرازيل، وتايلاند، والهند، ولم يكن النقاش الذي يدور في هذا المُناخ العلمي المتميِّز يتناول الوظائف وأعمال الامتحانات، ونوادر الصراعات بين أجنحة الأقسام كما كانت عليه حال آداب القاهرة حين تركها، بل كان الحوار بين أولئك الباحثين وبعضهم البعض يدور حول القضايا المنهجية، والتنمية بمختلِف أبعادها في العالم الثالث في ظروف الحرب الباردة. ولمَّا كان معظمهم من المتخصِّصين في الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماع، وكان صاحبنا المؤرخ الوحيد بينهم، فقد كان النقاش الدائم مع الزملاء في السمنارات ووقت تناول الغداء أو الشاي يفتح أمامه آفاقًا واسعة جديدة، دعمها بالتوسُّع في القراءة حول المنهج، والتنمية وقضاياها، وأحوال بلاد العالم الثالث من منظور مقارن.
ولم يكن كل ما عرفه صاحبنا في تلك البيئة العلمية الجديدة (بالنسبة له) جديدًا على الحياة الأكاديمية العالمية بقدر ما كان جديدًا بالنسبة له؛ فتكوينه المنهجي في القاهرة كان قاصرًا، مقيَّدًا بحدود الوسط العلمي الذي تربَّى فيه، يقف عند ما وصل إليه الفكر العالمي في هذا المجال عند نهاية الحرب العالمية الثانية ومطلع الخمسينيات، صحيح أن الفكر الماركسي عندما تعرَّف إليه في مصر فتح له آفاقًا جديدة أفادته في دراسته للدكتوراه، ولكنه تعرَّف إلى هذا الفكر بعمق في طوكيو، كما تعرَّف إلى الفكر النقدي الماركسي كما قدَّمه موريس دوب، وحرص على نقل كتابه «دراسات في تطوُّر الرأسمالية» إلى اللغة العربية (نُشر بالقاهرة ١٩٧٩م). وتعرَّف إلى فكر كل من فيتفوجل حول تطوُّر المجتمعات النهرية، وروستو حول «مراحل التطوُّر الاقتصادي» التي عارض بها الماركسية، كما تعرَّف إلى فكر ماكس فيبر. ولم يكن تعرُّفه إلى تلك الأفكار مجرَّدًا، بل كان مقترنًا بقراءة دراسات اهتمَّت بتطبيق بعض هذه الأفكار، وأخرى عُنيت بنقدها، فحظي صاحبنا بقدر كبير من المعرفة، كان له أعمق الأثر في تكوينه العلمي، وفي إنتاجه العلمي في العقدَين التاليين.
لا عجب — إذن — أن يجيب صاحبنا عن سؤال طرحه عليه زميل له بالقسم بعد عودته من اليابان عمَّا كان يفعله هناك بقوله: «كنت أبذل الجهد لمحو أُميتي المنهجية.» فضحك الزميل من أعماق قلبه وقال: «كويس إنك اعترفت بأميتك.» وضحك ضحكةً بلهاء، ولكن شتان ما بين السائل والمسئول.
أمَّا الحلقة البحثية التي دُعي من أجلها إلى طوكيو للمشاركة فيها بما له من خبرة (محدودة) بتاريخ مصر الاجتماعي، فكان إيتاجاكي يوزو وزميله ميكي واطارو (وهما من جامعة طوكيو) وراء تنظيمها، واشترك فيها أعضاء هيئه تدريس وباحثون من مختلِف الجامعات ومراكز الأبحاث اليابانية عددهم نحو العشرين عضوًا وباحثًا. وكانت استضافة «معهد اقتصاديات البلاد النامية» للحلقة وتبنيه لها تعود إلى توافر الموارد المالية الكافية لتحمُّل نفقات الخبير الأجنبي (صاحبنا) ونفقات سفر من يأتون من خارج طوكيو للمشاركة في أعمال الحلقة، وكذلك مكافآت ثلاثة من كبار الأساتذة اليابانيين المتخصِّصين في التطوُّرات التي شهدتها اليابان في عصر مايجي (١٨٦٨–١٩١٢م). ولعب هاياشي تاكيشي دَور المنسِّق والمقرِّر للحلقة بحكم كونه من كبار الباحثين بالمعهد المضيف. ولمَّا كان موضوع الحلقة على مدى الشهور العشرة هو التطوُّر الاقتصادي والاجتماعي في مصر واليابان في القرن التاسع عشر من منظور مقارن، فقد حرص صاحبنا في الأسبوع الأول من مهمته العلمية أن يكثِّف قراءاته حول تاريخ اليابان في تلك الفترة، مستعينًا ببعض الكتب المنشورة بالإنجليزية لتكوين قاعدة معرفية أولية تساعده على فهم ما يُطرح على مائدة البحث في الاجتماع الأول. وانطلاقًا من تلك القاعدة المعرفية المتواضعة تشعَّبت قراءاته وتعمَّقت في تاريخ اليابان في القرن التاسع عشر، وتأصَّلت، حتى أثمرت أول دراسة علمية باللغة العربية كانت موضوع كتابه «المجتمع الياباني في عصر مايجي ١٨٦٨–١٩١٢م» الذي نُشر بالقاهرة ١٩٨٠م.
كان نصيب اليابان كبيرًا في تكوين صاحبنا، وخاصةً أن المهمة العلمية امتدَّت ستة أشهر أخرى عندما أحسَّ منظِّمو الحلقة البحثية بأهمية النتائج التي حقَّقتها في الأشهر العشرة، فقد نشر صاحبنا ثلاث ورقات بحثية بالإنجليزية في سلسلة أعمال الباحثين الزائرين التي تصدر عن المعهد وبمجلة «الاقتصاديات النامية» التي يُصدرها المعهد. ونشر كل عضو من أعضاء الحلقة بحثًا أو بحثَين باليابانية، كما نُشر التقرير الأول عن أعمال الحلقة، وما توصَّلت إليه من نتائج في سلسلة تقارير المعهد (باللغة اليابانية) متضمِّنًا إشارةً بارزة إلى الدور الإيجابي الذي لعبه صاحبنا في أعمال الحلقة موصيًا بمدِّها ستة أشهر أخرى لاستكمال الدراسات الخاصة بالمشروع، على أن تتحمَّل جامعة طوكيو نفقات استضافته، وعندما تمَّت الموافقة على مد عمل الحلقة، أصبح صاحبنا زميلًا زائرًا بمعهد لغات وثقافات آسيا وأفريقيا التابع لجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، وأصبح أحد المشاركين في المشروع العلمي لذلك المعهد عن «الإسلام والتحديث»، وكتب في إطاره ثلاث ورقات بالإنجليزية، تُرجمت ونُشرت باليابانية في ثلاث دوريات علمية مختلفة، تناولت فكرة الإصلاح عند محمد عبده، وفكرة تحرير المرأة عند كلٍّ من الطهطاوي وقاسم أمين، والإصلاح الاجتماعي عند سلامة موسى، وساعده ثراء مكتبة المعهد وكذلك معهد اقتصاديات البلاد النامية بالمراجع العربية الأصلية، على إعداد الورقات الثلاث، ودُعي لإلقاء محاضرتَين عامتَين؛ واحدة بجامعة أوساكا، والأخرى بمركز دراسات الشرق الأوسط التابع للخارجية اليابانية، باللغة الإنجليزية، كانت إحداهما عن «أصول القضية الفلسطينية» والأخرى عن «اليهود في مصر». ونشر بالإنجليزية دراسةً مقارنة لأعيان الريف في مصر واليابان في القرن التاسع عشر.
وهكذا كانت المهمة العلمية اليابانية انقلابًا في حياته العلمية، ففضلًا عن مساهمتها في تكوينه المنهجي، وفي التاريخ المقارن، وتعمُّقه في دراسة تاريخ اليابان في القرن التاسع عشر، فإنها أكسبته مهارات بحثيةً جديدة، ومنحته فرصةً نادرة للتعامل باللغة الإنجليزية في المجال الأكاديمي، وفي الكتابة بها. كما أتاحت له فرصة الاحتكاك بالمجتمع الياباني والتعرُّف إلى ثقافته، والإلمام بمبادئ لغته.
عندما وصل إلى اليابان في أبريل ١٩٧٢م، كان المعهد قد حجز له في فندق تابع «للمركز الأسيوي باليابان»، وهي هيئة شبه حكومية تتولَّى شئون الدارسين والمتدرِّبين الأجانب. وكان الفندق سياحيًّا يجمع إلى جانب شباب الدارسين من مختلِف شعوب آسيا وأفريقيا، شبابًا من أوروبا وأمريكا اللاتينية، وخاصةً فرق الفنانين التي تقدِّم عروضًا بملاهي طوكيو لمدة تتراوح بين الأسبوعَين والثلاثة أسابيع. وكان مطعم الفندق يقدِّم خدماته للنزلاء، وغيرهم ممن يرغب في ارتياده، وقد لاحظ صاحبنا وجود بعض الأفراد الأجانب من غير نزلاء الفندق يحضرون العشاء باستمرار رغم أن الأصناف المعروضة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، ولا يتجاوز الاختيار بين أربعة أطباق لا خامس لها. وكان هناك شخص يحرص على التعرُّف إليه، قدَّم له نفسه باسم دافيد ولسون (أو جونسون) زعم أنه رجل أعمال أمريكي، وسأل صاحبنا عن سبب وجوده، فأفرغ ما في جعبته أمامه (بحكم قلة الخبرة). وبعد حوالي ثلاثة أو أربعة لقاءات بدأ دافيد يسأله عن علاقته بالسفارة المصرية، وعمَّا إذا كان له أصدقاء بين العاملين فيها، فاشتمَّ صاحبنا رائحة التجسُّس في حديث صاحبنا وفي نوع الأسئلة التي يطرحها عليه، فبادره بالسؤال عن علاقته بالسفارة الإسرائيلية، وحمل طبقه بين يدَيه وغادر المائدة ليجلس إلى مائدة أخرى، ولم يرَ بعد ذلك هذا الدافيد حتى غادر الفندق بعد أسبوعَين.
سئم صاحبنا الإقامة في الفندق بعد شهر واحد، ففضلًا عن افتقاده الخصوصية، كان يمثِّل بيئةً أجنبية تمامًا داخل اليابان، وكان معنى ذلك أنه لن تُتاح له فرصة الاحتكاك بالناس والتعرُّف إلى ثقافتهم عن قرب؛ ولذلك حزم أمره على الانتقال للسكنى مع أسرة يابانية. وعندما أبلغ سكرتارية المعهد بذلك، علم منهم أن اليابانيين ليس من عادتهم قَبول إقامة أجنبي عندهم، كما أن البيت الياباني محدود المساحة، لا تتوافر فيه التسهيلات والخدمات التي يجدها بالفندق. لكنه لم يفقد الأمل، وطلب منهم نشر إعلان صغير بصحيفة «أساهي» — كبرى الجرائد الصباحية اليابانية — على نفقته الخاصة يضم ما يخدم الهدف من نشره (أستاذ أجنبي يتحدَّث الإنجليزية يرغب في الإقامة مع أسرة يابانية. اتصل بتليفون كذا)، ونُشر الإعلان صباح اليوم التالي، وتكلَّف ثمانين دولارًا (٢٠ ألف ين)، ولدهشة سكرتارية المعهد، اتصلت إحدى العائلات في العاشرة صباحًا تُبدي استعدادها لقَبول إقامة هذا الأستاذ عندها بشرط مقابلته أولًا ثم اتخاذ القرار بعد المقابلة، وتحدَّد الموعد في الثالثة من بعد ظهر اليوم التالي.
ذهب صاحبنا بصحبة أحد أفراد السكرتارية في الموعد المحدَّد ليجد البيت كبير الحجم يصل إلى ثلاثة أضعاف حجم البيت الياباني المتوسط، مكوَّنًا من طابقَين (على شكل فيلا)، وصاحبته أستاذة اقتصاد منزلي متخصِّصة في الطهي، لديها مدرسة صغيرة ملحَقة بالبيت لتعليم الطهي للبنات المقبلات على الزواج، ولها سلسلة كتب منشورة (باليابانية طبعًا) عن صنوف الطهي في العالم، كما كان لها برنامج تليفزيوني بإحدى القنوات الخاصة، يُقيم معها بالبيت ولدان أحدهما مهندس متزوِّج، والآخر طالب هندسة على وشك التخرُّج. وفي حديقة المنزل كانت هناك فيلا صغيرة مكوَّنة من دور أرضي للمعيشة وحجرتَي نوم لسُكنى ابنتها الوحيدة المتزوِّجة من مهندس كهرباء.
وقد ارتاحت الأستاذة أوكاماتسو كيوكو — ربة الأسرة — لصاحبنا لأنه مصري (واليابانيون يعرفون عن مصر تاريخها القديم وجمال عبد الناصر)، ولأنه أستاذ جامعي (والأستاذ عند اليابانيين نصف إله). وعلم منها أن الحجرة التي سيُقيم فيها هي حجرة زوجها الراحل (الذي مات قبل خمس سنوات)، وأن الهدف من قَبول إقامته مع الأسرة، أنها تفكِّر في زيارة الأسرة لأوروبا في الصيف القادم، وأن وجوده بينهم سوف يساعدهم على الحديث بالإنجليزية يوميًّا بعض الوقت في مناسبات تناول الطعام وغيرها من المناسبات المتاحة، وهكذا تمَّ الاتفاق على قيمة الإيجار، وأسعار وجبة الإفطار، ووجبة العشاء (في حالة تناولها مع الأسرة). وانتقل صاحبنا للإقامة مع عائلة أوكاماتسو اعتبارًا من اليوم التالي لهذه المقابلة. وكانت الإقامة مع هذه العائلة نافذةً واسعة أطلَّ منها صاحبنا على الحياة الاجتماعية والثقافة اليابانية، وفرصةً نادرة لمشاركة الأسرة نمط حياتها لِمَا يزيد على العام.
فمن خلال عائلة أوكاماتسو تعَرَّف إلى بعض العائلات الأخرى، وربطَته بها علاقة صداقة امتدَّت سنوات، وزاره بعضهم عندما جاءوا إلى مصر لأسباب تتصل بأعمالهم. وعن طريق عائلة أوكاماتسو تعَرف إلى العادات والتقاليد اليابانية والمتاحف المختلفة والفنون الشعبية في احتفالات المعابد الموسمية (التي تُشبه الموالد عندنا). وأُتيحت له زيارة بعض المعابد في جبل فوجي، كان أول أجنبي يُسمح له بدخولها، وشارك في المناسبات العائلية التي لا يُسمح — عادةً — لغير أفراد الأسرة وأقاربهم بحضورها.
كانت أم السيدة أوكاماتسو تقيم مع الأسرة، ولا تظهر إلا على مائدة الإفطار، وهي سيدة جاوزت الثمانين، وكانت تنحني لتحية الضيف الأجنبي، وتتناول الإفطار مع الأسرة، وتحدِّثه عن بعض ذكرياتها عن عصر مايجي من خلال ترجمة الأسرة، ثم تعود إلى حجرتها، فلا يراها إلا صباح اليوم التالي، ويبدو أنها كانت تكتفي بوجبة الغداء، ثم تنام قبل الغروب. وذات صباح اجتمعت الأسرة حول مائدة الإفطار ومعهم صاحبنا، وكان مقعد «الجدة» خاليًا، فسأل صاحبنا: «أين الجدة؟» فردَّت أوكاماتسو بابتسامة باهتة: «الجدة ماتت هذا المساء.» فسقطت الملعقة من يده، واغرورقت عيناه بالدموع، فاضطرب الجميع، وقال له الابن المهندس وزوجته إنهم كانوا يدركون أنها سترحل لأنها امرأة عجوز، وعبَّروا عن أسفهم لِمَا سبَّبوه له من حزن لا مبرِّر له (من وجهة نظر الابن الأصغر طالب الهندسة)؛ لأنه ليس من أفراد العائلة.
قال صاحبنا للأستاذة أوكاماتسو إنه لن يذهب إلى المعهد، وإنه سيبقى معهم للاشتراك في تشييع جنازة الجدة، فأدهشه رفضهم الحاد لأنه لا يجب أن يحضر هذه المناسبة. وشرح له الابن الأكبر الأسباب، فليست هناك جنازة اليوم، بل ستظل الجدة في فراشها حتى صباح اليوم التالي، وسوف يُستدعى أفراد الأسرة من مختلِف المدن لقضاء الليل حول سريرها وهي مسجاة فوقه يتذكَّرون لها مواقفها معهم، وهم يشربون «الساكي» (نبيذ الأرز)، ثم تُنقل إلى المعبد حيث تُحرق الجثة. وكلها إجراءات قصر على أفراد الأسرة والأقارب لا يحضرها أيٌّ من الأصدقاء حتى اليابانيين منهم. فعرض عليهم أن ينتقل إلى فندق ليُفسح مكانا للأقارب، لكنهم رفضوا تمامًا لأن كل قريب عليه أن يتدبَّر أموره. ورجَوه أن ينسى الموضوع برمته وأن يمارس حياته اليومية كالمعتاد.
وعندما ذهب إلى المعهد، قصَّ ذلك كله على زملائه اليابانيين، فاستغرقوا في الضحك من موقفه، وقال أحدهم إن هذه الواقعة لو كتبها مؤلف ياباني في سيناريو فيلم كوميدي للاقت نجاحًا كبيرًا. وقالوا له إن الطريقة الوحيدة للعزاء هي شراء ظرف «الميمايكن» (وتعني نقود المواساة) يضع فيه مبلغًا بسيطًا من أوراق النقد لا يكون أربعة أو يقبل القسمة على أربعة؛ لأن علاقة الأربعة بالتراكيب الصينية تعني الفناء، فإذا قدَّم أحد نقود المواساة على هذا النحو كان ذلك تعبيرًا عن شماتته بالميت ورغبته في فناء روحه، فلا يُعاد خلقها من جديد.
اشترى صاحبنا الظرف ووضع بداخلة ثلاثة آلاف ين (١٢ دولارًا بسعر التحويل في تلك الأيام)، وذهب في الثالثة من مساء اليوم التالي إلى مكان العزاء أمام منزل نجل المتوفَّاة، فوجد باقة ورد مستديرةً كبيرة خلف منضدة صغيرة عليها صورة المتوفَّاة وإلى جانبَيها طبقان بأحدهما بعض ثمار الفاكهة وبالآخر بعض الزهور. ووقف متلقُّو العزاء بجوار المنضدة التي وُضع عليها سِجل للتوقيعات، واصطفَّ مقدِّمو العزاء في طابور طويل وجد صاحبنا لنفسه مكانًا فيه، حتى إذا جاء دوره، قلَّد الآخرين فانحنى أمام صورة المتوفَّاة واضعًا كفَّيه تحت ذقنه، ثم وقَّع في سجل العزاء ووضع ظرف نقود المواساة في العلبة التي وُضعت بجوار السجل لهذا الغرض (وكان أحد أفراد السكرتارية بالمعهد قد تطوَّع بكتابة اسم صاحبنا على الظرف بالحروف اليابانية).
ربطت مشاركة صاحبنا في مراسم العزاء بينه وبين نجل المتوفَّاة «كاناموري» شقيق أوكاماتسو بروابط الصداقة لِمَا يقرب من العشرين عامًا. كان ضابطًا مهندسًا بالجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، خدم بالصين ويُجيد اللغة الصينية، ويفهم اللغة الكورية. وبعد استسلام اليابان تمَّ حل الجيش، فأصبح بلا عمل، وذاقت أسرته الأمرَّين، وتقلَّب في عدة أعمال حتى «التقط فرصته» (على حد تعبيره)، فاستفاد من صداقته لأحد الرأسماليين الكبار الذي أسَّس عددًا من الشركات الصغرى بأسماء أصدقائه حتى يتهرَّب من الضرائب التصاعدية، كانت إحداها باسم كاناموري الذي استطاع أن يشتريها منه بعد أربع سنوات. وبذلك أصبح منتجًا لبعض قطع الإلكترونيات التي يزوِّد بها المصانع الكبرى، شأنه في ذلك شأن غيره من صغار المنتجين؛ لأن الصناعات اليابانية الإلكترونية وشركات صناعة السيارات تعتمد على الصناعات الصغيرة في سد حاجتها من آلاف القطع التي تدخل في مكوِّنات تلك الصناعات.
كان كاناموري مهتمًّا بالثقافات الشرقية عامةً والثقافة الإسلامية خاصة، وكان يتناقش مع صاحبنا كثيرًا حول هذا الموضوع، وحرص على أن يزور ماليزيا وإندونيسيا وباكستان في شهر رمضان، وأن يخالط المسلمين هناك، وعجب لوجود اختلاف كبير في طقوس الصيام، وما ارتبط به من تقاليد هنا وهناك، ولمح وجود تشابه بين بعض الممارسات الإسلامية، وما اعتاده البوذيون؛ لذلك كان لقاؤه مع صاحبنا حافلًا بالنقاش حول الإسلام، وذلك التلاحم الملحوظ بين حضارات آسيا وثقافاتها.
وعندما دُعي صاحبنا زميلًا زائرًا بمعهد اقتصاديات الدول النامية مرةً أخرى عام ١٩٧٧م لمدة شهرَين لتقديم دراسة أعدَّها بتكليفٍ من المعهد، نُشرت ضمن سلسلة الزملاء الزائرين (بالإنجليزية)، كان موضوعها «قوانين العمل والملكية والتجارة في دول الخليج العربية وأثرها في الأوضاع الاجتماعية». وكانت الزيارة — هذه المرة — لعشرة أسابيع، أقام في بيت كاناموري؛ لأن السيدة أوكاماتسو أُصيبت بنزيف في المخ تمَّ إنقاذها منه، ولكنها كانت تمر بمرحلة النقاهة وكان بيتها مغلقًا لحين شفائها.
تكرَّرت إقامة صاحبنا ببيت كاناموري عندما دُعي عام ١٩٨٧م أستاذًا زائرًا لجامعة طوكيو لمدة شهرَين، واستفاد كثيرًا من هذا الرجل الذي يمثِّل الجيل الذي تفتَّح وعيه في فترة ما بين الحربَين، وشارك في صنع الإمبراطورية اليابانية، وشاهد سقوطها، وساهم مع غيره من مواطنيه في إعادة بناء اليابان من جديد بعد الحرب.
سأل كاناموري صاحبنا يومًا عن قضية ما يُسمَّى بالصراع العربي الإسرائيلي، وظلَّ الرجل يستمع لشرحه ويستعين بابنته طالبة الماجستير بجامعة واسيدا لتُترجم له بعض العبارات التي يستعصي عليه فهمها أثناء الشرح، أو تُترجم سؤالًا عنَّ له يريد طرحه على صاحبنا. وبعد أن انتهى صاحبنا من الكلام، قام كاناموري إلى مكتبه وأخرج الأطلس، وطلب من صديقه أن يحدِّد له العالم العربي في خرائط الأطلس، فلمَّا حدَّده له قال: «ألَا تستحون من أنفسكم؟! … إنكم لو زحفتم عليهم فستدوسونهم … تقول إنكم حوالي ٢٥٠ مليونًا؟ … لو بقي منكم مليون أو مليونان من ذوي النخوة لأعادوا بناء المجد الحضاري القديم. انظر إلينا … لقد هزمنا الأمريكان وأهانوا كرامتنا … فرحنا نبحث عن أسباب القصور عندنا وعالجنا معظمها ولا أقول كلها، ووجدنا أن ميدان الاقتصاد والتجارة هو الذي يمكِّننا من أن نكون أندادًا للأمريكان، بل ونتفوَّق عليهم … وقد حدث. إن فائض الاقتصاد الياباني اليوم يغطِّي قيمة أراضي أمريكا — لو طُرحت للبيع — مرتين.»
وقد سمح كاناموري لصديقه بحضور مراسم خطبة ابنته استجابةً لطلبه، وكان ذلك عام ١٩٧٨م. ولكن الأمر تطلَّب الحصول على موافقة أسرة العريس بعد شرح طويل لتبرير السماح لأجنبي بحضور مراسم تقتصر على أسرتَي العروسَين ولا يُسمح لأحد بحضورها غيرهم، فأفهمهم كاناموري أن الرجل أستاذ جامعي يدرس الثقافة اليابانية ويريد مراقبة الحدث كحالة للدراسة. ومرةً أخرى وافقت أسرة العريس تقديرًا لصاحبنا لأنه أستاذ ومن مصر.
كان العريس باحثًا كيماويًّا بأحد المراكز العلمية تقدَّم بمعلومات عنه إلى «الخاطبة»، وكذلك تفعل العروس وغيرها من طُلاب الزواج، فرغم الاختلاط على نطاق واسع بين الذكور والإناث، وعلاقات الصداقة التي تجمع البنات والشباب في «فنادق الحب» التي توجد بكثرة حول الميادين الرئيسية والجامعات، لا يفضِّل الشباب الزواج إلا عن طريق «الخاطبة»، ثم أصبحت هناك شركات متخصِّصة في الجمع بين الرءوس في الحلال، تستخدم الكمبيوتر، فيتقدَّم راغب الزواج — ذكرًا كان أم أنثى — بملخَّص لتاريخ حياته، وصور متعدِّدة له بالكيمونو والملابس الغربية، والمايوه أيضًا. وتقوم الخاطبة أو الشركة المختصة بترشيح اثنَين أو ثلاثة للمتقدِّم أو المتقدِّمة، فإذا وقع القَبول على أحدهم، تمَّت الاتصالات، ورُتب لقاء في مقهًى أو نادٍ يحضره كل طرف وأمه. فإذا حدث توافق بدأت عجلة المراسم التقليدية في الدوران.
وهذا ما تمَّ بالنسبة لكيكو بنت كاناموري، فبعد اللقاء غير الرسمي تحدَّد موعد طلب يد ابنته رسميًّا. جلست العائلتان في مواجهة بعضهما البعض على أرضية حجرة المعيشة (كما يجلس المسلمون في وضع التشهُّد أثناء الصلاة)؛ الأب في مواجهة الأب، وخلف كل منهما بخطوة واحدة زوجته (الأم) وبجوارها العريس إلى يمينها، أمَّا العروس فجلست متأخِّرةً عن أمها بنصف خطوة إلى يمينها. ووضع والد العريس صندوقًا خشبيًّا صغيرًا أمامه، ظنَّه صاحبنا علبة حلوى، أمَّا والد العروس فلم يكن أمامه شيء، كانت هناك علبة أصغر حجمًا أمام أم العروس. بدأ والد العريس الحديث مستعرضًا نسبه من أيام مايجي (القرن التاسع عشر)، ثم تحدَّث عن نفسه وزوجته وأولاده، وأهم الأحداث التي مرَّت على العائلة خيرًا كانت أم شرًّا، ثم تحدَّث عن ابنه وأهم خصاله وعيوبه، وتدرُّجه الوظيفي ودخله. ويرد والد العروس بالنظام نفسه في ترتيب عرض تاريخي للأسرة حتى يصل إلى الحديث عن ابنته، ويدعو أمها للحديث، فتحني هامتها وتتكلَّم وهي مطأطئة الرأس تنظر إلى الأرض. وتعود الكلمة إلى والد العريس، فيطلب يد البنت لابنه وينحني رافعًا العلبة التي أمامه إلى مستوى الرأس، ثم يسلِّمها للأب الذي يفتحها وينظر إلى ما بداخلها (وهو سمكة واحدة من نوع معين من السمك المجفَّف المبروم، طول السمكة حوالي عشرين سنتيمترًا)، وينحني ثم يستدير جانبًا فيقدِّم العلبة للأم التي تنحني وتتسلَّمها، ثم تتناول العلبة الأخرى التي أمامها وتقدِّمها للأب الذي يعود إلى جلسته الأولى ويسلِّمها إلى والد العريس، الذي يفتح العلبة وينظر إلى ما بداخلها (وهو سبيط مجفَّف)، ويتبادل الرجلان كلمة الشكر، ثم يتناول الجميع شراب «الساكي» الذي يحمل معنى الصفاء والود والمشاركة.
كان الجميع قد ارتدَوا الكيمونو (الزي الياباني التقليدي)، وكان صاحبنا يجلس في ركن قصي من حجرة المعيشة بنظام جلوس الأسرتَين نفسه يرقب المشهد الغريب، والمغزى الجنسي الواضح في الهديتَين المتبادلتَين الذي فُسر له بعد الحفل بأنه يعني أن ذكرنا يطلب أنثاكم، فيتسلَّم السبيط التي ترمز للأنثى، وتعني قَبول الطلب.
وحضر صاحبنا مناسبة زفاف مرتَين كان أصحابها من باحثي المعهد والجامعة، والحفل يُقام عادةً ظهرًا في إحدى القاعات، ولا يزيد عدد الحضور عن ستين فردًا على الأكثر، ويختار العريس أحد أساتذته ليتولَّى المراسم، فيُلقي كلمةً عن مناقب العريس شبيهةً بكلمات التأبين عندنا، وتتقدَّم بعده صديقة العروس (التي تُحدَّد مسبقًا)، فتتحدَّث عن مناقب العروس، ثم تُعطي الكلمة للعريس، فيروي كيف عرف عروسه. وكانت إحدى الزيجتَين عن حب، فذكر العريس كيف عرف العروس وعاشرها لمدة عامَين دون أن يجمعهما سقف واحد، ولمَّا كان المعهد سيوفده في مهمة علمية إلى الهند اكتشف أنه لا يستطيع الاستغناء عنها فلم يجد مفرًّا من الزواج بها.
ثم يطلب أصدقاء العريس الكلمة كلٌّ يتحدَّث في حدود ثلاث دقائق، ويغنِّي الحضور أغاني شعبيةً ذات صلة بالمناسبة، ويتناول الجميع الطعام ويشربون الساكي، ثم ينفَض الحفل بعد ساعتَين لينصرف كلٌّ إلى حال سبيله، ويُقدَّم لكل مدعو وردة حمراء المفروض أن يقدِّمها لفتاة يرغب في إقامة علاقة معها تمهيدًا للزواج، أو تقدِّمها الفتاة من المدعوات للغرض نفسه.
حصل صاحبنا على الوردة الحمراء في أول حفل زفاف حضره، وحملها معه حتى ركب القطار (مترو الأنفاق) في طريق العودة إلى مقر إقامته، وكانت هناك طفلة في حوالي الثالثة من عمرها فقدَّم لها الوردة (دون أن يدري مغزى ذلك في التقاليد اليابانية)، فإذا بكل ركاب العربة يضحكون، أمَّا أم الطفلة فكادت تفطس من الضحك. وعندما عاد صاحبنا إلى الأسرة التي يقيم لديها شرح لهم ما حدث، فانفجروا في الضحك وشرحوا له مغزى إهداء وردة الزفاف، والمطب الذي وقع فيه.
كانت المهمة العلمية اليابانية — إذن — متعدِّدة المنافع من النواحي العلمية والاجتماعية، وقد فتحت الباب أمام تعاون علمي دام حتى مطلع التسعينيات بين صاحبنا ومعهد اقتصاديات الدول النامية وجامعة طوكيو، ورشَّح صاحبنا للجهتَين بعض المتميِّزين من زملائه لزيارة المعهدَين، فتمَّت دعوة عاصم الدسوقي وعبد الرحيم عبد الرحمن معًا عام ١٩٧٦م لمدة ثلاثة شهور، ودُعي بعدهم بعض الزملاء من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام. كما توالى حضور شباب المتخصِّصين في الشرق الأوسط إلى مصر في مهامَّ علمية، كان أبرزهم صديقه نوتاهارا نوبوواكي الذي تخصَّص في الأدب العربي، وقدَّمه صاحبنا إلى زملائه بقسم اللغة العربية، عبد المنعم تليمة وجابر عصفور. وقد نقل إلى اليابانية عدة أعمال روائية مصرية منها «الأرض» للشرقاوي، و«تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، و«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، وغيرها من الأعمال المهمة. وأقامت الحكومة اليابانية في منتصف الثمانينيات مركزًا خاصًّا بالقاهرة تابعًا لهيئة «التقدُّم العلمي»، تولَّى رئاسته عددٌ ممن تتلمذوا على يد صاحبنا باليابان ومصر، حرص بعضهم على الاسترشاد برأيه فيما يتصل بنشاط المركز.
لم يكن ذلك هو كل ما بذله صاحبنا من جهد لمد جسور التعاون الثقافي بين الهيئات العلمية اليابانية ومصر، بل لعب دورًا متواضعًا في افتتاح قسم اللغة اليابانية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة، ولذلك قصة تُروى.
كانت الدعاية الإسرائيلية المعادية للعرب تستثمر هزيمة ١٩٦٧م، وتأثيرها السلبي على النظرة إلى العرب في اليابان خير استثمار، فكلَّفت (سرًّا) ثلاثةً من أساتذة الأدب العبري باليابان بإعداد كتاب نُشر باليابانية والإنجليزية معًا بعنوان «اليابانيون واليهود»، ونُسب إلى مؤلف وهمي يُدعى أشعيا بن دعسان، وكان صاحبنا قد قرأ النسخة الإنجليزية عندما رآها بإحدى المكتبات. وقد جاء على لسان مؤلفها الوهمي الذي زعم أنه يعيش في مدينة كوبي منذ ثلاثين عامًا قضاها في تأمُّل التشابه الكبير بين اليابانيين واليهود من حيث القدرات الحضارية الفائقة والبراعة في الأمور الاقتصادية، وبعد أن يشرح ما أصاب اليهود من «اضطهاد» بعد الشتات حتى استطاعوا أن يعيدوا دولتهم إلى الوجود في فصلَين متتاليَين، يختتم الكتاب بأن القدر شاء بأن تكون كل من البلدَين في ركن بعيد في آسيا، وأن رسالتهما نشر الحضارة في ربوع آسيا المختلفة، ومن ثم لا بد من تعاونهما معًا على أداء رسالة خُلق الشعبان المتميِّزان من أجلها.
وكان ممَّا يثير ضيق صاحبنا أن الطبعة اليابانية باعت ما يزيد على مائة ألف نسخة من الكتاب في ثلاثة شهور. وكتب عندئذٍ مقالًا بعنوان «مصلحة اليابان مع من؟» ترجمه صديقه إيتاجاكي إلى اليابانية ونُشر بأكبر مجلة في الشئون السياسية اليابانية تُدعى «كوكساي مونداي» (الشئون الدولية)، انتهى فيه إلى دحض دعاوى ابن دعسان، وبيَّن بالأرقام أن مصلحة اليابان مع العرب، وأن سياستها الخارجية يجب أن تستمد توجُّهاتها من المصالح الحيوية لليابان، ووجَّه اللوم إلى الحكومة اليابانية لشرائها البترول المصري الذي سرقته إسرائيل. وقد عقَّب على المقال صحفي ياباني مغمور بمقال قصير بعنوان «نحن أدرى بمصالحنا»، استنكر فيه دعوة «المهزوم» غيره إلى تغيير سياستهم، وكان الأَولى ببلاده أن تعي درس الهزيمة، وتعرف قدرها.
كان ذلك في ربيع ١٩٧٣م، وجاءت حرب أكتوبر و«صدمة البترول» لتُغيِّر من وجهة النظر اليابانية تجاه العرب، وتصحِّح تقويم الصراع العربي الإسرائيلي، وتكشف عمن كانوا وراء كتاب «اليابانيون واليهود»، وأن أشعيا بن دعسان اسم وهمي.
على كل، كان الخبر الذي قرأه صاحبنا عن طلب جامعة تل أبيب إنشاء قسم للغة اليابانية والثقافة اليابانية تالٍ لقراءته لكتاب بن دعسان المزعوم، وسابق على مقاله الذي نُشر باليابانية في «الشئون الدولية».
غلى الدم في عروق صاحبنا عندما قرأ الخبر، واتصل بصديقه إيتاجاكي الذي كان قريبًا من الخارجية اليابانية وطلب منه ضرورة تدبير مقابلة له مع رئيس مؤسسة اليابان في أقرب وقت ممكن، وذكر له السبب باختصار. فرتَّب له الرجل لقاءً مع السفير واني بوتشي رئيس المؤسسة في اليوم التالي، على أن يكون مفهومًا أن اللقاء ودي، وغير رسمي، وفي الثالثة مساءً وقت استراحة تناول الشاي. وعندما التقاه قال له إن إنشاء قسم ثانٍ للغة اليابانية بإسرائيل لن يخدم المصالح الحيوية للشعب الياباني التي تتطلَّب مد جسور التفاهم مع الشعوب العربية، وإن الثقافة هي المجال الأرحب لفهم الشعوب لبعضها البعض، وإن إنشاء القسم المطلوب بتل أبيب لن يفيد سوى حفنة من طلاب إسرائيل، بينما لو أُنشئ القسم بالقاهرة لكان مفتوحًا أمام جميع الطلاب العرب، ولأصبح نافذةً يُطل منها العرب على الثقافة اليابانية.
وردَّ السفير واني بوتشي على صاحبنا بتذكيره مرةً أخرى أن هذا اللقاء ودي وغير رسمي؛ لأنه بحكم كونه مدرسًا بجامعة القاهرة لا يملك حق الحديث نيابةً عن الجامعة، وعن حكومة بلاده. واستطرد قائلًا إنه شخصيًّا مقتنع بوجهة نظره التي طرحها أمامه، ولكن القرارات في اليابان لا يصنعها شخص واحد كما هو الحال في مصر، ولكن تصنعها مؤسسة، وكل ما يستطيع أن يفعله تأخير الرد على الطلب الإسرائيلي مدة شهر، فإذا وصله طلب مماثل من الحكومة المصرية، تمَّ النظر في الطلبَين معًا وترجيح ما ترى فيه المؤسسة مصلحة اليابان. وذكَّره بأنه إذا تسرَّب خبر هذا اللقاء، فسيُعلن أنه لم يرَه ولم يسمع شيئًا عن الموضوع، وأنه لا يستطيع أصلًا أن يقابل شخصًا غير ذي صفة رسمية، فطمأنه صاحبنا إلى أن «السر في بير»، ووعده بأن يعمل على وصول طلب جامعة القاهرة قبل نهاية الشهر، وكان الزمن المحدَّد للمقابلة ربع ساعة، فاستغرق نصف ساعة.
كان واني بوتشي صديقًا شخصيًّا لإيتاجاكي، عمل مستشارًا بالسفارة اليابانية بالقاهرة، وكان قبل تولِّيه رئاسة «مؤسسة اليابان» سفيرًا في ليبيا؛ ولذلك كان على معرفة طيبة بمصر والمنطقة، وأهم من ذلك كان يعلم بطء إيقاع صنع القرار في مصر؛ ولذلك قال لصاحبنا وهو يودِّعه: «الله معك.» (قالها بالعربية).
في التاسعة من صباح اليوم التالي، توجَّه صاحبنا إلى السفارة المصرية (لأول مرة) طالبًا مقابلة السفير، وحاول الموظفون معرفة سبب اللقاء فرفض، وطلب منهم إبلاغه أن المذكور يريد لقاءه لمسألة تتعلَّق بالمصالح العليا للبلاد، وبعد نحو ربع ساعة قاده السكرتير الثاني (وكان يُدعى أبو الغيط، وهو غير أحمد أبو الغيط وزير الخارجية الحالي) إلى مكتب السفير. كان السفير مصريًّا نبيلًا يُدعى صلاح حسن ولا يذكر صاحبنا اسمه بعد تلك السنين، وكانت حرمه من عائلة «بدرخان» التي لها باع طويل في صناعة السينما المصرية، وكان الرجل واسع الأفق، استمع له باهتمام وهو يعرض أمامه فكرة تقدُّمه نيابةً عن الحكومة المصرية بالطلب إلى «مؤسسة اليابان». فردَّ الرجل بأنه يُدرك تمامًا أهمية إنشاء هذا القسم في مصر وفي جامعة القاهرة، ولكنه لا يملك التقدُّم بأي طلب إلا إذا كان ذلك بِناءً على توجيه الخارجية وتعليماتها، تنفيذًا لطلب الجهة المعنية، وهي هنا وزارة التعليم العالي، وذكَّره بأنه لا شك يعرف أن وزارة التعليم العالي لا تتقدَّم للخارجية بطلب إلا بناءً على قرار الجامعة، وأن قرار الجامعة يستغرق شهرَين على الأقل، وأن الوقت الذي قد يستغرقه وصول الطلب إلى السفارة قد يصل إلى شهرَين أيضًا.
هنا أبلغه صاحبنا بمقابلة الأمس مع السفير واني بوتشي، وأن المقابلة كانت وديةً بتوسط صديق أستاذ ياباني، وأن الرجل وعد بتأخير الطلب الإسرائيلي شهرًا واحدًا، فإذا وصله الطلب المصري خلال الشهر، تمَّ النظر في الطلبين معًا … إلخ.
دُهش السفير صلاح حسن من جرأة صاحبنا، ولكنه امتدح (بصدق) وطنيته، وبُعد نظره، وقال له إنه تقديرًا له، مستعد أن يتقدَّم بطلب رسمي إلى مؤسسة اليابان إذا وصله خطاب رسمي من عميد آداب القاهرة يُفيد طلب الكلية إنشاء قسم للغة اليابانية وآدابها. وسأل صاحبنا: «هل علاقتك جيدة بعميد الكلية حتى يستجيب لك ويرسل مثل هذا الخطاب دون الرجوع للجامعة؟ إن الأمر يحتاج إلى عميد شجاع فهل الرجل لديه الشجاعة الكافية؟» وردَّ صاحبنا شاكرًا السفير على حسن الاستجابة متهرِّبًا من الإجابة. وعاد إلى المعهد ليكتب خطابًا إلى الدكتور السيد يعقوب بكر عميد الكلية، ولم يكن الرجل يعرفه معرفةً شخصية، ولكنه التقاه مرةً واحدة أثناء شغله لمنصب الوكيل، ولا يظن أن الرجل قد يتذكَّر حتى اسمه. كان عزاؤه الوحيد أن السيد يعقوب بكر من علماء فقه اللغات السامية البارزين، وأنه قد يكون أكثر من غيره تقديرًا لأهمية الموضوع.
كتب صاحبنا الخطاب بالتفصيل الكافي إلى العميد شارحًا له كل أبعاد الموضوع، ملمِّحًا إلى أن أحد رجال الخارجية قد يساعد في دفع الموضوع بتوصية من أستاذ ياباني كبير، ونقل له حرفيًّا ما دار بينه وبين السفير المصري، وطال الخطاب حتى وصل إلى ثلاث صفحات، وأرسله صاحبنا في الحال إلى العميد، وهو يتمنَّى على الله أن يتسع صدر الرجل لقراءة تلك الرسالة الطويلة وأن يهتم بالرد عليها، ولو بالرفض.
وبعد عشرة أيام تلقَّى صاحبنا خطابًا بديعًا من العالِم الوطني السيد يعقوب بكر عميد كلية الآداب، وصفه فيه بعبارات جعلته يكاد يذوب خجلًا، ومع الخطاب الشخصي المكتوب بخط اليد، خطاب آخر رسمي على المحرَّرات الرسمية للكلية موجَّه إلى سفير جمهورية مصر العربية بطوكيو، يحيطه علمًا بأن مجلس كلية الآداب اتخذ قرارًا بإنشاء قسم اللغة اليابانية وآدابها، وأنه يرجوه أن يبذل مساعيه لدى الحكومة اليابانية لتقديم العون العلمي والمادي اللازم لإنشاء القسم، وكان الخطاب ممهورًا بخاتم كلية الآداب الرسمي.
لا يدري صاحبنا كيف وصل بالخطاب إلى العميد؛ فقد أعمته دموع الفرح وهو ينتقل من مواصلة إلى أخرى حتى وصل إلى السفارة. وقابله السفير على الفور، وتسلَّم منه الرسالة، وطلب تحديد موعد لمقابلة رئيس مؤسسة اليابان (السفير واني بوتشي)، فتحدَّد الموعد بعد يومَين، وذهب الرجل حاملًا طلبًا رسميًّا بموافقة جامعة القاهرة على إنشاء قسم للغة اليابانية وآدابها، ولم تفُته الإشارة إلى أن وجود القسم بجامعة القاهرة يجعله في خدمة طلاب جميع بلاد الجامعة العربية.
وبعد شهر تقريبًا اتخذت مؤسسة اليابان قرارًا بإنشاء قسم للغة اليابانية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة (من حيث المبدأ)، على أن يسبق ذلك دراسة حرة للغة اليابانية للتأكُّد من مدى الإقبال على دراسة هذه اللغة، ومن جدوى إنشاء القسم.
بدأت الدراسة الحرة في العام الدراسي ١٩٧٣–١٩٧٤م، فأُرسل أحد المتخصِّصين في دراسة الشرق الأوسط (كورودا) للتدريس لمعرفته باللغة العربية، وحاول هذا الرجل أن يؤخِّر تأسيس القسم رسميًّا عامًا آخر يتيح له البقاء بالقاهرة عامًا آخر، ولكن صاحبنا استطاع — بمساعدة إيتاجاكي وهاناوا (المستشار الثقافي الياباني بالقاهرة) — أن يُقنع «مؤسسة اليابان» بضرورة التحرُّك لفتح القسم، واقترح أن تقدِّم المؤسسة أربعة مدرسين منهم ثلاثة من المتخصِّصين في الشرق الأوسط تاريخًا ولغة وثقافة يُتيح لهم عملُهم بالقاهرة تعميق دراساتهم التخصُّصية، وواحدًا فقط من اللغويين لتدريس الكتابة الصينية (الكانجي). وتبنَّى هاناوا هذه الأفكار في المذكرة التي رفعها إلى الخارجية اليابانية، فجاء عرض «مؤسسة اليابان» المُقدَّم إلى الكلية في هذا الإطار، ودارت العجلة، وافتُتح القسم في العام الدراسي ١٩٧٤–١٩٧٥م.
وعندما تمَّ الاحتفال بمرور ربع قرن على إنشاء القسم، دُعي كل من هب ودب للمشاركة في الاحتفال، ولم توجَّه الدعوة لصاحبنا. ولم يُلبَّ طلبُ أستاذ ياباني جامعي جاء من بلاده لحضور الاحتفال، عندما سأل عميد الكلية عن صاحبنا، والْتمس مساعدته في الاتصال به، فعاد الرجل دون أن يتمكَّن من لقائه.
لم يشعر صاحبنا بالمرارة من هذا النكران؛ فهو عندما ساهم هذه المساهمة المتواضعة في حرمان جامعة تل أبيب من إنشاء القسم، كان يؤدِّي لبلاده خدمةً لم ينتظر مقابلها شيئًا، بل كان البطل الحقيقي هو السفير المصري الذي دفعَته وطنيته إلى تحطيم الروتين وتحمُّل مسئولية تقديم الطلب الرسمي دون التقيُّد بالقنوات الدبلوماسية الرسمية. هذا البطل الحقيقي كان الأجدر بالتكريم في تلك المناسبة إذا كان حيًّا، وكانت ذكراه جديرةً بالتكريم. كذلك كان السيد يعقوب بكر (رحمه الله) عملاقًا شجاعًا، ووطنيًّا بحق؛ فلولاه لضاعت الفرصة على مصر. ولكن أحدًا لم يذكره بمناسبة الاحتفال ولو بكلمة واحدة، ولا شك أن الله جعل هذا العمل في ميزان حسناته؛ فهو لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.
وكان الاهتمام باليابان — عند صاحبنا — يمتد إلى مأساة استخدام السلاح الذري ضد هيروشيما ونجازاكي في ختام الحرب العالمية الثانية؛ فقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية اليابان وأهلها كحقل تجارب للوقوف على تأثير القصف النووي على البيئة والإنسان. ولا أدلَّ على ذلك من وجود فريق طبي أمريكي كبير، أُعد خلال سنوات الحرب للقيام بهذه المهمة بعد تنفيذ الضربة النووية، دخل في تدريبهم إتقان اللغة اليابانية، وكانوا في طليعة القوات الأمريكية التي نزلت إلى هيروشيما ونجازاكي.
حرص صاحبنا على زيارة هيروشيما بترتيب خاص مع قسم التاريخ بجامعتها، فبهره ما رآه في «متحف السلام» المقام على حديقة السلام، والذي يعبِّر تعبيرًا صادقًا عن هول الجريمة التي ارتكبتها «زعيمة العالم الحر» ضد شعب أنهكته الحرب، وكان يتفاوض من أجل الاستسلام، لمجرَّد اتخاذه معملًا لتجربة آثار السلاح الجديد.
ووقع في يد صاحبنا في ركن بيع الكتب في المتحف، الترجمة الإنجليزية ليوميات هاتشيا (مدير مستشفى المواصلات بهيروشيما) عن تلك التجربة الحزينة منذ يوم القصف حتى يوم تسلُّم الأطباء الأمريكان للمستشفى، كما حصل صاحبنا على كُتيب بالإنجليزية يضم بعض شهادات مَن نجَوا من الموت من سكان المدينة، وعندما قرأ اليوميات والشهادات، اكتشف أن ما يقال عن آثار السلاح النووي على البيئة والإنسان، يتضاءل أمام حقيقة ما حدث. ولمَّا كانت اليوميات والشهادات قد تُرجمت إلى ١٧ لغةً حية، فقد اعتزم صاحبنا على أن يجعل العربية اللغة الثامنة عشرة التي تُنقل إليها، ليقينه أن القارئ العربي لا بد أن يقف على حجم الجرم الذي ارتكبته أمريكا في حق الإنسانية، وليساهم في كشف الستار عن زيف الدعاوى التي يروِّجها البعض عنها في الوطن العربي.
وحرصًا على صدور الترجمة بصورة دقيقة ووافية، كرَّر صاحبنا زيارته لهيروشيما، وراح يتتبَّع المواقع التي ورد ذكرها باليوميات، وزار أحد المراكز الطبية التي تُئوي الجيل الثاني من ضحايا الإشعاع الذري. وانتهى من ترجمة الكتاب (اليوميات والشهادات) عام ١٩٧٥م، تمَّ طبعها على نفقته الخاصة (١٥٠٠ نسخة). واختار أن يهديها: «إلى أصدقاء أمريكا … عظةً وعبرة.» ولكن صاحب المطبعة نصحه بحذف الإهداء حتى لا تعترض الرقابة على صدوره. وبعد إتمام الطباعة تعاقد مع توزيع الأهرام على توزيعه. وحرص صلاح الغمراوي مدير توزيع الأهرام أن يلفت نظره إلى أن الوقت غير مناسب لصدور مثل هذا الكتاب، فأصرَّ على موقفه.
بعد أسبوعَين فوجئ صهر صاحبنا بعربة توزيع الأهرام تصل إلى منزله حاملةً النسخ كلها (فيما عدا ٢٥ نسخة). وظلَّ الكتاب يشغل غرفةً من شقة صهره حتى عاد من قطر عام ١٩٧٨م، وراح يطوف على المكتبات يعرض عليها توزيع الكتاب، فاكتشف أن هناك تعليمات شفهيةً من المباحث العامة بعدم طرح الكتاب للبيع. وأخيرًا دلَّه صديقه عبد الرحيم عبد الرحيم على مكتبة الخانجي التي قبلت الكتاب لتصديره على «دول جبهة الرفض» (العراق – سوريا – ليبيا – الجزائر). وكانت القواعد المعمول بها تقتضي إرسال نسخة (أو عدد محدَّد من النسخ) إلى البلد المعني للحصول على موافقة الرقابة. ومن عجب أن الرقابة في البلاد الأربعة رفضت السماح بدخول الكتاب، فطلب محمد الخانجي (صاحب المكتبة) من صاحبنا أن يسحب الكتاب معتذرًا عن عدم استطاعته طرحَه في السوق.
وهكذا وجد صاحبنا نفسه من «ضحايا» هيروشيما، واكتشف زيف تشدُّق النظم العربية «التقدمية» بشعارات معاداة الإمبريالية، ومدى ارتباط أجهزتها الأمنية بالولايات المتحدة الأمريكية. ولكن صاحبنا ظل يتذرَّع بأمل العثور على موزِّع يقبل الكتاب، فسلَّمه لدار الثقافة الجديدة، وقال لصاحبها (محمد الجندي) إنه يريد أن يصل الكتاب إلى الناس، ولا تهمه المادة.
وانتهت صلته بالكتاب الذي كان يُعرض على استحياء في ركن الدار بمعرض الكتاب، ولكنه حزين لأن الرسالة التي قصَدَها من وراء هذا الجهد لم تصل لأصحابها.
ولعل أهم ما بهر صاحبنا في اليابان، ذلك التلاحم الوطني الغريب بين أبناء الشعب على اختلاف مواقعهم الاجتماعية، دفاعًا عن المصالح اليابانية، وذلك التضامن التام في اتخاذ المواقف الحاسمة والالتزام الكامل بالمقاومة السلمية (الموجعة) للضغوط الأمريكية على بلادهم.
ففي العام الأخير الذي قضاه صاحبنا أستاذًا زائرًا بجامعة طوكيو (١٩٨٩–١٩٩٠م)، كانت اليابان تتعرَّض لضغوط شديدة من جانب الولايات المتحدة لإصلاح الميل الشديد في الميزان التجاري بين البلدَين لصالح اليابان، الذي خلَّف عجزًا كبيرًا جعل أمريكا مدينةً لليابان بعدد هائل من مليارات الدولارات. وألحَّت أمريكا على الحكومة اليابانية للتوقُّف عن إنتاج الأرز اكتفاءً باستيراده من أمريكا لسد جانب من العجز في الميزان التجاري، وكذلك التوسُّع في استيراد المصنوعات الأمريكية.
ورغم أن الخزانة اليابانية تتحمَّل مبالغ طائلةً لدعم زراعة الأرز فتزوِّد الفلاحين من زُراع الأرز بدعم يعادل نصف تكلفة الإنتاج، رغم ذلك كان سعر بيع الأرز للمستهلك مرتفعًا. وعندما ازداد الضغط على الحكومة اليابانية، فتحت الباب لاستيراد الأرز الأمريكي في مطلع العام ١٩٩٠م، فظهرت فجأةً بالأسواق كمياتٌ هائلة منه كان سعرها يقترب من نصف سعر الأرز الياباني.
وعندما كان صاحبنا وزوجه يشتريان مئونتهما من أحد محال البيع بطوكيو، تنبَّهت الزوجة إلى وجود الأرز الأمريكي ماركة «أنكل رين»، فقد سبق لهما استخدامه أيام الإقامة في قطر، فحمل صاحبنا كيسًا منه وضعه على عربة المشتريات، وبدأ التحرُّك في اتجاه ركن آخر من المحل، عندما اعترضت طريقه سيدة يابانية مسنة، وسألته باليابانية: «أيها الأجنبي … من أي البلاد جئت؟» فأجابها بلغتها، وقدَّم لها نفسه باعتباره أستاذًا زائرًا بجامعة طوكيو، فقالت: «أنت تفهم اليابانية وتتكلَّمها، وأستاذ بجامعة طوكيو، معنى ذلك أنك صديق لليابان، ومصري من بلد عبد الناصر، فكيف تأكل أرزًّا أمريكيًّا؟!» كاد الخجل أن يقطع أنفاس صاحبنا، فاعتذر للسيدة زاعمًا أنه لم يكن يدرك ذلك، وأعاد الكيس اللعين إلى الكومة الهائلة التي حمله منها، والتقط كيسًا من الأرز الياباني وضعه على عربة المشتريات، فإذا بكل زبائن المحل يصفِّقون تصفيقًا حارًّا وينحنون تحية.
عجيب أمر هذا الشعب الذي نظَّم مقاطعةً صامتة للبضائع الأمريكية، حرصًا على مصالح بلاده الوطنية، دون أن يتوقَّع أمرًا من أحد، ولكن ربات البيوت في مختلِف الأحياء كُن وراء هذه المقاطعة التي كان لها أثرها البالغ في دعم موقف حكومتهم.