الفصل الثالث عشر

ستيف بيرلمان

مؤسس مشارك، شركة ويب تي في

في إحدى الإجازات الأسبوعية من عام ١٩٩٥ اختبر ستيف بيرلمان نظريته بأن شكل الويب على شاشة التليفزيون يمكن أن يظهر على القدر نفسه من الجودة كما هو على شاشة الكمبيوتر. وفي غضون ثلاثة أيام من العمل المتواصل، صمم جهاز كمبيوتر عميل محدود الإمكانيات لتصفح الويب مستخدمًا جهاز تليفزيون كوسيلة للعرض. ودعا صديقه بروس ليك ليرى ما صممه، وتأكدا على الفور أنها فكرة مهمة تكفي لتأسيس شركة.

وكان ذلك المشروع مناسبًا لمجال عمل بيرلمان؛ إذ كان في ذلك الوقت أحد الخبراء الرائدين في مجال تكنولوجيا العرض. فعندما كان يعمل في شركة أبل، ساهم في إدخال الألوان على جهاز ماكنتوش. وبعد ذلك صنع نظامًا يعد من أول نظم ألعاب الشبكة، وذلك في أول شركة ناشئة أسسها وهي كاتابولت إنترتينمنت. وها هو ذا يفكر في نقل الويب إلى غرف معيشة المستخدمين.

وبعد ما يزيد عن عام بقليل من تصميم النموذج الأولي هذا، باعت شركتا سوني وفيليبس أول أجهزة استقبال ويب تي في للجمهور. وفي عام ١٩٩٧، استحوذت شركة مايكروسوفت على ويب تي في (التي تغير اسمها الآن إلى إم إس إن تي في) مقابل أكثر من ٥٠٠ مليون دولار.

***

ليفنجستون : دعنا نعد بالزمن إلى تلك الإجازة الأسبوعية عام ١٩٩٥ عندما صنعت النموذج الأولي لويب تي في. من أين جئت بالفكرة؟ ولماذا قررت تنفيذها؟
بيرلمان : ظللت مهتمًّا لسنوات طويلة بفكرة تصميم أجهزة تليفزيون تفاعلية. وما أعنيه ﺑ «تفاعلية» هنا يتخطى تغيير القنوات، إلى إمكانية أن يصل الناس إلى محتوى يستحوذ على اهتمامهم أكثر، وأن يكون بإمكانهم العثور على ما يريدون ثم مشاهدته وقتما يشاءُون. خذي على سبيل المثال ما نعتبره الآن مسجل الفيديو الرقمي أو ما يفعله المستخدم بجهاز تي فو الخاص به. في ذلك الوقت كان ذلك لا يستخدم إلا في مجموعة التحرير. فإذا كنت من المتخصصين في الشبكات، فربما يكون لديك نظام تحرير رقمي على القرص.
كنت أريد تنفيذ كل هذا، بل قمت بالكثير من العمل في أبل. وقد عرضوا منذ شهر على قناة هيستوري بعض الأشياء التي صممتها في أبل في البداية. وكان ذلك عام ١٩٨٩. وكنت أعرض نظامًا تظهر فيه على الشاشة لقطات فيديو، وصور ورسوم متحركة، والعديد من مصادر الفيديو. وكان بإمكانك إيقاف العرض وإرجاع الشريط إلى نقطة سابقة والتحكم بالأشياء. وكان هذا نظام نموذج أولي كبير، ولكن لم نتمكن من طرحه قط لأنه لم يكن يتوافر محتوى كافٍ لتشغيل نظام كهذا. إذ يمكن نظريًّا بث فيديو مباشر، ولكن في عام ١٩٩٠ لم يكن هناك قرص صلب كبير بما يكفي لحفظ فيديو مباشر. ومن الناحية النظرية، كان بإمكانك إنشاء كل أنواع المحتوى له، ولكن من كان سيبتكر هذا المحتوى إذا لم يكن يتوافر جهاز لاستقباله؟ ومن ثَم فقد واجهنا مشكلة البيضة أولًا أم الدجاجة. فلن يشتري أحد الجهاز لأنه لا يوجد محتوى، ولم يتوافر محتوًى لأن الأجهزة لم تكن موجودة.

ولكن ظهر الكثير من المنتجات المشتقة من ذلك العمل، فكويك تايم انبثق من هذا العمل. فأخذنا تكنولوجيا إزالة ضغط الفيديو وطورناها وحولناها إلى خوارزمية برنامج، وحول بروس ليك وفريقه هذا بدوره إلى منتج. فقد ظهرت مجموعة كاملة من المنتجات الأخرى من وراء ذلك، ومنها بعض منتجات الفيديو من شركة أبل وغير ذلك.

ثم عملت في جنرال ماجيك لإنجاز جهاز مساعد رقمي، ولكني كنت أعمل هناك لنصف دوام والنصف الآخر كنت لا أزال أعمل على تصميم نظم إرسال غير باهظة الثمن على تليفزيون لتصنيع أجهزة تليفزيون تفاعلية على أن تتمكن من تشغيل الفيديو والألعاب وأشياء من هذا القبيل.
ليفنجستون : أكنت تعمل لإنجاز مشروعاتك الخاصة في وقت فراغك خارج ساعات الدوام؟
بيرلمان : نعم في وقت فراغي. فقد تخليت عن نصف خيارات الأسهم الخاصة بي. إذ توصلت معهم إلى اتفاق أعمل بمقتضاه يومين ونصف في الأسبوع لإنجاز المنتجات الخاصة بجنرال ماجيك ويومين ونصف في مشروعاتي الخاصة. ولكن بعد ذلك في آخر عام لي في جنرال ماجيك، قررت الشركة تنفيذ منتج لعرض الفيديو. وأطلقوا عليه ماجيك تي في. فبدأت أعمل حينئذٍ لدوام كامل لمحاولة ابتكار نظام تفاعلي لهم. ولكنهم واجهوا مشكلات مادية ومشكلات أخرى تتصل بطرح المنتج، فتوقف العمل في هذا النظام.
فقررت وقتها أن هذا هو الوقت المناسب لي للبدء. وعندئذٍ أسست مع ثلاثة أشخاص آخرين كاتابولت إنترتينمنت التي صممت مودم لألعاب الفيديو الخاصة بسيجا ونينتندو وكان يهدف لتعديل تنفيذ هذه الألعاب، حتى يمكن للمستخدمين ممارسة ألعاب متوافرة لديهم بعضهم مع بعض على خط الهاتف. وقد كان ذلك يتطلب بناء البنية التحتية للشبكة لربط المستخدمين معًا — تذكري أن الويب لم تكن متاحة للناس في منازلهم في ذلك الوقت — وأيضًا تصميم المكونات المادية وتطبيق الهندسة العكسية على الألعاب. ومن ثَم تعلمت الكثير عن سوق المنتجات الاستهلاكية وعن طرح المنتجات في المحال التجارية. واستغرق الأمر بدءًا من تأسيس الشركة إلى أن وصل المنتج إلى أرفف سلسلة محلات اللعب «تويز آر أص» وجرى تشغيل الشبكة فترة تقدر بستة أشهر، وفي ذلك السليكون المخصص الذي جهزناه، وأيضًا تشكيل القوالب البلاستيكية المخصصة للمنتج، والتغليف والتوزيع.
ليفنجستون : كل هذا في ستة أشهر؟
بيرلمان : نعم، ستة أشهر. وقد طبقنا الهندسة العكسية على أربع ألعاب: إن بي إيه جام، ومورتال كومبات، وإحدى ألعاب الهوكي، ولعبة أخرى. وكنا فعليًّا نعمل طوال الوقت. وفي المعتاد، كنت أظل مستيقظًا ليومين متتاليين، ثم أذهب لأنام أربع ساعات فقط وأعود لأعمل ليومين آخرين، ثم أنام لأربع ساعات وهكذا.
وكانت تلك الفترة هي أكثر فترة اجتهدت فيها في عملي في حياتي كلها. وفي بعض الأحيان كنت آخذ غفوة سريعة لعشر دقائق بأن أريح رأسي على كتفي، حتى أحظى بنوم تتخلله حركات العين السريعة. فما إن تأتي الأحلام حتى تعيد تهيئة المخ قليلًا فتتمكنين من العودة للعمل مرة أخرى. كنا ننام على مكاتبنا. ونطلب البيتزا. وفي بعض الأحيان كانت زوجتي تطهو كرات لحم الديك الرومي والإسباجتي في حلة كبيرة وتحضرها لنا، وكان الجميع يأكلون منها.
ليفنجستون : وبالطبع كانت زوجتك قلقة للغاية لأنك لا تنام سوى أربع ساعات كل يومين؟
بيرلمان : فعلًا. وقد أحضرت لي حشية قابلة للطي كنت أفردها أسفل مكتبي. فلم تود أن تتركني أنام على الأرض.
وكانت المساعِدة، التي جاءت معي من جنرال ماجيك، تحكي أنها كانت تأتي في الصباح وتحاول تنظيف المكان. فبينما كانت ترفع علبة بيتزا مطوية من فوق الأرض، تفاجئ بوجود شخص نائم تحتها والعلبة تغطي وجهه. كان وقتًا عصيبًا حقًّا. وعندما كانت زوجتي تصطحب الكلب معها، كان يجد بقايا شطائر البوريتو لأن المكان كان قذرًا للغاية.

ولكننا نجحنا في إطلاق المنتج في غضون ستة أشهر لأننا كنا نعرف أنه علينا إطلاقه قبل عطلة الكريسماس. وبالفعل طرحناه في شهر سبتمبر.
ليفنجستون : إذن فقد كان لديكم موعد محدد للتسليم؟
بيرلمان : أجل، كان لدينا موعد تسليم صعب. ولكنها كانت تجربة عظيمة تعلمت منها الكثير. فالأشخاص الذين استعنا بهم لتشغيل برامج الشبكة، لم ينجزوا عملهم. فقد عجزوا عن إنجاز المهمة وفقًا لذلك الجدول الزمني. لذا سحبناه منهم ونفذناه بالكامل بأنفسنا. وهكذا كان الأمر يعتمد على سرعة الإنتاج.
واستخدمنا مصفوفات البوابة المنطقية القابلة للبرمجة التي تمكنا بعد ذلك من تحويلها إلى مصفوفة بوابة دائمة حتى نجعلها اقتصادية ومربحة في مقابل تكلفتها. وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة لتشغيل المكونات المادية بهذه السرعة. ولم يتبقَّ بعد ذلك إلا العمل باجتهاد لإنجاز الألعاب والأشياء الأخرى. وقد تشاركنا مع شركة تي إتش كيو وهي شركة ألعاب فيديو تتمتع بقنوات توزيع تصل إلى جميع منافذ بيع ألعاب الفيديو بالتجزئة، لذا تمكنا من طرح المنتج بسرعة.

وتعلمت أيضًا أمورًا عن العمل بالاشتراك مع آخرين، لأنني لم أتفق في الرأي مع أحد الذين أسست معهم الشركة. فقد كانت وجهة نظره فيما يتعلق بالاتجاه الذي ينبغي أن تتخذه الشركة تختلف تمامًا عن وجهة نظري. وأدركت أن هذه الأمور تعد أشبه بالزواج. فعندما تشاركين في تأسيس شركة عليك اختيار من تتقارب وجهة نظرك معهم بخصوص الاتجاه الذي ستتخذه الشركة. وإلا فستقضون وقتكم في شجار مستمر.
ليفنجستون : هل سبق لك العمل معه من قبل؟
بيرلمان : كنت أعرفه من قبل. فكانت جنرال ماجيك تطور منتجات لحساب شركة سوني، بينما كانت الأخيرة مهتمة اهتمامًا ملحوظًا بماجيك تي في. وكنت قد تعرفت عليه في شركة أبل لأنه وضع تصميمًا صناعيًّا هناك. ثم ترك الشركة وذهب للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال ثم ذهب للعمل في سوني. وهكذا كنت أقابله في سوني. ولم نكن أصدقاء ولم تتوطد علاقتي به خارج نطاق العمل، ولكن عندما تركت الشركة قال لي: «إنهم يوقفون العمل في ماجيك تي في. ماذا تنوي أن تفعل؟» فأجبت: «لا أعلم. إن لديَّ فكرة لذلك الأمر أود تنفيذها في ألعاب الفيديو.»
وكنت قد توصلت إلى طريقة لتشغيل ألعاب الفيديو السائدة في ذلك الحين عبر الإنترنت، على سبيل المثال الألعاب الثنائية مثل لعبة إن بي إيه جام، فقد عدلنا البرنامج بحيث ترتبط وحدتا تحكم المستخدمين عبر الاتصال الهاتفي، ومن ثَم يكون بإمكان المستخدمين اللعب معًا. وبالطبع لم يكن من الضروري شراء برنامج جديد لأننا كنا نعمل على برامج الألعاب التي سبق تصميمها من قبلُ. وتعتبر تلك طريقة رائعة للتمهيد للألعاب على الإنترنت.

وبالطبع، كنا نسبق كثيرًا عصر سوق ألعاب الإنترنت، وفي نهاية سوق الكارتريدج. وقد تعلمت الكثير والكثير من هذه التجربة؛ لأنها في النهاية لم تنجح كمشروع. فقد كانت التجربة لا بأس بها من الناحية المالية، ولكنها لم تكن ناجحة كمشروع تجاري.

ولكن أكبر درس تعلمته هو أني لم أنسجم مع ذلك الشخص وأن الوقت قد حان للمضي قدمًا. وهكذا استمر الأمر لمدة عام تقريبًا. وقد بدأ الأمر في ربيع عام ١٩٩٤، وتركت الشركة في ربيع ١٩٩٥. وكنت في ذلك الوقت أشعر بإنهاك شديد. لقد كنت منهك القوى بدنيًّا كما تتوقعين بالطبع بعد ذلك المجهود الخارق.

وصممت على قضاء فترة في التجريب واستكشاف الأمور. ورأيت برنامج التصفح نت سكيب ١٫٠، وأعجبتني شبكة الويب الدولية. وكنت أدخل على الإنترنت منذ أن كنت في الجامعة وكانت في ذلك الوقت يُطلق عليها أربانت. وكانت الشبكة آنذاك تربط بين بضع مؤسسات، ولكن بمرور السنوات ظللت أستخدمها كما يستخدمها مهندسو البرمجيات.
ليفنجستون : هل كان تخصصك في الهندسة؟
بيرلمان : كلا. فقد كانت دراستي يسيطر عليها الطابع الأدبي. أما ثقافتي الهندسية فجاءت على سبيل الهواية. فقد صنعت جهاز كمبيوتر وأنا في السادسة عشرة من عمري ثم صممت شاشة عرض رسومات تناسبه وأشياء من هذا القبيل. وكنت أقرأ مجلتي «كيلوبود» و«بايت»، وكنت أطبع أوراق تحمل اسم شركة وهمية وعنوانها وأرسلها إلى شركات تصنيع الرقائق — وهي الآن شركات أتعامل معها رسميًّا — وأقول لهم: «إن لدينا خططًا رائعة لإنتاج منتجات جديدة. أرجو أن ترسلوا لنا بعض النماذج.» ومن ثَم أحصل على جميع الرقائق مجانًا. وكنت أصمم من أجل تلك الرقائق دوائر كهربية تناسبها. ولم تكن رقائق ممتازة. ولكن لم يكن بيدي شيء، فقد كنت طالبًا في المدرسة الثانوية ولا أملك نقودًا.
كنت في ولاية كونيتيكت وجميع من أتعامل معهم في ولاية كاليفورنيا، أي إنني كنت على بعد ثلاث ساعات. وفي النهاية غيرت جدولي فكنت أستيقظ عند الظهيرة لأن المحلات كانت تفتح أبوابها في ذلك الوقت؛ فكان الموزع جاميكو إلكترونيكس يفتح أبوابه في التاسعة صباحًا في كاليفورنيا وهو وقت الظهيرة في كونيتيكت. فليس هناك ما يجعلني أستيقظ قبل الظهيرة.

لطالما كنت هاويًا، وذلك يفسر انتقالي بسلاسة بين البرمجيات والمكونات المادية والشبكات وعلم المواد. فكل ما يهمني أن أقوم بما يتطلبه الأمر حتى أضمن تشغيل كل شيء. ولم أتلقَّ تعليمًا نظاميًّا في هذه الأمور ولكن المرء يتعلم. وعندما يبتكر بعض المنتجات، بعد فترة تبدأ الأمور تتضح. وإذا طبقنا الهندسة العكسية على ما يكفي من المنتجات، لا شك أننا سنتعلم مما أنجزه الآخرون.

وقد صممت جهاز مودم يعتمد على برنامج عندما كنت في الجامعة ورسبت في تلك المادة لأن أستاذي رأى أنه لن يعمل أبدًا. ولكني نجحت في تشغيله في شركتي الأولى. وكان رد الأستاذ لطيفًا عندما أرسلت له رسالة بالبريد الإلكتروني بعد ذلك أقول فيها: «هذه الرسالة تتعلق بالمودم الذي صممته في جامعة كولومبيا.» فرد عليَّ قائلًا: «يحاول المرء أن يصيب في حكمه، ولكنه لا يفلح دائمًا. ويسعدني أن ما قلته لم يثنك عن الاستمرار في تطويره.» وأظن أنه كان لطيفًا منه أن يقول ذلك.
ليفنجستون : إذن فقد تركت شركة كاتابولت وقررت التفرغ للتجريب وتأمل الأمور، أليس كذلك؟
بيرلمان : ظهر متصفح نت سكيب ١٫٠. فشغلته، فأعجبني حقًّا لأن هناك من يضعون مواقع يمكن لأي شخص الدخول إليها. فدخلت إلى موقع campbellsoup.com وكان يقدم وصفات لحساء كامبل. وكانت تلك الفترة تشهد بدايات الويب، لذا لم يكن الموقع يضم الكثير، ولكن خطر لي أن نوعية الناس الذين سيهتمون بهذه الوصفات غالبًا لا يستخدمون أجهزة الكمبيوتر ولا يدخلون إلى الويب.
ولا تنسَيْ أن ذلك كله كان قبل حصول الكثير من الناس على أجهزة كمبيوتر من الأصل حتى تصبح لديهم إمكانية الحصول على بريد إلكتروني والدخول على الويب. ثم خطر لي أنه ربما يكون هذا هو ما أحتاج إليه لحل مشكلة الدجاجة أولًا أم البيضة. لأنني إذا جعلت هذه الصفحات المصممة خصوصًا للعمل على شاشات الكمبيوتر تعمل على شاشات التليفزيون، فيمكن … إنه ليس بالمحتوى الممتاز، فالكثير منه يناسب شخصًا يعمل على جهاز كمبيوتر. ولكن بعض المواقع مثل موقع كامبل — والكثير من المواقع الأخرى مثل مواقع الموسيقى وغيرها — تناسب تجربة الترفيه بمشاهدة التليفزيون. وقد يكون هذا كافيًا لإعدادنا كي ننفذ ما أود تنفيذه حقًّا ألا وهو تلك التجارب التفاعلية المتطورة؛ أو ما نطلق عليه الآن واسعة النطاق. وكان من بين ما أريد تنفيذه منتجات على غرار مسجل الفيديو الرقمي وغيرها.

قبل العمل في شركة أبل عملت في شركتي أتاري وكوليكو. وصممت هناك نظم ألعاب فيديو، وأصبحت أعرف الكثير عن طريقة إعداد صورة عالية الدقة على شاشة تليفزيون عن طريق القيام بمعالجة الصور بطريقة خاصة. وإذا حاولت وضع صورة عالية الدقة على شاشة تليفزيون فإنها تتداخل. هذا يعني أنها ترسم جميع الخطوط الفردية في واحد على ستين من الثانية، ثم ترسم جميع الخطوط الزوجية. وإذا كانت لديك صورة متواصلة التدرج — من نوعية الصور التي نراها في العالم الحقيقي — وتلتقطها بكاميرا فيديو، ستنظر عينك إلى تلك الحقول الفردية، التي تتمثل في جميع الخطوط الفردية والزوجية التي يجري تحديثها في واحد على ستين من الثانية، مع أن الشاشة بأكملها يعاد تحديثها ٣٠ مرة فقط في الثانية، وستظن العين أنها تهتز ٦٠ مرة في الثانية. وبمعدل ٦٠ مرة في الثانية إذا كنت تقفين في نهاية الغرفة، فستحصلين على أفضل رؤية، وستبدو الصورة غير متقطعة. ولهذا عندما تنظرين إلى التليفزيون لا تبدو صورته تهتز اهتزازًا متقطعًا.

ولكن إذا وضعت محتوًى في أحد هذه الحقول ثم محتوًى مختلف تمامًا في الحقول الأخرى، على سبيل المثال الخطوط الأفقية البيضاء والسوداء التي قد ترينها أعلى نافذة جهاز ماكنتوش قديم، ووضعت هذا على شاشة تليفزيون، فإنها تهتز اهتزازًا متواصلًا. في الحقيقة، تظهر الصورة سيئة لدرجة أنها قد تؤدي لإصابة مريض بالصرع بنوبة مرضية. وكل ما كانوا يقومون به من قبل هو ضبط التليفزيون بحيث يرسم نصف الخطوط بطريقة عمودية. وكانت جميع ألعاب الفيديو في ذلك الوقت يظهر بها ٢٤٠ خطًّا فقط بدلًا من ٤٨٠. وقد توصلت إلى تقنيات يمكنني عن طريقها معالجة صور مخصصة للظهور على شاشة الكمبيوتر بحيث يجري تنعيمها بطريقة تحول دون رؤية اهتزاز الصور. وستبدو حادة للغاية على شاشة التليفزيون ولكنها لن تهتز ومن ثَم يمكنك عرض صورة عالية الدقة على التليفزيون. وكانت تلك التكنولوجيا موجودة في بعض أجهزة ماكنتوش، ولكن لم يكن هناك إقبال على توصيل أجهزة ماكنتوش بالتليفزيون.

ومن ناحية أخرى — وهذه نقطة لافتة للانتباه — في ذلك الوقت في ثمانينيات القرن الماضي، عندما طورت هذه التكنولوجيا لمصلحة شركة أبل، لم يكن أحد يقدم طلبات تسجيل براءة اختراع للبرمجيات. إذ كانت براءات الاختراع تقتصر على المكونات المادية فقط. وبعد ذلك بدأ الناس يقدمون طلبات تسجيل براءات اختراع للبرمجيات. ويعود السبب في ذلك إلى أن البرمجيات كانت تعد خوارزمية، ولا يمكن تسجيل براءة اختراع للخوارزمية. فمثلًا تحويل فورييه لا يمكن تسجيل براءة اختراع له. فهو يعتبر دالة رياضية. وقد نفى المحامون المتخصصون في حقوق براءات الاختراع إمكانية تسجيل براءة اختراع لتقنية تثبيت الصورة هذه — وبالتحديد المبادئ الأساسية لها — ومن ثَم فهي مفتوحة لاستخدام الجميع.

ومع ذلك فلم تكن الطريقة التي نفذت المشروع بها في أبل كافية لتحقيق ما نسعى لتنفيذه مع الويب. وكانت لدينا أشياء أخرى لننجزها، ومن ثَم فقد أخذت تلك الأفكار الأساسية وأضفت إليه مجموعة كاملة من الأشياء الأخرى وقدمت طلبات براءات الاختراع الأساسية عنها. وكنت أعرف أنه من الممكن أن نأخذ صورة معدة للعرض على شاشة الكمبيوتر ونجعلها تعمل على شاشة التليفزيون. لذا ذهبت إلى أحد فروع متجر فرايز واشتريت قطعًا قيمتها ٣ آلاف دولار وعكفت على تصميم شيء لمدة ثلاثة أيام وليلتين. (وقد عملت بالطريقة نفسها التي كنت أعمل بها في كاتابولت. فقد كانت هذه هي طريقة عملي المعتادة في ذلك الوقت.) ثم حصلت على تلك الصورة من إحدى صفحات الويب وعرضتها على التليفزيون وبدت ممتازة. بالضبط كما كانت تبدو على الكمبيوتر. وأنا أؤكد لك أن دقة وضوح شاشات الكمبيوتر في ذلك الوقت كانت في الأغلب تبلغ ٦٤٠×٤٨٠، وكانت صفحات الويب أصغر نسبيًّا، ومن ثَم تصادف أن نجحت الفكرة في الوقت والسياق اللذين تصادف وجودنا فيهما.

اتصلت بصديقي بروس ليك الذي ذكرت آنفًا أنه كان زميلًا لي في أبل. وقد استفاد من الكثير من التكنولوجيا التي طورناها في مجموعة التكنولوجيا المتقدمة، مثل كويك تايم، وأيضًا الألوان المتوافرة في كويك درو، ثم حول تلك التقنيات إلى منتجات. وقد حالفنا التوفيق في عملنا معًا. وكان في ذلك الوقت يعمل في شركة ناشئة أخرى، اسمها روكيت ساينس جيمز. فاتصلت به في منتصف الليل تقريبًا على هاتفه المحمول وطلبت منه أن يأتي على الفور. فسأل عن السبب. فقلت له: «إن لديَّ ما أود أن أريه إياه. وإنني على وشك أن أفقد الوعي.»

فجاء ونظر إليه وقال: «حسنًا، وماذا في ذلك؟ ماذا فعلت بجهاز التليفزيون؟» فقلت له: «إنني لم أفعل شيئًا بجهاز التليفزيون. ولكني فعلت شيئًا بالإشارة التي تنتقل إلى التليفزيون.» فلم يصدق ما يسمعه. فقلت له إن هذه حقيقة.

وأذكر أنه قال إننا ينبغي لنا تأسيس شركة. فوافقته على الفور وأظن أن تلك كانت أول مرة أفكر فيها في هذا الأمر. ثم فكرت أنه يجب أن نختار اسمًا جيدًا للشركة، وقررنا على الفور أن نطلق عليها اسم ويب تي في.

بعد ذلك، تتابعت الخطوات، الواحدة تلو الأخرى. وتمكنا من جذب فيل جولدمان للانضمام إلينا، وهو مطور من الطراز الأول. فهو من ابتكر مالتي فايندر لجهاز ماكنتوش، وكتب جزءًا كبيرًا من نظام تشغيل جهاز جنرال ماجيك.

ثم ذهبنا إلى مارفين ديفيس، وهو ممول ثري في هوليوود. وقد كوَّن ثروة هائلة لأنه استثمر في كاتابولت في وقت مبكر. وكما أخبرتك، كانت كاتابولت ناجحة ماديًّا مع أنها لم تكن ناجحة على مستوى المنتج. وقد أخبرني أنه يود أن يستثمر نقوده معي أيًّا كان ما سأفعله بعد ذلك، لأنه زاد من أسهمه في كاتابولت وباعها إلى شركة فياكوم وجنى أرباحًا هائلة في ستة أشهر تقريبًا. فذهبت إلى هوليوود مع بروس لمقابلة مارفين ديفيس، وعرضنا عليه النموذج الأولي الذي كان لديَّ من ويب تي في على جهاز تليفزيون في مكتبه. ولست واثقًا أنه استوعب على الفور قيمة المنتج، ولكنه مع ذلك تعهد بتقديم بعض التمويل الأساسي له. فحصلنا على مليون ونصف مليون دولار من مارفين وهذا ما استعنا به لتأسيس الشركة.

كان هذا في يوليو من عام ١٩٩٥. وأظن أنني نجحت في تشغيل النظام في أبريل ١٩٩٥، لذا قضيت الوقت من أبريل إلى يوليو أضع خطة المشروع وأحدد على الأقل أول شخصين سيعملان معي، وقضيت الكثير من الوقت أتصل بعدة أشخاص ممن يمكن أن نعمل معهم، وأبحث عن مكتب وأشياء من هذا القبيل. فقد كنا نعمل في غرفة الطعام بمنزلي.

وبعد أن حصلنا على النقود من مارفين ذهبنا إلى معرض قديم لتوكيل سيارات بي إم دبليو كان شاغرًا. وكانت معظم مساحته تستعمل مرأبًا، ولكن كان به مكان صغير يصلح لكي يكون مكتبًا. ولم تكن هناك إمكانية للاتصال بالإنترنت من هناك، وأظن أنه كانت تتوافر فيه ثلاثة خطوط هاتف. ولكن كانت تكلفته تقريبًا تسعين سنتًا في القدم المربع شهريًّا، فوجدته مناسبًا. وكان بالقرب من وسط مدينة بالو ألتو لذا انتقلنا إلى هناك. وكان لدينا ثلاثة خطوط هاتف. وكان أحدها دائمًا متصلًا بالإنترنت عن طريق الهاتف، لأننا كنا نجري تجارب وأشياء أخرى. وكنت أحاول أن أجري مكالمات عمل على أحد الخطين الآخرين، ودائمًا ما كنا نسمع صوت أجهزة المودم تقاطع المكالمات.

في النهاية تمكنا من إقناع شركة باسيفيك بيل، شركة الهواتف في ذلك الوقت، أن تحضر لنا خط نقل بيانات تي١. وأذكر أنني تحدثت هاتفيًّا إلى أحد العاملين بالشركة وقلت له: «نرغب في تركيب خط تي١ هنا. فمجال عملنا يحتاج إلى ذلك. ومن ثَم سنحتاج إلى اتصالات نطاق عريض سريعة جدًّا وألياف ضوئية وأشياء من هذا القبيل.» ثم سمعت صوت تقليب في الأوراق ثم قال ذلك الشخص: «أتمزح؟ تفيد البيانات التي لديَّ بأن هذا توكيل بيع سيارات.» فقلت له: «كلا. إننا ندير شركة خدمات كبيرة على الإنترنت. وهي ستؤثر على حياة الناس في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وسيصبح لها شأن كبير.» فقال: «حسنًا. من أقنعكم بهذا؟» فقد كانت محاولة إدخال اتصال سريع بالإنترنت إلى هناك تبدو أقرب إلى دعابة. واضطررنا للتعامل مع أكثر من مستوى في باسيفيك بيل حتى صدقوا أننا شركة ناشئة نستخدم مكان توكيل سيارات قديم لإنشاء شركة تقدم خدمة على الإنترنت.
ليفنجستون : كم كان عدد المشاركين في التأسيس عندما بدأتم؟
بيرلمان : كنا ثلاثة: أنا وبروس ليك وفيل جولدمان. وللأسف توفي فيل منذ عامين إثر تعرضه لأزمة قلبية مفاجئة. وقد فُجعنا لذلك.
وبعد ذلك بدأنا في تعيين موظفين وتسيير الأمور. وبدأت أقوم بشيء لم أكن معتادًا عليه؛ وهو تنمية العمل. كان هذا الأمر برمته جديدًا عليَّ. فكما أخبرتك، قد لا أكون حاصلًا على درجة علمية في الهندسة، ولكن هذا هو العمل الذي ظللت أعمل به طوال حياتي.

فاتصلت بشركة سوني واقترحت عليهم تصنيع هذا المنتج. فأبدت سوني اهتمامها، وبدأت أجري اتصالاتي ببعض معارفي ممن تعرفت عليهم حين كنت أعمل في جنرال ماجيك، ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى من بيدهم الأمر بالشركة بسرعة. وكذلك بدأنا نتحدث إلى فيليبس. وفي النهاية أعربت سوني عن رغبتها في المضي قدمًا في مشروع ويب تي في، على أن تحصل على حق تصنيعه حصريًّا لمدة عام. واتفقنا أيضًا على أن تضع شعار سوني على الجهاز، وتوزعه في المتاجر التابعة لها وغير ذلك. لكن كان لنا حق ترخيص هذه التكنولوجيا لآخرين بعد مرور عام. لذا أبلغنا فيليبس أن عليهم الانتظار لمدة عام، مع أنهم كانوا متحمسين للبدء في المشروع. وفي ذلك الحين، وإلى اليوم على الأرجح، كانت سوني أقوى علامة تجارية في الولايات المتحدة.

ثم بدأنا السعي للحصول على مزيد من التمويل. وكان قد تعهد آل ديفيس بدفع ثلاثة ملايين دولار على أن نحصل عليها على مراحل. وكنا قد حصلنا بالفعل على ١٫٥ مليون دولار، وكان حصولنا على باقي المبلغ مرهونًا بقيامنا بإبرام صفقة مع شريك يعمل في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية …
ليفنجستون : … الذي كان سيصنع الأجهزة؟
بيرلمان : إذا تمكَّنا من إبرام اتفاق مع سوني، فستكون هي الجهة المصنعة لويب تي في. وسوني شركة كبيرة. ويتطلَّب الأمر بذل الكثير من الجهد للاتصال بالمسئولين فيها، ولم نتمكن من الحصول على موافقتهم لتطبيق المشروع. ومع أننا بذلنا محاولات مضنية — وكانوا تقريبًا على استعداد للبدء — فإننا لم نستطع أن نحصل على التزام منهم. لذا عدنا إلى آل ديفيس، فأصيبوا بالهلع. فهم غير متخصصين في التكنولوجيا وقرروا ألَّا يساهموا إلا بمليون ونصف المليون فقط.
وكنا نحن قد وظفنا عددًا كبيرًا من الموظفين، أظن أنه كان لدينا ما يزيد عن ثلاثين موظفًا في ذلك الوقت. ومع أننا كنا مقتصدين إلى حد كبير، فكنا لا نزال ننفق من نقود رأس المال المخاطر بمعدل كبير. وكنا على وشك أن نفلس. لذا رهنت منزلي، وصفَّيت جميع أصولي، وأحضرت جميع النقود التي أستطيع الحصول عليها كي أنقذ الموقف. (ومع أنني ربحت أموالًا لا بأس بها من جنرال ماجيك وكاتابولت، فإن هذا لم يحدث إلَّا بعد تلك المرحلة. فكلتا الشركتين أصدرتا الطرح الأولي العام لهما بعد ذلك الوقت. فقد كان يجب أن تنتظر جنرال ماجيك حتى تنتهي مدة الاحتفاظ بالأسهم.)

لم نخبر الموظفين أننا لا نملك فائضًا من النقود؛ لأننا لم نكن نريد أن يصاب أحد بالذعر. وكنا سنخبرهم لو كنا نواجه أزمة لا سبيل لتخطيها، ولكنني تمكنت من تسيير العمل في الشركة لفترة أطول بعض الشيء.

ثم بدأنا عقد محادثات مع مستثمرين وأصحاب رءوس أموال مخاطرة آخرين، في وقت أقرب بكثير مما توقعنا أن نضطر لهذا.
ليفنجستون : هذا لأنكم كنتم تتوقعون الحصول على الدفعة الثانية من الأموال، أليس كذلك؟
بيرلمان : بلى. الآن أتذكر تلك الأيام، وأقول لنفسي إن حتى ٣ ملايين دولار يعد مبلغًا متواضعًا للغاية بالنسبة لحجم المشروع الذي كنا نحاول تنفيذه.
أذكر أننا أجرينا محادثات مع إحدى الشركات المتخصصة في أشباه الموصلات التي كانت تصنِّع معالجًا، وقد قطعنا معها شوطًا كبيرًا في المحادثات. وقبل أيام قليلة من توقيع مستندات الاستثمار، أضافوا فقرة تشترط أن نلتزم بأن تكون شركتهم هي المورد الوحيد لاحتياجاتنا من مادة السليكون. بعبارة أخرى، أعدوا الأمر بحيث نجد أنفسنا في مأزق ويتحكمون هم في مصيرنا. وكنا نعرف أننا لو حصرنا تعاملنا على مورد وحيد لمادة السليكون فلن نتمكن من التفاوض حول الأسعار. وسيؤدي ذلك بدوره إلى زيادة سعر الوحدة، ومن ثَم لم يكن بإمكاننا الموافقة على هذا. بل حاولنا أن نشرح لهم الأمر فقلنا لهم: «إنكم تستثمرون في الشركة. وليس من مصلحتكم أن يحدث هذا.» ولكنهم رأوا أن هذه الاستراتيجية هي أفضل طريقة للتعامل مع مؤسسي الأعمال السذج عديمي الخبرة.

وهكذا ضاع شهران آخران. وكنا نرى الحساب المصرفي يتضاءل. ثم بدأنا نجري محادثات مع أصحاب رءوس أموال مخاطرة، وتحدثنا مع مجموعة كبيرة مختلفة منهم. فتحدثنا إلى بول ألين في فولكان وبعض الشركات الأخرى. وتحدثنا إلى سوني وفيليبس بشأن احتمال استثمارهما معنا، ولكنهما لم يكونا في موقف يسمح لهما بالاستثمار. ووجدنا أنه لا أحد يرغب في اتخاذ تلك الخطوة الأولى. وفي الواقع أظن أن الكثيرين منهم كانوا جشعين ينتظرون سقوطنا ثم يجمعون بقايانا بسعر زهيد؛ لأنهم كانوا يدركون قيمة ما نقوم به.
ليفنجستون : هل لك أن تصف لنا ردود فعل المستثمرين الأولية؟ هل أبدى أحدهم استغرابه من طبيعة المشروع؟
بيرلمان : كان أكثر ما يشغلهم هو ألا يهتم الناس بالتفاعل مع أجهزة التليفزيون الخاصة بهم. فقد عرضنا عليهم نماذج أولية عاملة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا. وفي ذلك الوقت كان لدينا متصفح يعمل كنا قد صممناه من الصفر. أي إننا في أقل من عام، ابتكرنا متصفحًا يعمل. وعلى سبيل المثال، عندما صممت مايكروسوفت المتصفح إنترنت إكسبلورر، بدأت ببرنامج موزايك. ولكننا لم نستطع أن نجعل هذا البرنامج يتناسب مع نظامنا. إذ لم يكن لدينا إلا ذاكرة وصول عشوائي سعتها ٢ ميجابايت، ومعالج ميبس سرعته ١١٢ ميجاهرتز، وذاكرة للقراءة فقط سعتها ٢ ميجابايت، وذاكرة سريعة سعتها ١ ميجابايت.
ولم يكن أي من برامج التصفح الموجودة يناسب تلك المساحة الصغيرة المخصصة للذاكرة. لذا اضطررنا لتصميم ذلك البرنامج من الصفر. وبالطبع كان علينا أن نضع في الحسبان صغر حجم شاشة التليفزيون. وصممنا واجهة استخدام مختلفة لأجهزة التحكم عن بُعد. وصممنا رقاقة مخصصة، ومصفوفة بوابة قابلة للبرمجة تنفذ الفيديو. وكنا ننفذ عملية معالجة الصور التي ذكرتها للتخلص من اهتزاز الصورة الناتج عن التداخل وزيادة وضوح الصورة. وكنا نعد الجزء المختص بالشبكة بالكامل، وكان يشمل جميع الخوادم والشبكة التي ستتعامل مع المعلومات وتنقلها. فعلى سبيل المثال، إذا جاءت صورة ضخمة بتنسيق جيه بي إي جي ندرك أن التليفزيون لا يمكنه عرضها، سنغير حجمها في الخوادم ونرسلها إلى الجهاز كي نضمن الحصول على سرعة أعلى.

ثم كان علينا إعداد شبكة اتصال هاتفي كاملة. وكان علينا إقامة علاقات مع الجهات الموفرة لخدمة الاتصال الهاتفي في جميع أنحاء الدولة، حتى يجدوا تلقائيًّا رقم هاتف محلي للاتصال به. أي إننا كنا نقوم بالكثير من الأنشطة المتنوعة كي نضمن نجاح المشروع. وأظن لو أني كنت أعمل مستشارًا لدى صاحب رأس مال مخاطر ورأيت مجموعة من الشباب يحمل كلٌّ منهم قطع اللغز ويعملون بهذا القدر الضئيل من رأس المال، لقلت له:«إنهم يقومون بعمل رائع. ولن أعبأ بطبيعة ما يقومون به، فأنا واثق بأن جهودهم هذه ستثمر عن شيء له شأن.» ولكن معظم المستثمرين لا ينظرون للأمر بهذه الطريقة.

والآن، حينما أتذكر ما حدث، أظن أن بعض المستثمرين كانوا يرون أننا سنكون صيدًا سهلًا إذا أفلسنا. لم يصرح أي منهم بهذا، وفي ذلك الوقت لم أكن أفكر بهذا الأسلوب، ولكن الآن تأكدت من ذلك. وأظن أن المستثمرين الآخرين كانوا قلقين. لأنه كان هناك عدد هائل من الأنشطة التي تتم في مجال الإنترنت في ذلك الوقت؛ فقد كان ذلك عام ١٩٩٦، وكانت هناك صفقات هائلة في هذا المجال. ولكن جميعها كان يعتمد على الويب تمامًا؛ إذ كانت البرمجيات تعمل انطلاقًا من خوادم موجودة في مكان ما. فلم تكن هناك تكاليف رأسمالية فعلية. وقد كنا بصدد صنع جهاز من المفترض تعميمه للاستخدام في منازل المستخدمين. وكان من الضروري البدء في تصنيعه، وقد كانت هناك مخاطر متعلقة بالمخزون، وكل هذه الأشياء. ولم يكن المستخدمون معتادين على كل ذلك.

ولكن أهم ما كنا نسمعه هو أنهم لا يرون أن الناس سيرغبون في التفاعل مع أجهزة التليفزيون الخاصة بهم. فقد كان يمكنهم تصور الناس وهم يغيرون القنوات بجهاز التحكم عن بُعد الخاص بهم، أو يلعبون ألعاب فيديو، أما القيام بشيء أكثر تقدمًا على التليفزيون — مثل تصفح الويب أو فحص البريد الإلكتروني أو الأشياء المستقبلية التي كنَّا نقوم بها، مثل إمكانية الحصول على محتوى فيديو على التليفزيون جنبًا إلى جنب مع دليل البرامج (صدقي هذا أو لا تصدقيه، في ذلك الوقت لم يكن يتوافر دليل برامج على التليفزيون)، أو تسجيل الفيديو على قرص مع إمكانية التوقف أو الإعادة — فقد كان الناس يعتقدون أن ذلك ضرب من الخيال. أعلم أن هذا يبدو عاديًّا الآن، ولكن في ذلك الوقت كان أشبه بالخيال.

ثم عثرنا على شركة رءوس أموال مخاطرة، برينتوود فينتشر كابيتال. وفحص جيف برودي، الذي كان أحد المستمثرين هناك، نظامنا وأعجب به. وأعرب عن رغبته في الاستثمار معنا. وكانوا مستعدين لتقديم مبلغ ٤٫٥ ملايين دولار.

كنا على وشك أن نوقع العقود. وكان ذلك رائعًا لأننا كنا على حافة الإفلاس. وكنت سأخسر كل شيء وأخسر منزلي وأصبح مدينًا بمبلغ كبير وينتهي أمر الشركة، ويصبح موقفًا سيئًا. ثم تسلمنا خطابًا معتمدًا من شركة سوني تقول فيه إنه بعد التفكير العميق قررت عدم الاستمرار معنا في إنتاج وتوزيع المنتج. تذكري أنهم اشترطوا الحصول على حق التصنيع حصريًّا لمدة عام. ومن ثَم لم نكن قطعنا شوطًا من المفاوضات مع أي شركة أخرى. فقد كنا قد بدأنا إجراء محادثات مع فيليبس ثم طلبنا منهم الانتظار لمدة عام.

وفي مثل هذه المواقف لا بد من إخطار المستثمر، لذا ذهبنا وأخبرنا جيف برودي. وكانت لحظة حاسمة للشركة. إذ كان من الممكن أن يقول إنه لن يستثمر معنا إذا لم يكن لدينا شركة لإنتاج وتوزيع المنتج. ولكنه قال: «إنني أومن بكم، وأظن أن هذا المشروع سينجح. لذا سنستمر وفقًا للشروط نفسها.» وما إن قرر المضي قدمًا في الاستثمار، حتى قرر بول ألين المشاركة. لذا قدم الأربعة ملايين ونصف المليون الأخرى، وفي النهاية أصبح لدينا ٩ ملايين دولار في تلك الجولة.

بعد ذلك بدأ كل شيء يتغير. بادئ ذي بدء، عادت شركة فيليبس وأعربت على الفور عن رغبتها في عقد صفقة معنا. لأن شركة فيليبس ظلت على مقعد الاحتياط. أخبرناهم أننا على استعداد لعقد صفقة قبل مرور عام. فرحبوا بهذا.

وفي غضون ذلك، كنا قد وظفنا مستشارًا هو سبنسر تول من شركة آشيا باسيفيك فينتشرز الذي عقد الكثير من الصفقات مع شركات يابانية. وكان يتحدث اليابانية بطلاقة، وكان على علاقة شخصية بإيدي-سان، الذي كان الرئيس التنفيذي لشركة سوني في ذلك الوقت. فأخبرناه أننا تلقينا ذلك الخطاب من سوني. وأضفنا أنه يفيد بتراجعهم عن عقد الصفقة معنا. فقال: «حسنًا، دعوني أحاول اكتشاف أسباب إعاقة المشروع.»

فاتصل بإيدي-سان والذي كان موجودًا في الولايات المتحدة، وأظن أن هذا كان في أبريل ١٩٩٦، أو ربما مايو. واتضح أن الأخير كان يحضر اجتماع عمل في نيويورك ومعه كبير مسئولي التقنية. وكنا نحن نعمل في المشروع بمنتهى النشاط؛ فعندما يكون المرء بصدد تصنيع ابتكار ما، فإنه دائمًا ما يصنع منه نسخًا مختلفة. ومن الوارد أن تشوبها بعض الأخطاء. وفي الحقيقة لم يكن أي من تلك النسخ يعمل؛ لأننا كنا في مرحلة التطوير. ثم تلقيت اتصالًا هاتفيًّا من سبنسر يقول فيه: «لقد أنهيت لتوي اتصالًا مع إيدي سان. وقد أخبرني أن المختصين في شركته رأوا أن هذا المنتج لن يعمل، ويشكون في إمكانية نجاحه كمنتج. فأخبرته أنه لا بد أن يعيد النظر في الأمر. لذا فقد أرسل كبير مسئولي التقنية على طائرة خاصة إلى مقركم كي تقدموا له نموذجًا تجريبيًّا. هذه هي فرصتكم لعرض منتجكم عليه.»

فقلت: «رائع. متى سيرسله؟» فقال: «كلا. لقد أرسله بالفعل. إنه على متن الطائرة الآن. وسيصل إليكم في غضون ساعتين ونصف.»

فقلت له: «سبنسر، إننا لا نزال في خضم عملية التطوير! ونحتاج لأكثر من ساعتين ونصف!» وقد كنا نضيف مجموعة من الأكواد وكان النظام ينهار طوال الوقت في تلك المرحلة. لذا عدت إلى بروس وفيل وقلت لهما: «إن لدينا فرصة أخيرة مع سوني. فكبير مسئولي التقنية لديهم سيصل في غضون ساعتين ونصف الساعة.»

فقال فيل: «لدينا بالفعل نسخة في مرحلة التجميع الآن — فقد استغرقت مرحلة التجميع وقتًا طويلًا لجمع كل الكود المصدر ثم كان علينا إطلاقها واختبارها — وستكون جاهزة في ساعتين ونصف.» فسألته: «كيف لنا أن نتأكد أنها ستعمل؟» فقال: «غالبًا لن تعمل.» فسألته عما يقصد. فقال: «جميع النسخ التي صممناها مؤخرًا تشوبها أخطاء خطيرة وأعطال خطيرة. لكننا أجرينا الكثير من الإصلاحات هنا.» فقلت بيني وبين نفسي: «يا إلهي! ها هي أكبر فرصة أمامنا ونحن في منتصف مرحلة سيئة حقًّا من عملية التطوير.» ولكن لم يكن لدينا خيار آخر، فقررت أن نعرض النسخة الجديدة أمام المسئول التقني ونرى ما سيحدث.

وصل الرجل قبل الانتهاء من عملية التجميع ﺑ ١٥ دقيقة، لذا أغدقنا عليه من الطعام والشراب. فأحضرنا صينية خضروات واحتسينا بعض المشروبات وأخذنا نتحدث معه وحاولنا أن نعامله بذوق. ولكنه قال: «في الحقيقة ليس لديَّ الكثير من الوقت. لا بد أن أرى النموذج الأولي لويب تي في الآن.» فتطلعت إلى القسم المخصص للنماذج الأولية، فوجدت فيل قادمًا ومعه النموذج الأولي لويب تي في وهو يقول: «ها هو. النسخة الجديدة من البرنامج محملة في هذا الجهاز.»

وهكذا أصبح الجهاز جاهزًا، أيًّا كانت النتيجة، فأجلسنا المسئول التقني التابع لسوني على الأريكة. وأذكر أنني سألت فيل وبروس عما حدث عندما اختبراه. فأجاباني: «ماذا تقصد؟ هذا هو الاختبار.» فقلت في نفسي: «يا إلهي! إن أمرنا قد انتهى.»

شغَّلنا الجهاز، وعمل على خير ما يرام، ولا أدري كيف. لقد عمل على نحو رائع. فبالصدفة كانت النسخة جيدة. وظهر الجهاز في أفضل حالاته، وجاء ذلك بمحض الصدفة. وتمكنا من الدخول إلى مواقع وكتبنا عناوين مواقع، وتصفحنا مواقع مختلفة، وهكذا نجح الأمر: فكان ويب تي في يقوم بالمهمة التي صُنع من أجلها. فبإمكانه عرض الويب على التليفزيون.

وتحدثنا عن عملية معالجة الصور والتخلص من الاهتزاز وأريناه المكونات المادية وكل شيء، وكان يبدو عليه أنه أعجبه للغاية. وفي الواقع بعد ذلك بوقت قصير، تلقينا دعوة للسفر إلى طوكيو لتقديم العرض أمام إيدي-سان شخصيًّا وفريق عمله. وفي النهاية، أحضر مهندسين من جميع أنحاء الشركة فقط ليشاهدوا عملية معالجة الصور التي كنا ننفذها لعرض صورة شديدة الوضوح على التليفزيون؛ إذ لم يسبق لهم من قبل مشاهدة تلك التقنية في سوني.

والموقع الوحيد الذي لم يعمل عندما حاول المسئول التقني الدخول عليه عندما كان في بالو ألتو، كان موقعًا يابانيًّا، لأننا لم نكن ندعم الحروف اليابانية. وكان هناك مهندس اسمه مارك كروجر سبق لنا العمل معه في شركة أبل، يعمل من اليابان. فقد تزوج من يابانية ويعيش هناك، وكان لديه خط آي إس دي إن يتصل بمنزل في وسط حقل من حقول الأرز. وكان قد بدأ يتعلم قليلًا من اللغة اليابانية. وعندما ذهبنا إلى اليابان، نزلنا في فندق طوكيو هيات، وأذكر أن بروس أقام نظام تطوير هناك، فقد أخذنا أجهزة الكمبيوتر الضخمة معنا. وكان لدى مارك نظام تطوير في منزله في حقل الأرز. وعشية العرض التجريبي مع سوني، ذهبا وصمما نسخة أخرى من البرنامج. ولم يخبرني أيٌّ منهما بالأمر، ولكن بروس ظل مستيقظًا طوال الليل يعمل مع مارك، وأدخل دعم اللغة اليابانية في الكود. أي إننا وصلنا إلى اليابان بمتصفح لا يدعم سوى اللغة الإنجليزية ولكن بحلول صباح اليوم التالي كان يعمل باللغتين الإنجليزية واليابانية.
ليفنجستون : أولم تكن تدري أنهما قاما بذلك؟
بيرلمان : كلا، لم أكن أدري. فقد أخبرني بروس ونحن في طريقنا إلى هناك في سيارة الأجرة. فسألته: «وماذا عن استقرار الجهاز؟ بروس، إدخال اللغة اليابانية أمر لطيف ولكن …» فقاطعني قائلًا: «لا تقلق. لن ينهار. سيسير كل شيء على ما يرام، سيكون كل شيء على ما يرام.»
وقد خطر لي أننا قدمنا عرضًا تجريبيًّا رائعًا في بالو ألتو، وكنا على وشك تقديم عرض تجريبي لرئيس شركة سوني، وشعرت أننا سنخفق إخفاقًا كبيرًا! ولكنه لم يتعطل. بل كان أداؤه رائعًا. وكان المسئول التقني هناك، فقلنا: «بالمناسبة، كانت هناك صفحة ويب واحدة حاولت أن تدخل إليها في بالو ألتو، ولكنها لم تعمل. حسنًا، إنها تعمل الآن.» فكتبنا اسم الموقع، وكما توقعنا، ظهرت حروف يابانية جميلة، ونجحنا في إقناعه بمنتجنا.

وبعد ذلك أعربوا عن رغبتهم في العودة إلى الاتفاق الأصلي الذي توصلنا إليه والذي يقضي بحصولهم على حق التصنيع والتوزيع الحصري لمدة عام. فأجبنا بأننا كنا نود ذلك، وأخبرناهم أننا أبرمنا صفقة مع فيليبس، لذا لم يعد بإمكاننا منحهم أي حق حصري. وأغضبهم هذا كثيرًا، ولكنهم في النهاية شعروا أن الأمر يستحق. وهكذا تم الأمر. وعقدنا صفقة مع سوني وفيليبس، وكانتا في ذلك الوقت أكبر مؤسستين في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية.

وبعد إتمام تلك الصفقتين، بدأنا الجولة الثالثة من الحصول على تمويل. وأظن أننا جمعنا تقريبًا ٣٥ مليون دولار.
ليفنجستون : أحصلت على تمويل من الأشخاص أنفسهم؟
بيرلمان : عادت برينتوود لتشارك وكذلك فولكان على ما أظن، أما آل ديفيس، فلم يختلف تصرفهم هذه المرة عن تصرفهم حيال كاتابولت، فقد فقدوا صوابهم. فباعوا أسهمهم لمستثمرين آخرين. فهم ليسوا متخصصين في التكنولوجيا، ومن ثَم كان الأمر لهم لا يعدو كونه استثمارًا. وقد كانوا في منتهى السعادة بما حصلوا عليه. وأظن أنهم قد حصلوا على سبعة أضعاف نقودهم في أقل من عام.
ثم شاركت شركة مايكروسوفت، وهو ما أدهشني، وكذلك سيتيكورب، وسانت بول فينتشر كابيتال. وبعض الأفراد المستثمرين، وأظن أيضًا أن سيجيت استثمرت بعض نقودها معنا. وكذلك واشنطن بوست جروب. فقد كان الكثيرون مهتمين بهذا المجال. وفي ذلك الوقت زودنا عدد أعضاء المجلس، فأصبح يتكون منا نحن المؤسسين الثلاثة، وراندي كوميسار كمدير خارجي، وكان لدينا مندوبون من برينتوود، وفولكان. وربما كان هناك شخص آخر أيضًا على ما أذكر.

ثم بدأنا العمل. وقدَّمنا المنتج في يوليو ١٩٩٦، أي بعد عام تقريبًا من اليوم الذي حصلت فيه على أول شيك من مارفين ديفيس لتمويل الشركة. وكان مزودًا بمكونات مادية مخصصة، ومتصفح صممناه من الألف إلى الياء وخوادم وسيطة وغير ذلك. وكانت الشبكة بأكملها مدعمة، وقد كنت عند كلمتي عندما اتصلت بذلك الشخص في شركة باسيفيك بيل وأخبرته أننا سنشغِّل خدمة على الإنترنت تصبح متاحة على مستوى البلاد.
ليفنجستون : كيف ظهرت فكرة ويب تي في وتطورت؟ أكان هدفها إتاحة الويب لأشخاص قد لا يكون لديهم أجهزة كمبيوتر؟
بيرلمان : نعم. ويجب أن أعود إلى ما قبل ذلك بكثير. فقد كانت رسالتي حتى قبل ذلك الوقت تتمثل في توصيل الناس العاديين بعضهم ببعض عن طريق مزاولة الأنشطة التي لا تتصل بالهندسة، وهي الأنشطة التي تحظى باهتمامهم، وذلك بهدف تشجيع التواصل ومشاركة الأفكار، وللتسلية فقط. فأنا مغرم برواية القصص، وكانت أفضل مادة لي في الجامعة هي «الرواية».
وأردت أن أكتشف كيف أحقق التواصل. وأن أتعرف على عالم الإلكترونيات الاستهلاكية. وأن أتوصل إلى سهولة الاستخدام؛ أي الواجهات. وكنت أريد أن أعمل مع أجهزة التليفزيون والأنظمة الصوتية. فهذه هي اهتماماتي، وكانت هي الحافز الذي دفعني للقيام بكل ما قمت به.

وعندما انضممت إلى أبل وأجريت معهم المقابلة، لم يكونوا مهتمين بشيء حتى بإدخال الألوان، ولكننا نجحنا في إقناعهم بإدخالها. فقد ابتكرنا الطراز الملون كله، وكذلك باقي الوسائط المتعددة لجهاز ماكنتوش، مثل الموسيقى والصوت وكل شيء. وحوَّلنا ماكنتوش من جهاز كمبيوتر أبيض وأسود صغير إلى جهاز وسائط متعددة من الطراز الأول. وكان الدافع وراء هذا هو رغبتي في توفير وسيلة تجمع بين تقديم الوسائط المتعددة وتمكين المستخدم من التفاعل. وكانت ألعاب الفيديو تمثل أحد أنواع التفاعل. وهذا رائع ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد.

وفي نهاية المطاف، أعتقد أنه إذا كان الكثير من الناس يتواصلون بعضهم مع بعض، فسيتضاءل احتمال إقدامهم على تفجير بعضهم بعضًا. قد يرسلون رسائل بذيئة على المدونات، وقد يتشاحنون وقد يكتب أحد شيئًا سيئًا عنك في موقع ويكيبيديا، ولكن هذا أفضل بكثير من الإقدام على تفجير الآخرين.
ليفنجستون : أكان من الصعب تصميم شيء للمستخدمين غير المتخصصين في التقنية؟
بيرلمان : كان من أصعب ما يكون؛ لأنك تضطرين لتصميم شيء يناسب غيرك. وبعد مرور فترة، وأنت تطورين واجهات وتكتسبين خبرة فيها، سرعان ما تفكرين بطريقة تشبه طريقة من لا يفهم آليات العمل الداخلية للنظام. كما يكون عليك إجراء الكثير من الاختبارات. ولا بد من إجادة إجراء الاختبارات. وعليك تحديد الأسئلة التي ينبغي طرحها على الناس وتحديد المشاكل التي ينبغي عرضها عليهم.
وما سأحكيه لك ليس نابعًا من تجربة شخصية مررت بها، بل هي قصة رواها لي أفراد فريق العمل في ماكنتوش، فعندما صمموا مربعات الحوار في البداية لجهاز ليزا، بدلًا من أن يكتبوا: OK، وضعوا Do It. ووجدوا أن المستخدمين يحجمون عن الضغط على هذا الزر، ولم يكتشفوا السبب. وفي اختبار أُجري على بعض الأشخاص، وجدوا أن أحدهم لم يضغط على الزر هو الآخر فسألوه عن السبب. فأجابهم: «أنا لست بأحمق. لمَ أفعل ذلك؟» أي إن المستخدمين كانوا يرونها dolt وتعني أحمق، وليس do it، لأنها كانت تمثل تركيبة لغوية غير معتادة. لذا غيروا مربع الحوار إلى OK. وقد ساعد هذا التغيير البسيط على تشجيع المستخدمين على الضغط على مربعات الحوار.

غالبًا ما تنبع المشكلة من أمور بسيطة مثل هذه، فيرى أحد المستخدمين شيئًا ويكوِّن انطباعًا غير صحيح. ولا سبيل لاكتشاف ذلك إلا بإجراء الكثير من الاختبارات. وفي الحقيقة، يعتبر ذلك من بين أسباب تحقيق أجهزة آي بود نجاحًا غير مسبوق لم تحققه أجهزة مشغلات إم بي ٣ من قبلها. فأجهزة آي بود كانت تتمتع بحساسية تصميم تناسب الشخص العادي الذي يحاول الاستماع إلى الموسيقى، في حين أن مشغلات إم بي ٣ الأولى كانت أقرب إلى التدريبات التقنية على فهم طريقة حفظ ملفات الموسيقى، وربما كانت تتطلب مراعاة الدقة المتناهية عند الضغط بالأصابع على الأزرار بالطريقة الصحيحة، وغير ذلك.
ليفنجستون : أكان استخدام جهاز أبل ٢ لأجهزة التليفزيون كشاشة مصدر إلهام لكم؟
بيرلمان : لقد كان جهاز أبل ٢ يعمل على شاشات التليفزيون، وقد كان مظهره الذي يشجع على الاستخدام واستخدامه للألوان مصدر إلهام لي. ولكنه لم يكن كمبيوترًا سهل الاستخدام. وكان ذلك من بين أسباب عدم انضمامي لشركة أبل مبكرًا. فلم أكن أدري الاتجاه المتوقع للمشروع.
وقد أعجبتني هندسة الجهاز بشدة. وقد زاد إعجابي بها أكثر عندما لاحظت أن محرك الأقراص المرنة لجهاز أبل ٢ من نوع شوجارت إس إيه-٤٠٠ ولكنه لا يحتوي على معظم الرقائق التي يحتوي عليها أي كمبيوتر آخر، وأدركت أن وزنياك هو الذي صنعه، مستعينًا بمزيج من البرامج والمكونات المادية. ولكنه لم يكن — في اعتقادي — جهازًا يناسب استخدام الشخص العادي. بل كنت أرجح أن يحظى بإقبال أكبر من الأجهزة التي تعمل بنظام التشغيل سي بي/إم. وتذكَّري أن هذا كان قبل ظهور جهاز كمبيوتر آي بي إم الشخصي.

ولكني كنت أستعد للابتعاد عن مجال أجهزة الكمبيوتر. وكنت أعمل في كوليكو عام ١٩٨٣. وفي بداية عام ١٩٨٢، اتصلت بشركة لوكاس فيلم وغيرها من الجهات المتخصصة في صناعة السينما لأني قلت في نفسي: «إن جهاز كمبيوتر آي بي إم الشخصي — الذي طُرح عام ١٩٨٢ — يحقق انتشارًا واسعًا. ولكن يعيبه رداءة تصميم طريقة عرض الرسومات. كما يخلو من البكسلات المربعة. وتقتصر اللوحة اللونية فيه على ثمانية ألوان أساسية فقط وتتألَّف في الواقع من درجتين للون الرمادي وستة ألوان. وكان من الواضح أن السبب في نجاحه يعود لاستخدامه في تطبيقات عالم الأعمال وغيرها. واتضح أن حلمي المرتبط بالاتجاه المتوقع لأجهزة الكمبيوتر لم يكن حلمًا من شأنه أن يتحقق. إذ كانت أجهزة الكمبيوتر لا تتجه إلى المستخدم العادي بل إلى عالم الشركات. ولا بأس بهذا.» ولذا، رأيت أنه إذا لم يكن بإمكاني تنفيذ الأمر في منازل المستخدمين العاديين، فعلى الأقل أود المشاركة في تقديم تجربة رائعة على الشاشة الفضية والتليفزيون.

ثم رأيت إعلانًا عام ١٩٨٤ عن جهاز ماكنتوش، وغيَّر هذا كل شيء. إذ لاحظت أنه يتمتع بجميع الإمكانيات الرسومية الرائعة. وكان واضحًا أنهم يهتمون بما يراه المستخدم، فقد كان مصممًا للشخص العادي من حيث إنه كان بسيطًا، ومصممًا خصوصًا ليناسب الرسومات، ولكن بالأبيض والأسود. فرأيت أن هناك بارقة أمل.

وظللت أحاول الاتصال بأبل مرارًا وتكرارًا، على أمل أن أجد شخصًا يتحدث إليَّ لتحديد موعد لإجراء مقابلة هناك. وأخيرًا جاء آلان كاي مُديري في شركة أتاري — وكان يدير في ذلك الوقت مجموعة بحثية في أبل — في زيارة لولاية كونيتيكت لإلقاء محاضرة. فأطلعته على رأيي في ماكنتوش وبرغبتي في إدخال الألوان عليه وخفض تكلفته. فقال: «حسنًا، حسنًا. سأحاول التحدث لأحد المسئولين لتحديد موعد لإجراء مقابلة شخصية مع فريق ماكنتوش.» وقد أسفر ذلك عن إجراء ثلاث مقابلات شخصية، ولكني في نهاية المطاف لم أعمل مع فريق ماكنتوش، بل مع الفريق الذي يعمل سرًّا على إنتاج جهاز ماكنتوش ملون.
ليفنجستون : وانتقلت حينئذٍ إلى كاليفورنيا؟
بيرلمان : نعم. في الحقيقة كانت تلك هي المرة الثانية. فقد انتقلت إلى هنا من قبلُ للعمل في شركة أتاري. ثم أفلست الشركة، فعدت إلى كونيتيكت وعملت لدى شركة كوليكو.
ليفنجستون : أتعتقد أن هناك اختلافات كبيرة بين وادي السليكون ومنطقة الساحل الشرقي للشركات الناشئة؟
بيرلمان : بالطبع، هناك اختلافات جوهرية. لا يمكنني التحدث عن جميع أنواع الشركات الناشئة، ولكن بخصوص الشركات المتخصصة في مجال التكنولوجيا — وحتى الكثير من المشاريع المتصلة بخدمات المحتوى — يتضح أنه من الأسهل بكثير تنفيذها هنا. فالموارد متوافرة هنا، وكذلك المتخصصون في مجال التكنولوجيا. إذ تتوافر هنا نسبة مرتفعة من الكفاءات التي يمكن الاعتماد عليها. ولن يضطروا للانتقال من محال إقامتهم إلى هنا.
وعلاوة على ذلك، هناك شارع ساند هيل رود الذي يزخر بشركات رءوس الأموال المخاطرة والمستثمرين الآخرين. فيمكنك تقديم عرضين أو ثلاثة لشركات رءوس أموال مخاطرة مختلفة جميعها في مجمع المباني نفسه في شارع ساند هيل رود.

ومن ناحية أخرى، يسود هنا ما يشبه الاتجاه العام الذي يدفع الناس لتجريب كل ما هو مختلف، وفي حالة فشلهم — إذا فهموا السبب في فشلهم — قد يكون الاستثمار معهم أفضل في الجولة التالية من الاستثمار مع من حققوا نجاحًا سريعًا بضربة حظ.
ليفنجستون : أتعتقد أنه كان هناك أصحاب مصالح لم يعجبهم ما تقومون به، وحاولوا القضاء على ويب تي في؟ فربما تكون مايكروسوفت، مثلًا، قد اعتبرته يمثل تهديدًا لويندوز؟
بيرلمان : في حالة ويب تي في … اكتشفت بمرور الوقت أن مايكروسوفت على الأرجح … أعني أنها شركة حذرة للغاية، ويقلقون مسبقًا من أي تهديد محتمل. لست واثقًا من أنهم رأوا على الفور أن ويب تي في يمثل تهديدًا، ولكنهم رأوا أنه تهديد محتمل.
لم نبِعْ وحدات كثيرة في أول عطلة كريسماس. فقد كان السعر باهظًا للغاية. إذ وصل إلى ٣٢٩ دولارًا عند طرحه، والدرس المستفاد من هذه النقطة هو تجنب البيع بسعر مرتفع وتحصيل رسوم اشتراك في الوقت نفسه. إذ ينبغي اختيار أحد الأمرين فقط. وعندما أعدنا تسعير ويب تي في ليباع مقابل ٩٩ دولارًا، بعنا منه كميات كبيرة.

وعندما استحوذت مايكروسوفت على الشركة، لم يكن لدينا سوى ٥٦ ألف مشترك، وهو رقم متواضع للغاية. ولكنها مع ذلك أبدت اهتمامًا كبيرًا بنا، وهذا أقنعني — وربما أكون مخطئًا — أن هدفها الحقيقي هو الاستفادة من هذه السوق، وتحقيق النمو اعتمادًا على نشاطنا. كما كانت رغبتها في إنشاء المقر هنا في وادي السليكون سببًا آخر لتوصلي لهذه النتيجة. لذا خطر لي — وربما كان هذا هو هدفها في ذلك الوقت — أنها كانت تعتزم تطوير هذا المجال من أنظمة التليفزيون المتقدمة. ولكن بمرور الوقت، اتضح أن كل ما كانوا يريدونه ليس أكثر من ضمان عدم نجاح غيرهم في إنتاج منتج في هذا المجال. وأظن أنهم رأوا أن ويب تي في المنتج الوحيد الذي لديه فرص للنجاح.

من يدري؟ ربما كان القرار يتألَّف من أكثر من وجه من وجهة نظرهم. فلربما رأوا أن هذا المجال قد تصبح له سوق، وأنهم سيتمكنون بذلك من حماية مصالحهم ليضمنوا احتكارهم لهذا المجال. لا أدري بالضبط.

ولكن كانت هناك أشياء لم يكن مسموحًا لي بتنفيذها وهو ما جعل استمراري معهم أمرًا مستحيلًا. فقد تراجعوا عن التزامهم بدعم ريال نتوركس وجافا، ولم أستوعب كيف لنا أن نتيح خاصية تصفح الويب بدون التوافق مع ريال نتوركس وجافا. وعندما خضنا عملية وضع الميزانية وغير ذلك، وبدأت أتعرف على كبار التنفيذيين الآخرين في مايكروسوفت، كانوا يتحدثون عن المسائل المتعلقة بتخصيص التمويل، وتقليل تكاليف تنفيذ المنتجات إلى الحد الذي تصبح معه بلا قيمة. فقلت لهم: «علينا أن نتفق على هدف مناسب للشركة بأكملها ثم نموله. إنني لا أهتم بما إذا كان ذلك سينفذ في مجموعتي أو في مجموعتكم أو في أي مجموعة أخرى، ففي كل الأحوال علينا اتخاذ الخطوة المناسبة.» ولكن لم تسر الأمور على هذا النحو، وبالطبع هذا هو شأن أي شركة كبيرة. فللناس أمور يسيطرون عليها. ولهذا السبب تجدين أن الشركات الكبيرة تشهد مساجلات تتعلق بتقاسم السلطة.

وأنا لا أستطيع العمل في مثل هذه الأجواء. إذ إن همي الأول والأخير هو النتيجة النهائية. ولجميع هذه الأسباب — وأقصد بها معارضتهم الشديدة لتطبيق أنواع أخرى من التكنولوجيا يجدون أنها قد تنافسهم، وكونها مؤسسة كبرى، لا تختلف في شيء عن غيرها من المؤسسات الكبرى، ولكنها مؤسسة كبرى على أي حال يحكمها قدر كبير من سجالات تقاسم السلطة — أصبحت لا تُحتمل.

ولكن أظن أنهم في النهاية أدركوا أن ويب تي في مشروع مربح لهم لأنهم أصبحوا يستثمرون فيه أكثر، وأصبح الآن إم إس إن تي في. وهو الآن قطاع ربحي مهم. كان ويب تي في يدر ربحًا قليلًا في شهره الثامن عشر من العمل، وأصبح مربحًا منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وفي عام ٢٠٠٥ — أي بعد عشر سنوات من التأسيس — حقق ويب تي في (الذي أصبح الآن إم إس إن تي في) إجمالي أرباح لمايكروسوفت تصل إلى ما يقرب من ١٥٠ مليون دولار بنسبة ٦٥ بالمائة هامش ربح إجمالي. وعلى مدى ثماني سنوات من وجوده في السوق، حقق إجمالي أرباح يزيد عن ١٫٣ مليار دولار. ولم نتوقع أبدًا أن يستمر الناس في استخدام الاتصال بالخط الهاتفي وتصفح الإنترنت على شاشات التليفزيون في عام ٢٠٠٥، ولكن لا تزال هناك سوق كبيرة لجهاز مثل ويب تي في، بصفة أساسية للمستخدمين الأكبر سنًّا الذين يريدون الدخول إلى الويب وتصفح بريدهم الإلكتروني ولكن يرفضون شراء أجهزة كمبيوتر.

أما بخصوص الخواص الأخرى التي طبقناها في ويب تي في وتحمست لها بشدة، والتي كنت أتمنى حقًّا أن أستفيد منها والتي تعتمد على بدء إضافة إمكانية استقبال بث الأقمار الصناعية في أجهزة مسجل الفيديو الرقمي، وإضافة المزيد من التفاعل ومن ثم بدء استخدام كابلات النطاق العريض، فلم ينجحوا في تطبيقها. وأعتقد أنهم قدموا بضعة منتجات لا بأس بها في مجال استقبال بث الأقمار الصناعية، ولكنهم تعثروا في مفاوضات العمل في هذا المجال، كما أن الشركات المقدمة لخدمة كابلات البث التليفزيوني تعارض بشدة العمل مع مايكروسوفت.

أما الآن فالحصان الرابح الذي يراهنون عليه — الذي أظن أنه يحظى بفرصة كبيرة — هو نظام آي بي تي في. وهو يعتبر إلى حدٍّ ما، الوريث الشرعي لجهاز ويب تي في. وبيتر باريت هو من يتولى قيادة هذه الجهود. وكان هو مبتكر أول متصفح على جهاز ويب تي في. وها هو لا يزال يعمل في مايكروسوفت — وذلك على مدى أكثر من عشر سنوات — وهو يحاول الآن استقبال البث التليفزيوني على الإنترنت، في حين أن ما بدأنا نحن القيام به كان محاولة تشغيل الإنترنت على التليفزيون.
ليفنجستون : ما أكثر ما يكون معرضًا للفشل في العام الأول عندما تكون الشركة الناشئة مؤسسة ضعيفة؟
بيرلمان : أسوأ ما يمكن أن يحدث لشركة ناشئة هو ألا يكون هناك انسجام بين المؤسسين، أو من يديرون الشركة. ويكون ذلك عيبًا خطيرًا عندما لا يتفقون أمام الموظفين. وأصبحت أدرك مع مرور السنوات أن الشركات قوامها العاملون بها. ونحن نميل لاعتبارها مؤسسات أعمال ولديها هذه القيمة أو تلك. فإذا كنا بصدد تحويل الأمر إلى براءات اختراع فقط ونلاحق الآخرين لانتهاك حقوق براءة الاختراع، فأنا أوافق على هذا. فمثل هذه الشركات تتكوَّن من أصول ملكية فكرية. ولكن أي مؤسسة لديها منتج تحاول أن تطرحه و/أو خدمة تحاول أن تقدمها، يصبح العنصر الأساسي هو الموظفون. وسلوك الشركة ينتقل من إدارتها العليا إلى موظفيها.
وفي المؤسسات الكبيرة التي تدير مشاريع قائمة منذ وقت طويل، قد تشوب الإدارة العليا فيها بعض أوجه القصور، ولا يكون لذلك تأثيرٌ يُذكر. وربما لا يكون الموظفون راضين، وربما لا ينظرون بعين التقدير والإجلال لعملهم، وربما لا يعملون بالكفاءة المطلوبة، ولكن الشركة يمكنها مواصلة عملها. ولكن في البدايات لا يكون لديك شيء. كل ما تواجهه هو المشكلات، مشكلات ينبغي حلها، وعقبات ينبغي التغلب عليها. وينبغي أن تتوافر بين أهم الشخصيات المؤثرة في الشركة رابطة قوية للغاية ووجهة نظر متجانسة حيال العالم، وذلك إذا كانوا يريدون تحقيق النجاح.

وليس المقصود بوجهة النظر المتجانسة عدم وجود خلافات بينكم. ولكن مع ذلك يجب أن تتفقوا على الفلسفة والرؤية المستقبلية. هناك الكثير من الطرق لتحقيق ما تريدون، ولكن إذا لم تتفقوا على الرؤية المستقبلية، فإنكم لن تتفقوا قط على أسلوب التنفيذ. وعليكم أن يحترم بعضكم بعضًا. وأن تجمعكم روح الود. ويجب أن تحرصوا على السلوك اللائق المهذب. فلن تصدقي كم مرةً رأيت فيها شركات يتشاجر العاملون بها أو تحدث بينهم أشياء بغيضة، قد تصل لتبادل اللكمات.

وذات مرة ألقى رئيس تنفيذي على المراقِبة المالية كماشة. وقد تخطت كتفيها واستقرت في الحائط خلفها. فألقت الأوراق من يديها وقالت: «أنا مستقيلة»، واندفعت خارجة من الباب. رأيت هذه الأمور تحدث في أماكن مختلفة، وتلك الشركات لم تحقق أي نجاح، ولا عجب في ذلك.

ومن ناحية أخرى، رأيت شركات لديها الكثير من المشكلات على مستوى التنفيذ. وتعد جنرال ماجيك مثالًا جيدًا على هذا. فهم لم يجيدوا تنفيذ ما كانوا يقومون به. فكان المنتج باهظ الثمن جدًّا؛ يصل إلى أكثر من ألف دولار. وكان ثقيلًا. والبطارية لم تكن تستمر لوقت طويل. ولم تكن الشاشة إضاءتها ساطعة بما يكفي. وكان محملًا بجميع أنواع السمات التي لن يحتاجها محترف بمجال يتطلَّب كثرة التنقل، وهذه هي الفئة التي كانت أجهزة المساعد الرقمي الشخصي تستهدفها، فتذكري أن ذلك كان عام ١٩٩٠. أما شركة بالم — على صعيد آخر — فقد أنتجت جهازًا صغيرًا وخفيفًا وتعمل بطاريته لوقت طويل. ولم يكن باهظ الثمن وكان يهتم بتوفير إمكانيات مثل التقويم ودفتر العناوين وبيانات الاتصال. ورأيت جنرال ماجيك تسعى لإضافة رسوم متحركة تمثل الأرنب بجز باني إلى الجهاز كي تجعله يبدو لطيفًا. وكان مزودًا بمخرج للأشعة تحت الحمراء، كما كان مزودًا بإمكانية موالفة القنوات على جهاز تليفزيون. أي إنهم كانوا يضيفون سمات تبتعد عن المنتج الأصلي — مع أن المهندسين كانوا سيستمتعون بإنجاز سمات مثلها — لكنهم لم يركزوا على تنفيذ المنتج.

ولكن ما كان يميز الشركة هو أن المؤسسين الثلاثة كانت تربطهم علاقة وثيقة بعضهم ببعض. وكانوا يعملون معًا على أكمل وجه، في السراء والضراء. وكانت لهم رؤية مستقبلية مشتركة. وقد كانوا ينشرون أجواءً تفيض بالاستقرار، مما جعل كل من يعمل فيها يشعر بالاستقرار. وهذا أسهم في إضفاء القوة على الشركة. وأمدها بأسباب البقاء. فقد استمرت لما يزيد عن عقد. وأصدرت طرحًا أوليًّا عامًّا، مع أنها انهارت في النهاية. ولم يحقق المنتج نجاحًا قط في السوق. فلم تبِعْ منه سوى بضعة آلاف من الوحدات. ولكن الأمر يعد مثالًا لما يكون عليه الموقف عندما تتضافر عدة عوامل ضدك — فلم يكن المنتج من المنتجات التي يمكن تسويقها، وكانوا يواجهون مشكلات كثيرة — ولكن لأن جوهر الشركة كان قويًّا للغاية، تمكنوا من الاستمرار. وهذا هو أهم شيء في نظري.

وأهم ما يميز فيل وبروس أنهما كانا طيبي القلب. لقد كانا لطيفين. ولم ينضما للشركة فقط سعيًا وراء الثراء. أعني أن النقود مهمة بالطبع. ولكن كان لدى كل منهما رؤية لابتكار شيء رائع يحبه الناس. وقد تغلغل شعورنا نحن الثلاثة هذا إلى نفوس باقي الموظفين. فكان أداء المؤسسة رائعًا. وأهم ما في الأمر أننا تميزنا بنموذج عمل قوي، فضلًا عن قدرة جيدة على تنفيذ التقنية التي كنا بصددها. وفي الواقع أصبحت الشركة تدر أرباحًا بعد ١٨ شهرًا من إطلاقها.

وحتى لو كنا نتمتع بالمهارة التقنية والخبرة الهندسية والمعرفة التجارية، ولكن كنا نتصرف في الوقت نفسه مثل أسماك الزينة المتصارعة التي تعيش في حوض واحد، لانهارت الشركة بأكملها. وطوال تلك المواقف العصيبة حقًّا التي أخبرتكِ عنها — عندما كنا على شفا الإفلاس، وعندما تلقينا خطاب الرفض من سوني — أظن أنها كانت كفيلة بالقضاء على ثلاثة أشخاص أقل قوة وتماسكًا منا. لقد ثابرنا طوال تلك المواقف ولم نتوقف قط. ولم يشك أي منا قط أننا سننجح. ولم يتوقف أي منا قط ليتساءل ما إذا كنا نثق بعضنا ببعض أم لا. ولم نضطر قط للالتفات إلى الوراء. وهذا هو ما جعل ويب تي في تستمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤