الْفَصْلُ الْخَامِسُ
(١) اجْتِمَاعُ الشَّمْلِ
وَلَوْ أَنَّكَ وَازَنْتَ بَيْنَ دَوَاعِي السُّرُورِ، لَوَجَدْتَ أَهْنَأَهَا وَأَمْتَعَهَا مَا يَكُونُ مِنْ إِيَابٍ بَعْدَ غِيَابٍ، وَمِنْ تَلَاقٍ بَعْدَ افْتِرَاقٍ.
وَلَمْ يَكَدِ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» يَبْلُغُ الْفُنْدُقَ الَّذِي اتَّفَقَ مَعَ أَخَوَيْهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِيهِ — بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَامِ — حَتَّى رَأَى أَخَوَيْهِ يُقْبِلَانِ عَلَيْهِ مَسْرُورَيْنِ، وَيُرَحِّبَانِ بِمَقْدَمِهِ مُبْتَهِجَيْنِ.
وَمَا لَبِثَ الْأَخَوَانِ أَنْ عَانَقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْأَخَ الْقَادِمَ مِنَ السَّفَرِ أَحَرَّ عِنَاقٍ، وَقَدْ فَاضَتْ قُلُوبُهُمْ أُنْسًا وَهَنَاءَةً، وَغَمَرَتْهُمُ السَّعَادَةُ بِاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ الشَّتِيتِ، بَعْدَ مَا كَابَدُوهُ مِنْ عَنَاءِ النُّقْلَةِ وَمَشَاقِّ الرَّحِيلِ قُرَابَةَ عَامٍ.
(٢) حِوَارُ الْأَشِقَّاءِ
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِمُ الْجُلُوسُ، الْتَفَتَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»، وَهُوَ — كَمَا يَعْلَمُ الْقَارِئُ الْعَزِيزُ — أَكْبَرُ أَبْنَاءِ السُّلْطَانِ، وَقَالَ: «شُكْرًا لِلهِ الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ جَلَّتْ نِعْمَتُهُ، وَعَظُمَتْ مِنَّتُهُ مَا أَتَاحَ لَنَا مِنْ أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ وَتَوْفِيقٍ، وَنَجَاةٍ مِنْ أَخْطَارِ الطَّرِيقِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْنَا، وَضَاعَفَ مِنَّتَهُ عَلَيْنَا، فَأَظْفَرَنَا بِاللِّقَاءِ، وَيَسَّرَ لَنَا أَسْبَابَ الْهَنَاءِ.
وَإَنِّي لَأَتَمَنَّى، أَيُّهَا الشَّقِيقَانِ الْكَرِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْكُمَا قَدْ لَقِيَ فِي رِحْلَتِهِ الطَّوِيلَةِ — مِنَ النَّجَاحِ — مِثْلَ مَا لَقِيتُ.
فَإِنَّ مَا أَتَبَيَّنُهُ فِي مَظْهَرَيْكُمَا، وَقَسَمَاتِ وَجْهَيْكُمَا، وَمَا أَرَاهُ عَلَى أَسَارِيرِكُمَا مِنْ دَلَائِلِ الِابْتِهَاجِ وَالْبِشْرِ؛ دَلِيلٌ عَلَى مَا أَحْرَزْتُمَاهُ مِنْ فَوْزٍ وَنَصْرٍ.
وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْكُمَا ازْدَادَ خِبْرَةً بِالدُّنْيَا؛ وَمَعْرِفَةً لِلْحَيَاةِ، بَعْدَ أَنْ شَهِدَ مِنَ الْبِقَاعِ النَّائِيَةِ، وَالْأَمْكِنَةِ الْقَاصِيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ شَهِدَتْهُ عَيْنَاهُ، وَبَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَ لَهُ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ، وَمِنْ طَرَائِفَ وَلَطَائِفَ، وَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَاحِثُونَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَيْدَانِ الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ مِنْ أَسْرَارٍ وَحَقَائِقَ، مِمَّا يَجْدُرُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَيْنَمَا كَانَ، وَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَطَنٌ دُونَ سَائِرِ الْأَوْطَانِ.
وَلَعَلَّكُمَا مُحَدِّثَايَ بِمَا أَحْرَزْتُمَا — فِي رِحْلَتَيْكُمَا الشَّاقَّتَيْنِ — مِنْ نَفَائِسِ الطُّرَفِ، وَمَا جَمَعْتُمَا مِنْ غَوَالِي التُّحَفِ».
(٣) حَدِيثُ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»
سَكَتَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» قَلِيلًا، ثُمَّ وَصَلَ مَا انْقَطَعَ مِنْ حَدِيثِهِ قَائِلًا: «أَمَّا أَنَا، فَمَا أَكْثَرَ مَا لَقِيتُ فِي رِحْلَتِيَ الطَّوِيلَةِ مِنْ مُدْهِشَاتٍ وَعَجَائِبَ، وَمُفَارَقَاتٍ وَغَرَائِبَ!
وَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى تَدْوِينِ مَا رَأَيْتُ، وَتَسْجِيلِ مَا سَمِعْتُ، لِلْإِفَادَةِ بِمَا شَهِدْتُ فِي رِحْلَتِي، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ تَجْرِبَتِي.
عَلَى أَنَّنِي بَادِئٌ بِالْإِفْضَاءِ إِلَيْكُمَا، أَيُّهَا الشَّقِيقَانِ، وَيُسْعِدُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمَا عَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِحْلَتِي مِنْ فَوْزٍ وَنَجَاحٍ، وَتَوْفِيقٍ وَفَلَاحٍ، وَمَا تَحَقَّقَ لِي فِيهَا مِنْ رَغَبَاتٍ وَآمَالٍ، لَمْ تَكُنْ لِتَخْطُرَ لِي عَلَى بَالٍ».
كَانَ الْأَخَوَانِ يُنْصِتَانِ إِلَى حَدِيثِهِ، وَقَدِ اشْتَدَّ تَطَلُّعُهُمَا إِلَى تَعَرُّفِ مَا ظَفِرَ بِهِ شَقِيقُهُمَا الْأَكْبَرُ، فَابْتَدَرَاهُ قَائِلَيْنِ: «مَا أَشْوَقَنَا إِلَى تَعَرُّفِ مَا أَظْفَرَتْكَ بِهِ رِحْلَتُكَ!»
فَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «لَقَدْ حَالَفَنِي التَّوْفِيقُ فِي الْعُثُورِ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَجْلِسُ وَتَجْلِسَانِ عَلَيْهِ.
إِنَّهُ — كَمَا تَرَيَانِ — بِسَاطٌ عَادِيٌّ فِي مَظْهَرِهِ، لَا يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْبُسُطِ الَّتِي تَزْدَحِمُ بِهَا الْأَسْوَاقُ.
وَمَهْمَا حَاوَلَ الْفَاحِصُ الْمُدَقِّقُ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ نَظْرَتِهِ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَلَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى جَلَالِ خَطَرِهِ وَنَفَاسَتِهِ!
تَأَمَّلَا فِيهِ — يَا أَخَوَيَّ — وَانْظُرَا، وَأَمْعِنَا الْفِكْرَ وَتَدَبَّرَا فَلَنْ تَرَيَا بَعْدَ الْفَحْصِ وَالتَّحْقِيقِ، وَالتَّفْكِيرِ الْعَمِيقِ، إِلَّا بِسَاطًا عَادِيًّا، لَا مُتَفَرِّدًا فِي نَسْجِهِ وَلَا عَبْقَرِيًّا.
ذَلِكَ مَا يَبْدُو مِنْ مَظْهَرِهِ..
فَكَيْفَ تَحْكُمَانِ لَوْ عَرَفْتُمَا حَقِيقَةَ مَخْبَرِهِ؟
إِنَّ هَذَا الْبِسَاطَ، يَا أَخَوَيَّ الْعَزِيزَيْنِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْعَجَبِ، وَطُرْفَةٌ أَثْمَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَحْوِيهِ الْعَالَمُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ.
وَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ — لِحُسْنِ حَظِّي — بِأَرْبَعِينَ كِيسًا مِنَ الذَّهَبِ، لَمْ أَزِدْ عَلَيْهَا إِلَّا كِيسًا وَاحِدًا، مَنَحْتُهُ لِلدَّلَّالِ الَّذِي عَرَضَهُ عَلَيَّ حُلْوَانًا، تَقْدِيرًا لِصَنِيعِهِ وَعِرْفَانًا.
أَرَاكُمَا تَتَعَجَّبَانِ مِمَّا أَقُولُ، أَيُّهَا الْأَخَوَانِ الْعَزِيزَانِ، وَلَا تَكَادَانِ تُصَدِّقَانِ مَا تَسْمَعَانِ.
لَا رَيْبَ أَنَّ دَهْشَتَكُمَا سَتَزْدَادُ إِذَا قُلْتُ لَكُمَا إِنَّ مَا دَفَعْتُهُ مِنَ الْمَالِ — عَلَى كَثْرَتِهِ وَوَفْرَتِهِ — تَفِهٌ بَخْسٌ، وَأَنَّ الْبِسَاطَ جَدِيرٌ أَنْ يُقَوَّمَ بِأَضْعَافِ مَا دَفَعْتُهُ فِيهِ مِنَ الثَّمَنِ الْوَكْسِ.
فَإِذَا حَسِبْتُمَا أَنَّنِي أُسْرِفُ فِي تَقْوِيمِهِ، وَأَغْلُو فِي تَقْدِيرِهِ فِإِنِّي مُثْبِتٌ لَكُمَا — عَلَى الْفَوْرِ — أَنَّنِي أَبْخَسُ الْبِسَاطَ وَأَحْقِرُهُ، إِذَا لَمْ أَقُلْ إِنَّ ذَهَبَ الْعَالَمِ وَكُنُوزَ الدُّنْيَا كُلِّهَا لَا تَفِي بِتَقْوِيمِهِ، وَلَا تَكْفِي لِتَقْدِيرِهِ لِأَنَّهُ أَثْمَنُ مِنْ أَنْ يُقَوَّمَ بِمَالٍ، وَإِنْ يَكُنْ عَدَدَ الْحَصَى وَالرِّمَالِ!..
وَحَسْبُكُمَا أَنْ تَعْلَمَا أَنَّ هَذَا الْبِسَاطَ الْعَجِيبَ هُوَ بِسَاطُ الرِّيحِ الَّذِي طَالَمَا حَدَّثَتْنَا عَنْهُ غَرَائِبُ الْقِصَصِ، وَعَجَائِبُ الْأَسَاطِيرِ.
فَهُوَ يَحْمِلُ رَاكِبَهُ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ إِلَى أَقْصَاهَا، وَيُبَلِّغُهُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُهُ فِي لَحَظَاتٍ مَعْدُودَاتٍ.
هَذَا الْبِسَاطُ الْعَجِيبُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُصَعِّدَ فِي الْجِبَالِ، أَوْ يُصَوِّبَ فِي السُّهُولِ، وَأَنْ يَسْبَحَ إِنْ شَاءَ فَوْقَ الْمَاءِ، وَيَمْضِيَ كَالْهَوَاءِ فِي الْفَضَاءِ، تَارَةً هُوَ عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ أَشَمَّ، وَتَارَةً هُوَ عَلَى مَتْنِ بَحْرٍ خِضَمٍّ، وَطَوْرًا يُطِلُّ عَلَى مَدَائِنَ عَامِرَةٍ، أَوْ يَمُرُّ بَيْنَ أَشْجَارٍ مُزْهِرَةٍ فَفِي رُكُوبِهِ نُزْهَةٌ لِلنَّفْسِ، وَاقْتِصَادٌ لِلْوَقْتِ وَإِسْعَافٌ بِالْحَاجَةِ.
(٤) حَدِيثُ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ»
فَرِحَ الْأَمِيرَانِ؛ «عَلِيٌّ» وَ«أَحْمَدُ» بِمَا سَمِعَا مِنْ حَدِيثِ أَخِيهِمَا الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ».
وَأَقْبَلَا عَلَيْهِ يُهَنِّئَانِهِ بِمَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ طُرْفَةٍ ثَمِينَةٍ نَادِرَةٍ، وَتُحْفَةٍ نَفِيسَةٍ بَاهِرَةٍ.
•••
ثُمَّ الْتَفَتَ الْأَخُ الْأَوْسَطُ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» إِلَى أَخَوَيْهِ «حُسَيْنٍ» وَ«أَحْمَدَ» قَائِلًا لَهُمَا: «لَسْتُ أَشُكُّ — أَيُّهَا الْأَخَوَانِ الْعَزِيزَانِ — فِي طَرَافَةِ هَذَا الْبِسَاطِ الثَّمِينِ وَجَلَالِ خَطَرِهِ، وَمَا أَجْدَرَ أَخَانَا «حُسَيْنًا» بِالتَّهْنِئَاتِ الصَّادِقَاتِ بِمَا أَظْفَرَهُ بِهِ سَعْيُهُ الْمَجِيدُ، وَحَظُّهُ السَّعِيدُ.
وَلَسْتُ أُنَازِعُهُ الْقَوْلَ فِي أَنَّ هَذِهِ الطُّرْفَةَ، إِذَا صَحَّ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَنْهَا، طُرْفَةٌ جَدِيرَةٌ أَنْ تُكْسِبَ صَاحِبَهَا مَجْدًا وَرِفْعَةً وَذُيُوعَ صِيتٍ.
وَلَكِنَّنِي أُنْكِرُ عَلَيْهِ — بَعْدَ هَذَا — أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ خَلَا مِنْ طُرْفَةٍ أُخْرَى، لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا أَعْجَبُ مِنْ طُرْفَتِهِ، وَأَثْمَنُ مِنْ تُحْفَتِهِ، وَلَكِنِّي أَزْعُمُ أَنَّهَا تُسَاوِيهَا وَتُنَافِسُهَا فَضْلًا وَقَدْرًا، وَلَا تَقِلُّ عَنْهَا: نَفَاسَةً وَخَطَرًا.
وَإِنَّ اللهَ الَّذِي وَهَبَ الْإِنْسَانَ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ، لَمْ يَقْصُرْهَا عَلَى أُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ، وَلَمْ يَخُصَّهَا بِبَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ.
وَسَتَرَيَانِ — بَعْدَ قَلِيلٍ — مِصْدَاقَ مَا تَسْمَعَانِ».
(٥) الْأُنْبُوبُ الْعَجِيبُ
سَكَتَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قَائِلًا لِأَخِيهِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»: «إِنَّكَ لَوَاجِدٌ فِي هَذَا الْأُنْبُوبِ الَّذِي أُتِيحَ لِي أَنْ أَظْفَرَ بِهِ، مَيْزَةً نَادِرَةً، لَا تَقِلُّ عَمَّا تَمَيَّزَ بِهِ بِسَاطُكَ الْعَجِيبُ: جَلَالَ شَأْنٍ، وَنَفَاسَةَ خَطَرٍ».
ابْتَدَرَهُ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» قَائِلًا: «لَسْتُ أُنْكِرُ عَلَيْكَ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ يَا أَخِي الْعَزِيزَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا يَحْفِلُ بِهِ الْعَالَمُ مِنْ عَجَائِبَ، وَمَا تَزْدَحِمُ بِهِ الدُّنْيَا مِنْ مُدْهِشَاتٍ وَغَرَائِبَ!
وَإِنِّي — عَلَى كُلِّ حَالٍ — لَشَدِيدُ الشَّوْقِ إِلَى سَمَاعِ حَدِيثِكَ الشَّائِقِ الْمُعْجِبِ، وَكَلَامِكَ الْفَاتِنِ الْمُحَبَّبِ!»
فَاسْتَأْنَفَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» قَائِلًا: «إِنَّ هَذَا الْأُنْبُوبَ كَمَا تَرَى أُنْبُوبٌ — فِيمَا يَبْدُو مِنْ مَظْهَرِهِ — عَادِيٌّ، لَا يَمْتَازُ بِشَيْءٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنَابِيبِ الَّتِي ازْدَحَمَتْ بِهَا أَسْوَاقُ الْعَالَمِ.
فَلَا يَدْفَعَنَّكَ مَا تَرَى مِنْ تَفَاهَةِ مَظْهَرِهِ، إِلَى اسْتِصْغَارِ شَأْنِهِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِقِيمَتِهِ.
إِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْبِسَاطِ الْعَجِيبِ الَّذِي ظَفِرْتَ بِهِ: كِلَاهُمَا جَلِيلُ الشَّأْنِ عَظِيمُ الْخَطَرِ، وَإِنْ كَانَ مَظْهَرُهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا، وَجَلَالِ خَطَرِهِمَا، وَنَفَاسَةِ قَدْرِهِمَا.
وَقَدْ دَفَعْتُ فِيهِ — مِنْ أَكْيَاسِ الْمَالِ — مِقْدَارَ مَا دَفَعْتَ أَنْتَ فِي بِسَاطِكَ النَّفِيسِ».
(٦) مَيْزَةُ الْأُنْبُوبِ
وَأَمْسَكَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» عَنِ الْكَلَامِ هُنَيْهَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ: «فَإِذَا سَأَلْتَنِي: أَيُّ مِيْزَةٍ نَادِرَةٍ فِي هَذَا الْأُنْبُوبِ، رَفَعَتْ مَنْزِلَتَهُ، وَأَغْلَتْ قِيمَتَهُ؟
قُلْتُ لَكَ: إِنَّهُ أَعْجَبُ مِنْظَارٍ فِي الْعَالَمِ.
فَإِنَّ مَنْ يَنْظُرُ — مِنْ خِلَالِ زُجَاجَتَيْهِ — يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْهَدَ كُلَّ مَا يَمُرُّ بِبَالِهِ، أَوْ يَطُوفُ بِخَيَالِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي أَقْصَى مَكَانٍ مِنَ الدُّنْيَا كَأَنْ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ إِلَّا قِيدَ أَشْبَارٍ.
وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، وَفِي التَّجْرِبَةِ أَصْدَقُ دَلِيلٍ — عَلَى مَا أَقُولُ — وَأَكْبَرُ بُرْهَانٍ».
(٧) صِحَّةُ الْأَمِيرَةِ
لَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْأَمِيرَيْنِ: «حُسَيْنٍ» وَ«أَحْمَدَ» مِمَّا سَمِعَا مِنْ أَخِيهِمَا «عَلِيٍّ».
لَقَدْ أَسْرَعَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» إِلَى مِنْظَارِ أَخِيهِ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ»، وَنَظَرَ مِنْ خِلَالِ زُجَاجَتَيْهِ الْعَجِيبَتَيْنِ لِيَرَى مِصْدَاقَ مَا سَمِعَ مِنْ مَيْزَتِهِ النَّادِرَةِ.
وَكَانَ أَكْبَرَ رَغَبَاتِهِ، وَأَعْظَمَ أَمَانِيِّهِ، وَأَوَّلَ مَا يُفَكِّرُ فِيهِ أَنْ يَرَى بِنْتَ عَمِّهِ الْأَمِيرَةَ: «نُورَ النَّهَارِ»؛ لِيَتَعَرَّفَ أَحْوَالَهَا، وَيَطْمَئِنَّ عَلَيْهَا.
وَلَمْ يَكَدِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» يَمُرُّ بِذِهْنِهِ ذَلِكَ الْخَاطِرُ، وَالْمِنْظَارُ عِنْدَ عَيْنِهِ؛ حَتَّى سِيءَ وَجْهُهُ، وَتَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهُ، وَانْتَظَمَتِ الرِّعْدَةُ جِسْمَهُ.
(٨) دَهْشَةُ الْأَمِيرَيْنِ
فَدَهِشَ أَخَوَاهُ مِمَّا رَأَيَا، وَابْتَدَرَا أَخَاهُمَا مُسَائِلَيْنِ: «مَاذَا بِكَ يَا أَخَانَا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ أَخَافَكَ وَرَوَّعَكَ؟ مَاذَا رَأَيْتَ فَرَعَّبَكَ وَفَزَّعَكَ؟»
وَلَمْ يُجِبِ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» بِلَفْظٍ، إِذْ كَانَ قَدْ بَدَأَ الْإِغْمَاءُ يَدِبُّ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ هَالَهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ؛ فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ أَخَوَاهُ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» وَالْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» يُرْقِدَانِهِ عَلَى الْأَرِيكَةِ بَعْضَ وَقْتٍ.. وَمَا زَالَا بِهِ يُنْعِشَانِهِ حَتَّى أَفَاقَ رُوَيْدًا، فَسَأَلَاهُ: «كَيْفَ حَالُكَ، يَا أَخَانَا الْعَزِيزَ؟»
فَصَاحَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» صَيْحَةَ الْمُتَأَلِّمِ الْيَائِسِ، وَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يَقُولَ مُتَحَزِّنًا: «وَاحَسْرَتَا عَلَيْكِ، أَيَّتُهَا الْأَمِيرَةُ الْمُتَأَلِّمَةُ الْمُعَذَّبَةُ! بَلْ وَاحَسْرَتَاهُ عَلَيْنَا فِي بُعْدِنَا عَنْكِ!
أَلَا لَيْتَنَا لَمْ نَرْحَلْ عَنْ بِلَادِنَا!
أَلَا لَيْتَنَا بَقِينَا بِالْقُرْبِ مِنْكِ؛ لِنُؤَسِّيَكِ وَنُؤْنِسَكِ، وَنُهَوِّنَ عَلَيْكِ بَعْضَ مَا تُكَابِدِينَ مِنْ آلَامٍ قَاسِيَةٍ مَرِيرَةٍ، فِي سَاعَاتِكِ الْأَخِيرَةِ!»
اشْتَدَّ جَزَعُ الْأَمِيرَيْنِ الشَّقِيقَيْنِ، وَهَالَهُمَا مَا سَمِعَا مِنْ أَخِيهِمَا الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»، وَأَقْبَلَا عَلَيْهِ مُتَلَهِّفَيْنِ، وَسَأَلَاهُ مُتَحَيِّرَيْنِ: «شَدَّ مَا أَزْعَجْتَنَا — يَا أَخَانَا — وَفَزَّعْتَنَا!
فَعَجِّلْ — بِرَبِّكَ — بِتَوْضِيحِ مَا أَطْلَعَكَ عَلَيْهِ الْمِنْظَارُ الْعَاجِيُّ، مِنْ سِرٍّ خَفِيٍّ!»
(٩) حَدِيثٌ حَزِينٌ
فَابْتَدَرَهُمَا الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» قَائِلًا: «وَاحَسْرَتَا عَلَى الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ»!
لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِهَا — فِيمَا رَأَيْتُ بِعَيْنِي — إِلَّا دَقَائِقُ مَعْدُودَاتٌ، ثُمَّ تُفَارِقُ الْحَيَاةَ بَعْدَهَا، وَتَلْفِظُ آخِرَ أَنْفَاسِهَا، مَبْكِيًّا عَلَى شَبَابِهَا.
لَقَدْ رَأَيْتُهَا — يَا أَخَوَيَّ، مِنْ خِلَالِ الْمِنْظَارِ — نَائِمَةً فِي فِرَاشِهَا، غَائِبَةً عَنْ وَعْيِهَا، وَشَهِدْتُ وَجْهَهَا الشَّاحِبَ وَقَدْ عَلَتْهُ صُفْرَةُ الْمَوْتِ، وَرَأَيْتُ وَصِيفَاتِ الْقَصْرِ مُحِيطَاتٍ بِسَرِيرِهَا، عَاطِفَاتٍ حَانِيَاتٍ، بَاكِيَاتٍ حَوْلَهَا مُتَأَلِّمَاتٍ. شَدَّ مَا فَزَّعَنِي، وَهَالَنِي وَرَوَّعَنِي، أَنْ أَرَى بِنْتَ عَمِّنَا الْعَزِيزَةَ غَائِبَةً عَنْ وَعْيِهَا، سَاكِنَةً لَا حِرَاكَ بِهَا وَلَا أَمَلَ فِي شِفَائِهَا!»
(١٠) مِصْدَاقُ الْخَبَرِ
فَأَخَذَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» الْمِنْظَارَ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ، وَرَأَى صِدْقَ مَا قَالَ أَخُوهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَزَعُ.
وَلَمْ يَتَمَالَكِ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» أَنْ يُسْرِعَ إِلَى الْمِنْظَارِ، لِيَتَعَرَّفَ جَلِيَّةَ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَكَدْ يَنْظُرُ فِيهِ، وَيُبْصِرِ الْأَمِيرَةَ «نُورَ النَّهَارِ»، وَهِيَ تُعَانِي أَلَمَ الِاحْتِضَارِ؛ حَتَّى هَالَهُ مَا هَالَ شَقِيقَيْهِ، وَفَزَّعَهُ مَا فَزَّعَهُمَا.
وَلَا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَلَقِ، بَعْدَ أَنْ أَيْقَنَ أَنَّ هَلَاكَهَا مُحَقَّقٌ، وَأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَمْتَدُّ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ لَحَظَاتٍ قَلِيلَاتٍ، ثُمَّ يُسْلِمُهَا الْمَرَضُ إِلَى الْمَمَاتِ.
وَاجْتَمَعَ رَأْيُ الْأَشِقَّاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهَا، قَبْلَ أَنْ يَحِينَ حَيْنُهَا وَيُقْضَى عَلَيْهَا.
(١١) فِي الْقَصْرِ السُّلْطَانِيِّ
وَالْتَفَتَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» إِلَى شَقِيقَيْهِ قَائِلًا: «لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَمِيرَةَ «نُورَ النَّهَارِ» مَقْضِيٌّ بِالْهَلَاكِ عَلَيْهَا، إِذَا لَمْ نُسْرِعْ بِالذَّهَابِ إِلَيْهَا».
فَدَهِشَ الْأَمِيرَانِ مِمَّا سَمِعَا، وَلَمْ يَعْرِفَا مَاذَا يَعْنِيهِ أَخُوهُمَا؟
وَسَأَلَاهُ أَنْ يُفْصِحَ عَنْ غَرَضِهِ لَهُمَا. فَقَالَ: «إِنَّ فِي الطُّرْفَةِ الَّتِي ظَفِرْتُ بِهَا فِي رِحْلَتِي الشَّاقَّةِ الْمُضْنِيَةِ، شِفَاءَ الْأَمِيرَةِ — بِإِذْنِ اللهِ — مِنْ مَرَضِهَا، وَإِبْرَاءَهَا مِنْ عِلَّتِهَا وَدَائِهَا.
وَكَأَنَّمَا وَفَّقَنِي اللهُ إِلَى هَذِهِ النَّفِيسَةِ وَأَهْدَاهَا إِلَيَّ؛ لِيَكُونَ شِفَاءُ الْأَمِيرَةِ عَلَى يَدَيَّ!»
(١٢) عَلَى بِسَاطِ الرِّيحِ
ثُمَّ ابْتَدَرَ أَخَوَيْهِ قَائِلًا لَهُمَا فِي عَجَلَةٍ: «هَلُمَّا، أَيُّهَا الشَّقِيقَانِ الْعَزِيزَانِ، وَاجْلِسَا مَعِي عَلَى بِسَاطِ الرِّيحِ؛ وَسَتَجِدَانِ أَنَّهُ وَاصِلٌ بِنَا عَلَى الْفَوْرِ، إِلَى الْأَمِيرَةِ فِي الْقَصْرِ.
وَحَذَارِ أَنْ نُضِيعَ مِنَ الْوَقْتِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، فَالْأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ تَمَهُّلًا وَلَا تُؤَدَةً.
هَيَّا، يَا أَخَوَيَّ، إِلَى بِسَاطِ الرِّيحِ، هَيَّا».
أَسْرَعَ الْأَشِقَّاءُ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْأَخْذِ بِاقْتِرَاحِ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»؛ فَجَلَسُوا عَلَى بِسَاطِ الرِّيحِ يَحْدُوهُمْ رَجَاءٌ وَأَمَلٌ وَإِيمَانٌ، إِلَى أَنْ يُدْرِكُوا الْأَمِيرَةَ الْعَزِيزَةَ، قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
(١٣) فِي حُجْرَةِ الْأَمِيرَةِ
وَمَا كَادَ الْأُمَرَاءُ يَسْتَقِرُّ بِهِمُ الْجُلُوسُ عَلَى الْبِسَاطِ الْعَجِيبِ، حَتَّى طَوَى الْفَضَاءَ طَيًّا، وَتَمَّ لَهُمُ الْفَوْزُ وَتَحَقَّقَ السَّبْقُ، فَوَصَلُوا فِي فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهَا مِثْلُ لَمْحَةِ الْعَيِنْ أَوْ وَمْضَةُ الْبَرْقِ.
وَكَانَتْ تَمُرُّ تَحْتَ أَنْظَارِهِمْ، وَهُمْ فَوْقَ الْبِسَاطِ الطَّائِرِ، بَدَائِعُ مِنَ الْمَشَاهِدِ وَالْمَنَاظِرِ، عَلَى نَحْوٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ سَابِقُ عَهْدٍ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا بِأَمْرِهِمْ مَشْغُولِينَ، فَلَمْ يَكُنْ هَمُّهُمْ إِلَّا أَنْ يَجِدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي حُجْرَةِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ».
وَلَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْمُمَرِّضَاتِ وَالْوَصِيفَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُشْرِفْنَ عَلَى تَمْرِيضِ الْأَمِيرَةِ، حِينَ رَأَيْنَ أَمَامَهُنَّ هَؤِلَاءِ الْفِتْيَانَ الثَّلَاثَةَ.
•••
كَانَتْ دَهْشَةً مَمْزُوجَةً بِالْخَوْفِ وَالْحَيْرَةِ وَالذُّعْرِ، لِغَرَابَةِ الْمُبَاغَتَةِ، وَسُرْعَةِ الْمُفَاجَأَةِ.
وَلَمْ تَعْرِفِ الْمُمَرِّضَاتُ وَالْوَصِيفَاتُ: مِنْ أَيِّ الْأَوْطَانِ، قَدِمَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَانُ؟
وَأَيُّ جُرْأَةٍ دَفَعَتْهُمْ إِلَى اقْتِحَامِ هَذَا الْمَكَانِ؟ وَكَيْفَ سَوَّلَتْ لَهُمْ نُفُوسُهُمْ أَنْ يَقْتَحِمُوا قَصْرَ السَّلْطَانِ، بِلَا اسْتِئْذَانٍ؟
وَلَكِنَّهُنَّ اطْمَأْنَنَّ حِينَ لَمَحْنَ عَلَى وُجُوهِ الْفِتْيَانِ الثَّلَاثَةِ اهْتِمَامَهُمْ بِالْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ».. وَأَسْرَعَتْ إِحْدَى الْوَصِيفَاتِ إِلَى مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، لِتُنْهِيَ إِلَيْهِ الْخَبَرَ.
(١٤) شِفَاءُ الْأَمِيرَةِ
وَلَمْ يَدَعِ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» لَحْظَةً — مِنَ الْوَقْتِ — تَمُرُّ سُدًى؛ فَكَانَ أَوَّلَ مَا عَمَدَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ الذَّكِيُّ أَنْ أَسْرَعَ إِلَى الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ»؛ فَأَدْنَى التُّفَّاحَةَ الشَّافِيَةَ مِنْ فَمِهَا وَأَنْفِهَا، وَالْأَمِيرَانِ «حُسَيْنٌ» وَ«عَلِيٌّ» يَنْظُرَانِ إِلَيْهَا فِي شَغَفٍ وَتَرَقُّبٍ.
•••
فَلَمْ تَنْقَضِ لَحَظَاتٌ قَلِيلَةٌ، حَتَّى فَتَحَتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» عَيْنَيْهَا الْمُغْمَضَتَيْنِ، وَجَعَلَتْ تَتَثَاءَبُ، كَأَنَّمَا تُفِيقُ مِنْ نَوْمٍ طَوِيلٍ عَمِيقٍ..
وَحَرَّكَتْ لِلْحَالِ رَأْسَهَا، وَاسْتَيْقَظَتْ مِنْ (نَوْمِهَا)، وَشُفِيَتْ مِنْ عِلَّتِهَا.
وَأَجَالَتِ الْأَمِيرَةُ لِحَاظَهَا فِي كُلِّ مَنْ حَوْلَهَا، وَابْتَسَمَتْ لِأَبْنَاءِ عَمِّهَا، وَعَجِبَتْ لِهَذَا الْجَمْعِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ الْمُمَرِّضَاتِ وَالْوَصِيفَاتِ.
ثُمَّ جَلَسَتِ الْأَمِيرَةُ، وَهِيَ فِي أَتَمِّ صِحَّةٍ، وَأَكْمَلِ عَافِيَةٍ، وَشَعَرَتْ بِرَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ فِي الْمَشْيِ وَالتَّجْوَالِ؛ فَطَلَبَتْ إِلَى وَصِيفَاتِهَا أَنْ يُحْضِرْنَ لَهَا أَفْخَرَ ثِيَابِهَا، وَأَنْفَسَ حُلِيِّهَا.
وَتَأَهَّبَتْ لِلْخُرُوجِ مِنْ حُجْرَتِهَا، وَالذَّهَابِ إِلَى حَدِيقَتِهَا، دَاعِيَةً أَبْنَاءَ عَمِّهَا إِلَى مُصَاحَبَتِهَا.
وَلَمْ تَدْرِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» أَنَّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً مَرَضًا عُضَالًا، كَادَ يُورِدُهَا مَوَارِدَ الْهَلَاكِ، وَأَنَّ أَبْنَاءَ عَمِّهَا تَعَاوَنُوا عَلَى إِنْقَاذِهَا.
(١٥) شُكْرُ الْأَمِيرَةِ
فَلَمَّا حَدَّثَهَا وَصِيفَاتُهَا بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ، تَعَاظَمَتْهَا الدَّهْشَةُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْعَجَبُ، وَشَكَرَتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» لِأَبْنَاءِ عَمِّهَا الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ فَضْلَ عِنَايَتِهِمْ بِهَا، وَنَجَاحِهِمْ فِي شِفَائِهَا، وَإِبْرَائِهَا مِنْ دَائِهَا.
وَوَدَّتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ النَّهَارِ» لَوْ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَجْزِيَ أَبْنَاءَ عَمِّهَا الْأُمَرَاءَ الْأَوْفِيَاءَ، عَلَى صَنِيعِهِمُ النَّبِيلِ أَوْفَى جَزَاءٍ.
فَقَالَ لَهَا الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «إِنَّ سُرُورَنَا بِشِفَائِكِ مِنَ الْمَرَضِ، وَعَوْدَتِكِ إِلَى الْحَيَاةِ، خَيْرُ مُكَاَفَأَةٍ قَدَّمْتِهَا لَنَا، وَأَسْعَدْتِنَا بِهَا.
وَحَسْبُنَا ذَلِكَ مُكَافَأَةً لَنَا وَجَزَاءً، وَأَنْعِمْ بِهِ مِنْ مُكَافَأَةٍ، وَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ!»
(١٦) فَرْحَةُ السُّلْطَانِ
وَلَا تَسَلْ عَنِ ابْتِهَاجِ السُّلْطَانِ «مَحْمُودٍ» حِينَ أَسْرَعَ إِلَى حُجْرَةِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ» ابْنَةِ أَخِيهِ. فَإِذَا هِيَ قَدْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِهَا بَعْدَ أَنْ يَئِسَ الْأَطِبَّاءُ النِّطَاسِيُّونَ مِنْ شِفَائِهَا، وَقَطَعُوا الْأَمَلَ فِي بَقَائِهَا، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا، وَفَوَّضُوا أَمْرَهُمْ فِيهَا إِلَى اللهِ، وَاهِبِ الْحَيَاةِ.
أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ: لَقَدْ عَلِمْتَ — مِمَّا مَرَّ بِكَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ — كَيْفَ كَانَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» عَمُّ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ» يَعْطِفُ عَلَيْهَا، وَيَجْزَعُ لِأَقَلِّ مَكْرُوهٍ يُلِمُّ بِهَا.
وَرَأَيْتَ كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهَا، كَمَا يُحِبُّ أَوْلَادَهُ وَيُعْنَى بِتَوْفِيرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ لَهَا، وَيَتَفَنَّنُ — جُهْدَ مَا يَسْتَطِيعُ — فِي سَبِيلِ إِرْضَائِهَا وَإِسْعَادِهَا.
•••
فَلَا عَجَبَ إِذَا قُلْتُ لَكَ إِنَّ فَرَحَ السُّلْطَانِ — فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ — بِنَجَاتِهَا وَعَوْدَتِهَا إِلَى الْحَيَاةِ، كَانَ فَرَحًا مُضَاعَفًا.
وَقَدْ شَاءَ اللهُ — سُبْحَانَهُ أَنْ يُتِمَّ لَهُ دَوَاعِيَ الْبَهْجَةِ وَأَسْبَابَ السُّرُورِ؛ فَأَظْفَرَهُ بِلِقَاءِ أَوْلَادِهِ، بَعْدَ أَنْ حُرِمَ لُقْيَاهُمْ عَامًا كَامِلًا.
وَكَانَ مَا لَقِيَهُ السُّلْطَانُ مِنَ الْمَسَرَّةِ وَالْبَهْجَةِ، تَعْوِيضًا عَمَّا لَقِيَهُ طَوَالَ عَامٍ كَامِلٍ مِنْ قَلَقٍ وَتَرَقُّبٍ، فَلَمْ يَبِتْ لَيْلَةً إِلَّا مَشْغُولَ الْبَالِ بِمَصِيرِ أَوْلَادِهِ، دَاعِيًا لَهُمْ بِالسَّلَامَةِ فِي رَحَلَاتِهِمُ الْبَعِيدَةِ، مُنْتَظِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ الَّذِي يَظْفَرُ فِيهِ بِعَوْدَتِهِمُ الْحَمِيدَةِ.
(١٧) ابْتِهَاجُ الشَّعْبِ
وَقَدْ عَبَّرَ الشَّعْبُ أَكْبَرَ تَعْبِيرٍ عَنْ فَرَحِهِ وَابْتِهَاجِهِ بِمَا سَمِعَ مِنْ أَنْبَاءِ شِفَاءِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ»، وَعَوْدَةِ أَبْنَاءِ عَمِّهَا الثَّلَاثَةِ الْأُمَرَاءِ، وَقَدَّرُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا رِحْلَتَهُم لَهْوًا وَلَا لَعِبًا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصُرُوا هَمَّهُمْ عَلَى مَلَذَّاتِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا مِنْ رِحْلَتِهِمْ سَبِيلًا إِلَى الْخِدْمَةِ الْعَامَّةِ.
لَقَدِ احْتَفَى الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ السَّعِيدَةِ أَعْظَمَ احْتِفَاءٍ؛ فَأَقَامُوا أَبْدَعَ الزِّينَاتِ، وَتَبَادَلُوا أَصْدَقَ التَّهْنِئَاتِ، وَقَرَّرُوا أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا الْيَوْمَ السَّعِيدَ مِنْ أَيَّامِ التَّارِيخِ عِيدًا مِنْ أَكْرَمِ الْأَعْيَادِ، يَحْتَفِلُونَ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ، كُلَّمَا جَاءَ مَوْعِدُهُ مِنَ الْعَامِ.