التصدير

يصل العداءُون — فيما يبدو — إلى أقصى سرعة لهم في بداية السباق، ثم تبدأ سرعتهم في التباطؤ في بقية السباق. ومن يفوزون هم آخر من يبطئون من سرعتهم. وهكذا هو الحال مع معظم الشركات الناشئة أيضًا. فعادة ما تكون المرحلة الأولى هي الأغزر إنتاجًا. ففيها تخطر لهم الأفكار المهمة حقًّا. تخيل ما كانت عليه شركة أبل عندما كان كل موظفيها إما ستيف جوبز أو ستيف وزنياك.

واللافت في هذه المرحلة أنها تختلف تمامًا عن الفكرة السائدة لدى معظم الناس عن الشركات. فإذا سبرت غور الناس (أو مجموعات الصور الموجودة في أذهانهم) بحثًا عن صور لما تمثله «الشركات»، لوجدتَ صورًا لأشخاص متأنقين يرتدون حللًا، ومجموعات تجلس حول طاولات الاجتماعات ترتسم الجدية على ملامحهم، وعروضًا تقديمية باستخدام برنامج باور بوينت، وأشخاصًا يقدم بعضهم لبعض تقارير ضخمة ليقرءُوها. في الواقع، الشركات الناشئة في مراحلها الأولى تكون عكس هذا تمامًا. ومع ذلك فإنها على الأرجح تكون القطاع الأكثر إنتاجًا في الاقتصاد بأكمله.

تُرى ما السبب وراء هذا التعارض؟ أظن أن هناك مبدأً عامًّا في هذا الصدد، يقول: كلما قل المجهود الذي يبذله الناس في الأداء، زاد ما يبذلونه من مجهود على المظهر من أجل التعويض. وكثيرًا ما يؤدي المجهود الذي يبذلونه لنيل الإعجاب إلى جعل أدائهم الفعلي أسوأ. قرأت قبل بضع سنوات مقالًا عدلت فيه مجلة متخصصة في السيارات النموذج الرياضي من إحدى السيارات العادية للوصول إلى أقصى سرعة ممكنة عند الانطلاق لمسافة ربع ميل من وضع الثبات. أتعلم كيف فعلوا هذا؟ تخلصوا من جميع السمات الإضافية التي أضافتها الشركة المصنعة إلى السيارة، كي تبدو أسرع.

والشركات تقل كفاءتها كما حدث مع تلك السيارة. فالمجهود المبذول في سبيل التظاهر بالإنتاجية العالية لا يضيع هباءً فحسب، بل يقلل من إنتاجية المؤسسة أيضًا. فالحلل الأنيقة على سبيل المثال لا تساعد الناس على التفكير بشكل أفضل. وأنا واثق أن معظم الرؤساء التنفيذيين في كبريات الشركات يبلغون قمة قدرتهم على التفكير عندما يستيقظون صباح الأحد ويتجهون إلى المطبخ وهم يرتدون بُرنُس الاستحمام كي يصنعوا لأنفسهم فنجانًا من القهوة. فهذا هو الوقت الذي تخطر فيه الأفكار. تخيل حال أي شركة إذا ما تمكَّن الموظفون من التفكير بهذه الكفاءة أثناء وجودهم في العمل. هذا هو ما يقوم به الموظفون في الشركات الناشئة، على الأقل في بعض الأحيان. (فهم يقضون نصف الوقت وهم يشعرون بالذعر بسبب التحديات الكبيرة التي تواجههم، لكنهم في النصف الآخر يفكرون بالعمق نفسه الذي لا يصل إليه معظم الناس إلا وهم جالسون وحدهم صباح يوم الأحد.)

ينطبق الأمر نفسه على معظم الاختلافات الأخرى بين الشركات الناشئة وما يعتبره البعض بالخطأ أنه الإنتاجية في الشركات الكبرى. ومع ذلك فإن الأفكار التقليدية عن معنى «الاحترافية» تسيطر على أذهاننا بقبضة من حديد حتى إن مؤسسي الشركات الناشئة يتأثرون بها. ففي شركتنا الناشئة، عندما كان يأتينا زوار من خارج الشركة، كنا نبذل أقصى ما بوسعنا كي نبدو محترفين. فكنَّا ننظف ونرتب مكاتبنا ونرتدي أفضل ثيابنا، ونحرص على أن يكون هناك أشخاص كثيرون في المكتب في أثناء ساعات العمل. في الواقع، لم تكن مهام البرمجة يجري إنجازها على يد موظفين متأنقين في مكاتب نظيفة في ساعات العمل. بل على يد موظفين يرتدون ثيابًا مزرية (لقد كنت أشتهر بأنني أبرمج وأنا أرتدي منشفة فحسب) في مكاتب غير نظيفة الساعة الثانية صباحًا. لكن لن يتفهَّم أي زائر ذلك. ولا حتى المستثمرون الذين من المفترض أن يتعرفوا على الإنتاجية الحقيقية عندما يرونها. وحتى نحن تأثرنا بالأفكار التقليدية المترسخة. فقد كنا نرى أنفسنا على أننا محتالون ننجح رغم أننا غير محترفين على الإطلاق. لقد كان الأمر يبدو كما لو أننا صنعنا سيارة سباقات فورميولا ١، لكن نشعر بالخجل لأنها ليست بالشكل الذي من المفترض أن تبدو عليه السيارة.

وفي عالم السيارات، هناك بعض الأشخاص على الأقل الذين يعرفون أن السيارة فائقة الأداء تشبه سيارة سباق فورميولا ١، وليست سيارة سيدان حواف إطاراتها ضخمة، وبها مصد هواء مثبت بصندوقها. فلمَ لا يكون الأمر هكذا في عالم الشركات؟ ربما يرجع هذا إلى أن الشركات الناشئة تكون صغيرة للغاية. ويحدث النمو القوي الحقيقي عندما تتكون الشركة من ثلاثة أو أربعة أشخاص، لذا لا يرى هذا سوى ثلاثة أو أربعة أشخاص، في حين أن عشرات الآلاف يرون الشركات على طريقة شركات مثل بوينج أو فيليب موريس.

ويمكن لهذا الكتاب أن يساعد في علاج هذه المشكلة، وذلك عن طريق إطلاع الجميع على ما لم يشهده إلا حفنة أشخاص — حتى الآن — ألا وهو ما يحدث في العام الأول من عمر الشركة الناشئة. فهذا هو ما تكون عليه الإنتاجية الحقيقية. هذه هي سيارة سباقات فورميولا ١. فهي تبدو غريبة لكنها تنطلق بسرعة.

وبالطبع لن تستطيع كبريات الشركات أن تفعل كل ما تفعله هذه الشركات الناشئة. ففي الشركات الكبرى، سيظل هناك سيطرة أكبر لاعتبارات السلطة وسيظل هناك مجال أقل للقرارات الفردية. لكن الاطلاع على حقيقة الشركات الناشئة سيساعد المؤسسات الأخرى على الأقل على تحديد ما يجب أن تهدف إليه. وقد يأتي الوقت الذي تحاول فيه الشركات الكبرى أن تبدو أقرب للشركات الناشئة، بدلًا من أن تحاول الشركات الناشئة أن تبدو أقرب للشركات الكبيرة. وسيكون ذلك أمرًا رائعًا.

بول جراهام
مؤسس مشارك، شركة فياويب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤