الْفَصْلُ الرَّابِعُ
(١) فِي «سَمَرْقَنْدَ»
حَدَّثْتُكَ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ — فِي الْفَصْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ حَدِيثَ الْأَمِيرَيْنِ: «عَلِيٍّ» وَ«حُسَيْنٍ» مُنْذُ رَحَلَا، إِلَى أَنْ عَادَا.
وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّكَ شَدِيدُ الشَّوْقِ إِلَى تَعَرُّفِ مَا حَدَثَ لِأَخِيهِمَا الْأَصْغَرِ: الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»، بَعْدَ أَنْ خَرَجَ ثَلَاثَتُهُمْ مِنَ الْفُنْدُقِ، وَوَدَّعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ، وَمَضَى كُلٌّ مِنْهُمْ يَخْتَارُ السَّبِيلَ الَّذِي يُحَقِّقُ لَهُ مَأْرَبَهُ، وَيُنِيلُهُ مُبْتَغَاهُ.
وَإِنِّي مُلَبٍّ رَغْبَتَكَ، وَمُحَدِّثُكَ بِمَا لَقِيَهُ شَقِيقُهُمُ الْأَصْغَرُ: الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» فِي رِحْلَتِهِ الْعَجِيبَةِ، مِنْ مُفَاجَآتٍ مُدْهِشَةٍ غَرِيبَةٍ.
•••
لَقَدْ سَارَ الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ «أَحْمَدُ» فِي طَرِيقِهِ إِلَى «سَمَرْقَنْدَ»، مُخْتَرِقًا وَسَطَ آسِيَا، فِي قَافِلَةٍ كَبِيرَةٍ.. وَمَا زَالَ يُجِدُّ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ، بَعْدَ رِحْلَةٍ طَوِيلَةٍ مُضْنِيَةٍ.
ثُمَّ ذَهَبَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» إِلَى سُوقِ التُّجَّارِ — كَمَا فَعَلَ أَخَوَاهُ مِنْ قَبْلُ — لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِطُرْفَةٍ ثَمِينَةٍ، يُقَدِّمُهَا مَهْرًا لِبِنْتِ عَمِّهِ الْأَمِيرَةِ: «نُورِ النَّهَارِ».
وَرَأَى الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» فِي جَوَانِبِ السُّوقِ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَصْنَافًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتَاتِ وَالْأَعْشَابِ، لَمْ تَشْهَدْهَا عَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَلَمَّا أَكَلَ مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ، أَدْرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ لَهَا مَذَاقًا فِيمَا سَلَفَ.
فَجَعَلَ يَسْأَلُ وَيَسْتَخْبِرُ: مَا سِرُّ انْفِرَادِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِتِلْكَ الْأَزْهَارِ النَّاضِرَةِ، وَالثِّمَارِ الْيَانِعَةِ، وَالْأَعْشَابِ الْعَجِيبَةِ؟!
فَعَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَدْ بَرَعُوا كُلَّ الْبَرَاعَةِ، فِي شُئُونِ الزِّرَاعَةِ، وَأَنَّهُمُ اسْتَخْرَجُوا مِنَ الْأَرْضِ مَا هُوَ طَعَامٌ وَغِذَاءٌ، وَمَا هُوَ دَوَاءٌ وَشِفَاءٌ، مِمَّا لَا مَثِيلَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْمَعْمُورِ.
فَإِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ النَّاهِضَةِ، بِفَضْلِ التَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ، أَتْقَنُوا فُنُونَ فِلَاحَةِ الْأَرْضِ وَغَرْسِ الْبُذُورِ، وَأَدْرَكُوا أَسْرَارَ النَّبَاتَاتِ وَالْأَعْشَابِ، وَعَرَفُوا كَيْفَ يُعَالِجُونَ بِهَا مَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ.
فَقَالَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» فِي نَفْسِهِ: «لَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَكْتَفِيَ بِالنَّظَرِ، وَأَنْ أَقْنَعَ بِالْمَعْرِفَةِ.
لَا بُدَّ لِي مِنَ الْحُصُولِ عَلَى نَمَاذِجَ مِنْ بُذُورِ هَذِهِ الزُّرُوعِ، وَلَا بُدَّ لِي أَنْ أَتَبَيَّنَ كَيْفَ تُزْرَعُ؟ وَكَيْفَ تَجُودُ ثِمَارُهَا؟ وَكَيْفَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي؟ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْغَايَاتِ، وَأَكْرَمِ الْأَغْرَاضِ، وَالتَّغَلُّبُ عَلَى الْأَمْرَاضِ مِنْ أَنْفَسِ مَا يَغْنَمُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ.
وَإِنَّ مِنْ وَاجِبِي فِي رِحْلَتِي هَذِهِ، أَنْ أَنْقُلَ إِلَى أَهْلِ وَطَنِي مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ هُنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ وَتَجَارِبِ الزُّرَّاعِ، وَخِبْرَاتِ الْعُلَمَاءِ».
(٢) التُّفَاحَةُ الشَّافِيَةُ
وَلَمْ يَكَدِ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُقَامُ، حَتَّى رَأَى دَلَّالًا يُمْسِكُ بِتُفَّاحَةٍ فِي يَدِهِ.
وَاسْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ يُنَادِي عَلَيْهَا بِصَوْتٍ جَهِيرٍ: «خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ.
فَمَنْ يَزِيدُ؟»
فَدَهِشَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» مِنْ نِدَاءِ هَذَا الدَّلَّالِ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَخْبُولٌ أَوْ مَعْتُوهٌ، أَوْ شَارِدُ اللُّبِّ مَشْدُوهٌ!
كَادَ الْأَمِيرُ يَشُكُّ فِيمَا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا أَلْفَى الدَّلَّالَ يُعَاوِدُ النِّدَاءَ.
فَأَسْرَعَ الْأَمِيرُ بِاسْتِدْعَائِهِ، وَسَأَلَهُ عَمَّا يَعْنِيهِ بِنِدَائِهِ.
ابْتَدَرَهُ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» قَائِلًا: «أَيُّ تُفَّاحَةٍ هَذِهِ الَّتِي غَلَوْتَ فِي تَثْمِينِهَا وَأَسْرَفْتَ؟»
فَأَجَابَهُ الدَّلَّالُ عَلَى الْفَوْرِ: «لَوْ عَرَفْتَ — يَا سَيِّدِي — مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ هَذِهِ التُّفَّاحَةُ الْعَجِيبَةُ، مِنْ خَصَائِصَ غَرِيبَةٍ، لَعَظَّمْتَ مَا اسْتَصْغَرْتَ مِنْ شَأْنِهَا، وَأَكْبَرْتَ مَا حَقَّرْتَ مِنْ قَدْرِهَا، وَارْتَخَصْتَ مَا طَلَبْتَ مِنْ ثَمَنِهَا.
فَلَيْسَ كَثِيرًا — لَوْ عَلِمْتَ الْخَبَرَ الْيَقِينَ — أَنْ يَدْفَعَ الشَّارِي أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ أَوْ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ، فِي مِثْلِ هَذَا الْكَنْزِ النَّادِرِ الثَّمِينِ».
اشْتَدَّتِ الدَّهْشَةُ بِالْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»، وَتَعَاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ مِمَّا سَمِعَ مِنَ الدَّلَّالِ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنْ خَبَالٍ، وَأَنَّهُ — فِيمَا يَدَّعِيهِ — عَلَى ضَلَالٍ.
فَاسْتَأْنَفَ الدَّلَّالُ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «اعْلَمْ يَا سَيِّدِي — عَلِمْتَ الْخَيْرَ، وَسَلِمْتَ مِنْ كُلِّ أَذًى وَضَيْرٍ — أَنَّ هَذِهِ التُّفَّاحَةَ ذَاتُ سِرٍّ عَجِيبٍ، وَلَهَا فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الْمُسْتَعْصِيَةِ قُدْرَةٌ لَا تُخْطِئُ وَلَا تَخِيبُ، وَأَثَرٌ نَافِذٌ غَرِيبٌ».
قَالَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ»: «مَا هَذَا الَّذِي تَقُولُ؟ إِنَّ كَلَامَكَ يُحَيِّرُ الْأَفْهَامَ وَالْعُقُولَ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ!»
فَأَظْهَرَ الدَّلَّالُ إِنْكَارَهُ لِمَا يَتَّهِمُهُ بِهِ الْأَمِيرُ، وَقَالَ لَهُ: «الْحَقُّ الصُّرَاحُ مَا تَسْمَعُ؛ فَمَا أَنَا مِنَ ذَلِكَ الطِّرَازِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْلُونَ — فِيمَا يَقُولُونَ — وَيُسْرِفُونَ، وَيَهْرِفُونَ بِمَا لَا يَعْرِفُونَ.
حَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا التُّفَّاحَةُ الشَّافِيَةُ.
فَإِذَا سَأَلْتَنِي: لِمَاذَا أَطْلَقُوا عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَجَوَابِي إِلَيْكَ حَاضِرٌ، يُؤَيِّدُهُ الدَّلِيلُ وَيُثْبِتُهُ الْبُرْهَانُ، وَيُعَزِّزُهُ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ.
لَقَدْ اكْتَسَبَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ؛ لِأَنَّهَا تَشْفِي مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُسْتَعْصِيَةِ، وَتُبْرِئُ — مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ — مَا عَجَزَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ إِبْرَائِهِ، وَأَعْلَنُوا يَأْسَهُمْ مِنْ شِفَائِهِ!»
(٣) اخْتِبَارُ التُّفَّاحَةِ
فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ»: «لَئِنْ صَحَّ مَا تَقُولُ، لَتَكُونَنَّ هَذِهِ التُّفَّاحَةُ أُعْجُوبَةَ الْأَعَاجِيبِ، وَنَفِيسَةَ النَّفَائِسِ، وَطُرْفَةَ الطُّرَفِ».
فَقَالَ لَهُ الدَّلَّالُ: «إِنَّ مَا أُحَدِّثُكَ بِهِ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ صَانِعُهَا حَكِيمَ زَمَانِهِ، وَوَحِيدَ عَصْرِهِ وَأَوَانِهِ. وَقَدْ وَقَفَ جُهْدَهُ وَتَجْرِبَتَهُ عَلَى دَرْسِ الْأَعْشَابِ وَالنَّبَاتِ، عِدَّةَ سَنَوَاتٍ؛ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى تَأْلِيفِهَا مِنَ مُخْتَلِفِ تِلْكَ الْأَعْشَابِ النَّادِرَةِ، عَلَى نِظَامٍ بَارِعٍ فَرِيدٍ، بِحَيْثُ يُشْفَى بِهَا الْمُحْتَضَرُ مَتَى أَدْنَيْتَهَا مِنْ أَنْفِهِ، وَيَزُولُ عَنْهُ الْمَرَضُ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَعُودُ إِلَيْهِ الصِّحَّةُ كَامِلَةً وَافِيَةً.
كُنْ عَلَى ثِقَةٍ — يَا سَيِّدِي — بِمَا تَسْمَعُ.
إِنَّ هَذِهِ التُّفَّاحَةَ الْعَجِيبَةَ قَادِرَةٌ عَلَى أَنْ تُبْرِئَ الْمَرِيضَ الْمَيْئُوسَ مِنْ شِفَائِهِ لِلْحَالِ، وَتُعِيدَ إِلَيْهِ قُوَّتَهُ، وَعَافِيَتَهُ وَصِحَّتَهُ، وَنَشَاطَهُ وَفُتُوَّتَهُ؛ فَيُصْبِحَ بَعْدَهَا سَلِيمًا مُعَافًى، كَأَنْ لَمْ يُلِمَّ بِهِ سُوءٌ، أَوْ يَلْحَقَ بِهِ مَرَضٌ.
وَقَدْ جُرَّبْتُ هَذِهِ التُّفَّاحَةَ الشَّافِيَةَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَالَاتِ، حَتَّى ذَاعَتْ شُهْرَتُهَا فِي جَمِيعِ أَرْجَاءِ «سَمَرْقَنْدَ»، ثُمَّ تَجَاوَزَتْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ.
وَأَعْجَبُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِهَا الْعَبْقَرِيِّ أَنْ فَاجَأَهُ الْمَرَضُ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَلَمْ يُمْهِلْهُ الْأَجَلُ حَتَّى يُحْضِرُوا لَهُ تُفَّاحَتَهُ الشَّافِيَةَ.
(٤) أُسْرَةُ الْعَبْقَرِيِّ
وَكَانَ مِنْ سُوءِ حَظِّ أُسْرَةِ هَذَا النِّطَاسِيِّ الْبَارِعِ أَنْ مَرِضَ، وَالتُّفَّاحَةُ الشَّافِيَةُ بَعِيدَةٌ عَنْهُ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا فِي نَفْسِهِ، كَمَا نَفَعَ بِهَا غَيْرَهُ.
وَمِمَّا زَادَ حَظَّ هَذِهِ الْأُسْرَةِ سُوءًا، أَنَّ عَائِلَهَا الطَّبِيبَ الْكَبِيرَ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا مِنَ الْمَالِ أَوِ الْعَقَارِ مَا يُعِينُهَا عَلَى تَكَالِيفِ الْعَيْشِ؛ فَاشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ بِأَطْفَالِ الطَّبِيبِ الصِّغَارِ — بَعْدَ مَوْتِ عَائِلِهِمُ الْعَظِيمِ — وَافْتَقَرُوا إِلَى الْمَالِ، فَاضْطُرُّوا إِلَى بَيْعِ التُّفَّاحَةِ الشَّافِيَّةِ اضْطِرَارًا.
فَلَجَئُوا إِلَيَّ، وَأَوْصَوْنِي أَلَّا أَبِيعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ!»
(٥) الْمَرِيضُ الْمُحْتَضَرُ
كَانَ الدَّلَّالُ يُحَدِّثُ الْأَمِيرَ، فِي شَأْنِ التُّفَّاحَةِ الشَّافِيَةِ، فِي لَهْجَةِ الْوَاثِقِ الْمُتَثَبِّتِ مِمَّا يَقُولُ.
وَشَاءَتِ الْمُصَادَفَاتُ الطَّارِئَةُ أَنْ تُؤَيِّدَ قَوْلَ الدَّلَّالِ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ وَأَقْوَى دَلِيلٍ.
فَلَمْ يَكَدْ يَنْتَهِي مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَسْتَنْجِدُهُ، مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ أَنْ يَشْفِيَ أَخَاهُ الْمُشْرِفَ عَلَى التَّلَفِ، قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ التُّفَّاحَةَ الشَّافِيَةَ لِمَنْ يَمْلِكُ ثَمَنَهَا الْغَالِيَ.
وَكَانَ مِنْ عَجِيبِ الْمُصَادَفَاتِ أَنَّ أَخَاهُ الْمُحْتَضَرَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ شِفَائِهِ أَطِبَّاءُ الْبَلَدِ جَمِيعًا، وَأَعْلَنُوا أَنَّهُ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي عِلَاجِهِ.
وَرَأَى الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» فِي إِجَابَةِ هَذَا الرَّجُلِ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَإِغَاثَتِهِ مِنْ لَهْفَتِهِ، فُرْصَةً نَادِرَةً أَتَاحَهَا الْقَدَرُ لِاخْتِبَارِ التُّفَّاحَةِ الشَّافِيَةِ، وَالتَّحَقُّقِ مِمَّا حَدَّثَهُ الدَّلَّالُ عَمَّا تَفَرَّدَتْ بِهِ مِنْ قُدْرَةٍ عَلَى تَحْقِيقِ الشِّفَاءِ، لِمَا اسْتَعْصَى مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ.
فَقَالَ الدَّلَّالُ لِلرَّجُلِ: «لَا مَانِعَ عِنْدِي مِنْ تَحْقِيقِ مَا تُرِيدُ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَا وُجِدَتْ هَذِهِ التُّفَّاحَةُ إِلَا لِتَشْفِيَ مِنَ الْمَرَضِ الْمُسْتَعْصِي، وَالدَّاءِ الْعَيَاءِ، وَلَعَلَّ الْأَقْدَارَ سَاقَتْكَ لِيَكُونَ أَخُوكَ شَاهِدًا لِهَذِهِ التُّفَّاحَةِ بِمَا لَهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَنَفْعٍ».
(٦) نَجَاحُ الْخُطَّةِ
وَمَا كَادَ ثَلَاثَتُهُمْ يَبْلُغُونَ دَارَ الْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ، حَتَّى وَجَدُوهُ — كَمَا قَالَ صَاحِبُهُ — يَجُودُ بِأَنْفَاسِهِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَوْتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَاةِ.
فَأَسْرَعَ الدَّلَّالُ إِلَى الْمَرِيضِ، وَأَدْنَى التُّفَّاحَةَ مِنْ أَنْفِهِ.
•••
وَمَا كَادَ الْمَرِيضُ يَشَمُّهَا حَتَّى دَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي جِسْمِهِ مِنْ جَدِيدٍ.
•••
وَلَمْ تَمُرَّ عَلَيْهِ لَحَظَاتٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى انْتَعَشَ، وَعَاوَدَهُ النَّشَاطُ وَالْقُوَّةُ، وَالْبَأْسُ وَالْفُتُوَّةُ.
(٧) عَوْدَةُ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»
لَا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ» حِينَ شَهِدَ نَجَاحَ التَّجْرِبَةِ، وَرَأَى مِصْدَاقَ مَا حَدَّثَهُ دَلَّالُهَا رُؤْيَةَ الْعِيَانِ، وَثَبَتَ لَهُ نَجَاحُ التَّجْرِبَةِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، حَتَّى يَزْدَادَ مِنْ ثِقَةٍ وَإِيمَانٍ!
اطْمَأَنَّ قَلْبُ الْأَمِيرِ بِمَا رَأَى وَارْتَاحَ بَالُهُ، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ مُرَادُهُ وَتَحَقَّقَتْ آمَالُهُ، وَلَمْ يَعُدْ يَشُكُّ فِي صِدْقِ الدَّلَّالِ وَأَمَانَتِهِ، وَعَدَالَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ، وَأَسْرَعَ إِلَيْهِ فَنَقَدَهُ أَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ، ثَمَنًا لِلتُّفَّاحَةِ الشَّافِيَةِ، وَاخْتَصَّهُ — فَوْقَ هَذَا — بِكِيسٍ آخَرَ تَقْدِيرًا لِصَنِيعِهِ وَعِرْفَانًا، وَمُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّتِهِ وَحُلْوَانًا.
ثُمَّ خَطَرَ لِلْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» أَنْ يَقْضِيَ مَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ فِي دَرْسِ آثَارِ الْمَدِينَةِ، وَتَعَرُّفِ عَجَائِبِهَا، وَالتَّجْوَالِ فِي وَادِيهَا الْمُمْرِعِ الْخَصِيبِ، الَّذِي ذَاعَ فِي الْعَالَمِ صِيتُهُ وَاسْتَفَاضَتْ شُهْرَتُهُ، حَتَّى قَالَ النَّاسُ عَنْهُ: إِنَّهُ إِحْدَى جَنَّاتِ الدُّنْيَا، لِمَا يَحْوِيهِ مِنْ يَنَابِيعَ عَذْبَةٍ، وَحُقُولٍ خِصْبَةٍ، وَمُرُوجٍ خَضِرَاتٍ، وَبَسَاتِينَ فَاتِنَاتٍ.
وَقَدْ حَمِدَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» لِأَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ أَهْلُ نُزْهَةٍ وَلَهْوٍ طَيِّبٍ، كَمَا هُمْ أَهْلُ جِدٍّ وَعَمَلٍ مُثْمِرٍ؛ إِذْ رَآهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُمْ أَوْقَاتِ رَاحَةٍ وَفَرَاغٍ، يَقْضُونَهَا فِي الرِّحْلَةِ إِلَى الْأَمْكِنَةِ الْخَلَوِيَّةِ، فَيُمَتِعُونَ أَعْيُنَهُمْ بِمَا يَشْهَدُونَ مِنْ مَحَاسِنِ الطَّبِيعَةِ، وَيُرَفِّهُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ حِينَ يَتَنَزَّهُونَ خِلَالَ الزُّرُوعِ النَّامِيَةِ، وَالْأَشْجَارِ الْحَالِيَةِ، وَالظِّلَالِ الضَّافِيَةِ، تَحْتَ سَمَاءٍ صَاحِيَةٍ.
وَلَمَّا جَاءَ مَوْعِدُ السَّفَرِ، وَتَهَيَّأَتِ الْقَافِلَةُ لِلسَّيْرِ، ذَهَبَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» فِي رَفَاقَتِهَا، وَأَنِسَ إِلَى صُحْبَتِهَا.
وَظَلَّ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» يُوَاصِلُ الرِّحْلَةَ، حَتَّى بَلَغَ مُفْتَرَقَ الطُّرُقِ؛ فَوَدَّعَ الْقَافِلَةَ، شَاكِرًا مَا لَقِيَهُ مِنْ كَرِيمِ الصُّحْبَةِ، وَقَصَدَ إِلَى الْفُنْدُقِ الَّذِي حَلَّ فِيهِ مَعَ أَخَوَيْهِ مِنْ قَبْلُ.
وَكَانَ أَكْبَرُ مَا يَرْجُوهُ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» أَنْ يَلْقَى شَقِيقَيْهِ، بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمَا عَامًا كَامِلًا؛ فَقَدْ كَانَ لَا يَعْدِلُ شَوْقَهُ إِلَيْهِمَا، وَارْتِقَابَهُ لِلِقَائِهِمَا، إِلَّا شَوْقُهُمَا إِلَيْهِ، وَارْتِقَابُهُمَا لِلِقَائِهِ.