بروستر كايل
مؤسس، شركات وايس، وإنترنت آركايف، وأليكسا إنترنت
وفي العام التالي أسس كايل شركة أليكسا إنترنت مع بروس جيليات. وكان شريط أدوات أليكسا يتعقب سلوك المستخدمين في التصفح ويقترح الروابط ذات الصلة، باستخدام التصفية التعاونية. وفور الوصول إلى الصفحات التي زارها المستخدمون يجري «التبرع» بها إلى موقع إنترنت آركايف غير الربحي المرتبط بها للمساعدة في إنشاء تاريخ للويب.
وقد استحوذت أمازون على أليكسا عام ١٩٩٩. ولا يزال كايل يدير إنترنت آركايف.
***
وهناك درس آخر تعلمته من ثنكنج ماشينز هو: إذا كنت تحاولين أن تجعلي شركتك تفكر بطريقة مختلفة — لتقوم بنشاط يلفت الاهتمام — فاختاري المحيط الذي تعملين به بعناية. فقد كان مقر الشركة في قصر مشيد على الطراز الفيكتوري يعود إلى القرن التاسع عشر على مساحة ١٠٠ فدان من الغابات على مشارف مدينة بوسطن. وكان المكان أصلًا حديقة عامة. ويختلف العمل في مثل هذه البيئة التي يمكنك فيها — إذا توقف فيها ذهنك عن العمل — الخروج لتمشية طويلة اختلافًا كبيرًا عن محاولة تأسيس شركة والتفكير بأسلوب مختلف إذا كنت في أحد المكاتب التي يضمها مجمع مكاتب كبير. وهذا درس عملت به عند تأسيس كل شركة ناشئة منذ ذلك الوقت.
وقد حالف الحظ ثنكنج ماشينز لأنها بدأت ورصيدها في البنك ٨ ملايين دولار لأن بعض الأثرياء آمنوا بها. ولم تحصل على تمويل من رءوس أموال مخاطرة، وتأسست على فكرة أنها ستستغرق سنوات طويلة حتى تتمكن من إنجاز شيء حقيقي. وقد ساهم ذلك في تمكينها من جذب مجموعة من الأشخاص الرائعين حقًّا. فقد عمل بها ريتشارد فينمان وستيفن ولفرام ومارفن مينسكي. واكتشفت أنني أصبحت أتمتع بفرصة أفضل للاستفادة من خبرات الأساتذة الجامعيين الموجودين في الشركة مقارنةً بما كان عليه الحال في فترة الدراسة. ومن ثَم كانت هذه طريقة مهمة لفهم المهام المطلوبة من الشركة.
وقد قضوا فترة الصيف بأكملها وهم يحاولون إنجاز ذلك، بل طوال فترة طويلة من العام الأول، وهي رفاهية لا تحظى بها معظم الشركات الناشئة. فعادة ما يتحتم عليهم الاجتهاد لإنجاز باكورة الإنتاج. لذا كان وجودي في بيئة عمل ممتعة وانضمام زملاء أذكياء للشركة من العوامل التي جعلتها من الشركات الناشئة الفريدة، وتختلف تمامًا عن الشركات الناشئة في الساحل الغربي التي رأيتها.
وكان العاملون في الشركة من الشباب محل ثقة كبيرة. فقد كان هؤلاء في بداية العشرينيات من أعمارهم. ومن ثَم كانت مهام التصميم والتصنيع الأساسية للأجهزة — مع أننا كنا في ذلك الوقت غير مؤهلين على الإطلاق، وذلك حين أتذكر الأمر حاليًّا — ملقاة على عاتق مجموعة من الشباب. لكن هذا جعل الأمر مسليًّا. فقد كنا نولي المشروع كامل اهتمامنا. ولم يكن لدينا حياة أخرى بخلافه.
كانت أول شركة ناشئة أسستها بعد أن تركت ثنكنج ماشينز تعتمد اعتمادًا كليًّا على نفسها. فلم نحصل على نقود استثمار على الإطلاق، ولم يكن لديَّ مدخرات، أي إنها كانت تمول نفسها منذ البداية. وكان ذلك أمرًا صعبًا للغاية. فكان الأمر أشبه بالخروج من حقبة العشرينيات التي تميزت بالازدهار والرخاء حين كانت الشمبانيا متوافرة في كل مكان، إلى فترة الكساد حيث كان المرء يغسل الأكياس البلاستيكية الصغيرة ويعيد استخدام شرائط إغلاقها.
وفي الواقع لقد أعجبني الانضباط الذي ينشأ من العمل في شركة ناشئة تعتمد على نفسها. وأظن أن على كل من يعتزم إنشاء شركة ناشئة — حتى إذا لم يكن سيؤسس شركة كبيرة بهذا الشكل — أن يؤسس مشروعًا يسعى لضمان رضا الناس من اليوم الأول، عن طريق العقود أو المبيعات المحدودة، أو غير ذلك. وينبغي أن يدرك إلى أي مدى يمكنه أن يقتصد في النفقات؟ وكيف يمكنه تصميم شيء زهيد التكلفة؟ وكيف يمكن تجنب إنفاق المال على الأثاث والسجاد الذي ينسجم معه وتلك الأشياء؟ وأهم شيء حرصت عليه في المرة التالية هو عدم امتلاك أي نقود.
وقد وضعت النموذج الأولي له في وقت فراغي. وأظن أن المناخ العام كان يشجع على التجريب ومزاولة أشياء مسلية، وتمضية الوقت في القيام بشيء لا يقع ضمن نطاق مسئولياتك الوظيفية، مع إمكانية القيام بهذا في مقر العمل والحصول على دعم من العمل. لذا جربت فكرة النشر عن بُعد، أي، طرح أسئلة على أجهزة عن بُعد. وكان ذلك أول نظام نشر على الإنترنت. وقد سبق جوفر والويب، لكنه كان أول نظام يحاول الإجابة عن الأسئلة على الإنترنت. وصحيح أن البحث كان يمثل جزءًا كبيرًا منه، ولكن كان يمكن الانتقال فيه عن طريق النقر وهو مزود بنظام العناوين على الإنترنت، ونظام بحث مخصص للبحث عن الخوادم. أي إنه كان يحتوي على كل الأجزاء المطلوبة. وكان مصممًا على بروتوكول مفتوح. ونفذناه على أنه مشروع تابع لشركة ثنكنج ماشينز بالتعاون مع أبل كمبيوتر، وكيه بي إم جي بيت مارويك، وداو جونز.
أي إن أول تجربة لي لتأسيس شيء بهذا الحجم كانت في الواقع داخل ثنكنج ماشينز، وكان ذلك انطلاقًا مرة ثانية من تطبيق الدرس الأساسي الذي مفاده: الاستفادة دون إنفاق أموالك. لذا حاولنا بناء ذلك النظام داخل ثنكنج ماشينز. وقد كانت الشركة تسعى لتحقيق أرباح عن طريق بيع الخوادم ومن ثَم كان علينا إنجاز بقية النظام وتشغيله. وكلفنا شركة أبل كمبيوتر بتنفيذ الواجهة الأمامية؛ أي الجزء المتعلق بالعميل، ونفَّذت داو جونز مصادر المعلومات، وكيه بي إم جي بيت مارويك كانت مختصة بمعلومات الشركة وقاعدة المستخدمين. أي إنه كان مشروعًا تجريبيًّا. وقد استمر لعام ونصف تقريبًا وحقق نجاحًا. وقد نال إعجاب الجميع. وقد كانت تسعى كل مؤسسة من تلك المؤسسات للمساهمة في نجاح الأمر بأكمله. وكان ذلك عام ١٩٨٩ / ١٩٩٠. أي إننا جميعًا كنا نتطلع إلى المستقبل.
ما أعجبني في هذا الأمر هو أنه أتيحت لي الفرصة للعمل مع أربع شركات يختلف أسلوب إدارة كل منها كل الاختلاف. وكان ذلك هو الدرس الذي تعلمته فيما يتعلق بكيفية عمل الشركات. فكانت شركة ثنكنج ماشينز من المؤسسات التي تنتهج نظامًا تراتبيًّا يبدأ من الصفوف الدنيا انتهاءً بالإدارة العليا. فغالبًا ما كان المهندسون الشباب هم من لهم الكلمة العليا ويبتكرون الأفكار. إذ كانوا يرون الاتجاه الذي تسير إليه الأمور أفضل من الإدارة العليا لأن كل شيء كان جديدًا للغاية.
أما داو جونز فكانت شركة تنتهج أسلوبًا يسير من أعلى المستويات إلى أقلها. فإذا أقنعت الشخص المسئول تجده يقرر تنفيذ ما أقنعته به. ثم يصدر أمرًا بهذا، وتجد من يليه يطيعه على الفور.
أما أبل كمبيوتر فكانت أشبه بالمقعد الإسفنجي. حيث يتحتم عليك دفعه ليس فقط من الجانب الأعلى وإنما من الأسفل والوسط أيضًا في الوقت نفسه لكي تحركيه. وفي ذلك الوقت كان جون سكولي هو المسئول عن أبل، ولا أدري ما إذا كان الحال يختلف الآن أم لا، لكن آنذاك، كان عليك مواصلة الدفع على جميع المستويات وإلا فلن تتحرك الشركة قيد أنملة. فتجدين نفسك تدفعين وتظنين أنك تحرزين تقدمًا، لكن دون جدوى.
أما كيه بي إم جي بيت مارويك فكانت شركة ديمقراطية. فقد كانت شركة تضامن. وكل شريك يظن أنه يمسك بزمام الأمور في الجزء الموكول إليه. وكان الأمر هكذا فعلًا إلى حد بعيد. وكانوا يتحكمون بعائداتهم، ولهم حرية إنفاقها؛ أي إنها شركة تقوم على النهج الديمقراطي. وفي الواقع، كانوا يجتمعون من حين لآخر وينتخبون الإدارة العليا التي يتبعونها. وإذا لم ترُقْ لهم الإدارة العليا — التي كانت مجلسًا استشاريًّا، مثل أي مجلس — كانوا يعزلونها بالتصويت. وهذا هو ما قاموا به فعلًا. وبعد بضع سنوات هذا ما حدث مع المؤيدين لمشروع وايس في كيه بي إم جي بيت مارويك. ولم يكن وايس السبب في ذلك، ولكن الشركاء كانوا يريدون تغيير الإدارة.
وهكذا كان المشروع لا يزال يجري تنفيذه داخل ثنكنج ماشينز، لكني وجدت أن الشركة لن تصنِّع بعض الأجزاء المطلوبة لتحقيق عالم النشر على الإنترنت. وقد ابتكرنا مصطلح «النشر على الإنترنت» وحاولنا أن نؤكد للجميع بأن الفكرة ستتحقق حتمًا. وتعهدت شركة أبل بتنفيذ الجزء الخاص بها وكذلك بيت مارويك، لكن لم يكن هناك من لديه استعداد لتنفيذ المجموعة الأساسية من الأدوات، وهي البرمجيات المطلوبة. فقررت أن أنفذ هذا بنفسي. وأسست شركة لتنفيذ هذا.
وكان علينا اتخاذ القرار الخاص بالمكان الذي يجب أن تؤسس فيه الشركة. أيجب أن يكون في بوسطن؟ أم في وادي السليكون؟ أم في مكان آخر؟ لذا لجأت لمن يتمتعون بالفطنة من معارفي وسألتهم: «أين يجب أن يصبح مقر الشركة؟ فأنا أسعى لإنشاء صناعة.» فلم يكن الهدف بناء شركة وإنما بناء صناعة، لذا سينطوي الأمر على وجود جميع المكونات والعناصر التي ستسهم في ظهور صناعة النشر على الشبكات إلى النور. وكان يرى البعض أن التفكير في تأسيس صناعة فكرة مجنونة بعض الشيء، لكنها بدت معقولة في نظري.
وأفضل نصيحة تلقيتها أسداها لي بيل دون، وهو أحد مَن تعلمت منهم في حياتي العملية. إذ قال لي: «اذهب إلى مكان يخلو ممن يعتقدون أنك فقدت صوابك.» وهي مقولة تبدو بسيطة لكن في الحقيقة اتضح أنها نصيحة حكيمة للغاية. وكانت بوسطن — لا سيما عام ١٩٩٠ / ١٩٩١ — في حالة كساد وتواجه مشكلات. وكانت كاليفورنيا أيضًا في حالة كساد لكنها كانت تتميز بوجود الحالمين على أرضها. وهم من كان لديهم استعداد لتقبل كل أمر جديد ومختلف، ومن غير المفترض أن يظنوا بنا الجنون لأننا نحاول تنفيذ هذه الفكرة.
لذا قررت أن أؤسس الشركة هناك — وكانت تمول نفسها بنفسها — وبدأت بعقد لوضع نظام المعلومات لحملة مرشح الرئاسة، روس بيرو، للانتخابات الرئاسية لعام ١٩٩٢. إذ كان يتسنى لهم استخدام نظام معلومات يتحكم في شبكة ما. وبالطبع لم يكن لديهم دراية عن نوعية الشبكة المطلوبة، لكننا كنا ندري. لذا استطعنا أن نصمم تلك الشبكة باستخدام أجهزة المودم وخطوط مؤجرة وغير ذلك مما يساعدنا على إنشائها. وانهارت حملة بيرو، لكن تبقى لدينا ما يكفي من نقود للاستمرار لمعظم العام الأول لتصنيع منتجاتنا.
ولعل من بين الأفكار اللافتة التي تميز بها وايس كان استخدامه البرمجيات المجانية والبرمجيات المشتركة. وكانت فكرة جديدة نوعًا ما. وقد كانت هناك بعض الأمثلة للبرمجيات المجانية مثل برنامج جنو لكن كانت هناك أيضًا نماذج مختلطة مثل برنامج كيرميت الذي يتيح للمستخدمين عرض كود المصدر على الإنترنت وبيع أشياء ذات صلة. وقد وزَّعنا نسخة العميل مجانًا، وهي تعتبر المكافئ لبرنامج تصفح الويب. وكان المنتج خادم ومتصفح وايس، مما يتيح لكل مستخدم بناء النظام الخاص به.
وشهدت تلك الفترة المجانية إنشاء المئات والمئات من الخوادم. ووصل عدد الخوادم لدينا إلى نحو ١٠ آلاف خادم، كل هذا قبل ظهور جوفر والويب، بالاعتماد على البرمجيات المجانية. وما إن بدأ المستخدمون يقبلون على البرمجيات المجانية، حتى أصبحوا بحاجة للحصول على تحديثات أو خدمات. وهكذا كنا مستعدين لبيعها لهم بصفتنا شركة. وقد صنعنا نسخة مجانية وأخرى يمكن الحصول عليها بمقابل مادي. لقد كانت الفكرة نفسها التي رأيناها الآن مع نت سكيب. وأصبحنا نشهد الكثير من الشركات التي تحاول أيضًا أن تتيح سلعة ما مجانًا وتبيع سلعة أخرى.
وقد بذلنا قصارى جهدنا للعمل مع أفضل الجهات. ولطالما كان التعامل مع تلك الفئة أصعب، لكننا استمتعنا بالتجربة فور بدء التعاون معهم، ومن بين تلك الجهات: جريدة «ذا وول ستريت جورنال»، والموسوعة البريطانية، ومكتب الطباعة الحكومي. وقد عملنا مع كل من مجلس النواب والشيوخ. أي إننا كنا نعمل مع جهات لديها رؤية محددة لما تطمح لتحقيقه. ومن الصعب الحصول على مثل هؤلاء العملاء في البداية، لكنهم كانوا رائعين لأنهم لم يكونوا يحاولون اللحاق بالآخرين. ولم يكونوا يحاولون أن يصلوا إلى المرتبة الثانية. بل كانوا يحتلون المرتبة الأولى في مجالاتهم، وكنا نتعلم منهم.
وعندما ظهر الويب واتضح أنه نظام أساسي أفضل، أصبحنا شركة تقدم خدمات ويب. وأعتقد أننا وضعنا أول ناشر على الإنترنت، وهو إسكلاستيك. وكان ذلك في عهد جوفر. ووضعنا أول خدمة تعتمد على الإعلان وكان ذلك لحساب شركة سي إم بي. وأنشأنا أول خدمة تعتمد على الاشتراك والتي كانت خاصة بجريدة «ذا وول ستريت جورنال». أي إننا كنا نسعى لوضع الناشرين على الإنترنت، وكانت تلك هي مهمة نظام وايس.
كنت أقف في المؤتمرات عام ١٩٩٠ / ١٩٩١ وأقول: «أنا أمثل الشركات الإلكترونية في القاعة. ومهمتي هي مساعدة الناس على تحقيق الأرباح عن طريق النشر على الإنترنت.» وكانت الفكرة تقوم على إضفاء صبغة تجارية على الإنترنت بما يكفي لدعم النشر.
وكان بإمكاننا إنجاز شيء يتعلمون منه، وكنا نتعلم منه نحن أيضًا. وهذا النوع من الشراكات استفدنا منها. لكن كم كان من الصعب أن نعمل معتمدين على هذا النذر اليسير من المال.
وأعتقد أن الأجواء كان يسودها بعض القلق، لكننا لم نستطع التوصل إلى طريقة لإبرام اتفاق. ولعل من أكثر المشكلات التي تعطل المشروعات هي تلك التي تتصل بالملكية الفكرية — لا سيما عندما لا يتوافر المال — فحينئذٍ قد يظل المرء يتحدث دون التوصل إلى حل. ويكون الأمر أسهل بكثير إذا توفر المال. لأنه عندئذٍ ستصبح لديك آلية تتيح لك معرفة طريقة تحديد ملكيتها. لكن قبل هذا يكون الأمر صعبًا للغاية.
واكتشفت أنه من المفيد كثيرًا أن أؤسس شركة في منطقة الساحل الغربي. ومع أني كنت قد انتقلت إلى هناك، فقد كوَّنت شراكة مع شخص اسمه جون ديورينج، وهو من العناصر الأساسية لي، فهو مؤسس مشارك في وايس. وكان مشاركًا أساسيًّا نظرًا لوجوده لخبرته الطويلة في إدارة الشركات، لذا كان ملمًّا بكل المهام ذات الصلة. ومنها: كيفية التعاقد مع شركة متخصصة في الحسابات، وشركات المحاماة، وبنود الإنفاق، وكيفية إبرام عقد إيجار، أي جميع الأشياء التي لم أتعلمها قط من عملي مهندسًا في شركة أخرى.
وفي عام ١٩٩٢ لم تكن سان فرانسيسكو هي المكان المناسب للشركات. وقد حدث هذا في منتصف التسعينيات إبان إعادة بناء منطقة ساوث أوف ماركت. وكان ذلك أيضًا نموذجًا آخر لدرس التوجه إلى مكان يخلو ممن يعتقدون أنك فقدت صوابك. وكنت أحتاج حقًّا إلى مساعدة من يعملون في وادي السليكون، مع أني كنت أعرف أنه مع نمو هذه الصناعة، سيزداد الاعتماد على المبدعين. ومن ثَم فإنها ستتحول أكثر وأكثر إلى سان فرانسيسكو. وعندما نقلنا مقر الشركة عام ١٩٩٤، اخترنا الانتقال إلى المدينة حتى يتسنى لنا العمل مع الناشرين، وهي الجهات التي سيصبح لها حضور على الإنترنت، ولن يقتصر دورها على بناء التقنية، بل ستستخدمها في غرض ما.
أتريدني أن أتحدث عن الأوقات الرائعة حقًّا؟ لقد تمثلت في العمل مع عملاء مهمين. قد يبدو كلامي مكررًا وتقليديًّا، ولكن أكثر شيء ممتع في التجربة بأكملها كان التعلم من القائمين على الموسوعة البريطانية، وصحيفة «ذا نيويورك تايمز»، وجريدة «ذا وول ستريت جورنال»، ومحاولة اكتشاف نظرتهم لعملهم وحياتهم.
وفي تلك الأثناء، نشرنا الصحف على الإنترنت. وأصبح من المفروغ منه أن تجدي أن معظم الصحف أصبحت متاحة على الإنترنت الآن. وأصبحت تلك الصحف تتحكم في توزيعها بنفسها. ولديها مواقعها. ولا يتدفق كل شيء عبر تطبيق آي تيونز، كما هو الحال في صناعة الموسيقى. فقد باع القائمون على صناعة الموسيقى أنفسهم، ولا أدري لمَ فعلوا هذا. فشخص آخر يتحكم ليس في توزيع منتجهم فقط، بل في تحديد الأسعار أيضًا. ماذا يتبقى للمرء إذا كان شخص آخر يتحكم في توزيع منتجه وتسعيره؟!
لذا كان رجال الصحافة والنشر رائعين لأننا كنا نسألهم: «أتودون التحكم في توزيع عملكم؟» فيومئون برءوسهم بالإيجاب، فنخبرهم أن هناك بعض البدائل. ففي أوائل التسعينيات، ظهرت إيه أو إل، وظهرت ليكسس نيكسس من الثمانينيات، حيث كانوا سيفقدون السيطرة على توزيع عملهم. فكنا نسألهم عما إذا كانوا يقبلون بذلك. فيجيبون: «كلا لا نريد هذا. بل نريد أن نتحكم في توزيع عملنا.» فنقول لهم: «انضموا إلينا لفترة وجيزة ونحن نصمم الإنترنت. دعونا ننشيء الإنترنت معًا بناءً على نظم مفتوحة.» ومن ثَم فقد كان رجال الأعمال هؤلاء بحاجة في الواقع لنظام مفتوح.
وكنا نريد أن نصمم ذلك النظام المفتوح قبل أن يظهر المحتكرون في الأفق ويقولوا لهم: «أنتم لا تحتاجون لنظام مفتوح. بل إلى نظام مغلق سنصنعه لكم، وإننا سننفذه لكم على أكمل وجه.» لذا بذلنا جهدًا كبيرًا لإطلاقه في بداية التسعينيات، كي نؤسس نظامًا مفتوحًا. ونجح الأمر. وفي الوقت الذي أعلنت فيه إيه أو إل عام ١٩٩٤ أنها ستدعم بروتوكولات الإنترنت، وعندما أعلنت مايكروسوفت في أغسطس ١٩٩٥ أنها ستدعم شبكة الويب العالمية، كان ذلك معناه أننا ربحنا. فقد أتحنا النشر على الإنترنت، وفي ذلك الوقت كان بإمكاني التقدم وتنفيذ الخطوة التي كنت أريدها.
كان ذلك صعبًا عندما لم يكن الإنترنت منتشرًا. وفي الغالب لم يكن لدى المسئولين التنفيذيين أجهزة كمبيوتر على مكاتبهم. فقد كان لديهم سكرتارية تقوم بالأعمال الكتابية لهم على الكمبيوتر. وتذكري أن ذلك لم يكن منذ وقت بعيد. ولم تكن تلك الأجهزة موصلة بأي شيء. ربما كانت مزودة بمودم، لكن كان الأمر يقتصر على ذلك فقط. وكان علينا أن نقدم العروض عن تلك الأشياء عن طريق أجهزة المودم. وقد استغرقت عملية الحصول على تصريح حتى يمكنهم الاتصال من كمبيوتر بالإنترنت لعرض هذا النظام داخل المقر الرئيسي للمخابرات المركزية الأمريكية عدة أيام. لذا كان من الصعب أن نشرح عدة قفزات للأمام.
وكنت دائمًا أؤكد أن ما أريد تنفيذه حقًّا — بعد تشغيل خدمة النشر — هو بناء مكتبة … لأن هذا ما كنت أريد تحقيقه دائمًا. لكنني رأيت أنه ينبغي تصميم أجهزة الكمبيوتر الفائقة أولًا، ثم إطلاق خدمة النشر، وفور تنفيذ ذلك يصبح بإمكاننا بناء مكتبة. وهكذا لم نتمكن من الوصول إلى مكانة تمكننا من تحقيق هدفنا الذي حلمنا به في أواخر السبعينيات — ألا وهو بناء مكتبة عظيمة — إلا عام ١٩٩٦.
هناك رؤية أخرى أظن أن دون يانياس في الموسوعة البريطانية قد أجاد التعبير عنها. فقال: «الآن بعد أن أصبحت مسئولًا عن الموسوعة البريطانية، أجد نفسي مضطرًّا أن أكون في أفضل حالاتي كل صباح.» فالناس يولون وجوههم إليك، ليس فقط لاستلهام الأفكار، بل لاستلهام التوجه العام الذي يرمي لإنجاح الأمر برمته. فتحمل مسئولية شركة عبء كبير. ويجب أن يحرص من يتحملها دائمًا على تحقيق التقدم، ليس فقط ماديًّا بل أيضًا من حيث السعي لجعل الشركة بيئة ممتعة يرغب الناس في العمل بها.
ومن ثَم فإن مهمة وايس كانت تتمثل في محاولة تشجيع الآخرين على تقليدنا. وقد تحقق ذلك الهدف، وسار الأمر على أفضل وجه. وقد تفوقوا علينا في ذلك وحققوا نجاحًا هائلًا. فقد تفوقت علينا بكثير استوديوهات الويب الأفضل منا، وشركات تصنيع الخوادم، وجهات تصنيع خوادم الويب. لكن كانت فكرة وايس تكمن في محاولة توجيه ذلك النشاط، لأن وايس لم تكن هي الهدف. لم يكن تأسيس تلك الشركة هو الهدف. فقد كان هدفي هو إتاحة النشر على الإنترنت، ثم بعد ذلك يصبح بإمكاني تحقيق شيء.
كانت أليكسا إنترنت نظام تصفح للإنترنت. وقد أسستها أنا وبروس جيليات هنا في سان فرانسيسكو في منزل يقع في منتصف حديقة بريزيديو. ويقع مقر الشركة في حديقة مساحتها ١٥٠٠ فدان في منتصف سان فرانسيسكو. ونحن ثاني جهة تستأجر المكان.
وهكذا إذا كنت تزورين صفحة ويب وتشاهدين سيارة ما أو كتابًا ما أو موقعًا عن كمبيوتر جديد، فستجدين ما يخبرك أنه إذا كنت تزورين هذه الصفحة فربما تودين زيارة تلك الصفحات أيضًا. وربما تظهر تلك الاقتراحات دون رغبة صاحب الموقع.
وانتقل هو إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأسسوا شركة تدعى فاير فلاي قامت على أفكاره. ولذا، على أي حال، كانت فكرة التصفية التعاونية على مستوى الويب تلك — أي من أعجبتهم هذه الصفحة أعجبتهم أيضًا هذه الصفحات — هي التي نفذناها. وصممنا شريط الأدوات لهذا الغرض وليعرض المعلومات على المستخدمين وهم يتصفحون الإنترنت. وفي المقابل، يمنحنا جميع هؤلاء المستخدمين معلومات فيما يخص المواقع التي زاروها، والمسارات التي اتخذوها، وهو ما سنتعلم منه بعد ذلك.
ومن ثَم فقد أخفقت فكرة المشروع الأساسية. ولكننا حققنا نجاحًا كبيرًا في تشجيع الكثيرين على استخدام منتجنا. وقد أُعجب به الناس. وقد أدخلته نت سكيب في متصفحها. وفور قيام نت سكيب بذلك، كان من السهل إقناع مايكروسوفت بوضعه مع برامج التصفح الخاصة بها. (فقد اكتشفنا أن أفضل طريقة لإقناع مايكروسوفت بتنفيذ فكرة ما هي إقناع المنافسين بتنفيذ شيء ما بشأنها.)
وهكذا حصلنا على عدد هائل من المستخدمين — ملايين بل عشرات الملايين من المستخدمين — لكننا لم نستطِع التوصل إلى طريقة تضمن نجاح المشروع تجاريًّا. وفي ذلك الوقت، عندما كان بعض العاملين في شركة أمازون يبحثون عن تكنولوجيا للتنقيب في البيانات، جاءوا إلينا وقالوا: «أينبغي لنا أن نشتري شركتكم من أجل تكنولوجيا التنقيب في البيانات؟» فقلنا لهم: «أولًا، لا ينبغي أن تشتروا شركتنا، وثانيًا، إن نشاطنا يختلف كثيرًا عن التنقيب في البيانات. فنحن نقدم شريط أدوات يمكن عرضه أمام المستخدمين، وأشياء من هذا القبيل.»
وفي المحادثات التي أجريناها مع جيف بيزوس مؤسس أمازون دوت كوم، قلت له: «لقد جربت إبرام صفقة استحواذ من قبلُ، ولم تسِر الأمور على ما يرام. وقد تمت لمصلحة إيه أو إل — وهي شركة كبيرة — لكن شركتي تعرضت للتشتت، وأنا لا أجيد إدارة قسم، بل أجيد إدارة شركة.» فقال: «إذا كنا سنشتري شركتك، فما رأيك أن تديرها كشركة؟ ما طريقتك للقيام بذلك؟» فأخبرته: «أن يكون لها مجلس إدارة، وأنا أجتمع كل شهر مع مجلس الإدارة وأن يصدر أعضاء المجلس توجيهات عامة على أن أدير أنا الشركة.» فقال: «حسنًا، أنا موافق على هذه الطريقة.»
وهكذا استحوذت الشركة علينا، وظللنا ندير عملنا كشركة منفصلة. ولا تزال الشركة تعمل. وهي على بعد ما يقرب من ٢٠٠ ياردة من إنترنت آركايف، التي أعمل بها الآن. فقد ظللت معهم ثلاث سنوات ثم انتقلت لتحويل شركة إنترنت آركايف — التي لم يكن يعمل بها أحد — إلى مؤسسة حقيقية. لأنه فور توافر المواد الكافية لدينا أصبح بإمكاننا بناء المكتبة. لذا كانت أليكسا تهدف إلى وضع فهرس للمكتبة، أما إنترنت آركايف فهدفها بناء المواد التي تحتاج إليها المكتبة.
إن فكرة نشر كل شيء على الإنترنت تعتبر عملًا ضخمًا وصعبًا. فكيف تقيمين مكتبة تتيح للجميع إمكانية الوصول إلى كل شيء؟ أذكر أني تحدثت إلى ريتشارد فينمان وكنا نتصفح الموسوعة البريطانية، في إحدى غرف مقر ثنكنج ماشينز ذات الطابع الذي يميز القرن التاسع عشر. فكان لدينا نسخة من الموسوعة البريطانية وكانت تتألف من فهرس من مجلد واحد، ثم موسوعة مصغرة — من عشرة مجلدات تقريبًا — ثم المستوى الثاني الموسوعة الضخمة التي كانت من ثلاثين مجلدًا تقريبًا. وفكرنا في عدد المستويات الأخرى الباقية قبل أن نتمكن من نشر أي شيء على الإطلاق. واتضح أن هناك ما يقرب من خمسة مستويات أخرى، فقلت: «إن الأمر ليس صعبًا للغاية. فما قدر المعلومات الموجودة هنا؟ إنه ليس كبيرًا للغاية.» لذا حتى في فترة العمل في ثنكنج ماشينز، كنا ندرك طبيعة ما نحاول بناءه. فالأمر فقط يستغرق وقتًا أطول مما يظن المرء. كان ذلك قبل عشرين عامًا تقريبًا.
فكان داني هيليس، الذي يكبرني بأربع سنوات، والذي عملت تحت إشرافه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وفي شركة ثنكنج ماشينز، موجهًا ومصدر عون لي منذ ذلك الحين. والآخر هو بيل دون. ووجدت أن لدى كليهما — وهما شخصان يتمتعان بقدر كبير من الطيبة والذكاء — القدرة على استشراف ما هو آتٍ، حتى لو لم يكن لديهما سوى أقل القليل من المعلومات. وكنت دائمًا أدون أفكارهما الجامحة وأسأل نفسي عما إذا كانت ستُحقق. وبعد بضع سنوات أجد أنهما كانا على حق. فبعض الناس يتضح أنهم على حق أكثر بكثير مما كان نظن.
فإذا بدأت بمبلغ ٨ ملايين دولار يمكنك شراء كل ما تريدين، أما إذا كنت تؤسسين شركة وحدك دون مشاركة من أحد فيمكنك تأسيسها من غرفة نومك. وفي الحقيقة يقوم الكثيرون بذلك. بل أظن أن معظم غرف النوم ما هي إلا شركات ناشئة! فمن المقبول تمامًا في الساحل الغربي أن يبدأ المرء بمبلغ ضئيل، ويعقد اجتماعًا في مقهى، فلا بأس بهذا.
يمكنك العمل على توسعة الشركة على الفور. ويمكنك توظيف أربعين شخصًا في عصر يوم واحد، لكنهم لن يعملوا بانسجام معًا بالضرورة؛ فلن يفهموا سير العمل. فالأمر يستغرق بعض الوقت. وهكذا غالبًا ما تمر ستة أو تسعة أشهر لتنسيق جميع جوانب البنية التحتية. وفي حالة أليكسا، استغرق الأمر عامًا لبناء الشركة حتى تصل إلى الحد الذي يمكننا معه طرح أول منتج حقيقي لنا. وكذلك كان الحال مع وايس. فأول منتج طُرح جاء بعد عام من تأسيس الشركة. ولكن دائمًا ما كنت أشعر أن وتيرة الأحداث يجب أن تكون أسرع من ذلك.
عندما أسست الشركة الناشئة التي اشترتها أمازون قلت: «دعونا وشأننا. إننا على القدر الكافي من الذكاء والاستقلالية بما يتيح لنا أن نقوم بعمل متقن سيدخل أشياء إضافية إلى مؤسستكم.» وقد قام جيف بيزوس بخطوة عبقرية من وجهة نظري وهو أنه أدار شركتنا عن طريق مؤسسته، وأدار شركات أخرى عن طريق شركتنا. لقد استخدمنا — على الأقل للسنوات القليلة الأولى — كفريق من الخبراء المكلفين بإجراء الأبحاث، وهو مثال حي على قدرتهم على القيام بالمهام بوسائل بديلة.
وكانت تكمن أهم قيمة لشركة أليكسا في العام الأول من استحواذ أمازون عليها وهي تطبيقها لبعض الدروس التي تعلمناها عن الاقتصاد في النفقات على نحو أفضل مما تعودوا عليه هم. فقد مروا بمرحلة نمو سريع مفاجئ وكانوا ينفقون ١٠٠ مليون دولار على الأجهزة سنويًّا. ولم نصدق هذا. فشركتنا لم تنفق طوال تاريخها ١٠ ملايين دولار.
لذا قال جيف: «حسنًا يا بروستر إنك تجيد تنفيذ هذه الأمور بتكلفة زهيدة. ماذا يجب أن نفعل؟» فقلت له: «توقفوا عن شراء الأجهزة. فقد اشتريتم الكثير منها.» فوافق على التوقف عن شرائها. وقد تسبب ذلك في معاناة شديدة للمؤسسة، لكنه كان التصرف الصحيح. فقد كانوا بحاجة لتحقيق الأرباح. وقد تعلموا عدة دروس من هذا. لقد تمكنوا من الاستفادة من شخص من خارج الشركة، لكنه لا يزال يعمل داخلها أيضًا. فلم نكن شركة استشارية مستقلة مثل باين كونسلتنتس أو غيرها، لكننا كنا ملمين بما نتحدث عنه لأنه سبق لنا تصنيع منتجات من قبلُ. وقد خفضنا تكلفة وصلات الإنترنت الخاصة بهم بنسبة ٩٠ بالمائة لمجرد أننا أخبرناهم بضرورة إبرام الصفقات بطرق معينة. وهكذا دفعنا مقابل استحواذ شركتنا في العام الأول من خلال تكاليف رأس المال التي وفروها.
لقد أخذت إيه أو إل أفكارنا ونفذتها في شركتها وتسببت في تشتيت شملنا، وإن كان كما ينبغي، في رأيي. أما أمازون فقد أبقت شركتنا كنشاط إضافي، وتركتها تتقدم وتستحدث أفكارًا جديدة. كما كانت تغدق علينا من وقتها؛ إذ كنا نعقد اجتماعًا يستمر ليوم كامل مع كبار المسئولين التنفيذيين في أمازون كل شهر. أي إنهم كانوا يمنحوننا قدرًا هائلًا من وقتهم، لكن هذا يرجع لأن جيف بيزوس قال: «سيكون هؤلاء هم مصدر الأفكار الجديدة.»