ماكس ليفشين
مؤسس مشارك، شركة باي بال
أسس ماكس ليفشين الذي كان شابًّا جامعيًّا حديث التخرج، وبيتر تيل الذي كان مدير أحد صناديق التحوط، شركة باي بال في ديسمبر ١٩٩٨. وقد درست الشركة أفكارًا متعددة، وفي ذلك برامج التشفير وخدمة تحويل النقود عبر أجهزة المساعد الرقمي الشخصي، وذلك قبل أن تختار أن تصبح نظامًا للدفع عبر الويب. وأصبحت هذه الخدمة واسعة الانتشار لدى البائعين على شبكة الإنترنت، ولا سيما البائعون على موقع إيباي؛ إذ فضلوها على الأساليب التقليدية في دفع النقود. وقد جرى طرح أسهم باي بال للاكتتاب في بداية عام ٢٠٠٢، وقد استحوذت عليها شركة إيباي في وقت لاحق من ذلك العام مقابل ١٫٥ مليار دولار.
تزامن تأسيس باي بال مع ما يسمى بفقاعة الإنترنت، ولكنها لم تكن بأي شكل من الأشكال من الشركات الناشئة التي تنتمي للفقاعة. إذ كان نجاحها انعكاسًا مباشرًا لذكاء من أسسوها. وقد نجحت لأنها صممت منتجًا مميزًا تفوقت به على منافسيها.
مع ظهور كل وسيلة جديدة لتحويل الأموال تظهر أشكال جديدة من الاحتيال. وإلى حد بعيد، نجحت باي بال لأنها استطاعت التصدي للاحتيال، في حين عجز منافسوها عن ذلك. فالبرنامج الذي صممه ليفشين وفريقه لمحاربة الاحتيال يعمل بهدوء ودون أن يلحظه أحد. وحتى يومنا هذا، لا تتحدث باي بال عنه كثيرًا. لكن الفضل في نجاح باي بال كان يعود إلى برنامج ليفشين، بالضبط كما كان الفضل في نجاح شركة أبل يعود لجهاز أبل ٢، وذلك باعتباره المنتج الذي حقق انتشارًا أكبر.
***
وهكذا كنت موجودًا في وادي السليكون في صيف عام ١٩٩٨، دون أن أكون واثقًا من خططي للمستقبل. وكنت أعيش في مدينة بالو ألتو وأقيم في شقة صديق لي. ثم حضرت محاضرة بالصدفة في جامعة ستانفورد ألقاها شخص يسمى بيتر، كنت سمعت عنه، ولكن لم أقابله من قبل.
واتضح أن من حضروا المحاضرة لم يزيدوا على ستة أشخاص فحسب. فقد كانت المحاضرة في قيظ الصيف، لذا لم يذهب أحد لحضورها. فبدا ذلك الشاب وكأنه يقول: «أنتم الستة فقط الذين حضرتم، حسنًا.» وبعد المحاضرة، ذهبت وتحدثت إليه. وكان شخصًا شديد الحماس وقال لي: «يجب أن نتناول الإفطار معًا قريبًا.» وهكذا التقينا الأسبوع التالي.
كنت أدرس في ذلك الوقت فكرتين مختلفتين لتأسيس شركة، وقد أطلعته على كلا الفكرتين. وكان بيتر يدير صندوق تحوط آنذاك. وظللنا نتحدث لبضعة أسابيع، ثم في النهاية قال: «استمر في هذه الفكرة؛ لأنها أفضل، وابدأ تأسيس شركة لتنفيذها، وعندئذٍ يمكنني أن أجعل صندوق التحوط الذي أديره يستثمر بعض النقود بها»، وقد كان ذلك المبلغ نحو بضع مئات الآلاف من الدولارات. وكان هذا رائعًا لأن أموالي كانت قد بدأت في النفاد.
كنت قد انتقلت لتوي من شامبين، ومعظم معارفي وأصدقائي كانوا في شيكاغو. وكنت أحاول أن أقنع أحدهم أن يتولى منصب الرئيس التنفيذي. لكنه كان مشغولًا حقًّا، ومن ثَم فقد انتهى بي الأمر إلى عدم العثور على من يدير الشركة. فاتصلت ببيتر وقلت له: «إن المشروع رائع، لكن ليس لديَّ من يدير الشركة. كل ما سأفعله أنا هو كتابة الكود وتوظيف المبرمجين.» فقال: «ربما أكون أنا الرئيس التنفيذي الذي تبحث عنه.» فأجبته بأنها فكرة رائعة. وعلى مدى الأسبوعين التاليين كنا نتدارس الفكرة، وبحلول الأول من شهر يناير ١٩٩٩، اتفقنا أنه سيكون الرئيس التنفيذي وأنا سأكون المسئول التقني.
وفور أن انتهيت من تطبيق تلك العملية عليها جميعًا، كتبت برنامجًا محاكيًا لكل نوع منها للمساعد الرقمي الشخصي من نوع بالم بايلوت. كان لديَّ الكثير من الأصدقاء في الجامعة الذين كانوا مهتمين بإجراءات الأمان أيضًا — معظمهم كانوا من مديري النظم — ويحملون الكثير من تلك الأشياء في جيوبهم، لأنه في معظم الأحيان يمكنك استخدام بطاقة واحدة فقط لكل جهاز كمبيوتر وكذلك بطاقة واحدة لكل نظام. فإذا كنت تديرين معملًا به عشرة خوادم، فستضطرين لحمل كومة قابلة للزيادة من هذه الأشياء في جيبك. هذا إلى جانب أنها ثقيلة وتحتاج إلى بطاريات. وقد تمكنت من محاكاة كل شيء على جهاز بالم بايلوت، ومن ثَم استغنى أصدقائي عن بطاقاتهم العقيمة، واستخدموا ابتكاري.
وقد وضعته على شبكة الويب، والتي كانت بسيطة ولم تزل في بداياتها في ذلك الوقت، ووجدت أن المئات ثم الآلاف ينزِّلونه، وكان الناس يعرضون عليَّ المال للحصول على المزيد من المميزات. فرأيت أن هذا قد يكون عملًا تجاريًّا أربح منه. في ذلك الوقت كنت مهتمًّا بالنجاح في أي مشروع تجاري. ومن ثَم عندما انتقلت إلى وادي السليكون، أطلعت بيتر على هذه الفكرة. وأوضحت له أنه كانت هناك حاجة واضحة للتعامل مع العمليات التشفيرية هذه التي لا يفهمها أحد تقريبًا. ومع أن تطبيق الهندسة العكسية على هذه الأشياء لا يتطلب براعة غير عادية، فلم يسبقني أحد إليه، ومن ثَم فإن المسألة يشوبها شيء من التعقيد.
وكانت الصعوبة الحقيقية تكمن في واقع الأمر في تطبيق خوارزمية تشفيرية على أجهزة بالم بايلوت، لأن هذه الأجهزة قوة معالجتها ضعيفة جدًّا، وقد كانت آنذاك تتسم بانخفاض شديد في قوة المعالجة؛ فكانت أشبه بمعالج ١٦ ميجاهرتز. لذا كان القيام بعملية تشفير بالمفتاح العام على جهاز بالم بايلوت عملية باهظة التكاليف حقًّا. ويتطلب الأمر شيئًا من المهارة لتسريعها، من منظور واجهة المستخدم والمنظور الرياضي. فعلى المستوى الرياضي، ينبغي تحديد قدر الفاعلية الذي يمكن استخلاصه منها، وفيما يخص واجهة المستخدم، ينبغي أن نجعله يبدو أنه لا يستغرق الكثير من الوقت، مع أنه يستغرق فعليًّا ثانيتين تقريبًا وهو ما يعد وقتًا طويلًا حقًّا.
في هذه الأجهزة المحمولة، البطاقات التي تحصلين عليها، تكتبين كلمة المرور وينتهي الأمر. وقد تمكنت من الوصول بالأمر بأن يتم على الفور في أجهزة بالم بايلوت. وقد أصبحت كل تلك الأمور في منتهى السهولة في الوقت الحاضر، لكنها آنذاك كانت مهمة صعبة للغاية. وعلى أي حال، فقد أردت تأسيس شركة تستغل هذه المهارة النادرة المتمثلة في تنفيذ عمليات التشفير على الأجهزة المحمولة، ثم تجميعها في مكتبات ومنتجات. وكان ذلك بِناءً على افتراض أن جميع الشركات سرعان ما ستلجأ إلى الأجهزة المحمولة لتكون الوسيلة الأساسية للاتصال. فكل الموظفين في أمريكا سيتحركون ومعهم أجهزة بالم بايلوت أو نوع آخر من الأجهزة. لقد كنت أسعى للاستفادة من هذا التقدم التكنولوجي. وبعد ذلك بالطبع ستحتاج الشركات إلى إجراءات أمان، وإجراءات الأمان تحتاج إلى هذه المهارات النادرة، وأنا أتمتع بهذه المهارات، ومن ثَم يمكنني تأسيس شركة.
وهذا هو ما موله بيتر. فبعد انضمامه إلى الشركة، كنَّا قد أدركنا أن تحوُّل الشركات إلى استخدام الأجهزة المحمولة لم يكن وشيكًا، وذلك على الرغم من أن النظرية كانت منطقية للغاية. كان الأمر أشبه بما كان عليه حال المسيحيين الأوائل في القرن الأول، وهم ينتظرون المجيء الثاني للمسيح بفارغ الصبر. وهم لا يزالون ينتظرون. لذا بدا الأمر كذلك. وكنَّا نقول إننا سرعان ما سنجد الملايين من الناس يتمنون الحصول على برامج أمان على أجهزتهم المحمولة. ولكن ذلك لم يكن يحدث. وكنَّا محقين في تغيير الاستراتيجية؛ لأن هذا لم يحدث حتى ذلك الحين.
بحلول ذلك الوقت كنا قد أنشأنا كل هذه التقنية التي كانت معقدة وصعبة الفهم والنَّسْخ، وهنا خطر لنا ما يلي: «لقد أصبح لدينا هذه المكتبات التي تمكننا من تأمين أي شيء على الأجهزة المحمولة. فما الذي يمكننا تأمينه؟ ربما بعض المنتجات الخاصة بالمستخدمين. أي إننا لن نستهدف الشركات وسنستهدف المستخدم. لذا علينا تصميم تطبيق المحفظة، وهو تطبيق يمكنه حفظ جميع بياناتكِ الخاصة على جهاز محمول. مثل معلومات بطاقة الائتمان الخاصة بك وغيرها.» ونفذنا هذه الفكرة بالفعل، وكانت بسيطة للغاية لأننا كنا قد توصلنا بالفعل لجميع الأمور المتعلقة بالتشفير. ولكن بالطبع لم يكن هناك حافز للمستخدمين للحصول على تطبيق المحفظة الذي يحتوي على كل تلك الأشياء الرقمية التي لا يمكن استخدامها في أي مكان. افترض أن أحدهم احتاج لمعرفة رقم بطاقة الائتمان. فهل سيخرج محفظته وينظر بداخلها أم سيخرج تطبيق المحفظة على الجهاز المحمول ويبحث بداخله؟ وهكذا فإن هذه الفكرة أيضًا لم تكن ستلاقي نجاحًا كبيرًا.
ثم بدأنا التفكير في هذا السؤال: «ما الشيء ذو القيمة حقًّا الذي يمكننا أن نحفظه داخل أجهزة بالم بايلوت؟» ومن ثَم كانت المحاولة التالية هي تخزين الأشياء القيمة التي لن يخزنها المستخدم بوسيلة أخرى. على سبيل المثال، يعد تخزين كلمات المرور في المحفظة فكرة سيئة للغاية. أما إذا احتفظت بها على جهاز بالم بايلوت، يمكنك تأمينها أكثر بعبارة مرور ثانوية تحميها. فنفذنا هذه الفكرة، وبدأت تجذب بعض الاهتمام، لكنها كانت لا تزال تفتقر إلى البراعة المطلوبة.
وفي النهاية، خطرت لنا فكرة تقوم على حفظ النقود في الأجهزة المحمولة. فكانت المحاولة التالية هي البرنامج الذي سيحاول تأمين الكمبيالات عن طريق تشفيرها. فإذا كنت مدينًا لشخص مثلًا بعشرة دولارات أسجلها وأحميها بعبارة المرور الخاصة بي. ولم تكن في الواقع تُحفظ على مستوى واجهة المستخدم على أنها كمبيالة، ولكنها كانت هكذا في واقع الأمر. ثم يمكنني أن أرسلها إليك عن طريق الأشعة تحت الحمراء في جهاز بالم بايلوت وهو ما بدا حينها غريبًا وسخيفًا جدًّا؛ إذ فأيهما أسهل أن تخرج خمسة دولارات وتمنح شخصًا ما دفعها لك في الغداء أم أن يخرج كلٌّ منكما جهازين بالم بايلوت وتقوما بهذه العملية الغريبة على المائدة؟ ولكن هذا في الواقع هو ما دفع بالأمر قدمًا؛ لأنه كان غريبًا ومبتكرًا للغاية. ومن ثَم بدا وكأن محبي التكنولوجيا يقولون في أنفسهم: «رائع. هذا هو المستقبل. نريد الانتقال إلى المستقبل. خذنا إلى هناك.» ومن ثَم حظينا بكل اهتمامهم وتمكنا من جمع الأموال بناءً على هذا.
ثم حصلنا بعد ذلك على تمويل «بكس» الشهير، وذلك في مطعم «بكس» في ضاحية وودسايد الذي يتردد عليه الكثير من أصحاب رءوس الأموال المخاطرة. وقد حصلنا على أول دفعة لنا من التمويل عن طريق تحويلها عبر جهاز بالم بايلوت. فقد ظهر الممولون ومعهم جهاز بالم بايلوت محملًا عليه مسبقًا مبلغ أربعة ملايين ونصف مليون دولار، وحولوه لنا.
وحتى ذلك الوقت لم يكن المنتج قد اكتمل بعدُ، وقبل تحويل النقود في مطعم «بكس» بأسبوع تقريبًا، أدركت أننا لن نتمكن من إنجاز المهمة، لأن الكود لم يكن قد اكتمل. وكان من الواضح أنه كان من السهل أن نقلد صوت الصفير لإرسال النقود. ولكني لم أشعر بالارتياح حيال الفكرة على الإطلاق. فإذا كنا شركة متخصصة في التأمين، فكيف يمكنني أن أستخدم نموذجًا مقلدًا في عملية تقدر ﺑ ٤٫٥ مليون دولار؟ ماذا لو انهار؟ ماذا لو ظهرت به علة ما؟ سأشعر حينها بإحراج شديد. وهكذا بدلًا من الاكتفاء بالنموذج المقلد، والخلود إلى الراحة، أخذت أنا والمبرمجان نعمل دون توقف لمدة خمسة أيام. أظن أنهما كانا ينامان في بعض الأحيان، أما أنا فلم يغمض لي جفن على الإطلاق. كان الأمر كما لو أننا في سباق محموم نسعى فيه لإطلاق هذا الشيء حتى يعمل. وقد أصبح يعمل على أكمل وجه في نهاية المطاف. وانتهينا في التاسعة صباحًا، وجرى تحويل النقود في العاشرة صباحًا.
لقد كان ذلك من الأمور التي لا يمكن الانتهاء منها ببساطة. فمع برنامج التشفير، إذا أخفقت في جزء صغير، فإن البرنامج لن يعمل. وبدأنا عمليات الاختبار في منتصف ليل اليوم السابق وأصلحنا جميع الأخطاء وأجرينا المزيد من الاختبارات. بالطبع لاحظنا وجود بعض أوجه القصور في الذاكرة ولكنه كان آمنًا. فقد كان من الأشياء التي لا يكون فيها البرنامج مثاليًّا، ولكن كان المسار الذي تنتقل من خلاله النقود آمنًا بما لا يدع مجالًا للشك. وكانت تكمن الخطورة في احتمال انهيار أجهزة بالم بايلوت، لكن الإجراء نفسه كان آمنًا تمامًا. وكان يمكن أن أراهن على ذلك بحياتي. أما الجانب غير الآمن فكان يتمثل في أن البرنامج لم يكن مثاليًّا للغاية. فقد كان بطيئًا وكنت قلقًا من أن ينهار في أي وقت.
لذا كنا نحتفظ بأكوام من أجهزة بالم بايلوت محملة مسبقًا بالبرنامج نفسه. وبالطبع لا يمكن أن تكون النقود إلا في أحدها فقط، ولكن الخطة كانت تقوم على أساس أنه في حالة انهيار أحد تلك الأجهزة، أستخدم اثنين آخرين، لأننا كنا نحتاج إلى جهازي بالم بايلوت أحدها لاستلام النقود والآخر لإرسالها. وكنت مستعدًّا تمامًا لهذا. والأجهزة كانت تحمل الأسماء: «المرسل أ، المرسل ب، المرسل ج، والمستلم أ، المستلم ب، المستلم ج». وهكذا أخذت هذه الكومة من الأجهزة، وأسرعت بركوب سيارة، وقدتها إلى مطعم «بكس»، وكانت الساعة حوالي العاشرة إلا عشر دقائق صباحًا. وكان بيتر قد بدأ يشعر بالقلق للغاية حيال الأمر برمته. وإلى هنا لا أتذكر بوضوح ما جرى لأنني كنت منهك القوى للغاية.
كان هناك ما يقرب من اثنتي عشرة كاميرا تليفزيونية وصحفيون؛ وهي تغطية كبيرة حقًّا. أتممنا عملية تحويل النقود، ثم جاء البعض متأخرين وطلبوا أن نعيد العملية مرة أخرى. لكنني رفضت قائلًا: «إنني قضيت خمسة أيام متواصلة أعمل بجد، على مدى خمسة أشهر متواصلة. إن تحقيق الأمان يعتمد على عدم إمكانية تكرار عملية التحويل مرة أخرى. فبمجرد أن تتم، تنتقل ملكية النقود.» وهكذا فقد تظاهر بيتر أنه سيعيد الكرة، وأبعد الشاشة؛ لأن الرسالة التي ظهرت عليها كانت تقول: «خرق أمني! لا تحاول إعادة إرسال النقود مرة أخرى.» وكان هذا انتصارًا لي، وهزيمة نكراء للكاميرا.
وعندما كنت أجري لقاءً صحفيًّا مع مراسل جريدة «ذا وول ستريت جورنال»، أو ربما مراسل جريدة كبرى أخرى، كل ما أتذكره هو أنه ذهب إلى الحمام للحظات، وأحضروا لي البيض المقلي الذي طلبته. وما أتذكره بعد ذلك، هو أنني استيقظت وإلى جانبي البيض المقلي، ولم يكن هناك أحد في المطعم. كان الجميع قد رحلوا. وتركوني أنام.
وفي وقت ما في بداية عام ٢٠٠٠، أدركنا أن كل هؤلاء كانوا يحاولون استخدام الموقع لإجراء معاملات تحويل النقود، وكان معدل نمو هذه الطريقة يفوق معدل نمو نظيرتها الخاصة بالجهاز المحمول، وهو الأمر الذي كان من الصعب تفسيره لأن إصدار الجهاز المحمول كان أنيقًا، في حين أن الموقع لم يكن أكثر من نسخة تجريبية. ثم اتصل بنا كثيرون من موقع إيباي يطلبون منا وضع الشعار الخاص بنا على مزاداتهم. فكنا نتعجب. ونرفض قائلين: «لا. لا تفعلوا ذلك.» وظللنا لبعض الوقت نرفض بكل إصرار ونطلب منهم تركنا وشأننا.
وبعد ذلك أدركنا أنهم يودون أن ينضموا إلى قاعدة المستخدمين لدينا. وبعد أن اتضحت لنا الصورة، أخذنا على مدى السنة التالية نطور بكل جد النسخة الإلكترونية من المنتج، وهو ما أصبح اليوم باي بال. وفي نهاية عام ٢٠٠٠، تخلصنا تمامًا من نسخة الجهاز المحمول لأن عدد المستخدمين وصل إلى ١٢ ألف مستخدم. وكان بعضهم لا يزال يستخدمها فانزعجوا عندما أوقفنا استخدامها. وقالوا إن عملنا كان يعتمد في البداية على إجراء المعاملات التجارية على الأجهزة المحمولة، وليس على ذلك الموقع. فأوضحنا لهم أن عملنا أصبح يعتمد على المعاملات التي تجري عبر الموقع.
في الواقع كان لديَّ مستشار أو اثنان من القطاع المالي وقد قالا لنا: «استعدوا لعمليات استرداد النقود. يجب أن تقوموا ببعض المعالجة.» فكنا نرد: «أوه، نعم.» فخمنوا من رد فعلنا أننا حتى لا نعرف ما هي عمليات الاسترداد.
وهنا قررت أن يكون هذا هو التحدي القادم لي. فبدأت أجري بعض عمليات البحث، وأحاول التوصل إلى ما يمكننا القيام به وشرعت في دراسة المشكلة.
وفي صيف عام ٢٠٠٠، بدا أن خطوة الانتقال لنظام ويندوز قادمة لا محالة لأن بيتر قد رحل. فقد أخذ إجازة كي لا تحدث أي صدامات بين الرئيسين التنفيذيين للشركتين. وهكذا كان ذلك الرجل الآخر يلح عليَّ كي أقبل أن يكون ويندوز هو النظام الذي نستخدمه في عملنا. فقلت: «إذا كان نظام ويندوز سيُستخدم حقًّا، فلن تكون لي أي فائدة تُذكر، لأنني في واقع الأمر لا أعرف أي شيء عن ويندوز. فقد اعتمدت على يونكس طوال دراستي، وقضيت عمري أبرمج ليونكس.»
وكان يعمل معنا متدرب كنت قد وظفته قبل عملية الاندماج، وقلنا في أنفسنا: «بعد أن صممنا جميع هذه المشروعات الرائعة على يونكس، فإن الاستمرار في ذلك سيصبح أمرًا عديم الفائدة لأنهم سيغيرون النظام. فمن الأفضل إذن أن نقوم بشيء آخر.» لذا قررت أنا وهو أن نبحث عن بعض المشروعات لنتسلى بها. فصممنا مشروعًا خبيثًا بعض الشيء كان حزمة برمجية لاختبار الضغط كانت ستنفذ على نموذج أولي لنظام ويندوز (وكانت النسخة التالية ستنفذ على نظام ويندوز). وصممنا تلك الحزمة البرمجية لاختبار الضغط في نظام يونكس ونظام ويندوز الجديد، وتوضيح برسوم بيانية جميلة أن نسخة الويندوز تتمتع ﺑ ١ بالمائة فقط من قابلية نسخة اليونكس للتوسع. وظل السؤال هو: «هل هذا حقًّا هو المسار الذي علينا المضي فيه؟»
لقد كان هذا نوعًا من الاندفاع، ولكن لم تكن تلك فترة جيدة لي لأني لم أكن راضيًا عن الطريقة التي كانت تسير بها الأمور. لكن أحد جوانب العمل مع رئيس تنفيذي هو أنه بإمكانك الاختلاف معه باحترام، وبإمكانك أيضًا الاستقالة إذا لم تعجبك على الإطلاق الطريقة التي تسير بها الأمور.
وبعد ذلك أصبحت مهتمًّا بالجانب الاقتصادي لباي بال وحاولت أن أرى ماذا يحدث في الجهة الأخرى لأن انتباهي بدأ يتحول عن البرمجة والتكنولوجيا. وأدركت أننا كنا نخسر أموالًا أكثر مما كنت أظن بسبب عمليات الاحتيال. وكنا ما زلنا في بداية عام ٢٠٠١. وإذا نظرتِ إلى معدلات الخسارة الفعلية، تجدين أنها كانت منخفضة إلى حد بعيد. لقد كنا نخسر بالفعل ولكن عند أخذ حجم نمو النظام ونمو عمليات الاحتيال في الاعتبار، يتضح أن الاحتيال لم يكن يمثل مشكلة كبيرة. فقد كانت نسبته أقل من ١ بالمائة، وهي نسبة منخفضة جدًّا. ولكن إذا نظرتِ إلى معدل نمو عمليات الاحتيال، فستجدين أننا إذا لم نعمل على القضاء عليها، فستصبح ٥ بالمائة، ثم ١٠ بالمائة من النظام، وهو ما كان سيؤدي إلى إعاقة المشروع.
لذا بدأت أنزعج بشدة من هذا الأمر، فبدأت أنا وذلك المتدرب نكتب جميع أنواع الحزم البرمجية — والتي كانت ذات طابع إحصائي بحت — لتحليل أسباب حدوث هذا وأسباب خسارتنا للمال. وبحلول نهاية الصيف، شعرنا أن كل شيء قد ينهار في أي لحظة. فقد كان واضحًا أننا نخسر أموالًا طائلة. وفي منتصف الصيف، وصل المبلغ إلى نحو عشرة ملايين دولار في الشهر، وكان ذلك مخيفًا للغاية.
ونشبت مشادة على مستوى الإدارة العليا، وهو ما دفع الرئيس التنفيذي للرحيل. فعاد بيتر ليكون هو الرئيس التنفيذي. وكان أول قرار اتخذته بمشاركته هو أن يصبح عملي الجديد، إلى جانب التكنولوجيا، التعامل مع مسألة الاحتيال لأنني كنت قد قضيت وقتًا كبيرًا أدرسها. وأقنعت ذلك المتدرب واسمه بوب بالتخلف لمدة عام عن جامعة ستانفورد والعمل معي لوقت أطول لإنجاز هذه المسألة، وظللت أنا وهو نعمل بلا انقطاع ونحن نحاول فهم هذه المشكلات وحلها.
لقد استعنا تقريبًا بعشرين أو ثلاثين محققًا، وذلك لحل قضايا الاحتيال الكبرى، ولتحديد ما إذا كان بإمكاننا استعادة بعض النقود أو إبلاغ المباحث الفيدرالية لمطاردة مجرم ما. وفي الحقيقة لم ننجح في دفع المباحث الفيدرالية لملاحقة المجرمين. إذ تقتصر مهمتهم على متابعة الوجهة التي تُحَوَّل النقود إليها، وتحديد ما إذا كان بإمكاننا استعادة جزءٍ منها قبل خروجها من النظام. وكان ذلك صعبًا للغاية لأن الأدوات التي كانت متاحة لنا في ذلك الوقت لم تكن تسمح لنا إلا بفحص عدد قليل فقط من الحسابات في الوقت نفسه. فإذا واجهنا عملية احتيال جيدة التنسيق تتضمن آلاف أو مئات الآلاف من الحسابات، فلن نتمكن من متابعتها.
أذكر أنني ذهبت إلى مكتب أحد المحققين وكان أمامه كميات كبيرة للغاية من المستندات المطبوعة. فسألته عنها فأجاب بأنه يتعقب بعض الأموال. فسألته عن عدد القضايا التي تتعلق بها تلك المستندات. فأجاب إنها قضية واحدة فقط. فسألته عن المبلغ الذي نحن بصدده. فقال: «إنها خسارة تساوي ٨٠ ألف دولار تقريبًا.» فقلت له: «هذا مبلغ كبير، ولكن من الواضح أن الأمر قد استغرق منك أسبوعًا على الأقل كي تطبع هذه الأشياء.»
أدركنا أن الطريقة التي كنا نتصدى بها لهذه العمليات خاطئة في الأساس. لذا صممت أنا وبوب هذا النظام الذي كان، جزئيًّا، حزمة تصوير مرئي، وجزئيًّا أداة لتوازن الرسوم البيانية، وحاول أن يمثل عمليات انتقال النقود الكبيرة في النظام في شكل مرئي. وعلى هذا الأساس، صممنا جميع الأدوات المختلفة التي ستسمح لأجهزة الكمبيوتر أن تتوقع أين ستقع الخسائر الكبيرة بالضبط، ثم تصور شبكات الخسارة للمحققين بطريقة تمكنهم من اتخاذ قرار بسرعة شديدة بشأن جدوى متابعة قضية معينة.
ولما انتهينا من هذا شهدت موقفًا مؤثرًا للغاية مع إحدى المحققات، وذلك عندما عرضنا النظام عليهم؛ فقد بكت من فرط السعادة وقالت: «إنك لا تدرك مدى امتناننا لك يا ماكس.» فقد كانوا بالفعل مثقلين بالعمل ليل نهار.
وعندما انتهينا من هذا، انخفضت الخسائر انخفاضًا شديدًا. لم تبلغ النسبة ٨٠ بالمائة أو نحو ذلك. ولكن طوال ذلك الوقت طبقنا أفكارًا مختلفة من شأنها تقليص نسبة عمليات الاحتيال بمقدار عُشر أو خُمس بالمائة ولكن التأثير لم يكن ملحوظًا. ثم في يوم من الأيام، تمكنَّا من تقليص حجم عمليات الاحتيال بنسبة كبيرة باستخدام تلك الأداة. ومن ثَم فمن الواضح أننا كنا نتحسن في هذا الشأن.
ثم قررت امرأة تدعى سارة إيمباك أن تعزل نفسها في منفًى اختياري. فانتقلت إلى أوماها وأصبحت في البداية مديرة مجموعة للتصدي للاحتيال، ثم أصبحت في النهاية مديرة المركز بأكمله. وعندما انتقلت عمليات مجموعة التصدي للاحتيال إلى أوماها، أسهم ذلك كثيرًا في تخفيض تكلفة إدارتنا لها. وكانت هي مختصة بالجزء الخاص بالإدارة البشرية — ويضم جميع المحققين — فيما كنت أنا أوفر لها الجزء البرمجي. وهكذا باستخدام هذه الأساليب استطعنا أن نحكم سيطرتنا على عمليات الاحتيال في غضون عام تقريبًا.
ثم هناك عمليات وآليات معالجة استثناءات مختلفة، حيث إنه على الرغم من اكتشافنا لوجود عملية احتيال فإننا نقرر أنه لا يمكن معالجتها لسبب ما. وقد نجحنا بالفعل في تحسين الأداء في هذا الصدد بعد ذلك. ففي البداية كنا نصنف العمليات وفقًا للخسارة، ولكن بعد ذلك بدأنا نصنفها وفقًا للخسارة المتوقعة. فكنا نقدر احتمال الخسائر برمجيًّا، ثم نحسب المبالغ التي نحن بصددها، ونحدد الخسارة المتوقعة، ثم نبدأ في تصنيف القضايا للمحققين وفقًا للخسائر المتوقعة.
وتقتصر مهمة المحققين على التعامل مع أعلى ٥ بالمائة فقط من القضايا. ولم نكن نضطر لجعلهم يفحصون كل القائمة المطلوب منهم أن يكوِّنوا آراء بشأنها، ولكن لأنهم يحكمون على القضايا بسرعة، فقد كانوا يفحصون نصف القائمة، ويبدءُون بالقضايا التي نرى أنها تشكِّل أعلى خسارة ممكنة. وهكذا فقد كانوا يتعاملون مع القضايا الأكثر احتمالًا والتي يمكن أن تشكل أعلى خسارة. وكان هذا أحد أساليبنا التي تقوم عليها عملية التطوير.
وفي النهاية، طلبت الكثير من الإدارات الفيدرالية والخاصة بالولايات استخدامها أيضًا، لأنهم لاحظوا أننا نحرز تقدمًا في هذا المجال. فكنا ندعوهم إلى الشركة، وندعهم يدخلون غرفة الجهاز ويستخدمونها ثم يرحلون. ولم يكن مسموحًا لهم باصطحاب الجهاز أو الطباعة.
وبعد وقت قصير، أصبحت الأداة مشهورة في الشركة، على غرار الأدوات الأخرى التي صممناها قبل ذلك. وقد سجلنا براءة اختراع البعض منها، والبعض الآخر قررنا أن نجعله متاحًا للجميع. ومع ذلك، فهناك مجموعة كاملة من الأدوات التي يستخدمها العاملون في الشركة اليوم دون أن تكون متاحة للجميع. ولا يتحدث أحد عن الأمر أبدًا، وأظن أن هذا شيء جيد.
ومن ثَم يجب أن تكمن خبرة الشركة الحقيقية في القدرة على الحكم على نسبة المجازفة؛ أي أن تكون قادرة على تحديد ما إذا كانت المعاملة التجارية من النوع الذي تقبل المشاركة فيه أم أنها يجب أن تبتعد عنها لأن ثمة احتمالًا أن يكون طرفاها لصوصًا. وهذا هو الجزء المتعلق بالأمن على ما أظن. ما أقصده هو أنها ليست شركة أمنية من حيث إنها متخصصة في مكافحة الدخول غير القانوني على النظام، بل هي متخصصة في الأمن على نطاق أوسع: ويشمل ذلك تقدير المخاطرة، والتوصل إلى التصرف الأمثل، وتمييز المعاملات الآمنة من المعاملات غير الآمنة. وكل شيء آخر صنعته باي بال يمكن اعتباره سلعة. فالسبب وراء تعدد منافسينا عام ٢٠٠٠ يعود إلى أن الأمر بدا في غاية السهولة من الخارج: فالعميل يسجل دخوله ويمنحنا أرقام بطاقة الائتمان، ويطلب تحويل نقود وينتهي الأمر.
هناك أدوات تطلب فقط رقم الضمان الاجتماعي والعنوان واسم الوالدة قبل الزواج وسترسل لك ورقة لتوقعها وتعيدها إليهم. وعند الانتهاء من كل ذلك، فإن هذا يعني أنك مستخدم آمن. ولكنك في ذلك الوقت لن تكون مستخدمًا لأنه في كل خطوة عليك اتخاذها، يصل معدل تسرب المستخدمين إلى ٣٠ بالمائة على الأرجح. فإذا اتخذت عشر خطوات، وفي كل مرة تخسر ثلث المستخدمين، فلن يكون لديك أي مستخدمين عندما تنتهي من الخطوة الرابعة.
ما أقصده هو أن الشركات الناشئة لم تدرك وجود هذه المخاطرة. ونحن أيضًا لم نكن ندرك وجود هذه المخاطرة عندما بدأنا. ولكننا كنا محظوظين بالقدر الكافي. ربما يجب أن أكون ممتنًّا لذلك العام السعيد الذي كان الملل يسيطر عليَّ فيه عندما كنت أتوقع تطبيق نظام ويندوز وأُجري بعض التجارب، وأحاول استكشاف عمليات الاحتيال. ولكن بطريقة أو بأخرى، ومهما كان سبب هذا، فقد كنا أذكياء بما يكفي لكي ندرك بسرعة شديدة أن الاحتيال مشكلة ضخمة، ثم نجحنا في محاربته على نحو جيد، في حين لم تفلح الشركات الناشئة المنافسة لنا وانهارت بسرعة. وما زلت أذكر كل تلك الشركات التي أعلنت أنها ستترك العمل في هذا المجال، وكانت تتوقع أن تغلق باي بال أبوابها قريبًا هي الأخرى؛ لأن أرقام عمليات الاحتيال وصلت لمعدلات مذهلة إلى درجة جعلت من الصعب على أي جهة التصدي لها.
كانت هناك شركة — على ما أذكر إي ماني ميل — أغلقت أبوابها في مؤتمر قالت فيه إن الإنترنت ليس بالمكان الآمن للمعاملات التجارية. فقد وصلت نسبة عمليات الاحتيال لديهم إلى ٢٥ بالمائة. أي كانت تتم سرقة دولار واحد من بين كل أربعة دولارات يجري تحويلها في النظام. وكانوا يدفعون تلك النقود من أموالهم الخاصة. واعترفوا بأنهم خسروا أموالًا طائلة وأغلقوا الشركة.
ثم هناك مؤسسات مثل سيتي بانك والمؤسسات المالية الضخمة التي كانت تنافسنا أيضًا والتي ألمت بجميع جوانب مشكلة الاحتيال — فقد عرفوا عبر سنوات طويلة من الممارسة العملية أن الاحتيال سيصبح مشكلة كبيرة — ولكنها لم تتعامل معها بالحماس نفسه الذي تعاملنا به. فقد بدأنا نحن هجومنا تحت شعار: «الاحتيال سيقضي علينا. فكيف لنا أن نحمي أنفسنا؟» أما هم فقد بدءُوا من منطلق: «نحن لا نعاني من أي عمليات احتيال. فكيف يمكننا تطوير ما حققناه بالفعل وعدم السماح بحدوث أي عمليات احتيال؟» وهذا ليس بالأسلوب الصحيح للبدء؛ لأنك بهذا تفرض قيودًا على مستخدميك، والمستخدمون الجدد الذين يتعرفون على نظام جديد لا يريدون أن يخضعوا لأي قيود.
هناك جانب آخر، بحسب اعتقادي، يتمثل في أن الكثير من تلك الشركات شركات جرى طرح أسهمها للاكتتاب. ونحن لم نصبح كذلك حتى توصلنا لحل لمشكلة الاحتيال. فأظن أن كيانًا مثل سيتي بانك يتمتع بكل هذه الشهرة إذا أعلن أنه يفقد ١٠ ملايين دولار شهريًّا بسبب الاحتيال، فإن هذا سيصيب قاعدة المستثمرين بصدمة عنيفة. ولكن أظن أنها حتى إذا فعلت هذا ما كانت ستنجح؛ لأن أيًّا منها لم يلجأ قط إلى الخطوات التي لجأنا إليها في عملنا لمحاربة الاحتيال؛ فقد تحدثنا مع الكثير منها بصفتها جهات تسعى للاستحواذ علينا تارة أو تسعى لعقد اتفاقية شراكة معنا تارةً أخرى.
تكتسب الطريقة المعتادة لتسيير هذه الأمور قوة كبيرة في حالة مرور فترة طويلة على دخولك إلى هذا المجال. أي إننا نوعًا ما استفدنا من حداثة عهدنا بالمجال. فلما كنا نجهل الطريقة المثلى لإنجاز المهمة، فقد حاولنا ابتكار طريقتنا الخاصة.
وكان بيتر يجيد حمايتي من الضغوط الناتجة عن التحديات التي تواجهها الشركة. فكان يتحدث إلى الصحفيين ويقول إننا ننمو بسرعة كبيرة. وقد خسرت إيباي على ما أظن ٢٠ بالمائة من قيمتها في السوق ذات مرة؛ إذ تعرضوا لفترة توقُّف عندما انهار النظام بسبب مخاوف خاصة بالقدرة على التوسع قبل ذلك بسنوات قليلة، لذا كان الصحفيون يسألون: «هل ما تتعرضون له يشبه ما تعرضت له إيباي؟ وهل سيظل النظام معطلًا لأسبوع؟» أي إن الموقف كان عصيبًا حقًّا.
لقد كان أحد تلك المواقف التي يكون على المرء فيها التعامل مع الموقف واتخاذ القرارات دون سابق خبرة طوال الوقت. بالطبع كان سيكون من الرائع اختبار بعض الأجهزة وإنشاء معمل كبير، فإذا كان لدينا عدد محدد من النُّظُم، فدعنا نضاعف هذه النظم ونحصل على ضعف عدد الأجهزة، ونرى هل بإمكاننا التوسع. ولكن لن يفلح الأمر بهذه الطريقة لأنه عندما تنتهين من اختبار النظم المضاعفة، سيكون النظام الحقيقي قد تضاعف ثلاثة أضعاف نظرًا لسرعة النمو الشديدة. فكنا نحصل على عشرين ألف مستخدم نشط جديد كل يوم. وكان نمو المعاملات التجارية نموًّا أسيًّا لأن المستخدم كان يداوم على استخدام النظام. فلم يكن يدخل ويكتفي بمهمة واحدة ويرحل. بل كان يدخل وينفذ ما يريد ويبقى. ويواصل استخدام النظام.
أما من يبيعون ويشترون في إيباي، فالمشتري يقرر أنه سيدفع عبر باي بال فيرفض البائع هذا ويقول إنه لا يقبل الدفع بباي بال. فيقول المشتري: «لا بأس بهذا، سأرسل لك عشرة دولارات وكل ما عليك فعله هو التسجيل لاستلامها.» وهنا ينبهر البائع بالأمر، فيقرر أن الأمر سهل حقًّا وأنه لن يقبل الدفع إلا عبر باي بال.
وأعني بالحظ هنا أنه كان من الممكن أن ننهار تحت وطأة أي من هذه الظروف، لكن هذا لم يحدث. ويعود الفضل في ذلك في معظم الحالات إلى أننا نجحنا في التصرف حيال الموقف الذي كنَّا نتعرض له، ونجحنا في حل المشكلة أو سارعنا بالتصدي لها مبكرًا. ولكني أرى أن اكتشافنا لإرهاصات المشكلة مبكرًا بالقدر الكافي يرجع جزئيًّا إلى الحظ؛ لأنه كان من الممكن أن نغفل عن ذلك، أو أن نشعر بالتعب أو الملل إلى درجة تمنعنا من التصرف.
لكن أكثر ما فاجأني هو الحجم الذي وصلت إليه الشركة. فلم يخطر ببالي قط أنها ستصبح بهذا الحجم. وأتذكر أنني أخبرت بيتر، ذات مرة، أنه إذا أصبح عدد العاملين في الشركة ٢٥ فسأستقيل منها على الأرجح لأنني أحب الشركات الصغيرة. المرة التالية التي تحدثنا فيها بهذا الشأن عندما كان لدينا ٧٥ موظفًا بالشركة، أي إنني تأخرت إلى حد ما. فقال: «لمَ لا تبقى في الشركة حتى يصبح عدد العاملين بها مائة، وترى ما سيحدث؟» في المرة التالية التي تحدثنا فيها كان عدد العاملين بالشركة ألفًا.
من الأشياء التي غيرتها باي بال في شخصيتي هي أنني كنت شخصًا انطوائيًّا، ولم أزل هكذا إلى حد ما، ولكن ليس بالدرجة نفسها التي كنت عليها. ويرجع السبب في هذا في المقام الأول إلى أنني كنت أدير شركة قبل باي بال وحدي ورأيت أن ذلك لا بأس به. وقلت لنفسي إن بمقدوري تحمل مسئولية ذلك. ولكن في هذه الحالة يعتمد المرء على نفسه للتزود بالطاقة والدعم. فليس هناك من يلجأ إليه عندما تتأزم الأمور، ويقول له: «إن الشركة ستنهار في أي لحظة. فما الذي علينا أن نفعله؟»
وكان أهم عوامل نجاحنا في الأيام الأولى أنني أنا وبيتر كنا على ثقة بأننا لن نشعر بالخوف معًا. فعندما شعرت أنا بالذعر من عمليات الاحتيال وخشيت أن تسقط الشركة، كان بيتر يقول لي: «كلا، لقد رأيت الأرقام. إنك تبلي بلاءً حسنًا. فقط واصل المحافظة على هذا المستوى. وستنجح في النهاية.» ومن ناحية أخرى، عندما كان بيتر يشعر بالضيق من بعض المستثمرين أو الطريقة التي تحكم عمل مجلس الإدارة أو غير ذلك، كنت أحرص عادةً على أن أشد من أزره وأدعمه. قد لا يؤمن البعض بأهمية الجانب العاطفي، ولكني أرى أنه من الضروري أن تستعين بأشخاص رائعين حقًّا. فإذا كان فريق عملك جيدًا، فقد قطعت نصف المسافة. ولعل الأهم من هذا أن يكون شريكك شخصًا قويًّا حقًّا. فيجب أن يكون شخصًا يمكنك الاعتماد عليه اعتمادًا شديدًا.
وكان ذلك عاملًا إيجابيًّا للغاية. فكلانا لديه حس المنافسة، وكلانا غير مستعد لافتراض أن الآخر عبقري، وهذا ليس من قبيل سوء الظن. وعندما التقينا، كنا نقضي بعض الوقت معًا، ثم قررنا خوض مواجهة حاسمة ذات ليلة، فجلسنا في مقهًى لمدة تقريبًا ثماني ساعات نتبادل الأحجيات حتى نكتشف من سيحلها أسرع، وهكذا انغمسنا في سجال عقلي متواصل. وأظن أننا بعد ذلك أدركنا أنه لا يمكن أن يكون أي منا أحمق، لأننا كنا بارعين في حل الألغاز بسرعة كبيرة.
فكان كل منا يبتكر ألغازًا يعجز الآخر عن حلها. وأنا أحب الألغاز كثيرًا. ولكني لا أستطيع حلها بسرعة، ومن ثَم أستغرق وقتًا طويلًا. وفي بعض الأحيان، ولكن ليس دائمًا، أستغرق وقتًا أطول من الوقت المتوسط لحلها، لكني غالبًا أنجح في النهاية.
وأعتقد أن السبب الذي يقف وراء نجاح باي بال إلى حد كبير يتمثل في أن الحظ قد حالفني مع بيتر باعتباره شريكًا، وآمل أن يكون الحظ قد حالفه هو الآخر معي.
عندما كنت أدرس في الجامعة لم أُعر الاقتصاد اهتمامًا كبيرًا، ولم أدرس قط أي مقررات في المحاسبة. وفي إحدى الليالي ذهبت إلى المدير المالي وأخبرته أنني لا أفهم الكثير من الجوانب الرياضية في الميزانية العمومية، وما شابه. وأخبرته أن مستواي جيد في الرياضيات، ومن ثَم من المفترض أن أكون قادرًا على فهمها، ولكني أجد المصطلحات عسيرة الفهم، وطلبت منه أن يعلمني المحاسبة. وقضينا معًا وقتًا طويلًا يشرح لي المحاسبة. فتعلمت أمورًا مثل الرصيد المدين والرصيد الدائن والسبب وراء تسمية بعض الأشياء بأسمائها، والالتزامات في مقابل الأصول ورأس المال. وحتى ذلك الوقت لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن هذه الأشياء. وكان قد مر على تأسيس الشركة عام تقريبًا، وقلت في نفسي: «من الأفضل أن أفهم أمور الميزانية العامة هذه. إذ تعد فنًّا إلى حد ما.»
لم يسبق لي جمع الأموال من المساهمين والممولين، ولذا عندما كان بيتر يشرع في أنشطة جمع الأموال، كنت أحاول أن أنضم إليه قدر المستطاع وأحاول أن أكتسب تلك المهارة.
كنت عضوًا بالمجلس طوال فترة عملي بالشركة، ولكن كان بيتر يتولى أمر المناقشات غير اللطيفة. وقد ازدادت مشاركتي في مجلس الإدارة عند تزايد وطأة مسألة الاحتيال. وظللت لفترة طويلة — وكنت أصغر سنًّا آنذاك — معروفًا بين المستثمرين وأعضاء المجلس بأنني ذلك الفتى العبقري الروسي المجنون الذي ما إن يظهر ويلمس التكنولوجيا بعصاه السحرية حتى تسير الأمور على ما يرام.
وهكذا ظل الجميع لفترة طويلة يقولون عندما تظهر مشكلة: «لا داعي للقلق. فماكس سيحل المشكلة.» وقد كان هذا الأسلوب ناجحًا إلى أن بدأت مشكلات التوسع تواجهنا، وحينها اضطررت لأن أوضح لهم في كل مرة قائلًا: «هذا ما يجري. وتلك هي طريقتي في التعامل معه. سيكون كل شيء على ما يرام. ولا داعي للقلق.» وعندما أصبحت مشكلة الاحتيال هي شغلي الشاغل، أصبح لزامًا عليَّ زيادة مشاركتي في مجلس الإدارة، لأن المشكلة كانت ترتبط بأمور يواجهونها يوميًّا، ألا وهي النقود. ومن ثَم كان عليَّ أن أستعد كل الاستعداد. وهكذا تراجعت صورة الفتى العبقري لتفسح المجال للأسلوب واللغة الأكثر جدية بكثير.
وأظن أننا استعنا بأفضل العناصر على الإطلاق، واستطعنا تنفيذ المهام بإتقان في المجمل، واستمتعنا بوقتنا كثيرًا.
عند الاستحواذ على الشركات تؤخذ عادة نتائج الجمع بينها في الحسبان، وعادة ما تكون نتيجة غامضة: فإذا جمعنا بين الشركتين يمكننا التخلص من بعض الأمور وتقليص العمالة. وهو أمر مزعج حقًّا، ولكن هذا هو ما يدفع الآخرين لشراء الشركات. فقد اشترتنا شركة إيباي لأن خدمة الدفع خاصتها كانت لفترة معينة متعثرة. فقد كان لدى الشركة ٦٥ شخصًا ينفذون خدمة يطلقون عليها بيل بوينت، كانت منافسًا خاسرًا في هذا المجال. فقد كان أداؤهم ضعيفًا للغاية. ومع أن شركة إيباي اشترتها وأصبحت الحل الذي لجأت إليه الشركة، فقد سحقناها في المنافسة.
وانقلب الوضع عندما اشترتنا الشركة وأخبروا هؤلاء أنه قد تقررهم صرفهم من الخدمة. وهذا أمر مؤسف للغاية. ولا أود أبدًا أن أكون في موقفهم. إذ تجدين من يطلب منك الرحيل وأن يحل محلك أولئك الذين كنت تخوضين معركة معهم طوال الوقت. فقد استسلمت الشركة الأم واستعانت بمن كنا ننافسهم بدلًا منا.
ما أقصده أنه ينبغي بشكل ما تقسيم الأقسام إلى أقسام فرعية، وإنشاء وحدات أصغر ومنحها سلطة ومسئولية كبيرتين. وينبغي منحها الفرصة إما لتحقيق النجاح أو الفشل. ولكن ليست لديَّ معرفة عملية عما إذا كان هذا النظام ينجح أم لا.
وإذا لم تكن تلك الخطة قد نجحت، وإذا كان لا يزال لدينا النقود والموظفون، لم نكن سنستسلم أبدًا. كنا سنكرر نموذج العمل وننفذ شيئًا آخر. وأظن أننا لم نتعرف على هويتنا إلا حين أدركنا أن العمل ينجح. وبحلول ذلك الوقت، كنا قد توصلنا إلى أسلوب العلاقات العامة الذي سنروج به لأنفسنا وأخبرنا الجميع من نحن وطبيعة عملنا. ولكن ما بين مرحلة التأسيس والإطلاق الحقيقي لشركة باي بال كان هناك شد وجذب، فكنا نجرب تنفيذ شيء ما كل أسبوع. وكنا نذهب إلى المستثمرين كل أسبوع ونقول لهم: «إننا ننفذ هذا الشيء. ونركز عليه حقًّا. لا تقلقوا فشركتنا ستكبر.» وفي الأسبوع الذي يليه كنا نعترف بأننا كذبنا.
وجاءت إحدى اللحظات اللافتة عقب حصولنا على التمويل من شركة نوكيا فينتشرز، وهي أول شركة رءوس أموال مخاطرة تمولنا. وقد تمت عملية تحويل النقود في مطعم «بكس» على أساس أنه سيجري تصنيع أجهزة محمولة مزودة بخاصية لتحويل النقود، وقلنا إنه سيصبح بالإمكان اقتسام فاتورة الغداء باستخدام جهاز بالم بايلوت. وبحلول الوقت الذي عقدنا فيه أول اجتماع لمجلس الإدارة بعد شهر، كنا قد أدركنا بالفعل أن ذلك لا يجدي وأن علينا أن نهتم أكثر بالخدمة المتاحة على الويب، وعرضنا كل تلك الأفكار الأخرى التي أردنا تنفيذها والتي طرحناها جانبًا بعد ذلك. ولكننا بدأنا اجتماع مجلس الإدارة بتحية جون وبيت، اللذين عينتهما شركة رءوس الأموال المخاطرة، وأخبرناهما أننا غيرنا خطة العمل. فاندهشا. إذ إن الشركة كانت قد وضعت ٤ ملايين دولار من أجل تنفيذ الفكرة الأصلية، ولكننا بمنتهى البساطة قلنا لهما إننا لن ننفذ ما كنا بدأناه وسننفذ غيره.
ومما يحسب لهما أنهما كانا متفهمين فقالا: «حسنًا، إنكم أكْفاء. هيا نفذوا المهمة الجديدة.» فعادة ما يستشيط أصحاب رءوس الأموال المخاطرة غضبًا لهذا ولكنهما قالا: «حسنًا. إنكم مجانين. ولكننا سنستمر في العمل معًا.»