الْفَصْلُ الثَّانِي
(١) رِحْلَةٌ شَاقَّةٌ
سَارَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» فِي طَرِيقِهِ، وَكُلُّهُ رَجَاءٌ فِي تَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ، وَالظَّفَرِ بِأُمْنِيَّتِهِ.
وَاصَلَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنُ» سَيْرَهُ فِي مُثَابَرَةٍ وَدَأَبٍ، تَحْفِزُهُ عَزِيمَةٌ وَثَّابَةٌ، وَتَحْدُوهُ هِمَّةٌ غَلَّابَةٌ، لَا يَدِبُّ إِلَيْهَا كَلَالٌ وَلَا مَلَلٌ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا ضَعْفٌ وَلَا فَشَلٌ.
وَقَدْ وَجَّهَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» عِنَايَتَهُ إِلَى بُلُوغِ مَدِينَةِ «بِسْنَجَارَ»، لِمَا سَمِعَهُ — مُنْذُ نَشْأَتِهِ — عَنْ مَتَاجِرِهَا الْغَنِيَّةِ، وَمَتَاحِفِهَا النَّادِرَةِ، الَّتِي تَحْوِي مِنْ غَوَالِي التُّحَفِ وَنَفَائِسِهَا مَا يَنْدُرُ وُجُودُ نَظِيرٍ لَهُ فِي سِوَاهَا مِنْ بِلَادِ الْعَالَمِ.
(٢) بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ
ظَلَّ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» يُوَاصِلُ سَيْرَهُ الْحَثِيثَ — مُتَّجِهًا فِي طَرِيقِهِ — إِلَى الشَّاطِئِ الْهِنْدِيِّ.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ وَصَلَ — فِي نِهَايَةِ رِحْلَتِهِ — إِلَى مَدِينَةِ «بِسْنَجَارَ» الْعَظِيمَةِ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَدْ شَعَرَ بِسُرُورٍ عَظِيمٍ حِينَ بَلَغَ الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَسَرَى إِلَى نَفْسِهِ أَمَلٌ فِي أَنْ يَجِدَ فِيهَا نَفِيسَةً يَعْتَزُّ وَالِدُهُ بِهَا، وَيُؤْثِرُهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَتُعَزِّيهِ عَمَّا بَذَلَ فِي سَبِيلِهَا مِنْ جُهْدٍ وَعَنَاءٍ، وَمَا كَابَدَهُ فِي رِحْلَتِهِ الطَّوِيلَةِ الْمُضْنِيَةِ مِنْ مَشَاقَّ، وَمَا تَحَمَّلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْإِرْهَاقِ.
وَقَدْ بَذَلَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» جُهُودًا لَا تُوصَفُ فِي اجْتِيَازِ مَا كَانَ يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُ الطَّوِيلَةَ مِنْ فَلَوَاتٍ وَاسِعَةٍ، وَصَحْرَاوَاتٍ شَاسِعَةٍ، وَتَصْعِيدٍ فِي الْجِبَالِ السَّامِقَةِ، وَتَسَلُّقِ رُءُوسِهَا الشَّاهِقَةِ، وَاجْتِيَازِ الْوِدْيَانِ الْعَمِيقَةِ، وَالْمُنْخَفَضَاتِ السَّحِيقَةِ؛ حَتَّى وَصَلَ — فِي نِهَايَةِ الرِّحْلَةِ الْمُضْنِيَةِ — إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْغَنِيَّةِ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِهِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنِ اكْتَرَى حُجْرَةً فَاخِرَةً فِي أَحَدِ فَنَادِقِ الْمَدِينَةِ الْعَامِرَةِ.
(٣) دَرْسٌ شَامِلٌ
لَمْ يُضِعِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ بِلَا عَمَلٍ.
وَضَعَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَ السَّفَرِ، لِيَشْغَلَ وَقْتَهُ بِلَهْوٍ وَلَعِبٍ.
كَانَ أَوَّلَ مَا عُنِيَ بِهِ أَنْ عَمَدَ إِلَى تُجَّارِ الْمَدِينَةِ، فَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ، وَتَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ وَجَّهَ عِنَايَتَهُ، وَبَذَلَ وُسْعَهُ وَطَاقَتَهُ، فِي مُوَاصَلَةِ الدَّرْسِ وَالتَّنْقِيبِ، فِي دُءُوبٍ عَجِيبٍ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ — بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ — بِدَرْسٍ شَامِلٍ مُسْتَفِيضٍ لِمَعَالِمِ الْمَدِينَةِ وَأَسْوَاقِهَا وَمَعَاهِدِهَا، وَآثَارِهَا وَمَتَاحِفِهَا وَمَعَابِدِهَا.
وَقَدِ اشْتَدَّ إِعْجَابُ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» بِمَا شَهِدَهُ فِي قَصْرِ مَلِيكِهَا الْكَبِيرِ، وَبَهَرَهُ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ هَنْدَسَةٍ مُحْكَمَةٍ بَارِعَةٍ، وَابْتِكَارَاتٍ فَنِّيَّةٍ رَائِعَةٍ.
ثُمَّ انْطَلَقَ فِي الْمَدِينَةِ يَرْتَادُ أَحْياءَهَا وَمَغَانِيَهَا، وَيَتَعَرَّفُ شَوَارِعَهَا وَنَوَاحِيَهَا، فَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ — بِمَا شَهِدَ — بَهْجَةً وَسُرُورًا، وَفَاضَ قَلْبُهُ — بِمَا رَأَى— أُنْسًا وَحُبُورًا.
•••
كَانَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» — كَأَخَوَيْهِ — مَشْبُوبَ الرَّغْبَةِ، شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى الْإِفَادَةِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْ ضُرُوبِ الْمَعْرِفَةِ.
فَلَا عَجَبَ إِذَا حَرَصَ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، لِتَعَرُّفِ مَا تَحْوِيهِ مَدِينَةُ «بِسْنَجَارَ» — مَا وَسِعَهُ الْجُهْدُ وَالْوَقْتُ — لِيَخْرُجَ بَعْد دِرَاسَتِهِ الْمُسْتَفِيضَةِ الشَّامِلَةِ بِمُؤَلَّفٍ نَفِيسٍ، يُضِيفُ إِلَى الْبَاحِثِينَ جَدِيدًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَيُوَسِّعُ آفَاقَ مَدَارِكِهِمْ، وَيُغْرِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الرَّحَلَاتِ وَاْلْإِكْثَارِ مِنْهَا وَالِاسْتِزَادَةِ، وَالْإِفَادَةِ بِمَا يَجْنُونَهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْكَشْفِ وَالرِّيَادَةِ.
وَاهْتَمَّ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» بِأَنْ يَجْمَعَ الْمَعْلُومَاتِ الدَّقِيقَةَ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَائِقَ الصَّحِيحَةَ؛ حَتَّى يَكُونَ كِتَابُهُ الَّذِي يُؤَلِّفُهُ مَصْدَرًا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا، وَمَرْجِعًا مِنَ الْمَرَاجِعِ الَّتِي يُعَوَّلُ عَلَيْهَا.
(٤) أَسْوَاقُ الْمَدِينَةِ
وَكَانَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» كُلَّمَا جَاسَ خِلَالَ الْمَدِينَةِ، وَاتَّصَلَ بِأَهْلِهَا، عَظُمَتْ فِي عَيْنِهِ مَكَانَتُهَا، لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ حَرَكَةٍ دَائِبَةٍ، وَنَشَاطٍ مَوْفُورٍ.
وَزَادَ مِنْ إِعْجَابِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» بِالْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ، مَا رَآهُ فِيهَا مِنْ ذَوْقٍ فَنِّيٍّ رَفِيعٍ أَنِيقٍ، وَتَنْظِيمٍ رَائِعٍ وَتَنْسِيقٍ، وَتَرْتِيبٍ مُحْكَمٍ دَقِيقٍ.
وَبَهَرَهُ مَا شَهِدَهُ فِيهَا مِنْ مَزَايَاهَا، الَّتِي تَفَرَّدَتْ بِهَا دُونَ سِوَاهَا.
فَقَدْ رَأَى أَسْوَاقَهَا مُتَنَاسِقَةً مُنْسَجِمَةً، مُرَتَّبَةً مُنَظَّمَةً، تَتَمَيَّزُ كُلُّ سُوقٍ مِنْهَا بِحِرْفَةٍ بِعَيْنِهَا، لَا تَعْدُوهَا إِلَى غَيْرِهَا.
وَرَأَى كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِهَا تَعْرِضُ بَضَائِعَهَا وَسِلَعَهَا، فِي سُوقٍ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا، تَخْتَصُّ بِهَا وَحْدَهَا، وَتَنْفَرِدُ بِبَيْعِهَا وَعَرْضِهَا، دُونَ أَنْ تَتَجَاوَزَهَا أَوْ تَتَعَدَّاهَا، إِلَى سِلْعَةٍ سِوَاهَا.
فَهُنَا سُوقُ الثِّيَابِ، وَإِلَى جَانِبِهَا سُوقُ الْبُسُطِ وَالسَّجَّادِ، وَثَمَّ سُوقُ اللَّآلِئِ وَالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.. وَهَكَذَا، بِحَيْثُ عُرِفَتْ كُلُّ سُوقٍ — مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ — بِلَوْنٍ بِعَيْنِهِ، يَقْصِدُ إِلَيْهِ الْقَاصِدُ، فَلَا يُخْطِئُهُ.. وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنِ اقْتِصَادٍ فِي الْجُهْدِ وَالْوَقْتِ.
وَقَدْ تَفَرَّدَتْ أَسْوَاقُ الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ — إِلَى مَزَايَاهَا الْكَثِيرَةِ — بِمَا اتَّصَفَ بِهِ التُّجَّارُ مِنْ سَمَاحَةِ الْخُلُقِ، وَلُطْفِ الْمُعَامَلَةِ، وَبِالدِّقَّةِ وَالْأَمَانَةِ فِي وَصْفِ الْمَعْرُوضَاتِ وَبَيَانِ قِيمَتِهَا.
(٥) عِطْرُ الْأَزْهَارِ
وَكَانَ مِمَّا اسْتَرْعَى انْتِبَاهَ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» مَا شَهِدَهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ وَفْرَةِ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ، وَمَا رَآهُ مِنْ إِقْبَالِ الْأَهْلِينَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ، وَشَغَفِهِمْ بِالْوَرْدِ وَعِنَايَتِهِمْ بِهِ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى شِرَائِهِ، وَافْتِتَانِهِمْ بِعُطُورِهِ وَأَلْوَانِهِ.
وَكَانَ أَرِيجُ الْوَرْدُ الذَّكِيِّ يَفُوحُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَيُنْعِشُ النُّفُوسَ شَذَاهُ الْمُعَطَّرُ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْهُ بَيْتٌ وَلَا مَتْجَرٌ!
وَقَدْ عَرَفَ الْأَمِيرُ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ قَدْ بَرَعُوا فِي اسْتِخْرَاجِ الْعُطُورِ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ، وَتَقْطِيرِ أَنْوَاعٍ مِنَ السَّوَائِلِ الطَّائِرَةِ ذَاتِ الرَّائِحَةِ الذَّكِيَّةِ، وَهِيَ سَوَائِلُ سَرِيعَةُ التَّبَخُّرِ، لَا تَكَادُ تَرْتَفِعُ السِّدَادَةُ عَنْ قِنِّينَتِهَا حَتَّى يَمْلَأَ الْجَوَّ عِطْرٌ فَوَّاحٌ.
وَسَمِعَ الْأَمِيرُ فِي أَثْنَاءِ أَحَادِيثِهِ مَعَ الْأَهْلِينَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجَلٌ قَضَى عُمْرَهُ كُلَّهُ فِي تَجَارِبَ مُتَوَاصِلَةٍ، أَرَادَ بِهَا أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ بُخَارِ النَّبَاتَاتِ وَالْأَعْشَابِ مَادَّةً أَثِيرِيَّةً: يَقِلُّ وَزْنُهَا عَنْ وَزْنِ الْهَوَاءِ، تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْمِلَ الْأَشْيَاءَ وَتَمْضِي بِهَا فِي الْجَوِّ، كَمَا يَمْضِي الطَّائِرُ فِي الْفَضَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَحَدَّثَ إِلَيْهِمُ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ».
هَذَا الرَّجُلُ قَدْ نَجَحَ فِيمَا أَرَادَ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَصْنَعَ تَرْكِيبًا مِنْ بُخَارِ الْعُطُورِ، إِذَا مَسَّ شَيْئًا خَفَّ وَزْنُهُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَصْعَدَ فِي الْفَضَاءِ، فَتُسْرِعُ بِهِ الرِّيحُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
•••
وَعَجِبَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مِمَّا سَمِعَ، وَحَارَ فِي أَمْرِهِ:
أَيُصَدِّقُ مَا يَسْمَعُهُ أَمْ يُكَذِّبُهُ؟ وَلَكِنَّهُ فَضَّلَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا الِاكْتِشَافِ الْغَرِيبِ، وَتَمَنَّى أَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهِ.
وَحَرَصَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» عَلَى أَنْ يَجْمَعَ مِنَ الْخُبَرَاءِ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْمَعَهُ مِنْ مَعْلُومَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِزِرَاعَةِ الزُّهُورِ، وَصِنَاعَةِ الْعُطُورِ، وَأَنْ يَحْصُلَ عَلَى مَقَادِيرَ كَافِيَةٍ مِنْ بُذُورِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الزَّهْرِ، وَيُسَجِّلَ طَرِيقَةَ إِنْبَاتِهِ وَتَنْمِيَتِهِ، وَوَسِيلَةَ تَقْطِيرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ عِطْرِهِ؛ لِكَيْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ وَطَنِهِ، فَلَا يَفُوتُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ.
وَمِمَّا ارْتَاحَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ «بِسْنَجَارَ» مَعُونَةً سَخِيَّةً؛ فَلَمْ يَضِنُّوا عَلَيْهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالدَّقَائِقِ، وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي تَيْسِيرِ حُصُولِهِ عَلَى النَّمَاذِجِ الَّتِي يَخْتَارُهَا مِنْ أَصْنَافِ الزُّهُورِ فِي مُخْتَلِفِ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ.
(٦) سُوقُ السَّجَّادِ
وَذَاتَ صَبَاحٍ: ذَهَبَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» — عَلَى مَأْلُوفِ عَادَتِهِ — إِلَى الْمَدِينَةِ، يَمْشِي فِي أَسْوَاقِهَا، وَيَتَعَرَّفُ الْمَزِيدَ مِنْ طَرَائِفِهَا، وَيَتَحَرَّى الْجَدِيدَ مِنْ نَفَائِسِهَا، مُتَنَقِّلًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْ دُكَّانٍ إِلَى دُكَّانٍ، حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْمَطَافُ إِلَى سُوقِ السَّجَّادِ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» قَدْ جَهَدَهُ السَّيْرُ وَأَضْنَاهُ التَّعَبُ، فَجَلَسَ فِي مَتْجَرٍ كَبِيرٍ؛ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ عَنَاءِ السَّفَرِ الطَّوِيلِ.
وَمَا كَادَ صَاحِبُ الْمَتْجَرِ يَرَاهُ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ، وَرَحَّبَ بِهِ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
(٧) دَلَّالُ السُّوقِ
وَمَرَّتْ دَقَائِقُ يَسِيرَةٌ، وَإِذَا صَوْتٌ يُدَوِّي — فِي السُّوقِ — عَالِيًا، وَيَنْطَلِقُ مُنَادِيًا.
فَالْتَفَتَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» إِلَى مَصْدَرِ الصَّوْتِ، فَرَأَى دَلَّالَ النَّفَائِسِ يَحْمِلُ فِي يَدَيْهِ بِسَاطًا، وَسَمِعَهُ يُنَادِي بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ.
وَلَا تَسَلْ عَنْ عَجَبِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»، حِينَ سَمِعَ الدَّلَّالَ يَقُولُ: «أَيْنَ مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ التُّحْفَةِ، وَيُقَدِّرُ نَفَاسَةَ هَذِهِ الطُّرْفَةِ؟
أَيْنَ مَنْ يُسْرِعُ إِلَى اغْتِنَامِهَا، قَبْلَ أَنْ تَضِيعَ الْفُرْصَةُ، وَتَنْقَلِبَ — بَعْدَ ضَيَاعِهَا — حَسْرَةً وَغُصَّةً!
يَا لَلصَّفْقَةِ النَّاجِحَةِ، وَالْغَنِيمَةِ الرَّابِحَةِ!
يَا لَهَا مِنْ طُرْفَةٍ عَجَبٍ، لَمْ يَتَعَدَّ ثَمَنُهَا — إِلَى الْآنَ — ثَلَاثِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ!
مَا أَنْفَسَ الطُّرْفَةَ، وَأَقَلَّ الثَّمَنَ!
فَأَيْنَ الْمَحْظُوظُ السَّعِيدُ، الَّذِي يُسْرِعُ إِلَى الْمَزِيدِ؟»
وَكَانَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ قُصَّادِ سُوقِ السَّجَّادِ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى الدَّلَّالِ، وَفِي عُيُونِهِمْ حَسْرَةٌ وَحَيْرَةٌ، وَكَأَنَّهُمْ نَادِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَالِ فِي سَاعَتِهِمُ الْحَاضِرَةِ، مَا يَجْعَلُهُمْ يَزِيدُونَ فِي الثَّمَنِ عَلَى ثَلَاثِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ … فَيَا لَلْعَجَبِ!
(٨) عَجَبُ الْأَمِيرِ
لَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الدَّلَّالِ، فَقَدْ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ بِهِ لَوْثَةً أَوْ مَسًّا مِنْ خَبَالٍ.
لَقَدِ اشْتَدَّ عَجَبُ الْأَمِيرِ حِينَ رَأَى بِسَاطًا مُرَبَّعًا لَا يَكَادُ يَبْلُغُ الْمِتْرَيْنِ، يَغْلُو دَلَّالُهُ فِي ثَمَنِهِ، فَيُقَوِّمُهُ بِثَلَاثِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ (الْخَالِصِ) ثُمَّ يَطْمَعُ فِي الْمَزِيدِ.
أَقْبَلَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» عَلَى نَفْسِهِ قَائِلًا: «لَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا الدَّلَالَ أَبْلَهُ أَوْ أَحْمَقُ، أَوْ سَفِيهٌ أَوْ أَخْرَقُ، أَوْ لَعَلَّهُ أَفِينٌ (ضَعِيفُ الرَّأْيِ) مَخْبُولٌ، لَا يَدْرِي مَاذَا يَقُولُ!»
عَاوَدَ الدَّلَّالُ نِدَاءَهُ، وَكَرَّرَ دُعَاءَهُ.
أَقْبَلَ الْأَمِيرُ عَلَى الدَّلَّالِ يُنَادِيهِ، وَالْعَجَبُ آخِذٌ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْبِسَاطَ.
أَسْرَعَ الدَّلَّالُ إِلَى تَلْبِيَةِ الْأَمِيرِ.
أَمْسَكَ الْأَمِيرُ بِالْبِسَاطِ، وَظَلَّ يَتَأَمَّلُهُ وَيُنْعِمُ النَّظَرَ فِيهِ، لَعَلَّهُ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، وَيَهْتَدِي إِلَى مَا خَفِيَ مِنْ سِرِّهِ؛ فَلَمْ يَرَ فِيهِ — بَعْدَ الْفَحْصِ الدَّقِيقِ — مَيْزَةً وَاحِدَةً تُفْرِدُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبُسُطِ، وَتُغْرِي الشَّارِيَ بِشِرَائِهِ، وَتَدْفَعُهُ لِلْحِرْصِ عَلَى اقْتِنَائِهِ، وَتَشْفَعُ لِلدَّلَّالِ، فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ ثَمَنٍ غَالٍ، لَا يَخْطُرُ لِأَحَدٍ عَلَى بَالٍ.
(٩) بِسَاطُ الرِّيحِ
الْتَفَتَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» إِلَى دَلَّالِ النَّفَائِسِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُسَائِلُهُ، وَقَدْ تَعَاظَمَهُ الدَّهَشُ.
«شَدَّ مَا غَلَوْتَ — يَا صَاحِ — فِي ثَمَنِ الْبِسَاطِ وَأَسْرَفْتَ!
عَلَى حِينِ لَا أَرَى فِيهِ — مِنْ بَرَاعَةِ الصُّنْعِ وَجَمَالِ الذَّوْقِ — مَا يُمَيِّزُهُ مِنْ سِوَاهُ، وَيُفْرِدُهُ عَمَّا عَدَاهُ!»
فَأَجَابَهُ الدَّلَّالُ: «كَذَلِكَ شَاءَتْ إِرَادَةُ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِي بُدٌّ مِنْ تَلْبِيَةِ أَمْرِهِ.
لَقَدْ أَمَرَنِي — وَلَهُ الْحَقُّ فِيمَا أَمَرَ — أَلَّا أَبِيعَ بِسَاطَهُ النَّفِيسَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ.
وَلَا مَعْدَى عَنْ تَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِمَشِيئَتِهِ.
وَلَنْ أَعْدَمَ لَهُ شَارِيًا ذَكِيًّا، مُوْسِرًا غَنِيًّا، مِنْ هُوَاةِ النَّفَائِسِ وَالطُّرَفِ، وَعُشَّاقِ الْغَرَائِبِ وَالتُّحَفِ.
عَلَى أَنَّ أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ — تُدْفَعُ فِي هَذَا الْبِسَاطِ — قَلِيلَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ لِمَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَيَتَبَيَّنُ مَزِيَّتَهُ — لَيْسَتْ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ؛ بَلْ هِيَ — لَوْ عَلِمْتَ — ثَمَنٌ نَزَرٌ يَسِيرٌ».
اشْتَدَّ الْعَجَبُ بِالْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» مِنْ حَدِيثِ الدَّلَّالِ، وَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُسَائِلًا:
«بِرَبِّكَ إِلَّا مَا خَبَّرْتَنِي: أَيُّ مَيْزَةٍ فِيهِ، تُغْرِي مَنْ يَقْتَنِيهِ؟»
فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: «إِنْ لَمْ يَكْذِبْنِي ظَنِّي يَا سَيِّدِي، فَأَنْتَ عَنْ هَذَا الْبَلَدِ غَرِيبٌ».
فَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «لَقَدْ هَدَاكَ ظَنُّكَ إِلَى الصَّوَابِ، وَلَمْ تَقُلْ إِلَّا حَقًّا؛ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَى سُؤَالِي؟ فَتُرِيحَ بَالِي؟»
(١٠) مَيْزَةُ الْبِسَاطِ
فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: «لَوْ عَلِمْتَ مَا تَمَيَّزَتْ بِهِ هَذِهِ النَّفِيسَةُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نَفَائِسِ الْعَالَمِ قَاطِبَةً، لَأَدْرَكْتَ أَنَّ كُلَّ ثَمَنٍ يُبْذَلُ فِيهَا، لَا يَتَكَافَأُ مَعَ قِيمَتِهَا، لِنَدْرَتِهَا وَنَفَاسَتِهَا».
فَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «لَا أَكَادُ أَفْهَمُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ.
إِنَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ لُغْزٌ غَامِضٌ مَجْهُولٌ، وَطِلَّسْمٌ خَفِيٌّ تَحَارُ فِي فَهْمِهِ الْعُقُولُ.
فَمَا بَالُكَ تُلْغِزُ وَلَا تُفْصِحُ، وَتُغْمِضُ الْقَوْلَ وَلَا تُوَضِّحُ؟»
فَأَجَابَهُ الدَّلَّالُ: «إِنَّ هَذَا الْبِسَاطَ — لَوْ عَلِمْتَ — تُحْفَةُ التُّحَفِ، وَطُرْفَةُ الطُّرَفِ، وَمَثَارُ الدَّهْشَةِ وَالْعَجَبِ.
إِنَّهُ بِسَاطُ الرِّيحِ: يَطِيرُ بِكَ فِي الْفَضَاءِ، وَيَحْمِلُكَ إِلَى حَيْثُ تَشَاءُ، وَيَنْقُلُكَ مِنْ أَقْصَى الدُّنْيَا إِلَى أَقْصَاهَا فِي لَحَظَاتٍ، وَيَطْوِي الْآفَاقَ الْبَعِيدَةَ فِي لَمَحَاتٍ؛ لَا تَعُوقُهُ الْعَوَائِقُ، وَلَا تَعْتَرِضُهُ الْعَقَبَاتُ، وَلَا تَقِفُ دُونَ غَايَتِهِ الْجِبَالُ الشَّامِخَاتُ.
وَالْآنَ خَبِّرْنِي، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتَ قِيمَتَهُ، وَأَدْرَكْتَ فَضْلَهُ وَمِيْزَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا يُدْفَعُ فِي ثَمَنِهِ مِنْ مَالٍ — مَهْمَا عَظُمَ — لَيْسَ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ، بَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ هَيِّنٌ يَسِيرٌ».
(١١) طِلْبَةُ الْأَمِيرِ
فَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» فِي نَفْسِهِ: «إِذَا صَحَّ مَا يَقُولُ هَذَا الدَّلَّالُ، فَقَدْ بَلَغْتُ طِلْبَتِي، وَحَقَّقْتُ رَغْبَتِي، وَظَفِرْتُ بِأُمْنِيَّتِي، وَحَصَلْتُ عَلَى مَهْرِ زَوْجَتِي!»
وَتَذَكَّرَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مَا كَانَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ مَهَارَةِ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ سَوَائِلَ طَائِرَةٍ مِنَ الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ، وَسَأَلَ نَفْسَهُ: أَيَكُونُ هَذَا الْبِسَاطُ قَدِ اكْتَسَبَ خَاصِّيَّةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّيَرَانِ، بِفَضْلِ احْتِوَائِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ، الَّذِي قِيلَ لِي إِنَّهُ إِذَا مَسَّ شَيْئًا أَمْكَنَ أَنْ يَصْعَدَ فِي الْفَضَاءِ، وَتُسْرِعُ بِهِ الرِّيحُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ؟
•••
وَمَدَّ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنَامِلَهُ إِلَى الْبِسَاطِ يَتَحَسَّسُهُ؛ فَأَلْفَاهُ رَقِيقَ النَّسْجِ، هَفْهَافَ الْحَوَاشِي، كَأَنَّهُ الْحَرِيرُ أَوْ أَخَفُّ مِنَ الْحَرِيرِ مَلْمَسًا، وَأَنْعَمُ خُيُوطًا، وَهُوَ يَتَمَوَّجُ فِي يَدِ الدَّلَّالِ، كَأَنَّهُ يُحَاوِلُ الْإِفْلَاتَ مِنْ قَبْضَتِهِ، وَالِانْطِلَاقَ فِي الْهَوَاءِ!
•••
ثُمَّ الْتَفَتَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» إِلَى الدَّلَّالِ قَائِلًا: «إِنَّ صَحَّ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ تُدْفَعُ ثَمَنًا لِهَذَا الْبِسَاطِ لَيْسَتْ كَثِيرَةً عَلَيْهِ، مَتَى كَانَ أَمْرُهُ عَلَى مَا تَصِفُ!»
(١٢) عَلَى بِسَاطِ الرِّيحِ
فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: «إِنَّ مَا أَقُولُهُ لَكَ حَقٌّ صُرَاحٌ.
وَلَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تُجَرِّبَ، وَتَتَثَبَّتَ بِنَفْسِكَ مِنْ صِدْقِ مَا أَقُولُ.
وَقِديمًا قَالَتِ الْأَمْثَالُ: عِنْدَ الِامْتِحَانِ، يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ.
وَإِنِّي أَيُّهَا السَّيِّدُ الْفَاضِلُ أُحِبُّ أَلَّا يَقِفَ شَيْءٌ حَائِلًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اقْتِنَاءِ الطُّرْفَةِ النَّفِيسَةِ الْفَاخِرَةِ، وَالظَّفَرِ بِالتُّحْفَةِ النَّادِرَةِ».
•••
وَقَفَ الْأَمِيرُ مُتَعَجِّبًا أَمَامَ مَا سَمِعَ مِنَ الدَّلَّالِ.
لَمْ يَكَدِ الدَّلَّالُ يَشْهَدُ حَيْرَةَ الْأَمِيرِ، حَتَّى أَدْرَكَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ ثَمَنِ الْبِسَاطِ.
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الدَّلَّالُ قَائِلًا: «أَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّ مَا أَطْلُبُهُ — ثَمَنًا لِبِسَاطِ الرِّيحِ — لَيْسَ فِي حَوْزَتِكَ الْآنَ..
فَلْيَحْمِلْنَا هَذَا الْبِسَاطُ — إِذَا أَمَرْتَ — إِلَى حَيْثُ تُقِيمُ؛ لِتُحْضِرَ ثَمَنَهُ مِنَ الْفُنْدُقِ، وَتَتَحَقَّقَ — فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ — مِنْ صِدْقِ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ.
فَكَيْفَ تَقُولُ؟»
•••
ابْتَهَجَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» بِمَا سَمِعَ مِنَ الدَّلَّالِ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي قَبُولِ اقْتِرَاحِهِ.
جَلَسَ الدَّلَّالُ عَلَى بِسَاطِ الرِّيحِ، وَوَقَفَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» إِلَى جَانِبِهِ.
وَأَضْمَرَ الْأَمِيرُ فِي نَفْسِهِ رَغْبَتَهُ فِي أَنْ يَطِيرَ بِهِ الْبِسَاطُ الْعَجِيبُ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، إِلَى حَيْثُ شَاءَ.
وَمَا كَادَ الْأَمِيرُ وَالدَّلَّالُ يَسْتَقِرَّانِ عَلَى الْبِسَاطِ، حَتَّى طَارَ بِهِمَا فِي الْفَضَاءِ، وَبَلَغَ الْفُنْدُقَ فِي مِثْلِ وَمْضَةِ الْبَرْقِ، أَوْ لَمْحَةِ الْبَصَرِ.
وَنَظَر الدَّلَّالُ إِلَى الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» نَظْرَةً ذَاتَ مَعْنًى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: «الْآنَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكَ أَنِّي صَدَقْتُكَ فِيمَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ، وَأَنِّي لَمْ أَكُنْ بِالْكَاذِبِ وَلَا بِالْمُدَّعِي».
(١٣) إِتْمَامُ الصَّفْقَةِ
وَلَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» وَعَجَبِهِ مِمَّا شَهِدَ، وَفَرَحِهِ بِاهْتِدَائِهِ إِلَى النَّفِيسَةِ الْفَذَّةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَحْلُمُ بِهَا.
وَقَدْ شَكَرَ اللهَ — سُبْحَانَهُ — عَلَى أَنْ هَيَّأَ لَهُ فُرْصَةً مُوَاتِيَةً لِلظَّفَرِ بِأُمْنِيَّتِهِ، دُونَ أَنْ يَتَجَشَّمَ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهَا مَشَقَّةً أَوْ عَنَاءً.
وَأَسْرَعَ الْأَمِيرُ — مِنْ فَوْرِهِ — بِإِتْمَامِ الصَّفْقَةِ.
•••
وَلَمْ يَكْتَفِ الْأَمِيرُ بِدَفْعِ أَرْبَعِينَ كِيسًا — فِي ثَمَنِ الْبِسَاطِ الْعَجِيبِ — كَمَا طَلَبَ الدَّلَّالُ؛ بَلْ مَنَحَهُ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ؛ لِيُثْبِتَ لَهُ إِعْجَابَهُ وَابْتِهَاجَهُ بِمَا أَظْفَرَهُ بِهِ، وَيُعْرِبَ عَنْ تَقْدِيرِهِ لِمَا أَدْخَلَهُ الدَّلَّالُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْبَهْجَةِ بِمَا قَدَّمَ إِلَيْهِ مِنْ طُرْفَةٍ فَرِيدَةِ الْمِثَالِ.
•••
فَشَكَرَ لَهُ الدَّلَّالُ مَا بَذَلَ مِنْ عَطَاءٍ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنَ الثَّنَاءِ.
وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُوَدِّعُهُ: «حَذَارِ يَا سَيِّدِي أَنْ تَتَهَاوَنَ بِهَذَا الْبِسَاطِ، فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ جُهُودٍ جَبَّارَةٍ فِي اكْتِسَابِ خَاصِّيَّةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَإِنَّهُ بِذَلِكَ يُعَدُّ آيَةً نَادِرَةً فِي مَجَالِ الِاخْتِرَاعِ وَالِابْتِكَارِ. وَقَدْ أَصْبَحَ الْآنَ مِلْكَ يَدَيْكَ، فَاجْعَلِ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ نُصْبَ عَيْنَيْكَ».
(١٤) مُوَاصَلَةُ الدَّرْسِ
وَأَرَادَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنْ يَعُودَ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ نَفْسَهُ بِهِ أَمَامَ أَخَوَيْهِ؛ فَقَدْ تَعَاهَدَ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ عَلَى أَنْ يَلْتَقُوا جَمِيعًا — آخِرَ الْعَامِ — فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ سَيْرُهُمْ مُجْتَمِعِينَ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا رِحْلَتَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ!
فَقَرَّرَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنْ يَقْضِيَ الْأَشْهُرَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْعَامِ فِي دَرْسِ عَادَاتِ الْمَدِينَةِ وَأَحْوَالِهَا.
(١٥) فِي حَضْرَةِ الْمَلِكِ
وَقَدْ عَلِمَ الْأَمِيرُ أَنَّ مَلِكَ «بِسْنَجَارَ» يَسْتَقْبِلُ التُّجَّارَ الْغُرَبَاءَ كُلَّ أُسْبُوعٍ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ؛ لِيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، وَيُفِيدَ مِنْ آرَائِهِمْ، وَيَقْبِسَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ مَا يَنْفَعُ بَلَدَهُ.
فَلَمْ يُضِعِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» تِلْكَ الْفُرْصَةَ، بَلْ ذَهَبَ إِلَيْهِ.. وَدَارَتْ بَيْنَهُمْ طَرَائِفُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَلَطَائِفُ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَبَدَائِعُ مِنَ الْفَوَائِدِ، انْتَهَتْ بِأَنْ أُعْجِبَ كِلَاهُمَا بِالْآخَرِ؛ لِمَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ رَجَاحَةِ عَقْلٍ، وَعُمْقِ تَفْكِيرٍ، وَأَصَالَةِ رَأْيٍ، وَوَفْرَةِ فَضْلٍ.
وَلَمْ يَفُتِ الْأَمِيرَ «حُسَيْنًا» أَنْ يَقْبِسَ مِنْ آرَاءِ مَلِكِ الْمَدِينَةِ الْعَظِيمِ فُنُونًا مِنَ الْإِصْلَاحِ، تَعُودُ عَلَى الشَّعْبِ بِالْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ، وَتُهَيِّئُ لَهُ طَرَائِقَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاحِ.
كَمَا لَمْ يَفُتِ الْأَمِيرَ أَنْ يَسْتَرْشِدَ بِآرَاءِ مَلِكِ الْمَدِينَةِ، وَيَقْبِسَ مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ الْحَكِيمَةِ فُنُونًا مِنْ أَسَالِيبِ حَيَاتِهِ الْحَافِلَةِ بِالتَّجَارِبِ الرَّشِيدَةِ، وَمَزَايَاهُ النَّادِرَةِ الْفَرِيدَةِ.
وَأُعْجِبَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلِكُ مِنْ أَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ خَادِمًا لِلشَّعْبِ، وَأَنَّ لِلشَّعْبِ حُقُوقًا مُقَدَّسَةً يَجِبُ أَنْ تُرْعَى، وَأَنَّ مَنْ خَانَ أَمَانَةَ هَذِهِ الْحُقُوقِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُقْصَى.
(١٦) آثَارُ الْهِنْدِ
وَقَضَى الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِهِ بَيْنَ آثَارِ الْهِنْدِ، بَاحِثًا مُنَقِّبًا؛ فَرَأَى مَا أَدْهَشَهُ، وَمَلَأَ نَفْسَهُ إِعْجَابًا وَسُرُورًا وَخَرَجَ — مِنْ دِرَاسَتِهِ — بِنَتَائِجَ بَاهِرَةٍ.
وَكَانَ فِيمَا رَآهُ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مِنْ آثَارِ الْمَدِينَةِ مَعْبَدٌ مُرَبَّعٌ مِنَ النُّحَاسِ، طُولُ ضِلْعِهِ خَمْسَةُ أَمْتَارٍ، وَارْتِفَاعُهُ اثْنَا عَشَرَ مِتْرًا، وَفِيهِ دُمْيَةٌ بَدِيعَةُ الصُّنْعُ، فِي حَجْمِ الرَّجُلِ الْعَادِيِّ وَهِيَ مَصْنُوعَةٌ مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ (الْخَالِصِ)، وَعَيْنَاهَا يَاقُوتَتَانِ مِنْ أَنْفَسِ الْيَوَاقِيتِ، وَقَدْ رُكِّبَتَا بِطَرِيقَةٍ هَنْدَسِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، بِحَيْثُ تَبْدُوَانِ لِمَنْ يَرَاهُمَا فِي أَيِّ مَكَانٍ يَحِلُّ فِيهِ مِنَ الْمَعْبَدِ.
(١٧) كَعْبَةُ الْهُنُودِ
وَرَأَى الْأَمِيرُ الْبَاحِثُ الذَّكِيُّ — فِيمَا رَآهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَدِينَةِ الْعَاجِبَةِ — مَعْبَدًا آخَرَ رَائِعًا فِي إِحْدَى ضَوَاحِيهَا.
كَانَ الْمَعْبَدُ الْعَظِيمُ مُشَيَّدًا فِي وَسَطِ سَهْلٍ فَسِيحٍ، لَا يَقِلُّ طُولُهُ عَنْ عَشْرَةِ فَدَادِينَ.
وَكَانَ مِمَّا اسْتَرْعَى انْتِبَاهَهُ أَنَّهُ حَافِلٌ بِأَلْوَانِ الزَّهْرِ وَالْوَرْدِ وَالرَّيَاحِينِ الَّتِي يَنْدُرُ وُجُودُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَرَى مَا يُمَاثِلُهَا جَمَالًا وَرَوْعَةً وَعِطْرًا.
وَكَانَ السُّورُ — الَّذِي يُحِيطُ بِالْمَعْبَدِ الْفَسِيحِ — لَا يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا، كَأَنَّمَا قَصَدَ إِلَى ذَلِكَ مُهَنْدِسُوهُ قَصْدًا، حَتَّى لَا يَحْجُبَ السُّورُ جَمَالَ الْمَعْبَدِ وَالْحَدِيقَةِ.
وَلَمْ يَفُتِ الْأَمِيرَ «حُسَيْنًا» أَنْ يُبْهِجَ نَفْسَهُ، وَيَمْلَأَ نَاظِرَيْهِ بِرُؤْيَةِ قُبَّةِ الْمَعْبَدِ الْأَنِيقَةِ الصُّنْعِ، وَهِيَ تَرْتَفِعُ — ذَاهِبَةً فِي الْجَوِّ — إِلَى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِتْرًا.
وَلَمْ يُضِعِ الْأَمِيرُ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَأَسْرَعَ بِدُخُولِ الْقُبَّةِ؛ فَوَجَدَهَا مُوَشَّاةً مِنَ الدَّاخِلِ بِشَتَّى أَلْوَانِ النَّقْشِ وَبَدَائِعِ التَّصَاوِيرِ، وَغَرَائِبِ التَّهَاوِيلِ (الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ).
وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَعْبَدَ يَحُجُّ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْهُنُودِ فِي مَوْسِمٍ سَنَوِيٍّ، وَيُقَدِّمُونَ إِلَيْهِ النُّذُورَ وَالْقَرَابِينَ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ هَذِهِ الضَّاحِيَةِ مَصْدَرٌ لِلرِّزْقِ، إِلَّا مَا يَغْمُرُهُمْ بِهِ الْحُجَّاجُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ السَّنَوِيِّ مِنَ الْهَدَايَا، وَيَخْتَصُّونَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطَايَا.
(١٨) بَدَائِعُ النَّقْشِ
وَقَدِ شَهِدَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» الْمِهْرَجَانَ السَّنَوِيَّ الْكَبِيرَ، الَّذِي يُقِيمُهُ الْهُنُودُ فِي مَدِينَةِ «بِسْنَجَارَ»، وَرَأَى كَيْفَ تَؤُمُّهُ الطَّوَائِفُ، وَتَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، قَاصِيَةً وَدَانِيَةً.
فَإِذَا بَلَغَتْهُ جُمُوعُ الْحُجَّاجِ، جَلَسَتْ وُفُودُهَا عَلَى مَقَاعِدَ أَنِيقَةِ الصُّنْعِ، مُزَيَّنَةٍ بِبَدِيعِ التَّصَاوِيرِ، وَرَائِعِ التَّمَاثِيلِ، مَنْقُوشٍ عَلَيْهَا كُلُّ أَنْوَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ.
وَقَدْ تَأَنَّقَ فِي رَسْمِهَا وَنَقْشِهَا أَبْرَعُ الْمُصَوِّرِينَ، وَتَبَارَى فِي إِبْدَاعِهَا وَنَحْتِهَا أَشْهَرُ الْفَنَّانِينَ، وَأَمْهَرُ الْمَثَّالِينَ.
•••
وَحَالَفَهُمُ التَّوْفِيقُ فِيمَا رَسَمُوا وَنَقَشُوا وَأَبْدَعُوا، وَلَمْ يَفُتْهُمْ تَصْوِيرُ الْحَشَرَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَتَبَايُنِ أَجْنَاسِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى الذُّبَابَ وَالْبَعُوضَ.
وَكَأَنَّ الْقَائِمِينَ عَلَى أَمْرِ الْمَعْبَدِ، أَرَادُوا بَذِلَكِ أَنْ يُشْعِرُوا الْمُشْتَرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمِهْرَجَانِ الدِّينِيِّ الْعَظِيمِ، بِأَنَّ كُلَّ الْكَائِنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ تُشَارِكُهُمْ فِي احْتِفَالِهِمُ الْكَبِيرِ، وَتُقَاسِمُهُمُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ.
وَهَكَذَا بَدَا الْمِهْرَجَانُ الدِّينِيُّ الْكَبِيرُ، وَكَأَنَّهُ مَعْرِضٌ لِلرَّسْمِ وَالنَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ، فِيهِ تَتَجَلَّى آيَاتُ الْفَنِّ، وَتَتَوَضَّحُ بَرَاعَةُ الْفَنَّانِ فِي اسْتِخْدَامِ الْأَلْوَانِ.
(١٩) رَقْصُ الْفِيَلَةِ
وَكَانَ فِيمَا رَآهُ الْأَمِيرُ جَمْهَرَةٌ مِنَ الْفِيَلَةِ فِي أَحَدِ جَوَانِبِ الْمَيْدَانِ الْفَسِيحِ.
وَقَدِ اسْتَرْعَى انْتِبَاهَ الْأَمِيرِ أَنْ رَأَى عَلَى ظَهْرِ كُلٍّ مِنْهَا هَوْدَجًا أَنِيقًا، مُسْتَطِيلَ الشَّكْلِ، بَارِعَ الصُّنْعِ، يَتَّسِعُ لِجُلُوسِ شَخْصَيْنِ.
وَكَانَتِ الْفِيَلَةُ تَسِيرُ فِي نِظَامٍ عَجِيبٍ، عَلَى مَسَافَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ قَصِيرَةٍ.
•••
وَلَمَّا عَزَفَتِ الْمُوسِيقَى، تَقَدَّمَ الصُّفُوفَ كَبِيرُ الْفِيَلَةِ وَزَعِيمُهَا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ مُثَبَّتٍ فِي الْأَرْضِ عَلَى ارْتِفَاعِ قَدَمَيْنِ.
فَوَضَعَ الْفِيلُ عَلَيْهِ أَقْدَامَهُ الْأَرْبَعَةَ، وَظَلَّ يُدِيرُ خُرْطُومَهُ وَيُحَرِّكُهُ، وَيُهَزْهِزُهُ وَيُرَقِّصُهُ — فِي رَشَاقَةٍ بَارِعَةٍ — عَلَى تَوْقِيعِ الْمُوسِيقَى.
وَوَقَفَ الْأَمِيرُ يَنْظُرُ إِلَى الْفِيل،ِ مُعْجَبًا بِمَا يُؤَدِّيهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ.. وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى رَأَى فِيلًا آخَرَ يَقِفُ عَلَى لَوْحٍ كَبِيرٍ مَوْضُوعٍ فَوْقَ خَشَبَةٍ، كَأَنَّهُ سِنُّ مِنْشَارٍ، وَقَدْ رَقَصَ الْفِيلُ وَتَهَزْهَزَ عَلَى ذَلِكَ اللَّوْحِ الَّذِي يَتَرَجَّحُ فَوْقَ حَدِّ الْخَشَبَةِ..
وَظَلَّ الْفِيلُ الرَّاقِصُ فِي ارْتِفَاعٍ وَانْخِفَاضٍ حَتَّى حَيَّرَ لُبَّ الْأَمِيرِ، وَمَلَكَ عَلَيْهِ عَقْلَهُ.
فَاشْتَدَّ إِعْجَابُهُ بِالْمُرَوِّضِينَ الْمَهَرَةِ الَّذِينَ اسْتَطَاعُوا أَنْ يُدَرِّبُوا الْفِيَلَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَرَكَاتِ.
(٢٠) عَوْدَةُ الْأَمِيرِ
وَهَكَذَا مَرَّتِ الْأَيَّامُ مُتَعَاقِبَةً دُونَ أَنْ يَشْعُرَ الْأَمِيرُ بِانْقِضَائِهَا، لِوَفْرَةِ مَا رَآهُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالطُّرَفِ الَّتِي تَبْهَرُ الْعَيْنَ، وَتَشْرَحُ الصَّدْرَ.
حَتَّى إِذَا انْصَرَمَ الْعَامُ أَوْ كَادَ، رَأَى الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ حَانَ لِلرَّحِيلِ؛ فَرَكِبَ هُوَ وَتَابِعُهُ مَتْنَ الْبِسَاطِ الْعَجِيبِ، وَأَضْمَرَ الْأَمِيرُ فِي نَفْسِهِ رَغْبَتَهُ فِي أَنْ يَذْهَبَ بِهِ الْبِسَاطُ إِلَى الْفُنْدُقِ الَّذِي تَعَاهَدَ مَعَ أَخَوَيْهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِيهِ بَعْدَ عَامٍ.
•••
وَسُرْعَانَ مَا طَارَ الْبِسَاطُ بِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، طَاوِيًا أَبْعَدَ الْمَسَافَاَتِ، فِي لَحَظَاتٍ خَاطِفَاتٍ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مُفْتَرَقَ الطُّرُقِ — حَيْثُ وَدَّعَ أَخَوَيْهِ، مُنْذُ عَامٍ — حَلَّ فِي الْفُنْدُقِ قَبْلَهُمَا، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُمَا فِيهِ، وَيُفَاجِئَهُمَا بِمَا أَظْفَرَهُ بِهِ التَّوْفِيقُ مِنْ طُرْفَةٍ عَدِيمَةِ الْمِثَالِ، بَعْدَ أَنْ كَابَدَ — فِي رِحْلَتِهِ الطَّوِيلَةِ الْمُضْنِيَةِ — ضُرُوبًا مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْأَهْوَالِ، يَنُوءُ بِهَا الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» مَوْفُورَ الثِّقَةِ بِأَنَّ أَخَوَيْهِ لَنْ يَظْفَرَا بِطُرْفَةٍ فِي غَرَابَةِ طُرْفَتِهِ، وَلَنْ يَحْصُلَا عَلَى عَجِيبَةٍ فِي نَفَاسَةِ عَجِيبَتِهِ.