الفصل العشرون

بروستر كايل

مؤسس، شركات وايس، وإنترنت آركايف، وأليكسا إنترنت

طور بروستر كايل نظام وايس (WAIS) في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وذلك أثناء عمله في شركة ثنكنج ماشينز. ثم تركها عام ١٩٩٣ ليؤسس شركة وايس المحدودة التي كانت من أوائل برمجيات البحث على الإنترنت. ونظرًا لابتكارها قبل ظهور الويب، فقد كانت في بعض الجوانب سلفًا لمحركات البحث على الويب. وفي عام ١٩٩٥ باع كايل شركة وايس لشركة إيه أو إل.

وفي العام التالي أسس كايل شركة أليكسا إنترنت مع بروس جيليات. وكان شريط أدوات أليكسا يتعقب سلوك المستخدمين في التصفح ويقترح الروابط ذات الصلة، باستخدام التصفية التعاونية. وفور الوصول إلى الصفحات التي زارها المستخدمون يجري «التبرع» بها إلى موقع إنترنت آركايف غير الربحي المرتبط بها للمساعدة في إنشاء تاريخ للويب.

وقد استحوذت أمازون على أليكسا عام ١٩٩٩. ولا يزال كايل يدير إنترنت آركايف.

***

ليفنجستون : لقد كنت من بين أوائل أفراد فريق ثنكنج ماشينز. ماذا كان ترتيبك بين الموظفين؟
كايل : لم أكن أحد المؤسسين، واللذين كانا داني هيليس وشيريل هاندلر. لقد كنت في فريق المشروع في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لذا عندما أسسنا الشركة، انضم إلينا كل من يريد من ذلك الفريق. وكنا تقريبًا ثلاثة أو أربعة. وقد كنا نعمل لإنجاز المشروع لعامين قبل تأسيس الشركة.
ليفنجستون : حدثني عن بعض الأحداث المهمة التي شهدتها فترة العمل في ثنكنج ماشينز التي مهدت الطريق لظهور وايس.
كايل : لست من قام بتأسيس ثنكنج ماشينز، لكني كنت في فريق المشروع سلفًا ثم ساعدت في تأسيس الشركة. وقد استفدت من هذه التجربة أنه ينبغي للمرء أن يجري استعداداته جيدًا قبل أن ينفق نقوده. فقد نفذنا بضع جولات كاملة من آلة الاتصال (Connection Machine) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قبل أن نؤسس الشركة. وكان من المفيد جدًّا أن نتعلم دروسنا على حساب الآخرين، وكان ذلك في مرحلة البحث.
وهناك درس آخر تعلمته من ثنكنج ماشينز هو: إذا كنت تحاولين أن تجعلي شركتك تفكر بطريقة مختلفة — لتقوم بنشاط يلفت الاهتمام — فاختاري المحيط الذي تعملين به بعناية. فقد كان مقر الشركة في قصر مشيد على الطراز الفيكتوري يعود إلى القرن التاسع عشر على مساحة ١٠٠ فدان من الغابات على مشارف مدينة بوسطن. وكان المكان أصلًا حديقة عامة. ويختلف العمل في مثل هذه البيئة التي يمكنك فيها — إذا توقف فيها ذهنك عن العمل — الخروج لتمشية طويلة اختلافًا كبيرًا عن محاولة تأسيس شركة والتفكير بأسلوب مختلف إذا كنت في أحد المكاتب التي يضمها مجمع مكاتب كبير. وهذا درس عملت به عند تأسيس كل شركة ناشئة منذ ذلك الوقت.

وقد حالف الحظ ثنكنج ماشينز لأنها بدأت ورصيدها في البنك ٨ ملايين دولار لأن بعض الأثرياء آمنوا بها. ولم تحصل على تمويل من رءوس أموال مخاطرة، وتأسست على فكرة أنها ستستغرق سنوات طويلة حتى تتمكن من إنجاز شيء حقيقي. وقد ساهم ذلك في تمكينها من جذب مجموعة من الأشخاص الرائعين حقًّا. فقد عمل بها ريتشارد فينمان وستيفن ولفرام ومارفن مينسكي. واكتشفت أنني أصبحت أتمتع بفرصة أفضل للاستفادة من خبرات الأساتذة الجامعيين الموجودين في الشركة مقارنةً بما كان عليه الحال في فترة الدراسة. ومن ثَم كانت هذه طريقة مهمة لفهم المهام المطلوبة من الشركة.

وقد قضوا فترة الصيف بأكملها وهم يحاولون إنجاز ذلك، بل طوال فترة طويلة من العام الأول، وهي رفاهية لا تحظى بها معظم الشركات الناشئة. فعادة ما يتحتم عليهم الاجتهاد لإنجاز باكورة الإنتاج. لذا كان وجودي في بيئة عمل ممتعة وانضمام زملاء أذكياء للشركة من العوامل التي جعلتها من الشركات الناشئة الفريدة، وتختلف تمامًا عن الشركات الناشئة في الساحل الغربي التي رأيتها.
ليفنجستون : ماذا كانت أكبر نقاط التحول في البداية؟
كايل : وظفنا شخصًا من ديجيتال إيكوبمنت كوربوريشن، وكان يشغل منصب نائب رئيس الواقع. وكانت الفكرة تقوم على أن يحاول مساعدة مجموعة من خريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ممن لديهم أفكار رائعة، لكنهم لم يسبق لهم إنتاج جهاز كمبيوتر فائق من قبلُ، في التوصل لطريقة لإنجاز المهام المطلوبة. وأذكر أنني قد دُعيت لتقديم مراجعة لتصميم وحدة المعالجة المركزية الأساسية لهذا الكمبيوتر الجديد، ولم أكن أعرف في الواقع المقصود بمراجعة التصميم، وكان ذلك أمرًا مخجلًا للغاية. لكن كان من المفيد للغاية الاستعانة بنائب رئيس الموقع. فقد ساعد ذلك على تعزيز الجهود الرامية لإنتاج أجهزة قابلة للتشغيل.
وكان العاملون في الشركة من الشباب محل ثقة كبيرة. فقد كان هؤلاء في بداية العشرينيات من أعمارهم. ومن ثَم كانت مهام التصميم والتصنيع الأساسية للأجهزة — مع أننا كنا في ذلك الوقت غير مؤهلين على الإطلاق، وذلك حين أتذكر الأمر حاليًّا — ملقاة على عاتق مجموعة من الشباب. لكن هذا جعل الأمر مسليًّا. فقد كنا نولي المشروع كامل اهتمامنا. ولم يكن لدينا حياة أخرى بخلافه.
ليفنجستون : هل صادفت أي تجارب قررت أن تتجنبها عند تأسيس شركتك؟
كايل : لقد كانت نعمة ثنكنج ماشينز ونقمتها تكمن في وفرة الأموال. فإذا كان لديك مال وفير، فهناك احتمال أن تتمتعي باستقلالية عمَّن سيدفعون لك في المستقبل.
كانت أول شركة ناشئة أسستها بعد أن تركت ثنكنج ماشينز تعتمد اعتمادًا كليًّا على نفسها. فلم نحصل على نقود استثمار على الإطلاق، ولم يكن لديَّ مدخرات، أي إنها كانت تمول نفسها منذ البداية. وكان ذلك أمرًا صعبًا للغاية. فكان الأمر أشبه بالخروج من حقبة العشرينيات التي تميزت بالازدهار والرخاء حين كانت الشمبانيا متوافرة في كل مكان، إلى فترة الكساد حيث كان المرء يغسل الأكياس البلاستيكية الصغيرة ويعيد استخدام شرائط إغلاقها.

وفي الواقع لقد أعجبني الانضباط الذي ينشأ من العمل في شركة ناشئة تعتمد على نفسها. وأظن أن على كل من يعتزم إنشاء شركة ناشئة — حتى إذا لم يكن سيؤسس شركة كبيرة بهذا الشكل — أن يؤسس مشروعًا يسعى لضمان رضا الناس من اليوم الأول، عن طريق العقود أو المبيعات المحدودة، أو غير ذلك. وينبغي أن يدرك إلى أي مدى يمكنه أن يقتصد في النفقات؟ وكيف يمكنه تصميم شيء زهيد التكلفة؟ وكيف يمكن تجنب إنفاق المال على الأثاث والسجاد الذي ينسجم معه وتلك الأشياء؟ وأهم شيء حرصت عليه في المرة التالية هو عدم امتلاك أي نقود.
ليفنجستون : أخبرني كيف خطرت لك فكرة نظام وايس؟
كايل : كانت فكرة نظام وايس تقوم على تقديم خدمات للشبكات — وهي أشياء نتعامل معها الآن على أنها من المسلمات — لكن الفكرة كانت تقوم على إمكانية استخدام أجهزة بعيدة للإجابة عن الأسئلة. وكانت شبكة أربانت تدخل حيز الاستخدام في الجامعات في الثمانينيات، وهكذا كنا في ثنكنج ماشينز نحاول التوصل إلى الطريقة المثلى لاستخدام جهاز مساحة قرصه ١٥ جيجا بايت ومزود بمعالجات يمكن تشغيلها بسرعة جيجا هرتز، مثلًا. وكان ذلك مدهشًا للغاية. فكيف يمكنك استخدام هذه القدرة الحاسوبية الهائلة؟ فقررنا أن نضعها على الإنترنت، وستكون أجهزة ذكية بما يكفي للإجابة عن أسئلتك. وكانت هذه هي الفكرة. وقررنا وضع النموذج الأولي في ثنكنج ماشينز.
وقد وضعت النموذج الأولي له في وقت فراغي. وأظن أن المناخ العام كان يشجع على التجريب ومزاولة أشياء مسلية، وتمضية الوقت في القيام بشيء لا يقع ضمن نطاق مسئولياتك الوظيفية، مع إمكانية القيام بهذا في مقر العمل والحصول على دعم من العمل. لذا جربت فكرة النشر عن بُعد، أي، طرح أسئلة على أجهزة عن بُعد. وكان ذلك أول نظام نشر على الإنترنت. وقد سبق جوفر والويب، لكنه كان أول نظام يحاول الإجابة عن الأسئلة على الإنترنت. وصحيح أن البحث كان يمثل جزءًا كبيرًا منه، ولكن كان يمكن الانتقال فيه عن طريق النقر وهو مزود بنظام العناوين على الإنترنت، ونظام بحث مخصص للبحث عن الخوادم. أي إنه كان يحتوي على كل الأجزاء المطلوبة. وكان مصممًا على بروتوكول مفتوح. ونفذناه على أنه مشروع تابع لشركة ثنكنج ماشينز بالتعاون مع أبل كمبيوتر، وكيه بي إم جي بيت مارويك، وداو جونز.

أي إن أول تجربة لي لتأسيس شيء بهذا الحجم كانت في الواقع داخل ثنكنج ماشينز، وكان ذلك انطلاقًا مرة ثانية من تطبيق الدرس الأساسي الذي مفاده: الاستفادة دون إنفاق أموالك. لذا حاولنا بناء ذلك النظام داخل ثنكنج ماشينز. وقد كانت الشركة تسعى لتحقيق أرباح عن طريق بيع الخوادم ومن ثَم كان علينا إنجاز بقية النظام وتشغيله. وكلفنا شركة أبل كمبيوتر بتنفيذ الواجهة الأمامية؛ أي الجزء المتعلق بالعميل، ونفَّذت داو جونز مصادر المعلومات، وكيه بي إم جي بيت مارويك كانت مختصة بمعلومات الشركة وقاعدة المستخدمين. أي إنه كان مشروعًا تجريبيًّا. وقد استمر لعام ونصف تقريبًا وحقق نجاحًا. وقد نال إعجاب الجميع. وقد كانت تسعى كل مؤسسة من تلك المؤسسات للمساهمة في نجاح الأمر بأكمله. وكان ذلك عام ١٩٨٩ / ١٩٩٠. أي إننا جميعًا كنا نتطلع إلى المستقبل.
ليفنجستون : يبدو أن وايس كان يشتمل على أفكار تسبق ظهور الويب.
كايل : لقد كانت جميع تلك الأفكار موجودة. وظهر الويب بعد ذلك بوقت قصير، لكن كان تيم بيرنرز-لي — على حد علمي — مشغولًا بالسعي لإنجاز المهام نفسها، لكنه كان ينفذ ذلك على نطاق محلي داخل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في سويسرا. أما نحن، فكنا ننفذها داخل بيئة شركة باستخدام أجهزة الكمبيوتر الفائقة والإنترنت أيضًا.
ليفنجستون : إذن فقد كانت شركات أبل كمبيوتر وكيه بي إم جي بيت مارويك وداو جونز جميعها مشاركة في المشروع؟
كايل : نعم، كنا نتعاون جميعًا. لقد كان للمشروع فريق مشروع في كل شركة، وكنت أنا أديره. وانتقلت إلى الساحل الغربي كي أجرب إدارته لأنني كنت واثقًا من قدرتي على إدارة ثنكنج ماشينز عن بُعد، لكنني لم أكن أعتقد أنه يمكنني إدارة أبل عن بُعد. لذا انتقلت إلى الساحل الغربي وبدأت أعمل هناك في مكتب وكان لديَّ فريق مشروع أعمل معه في أبل.
ليفنجستون : حدثني عن بعض المشكلات التقنية الصعبة التي واجهها وايس.
كايل : كان من أصعب الأمور استخدام شبكات الكمبيوتر آنذاك. كان ذلك عام ١٩٨٩ ولم يكن الإنترنت قد أصبح سهلًا على الإطلاق. وكانت محاولة الاتصال بداو جونز عن طريق شبكات إكس ٢٥ والشبكة الرقمية للخدمات المتكاملة (آي إس دي إن) صعبًا للغاية. وبدأت كيه بي إم جي بيت مارويك في ذلك الوقت تركيب شبكة داخلية حتى يتسنى لنا استخدامها، ولحسن الحظ كانوا يستخدمون أجهزة ماكنتوش. وقد أفادتنا تلك الأجهزة لأنها كانت مزودة بحزمة بروتوكولات الإنترنت تي سي بي/آي بي، على عكس ويندوز. ولم تتمكن مايكروسوفت من اللحاق بالركب إلا بعد ست سنوات عندما ظهر ويندوز ٩٥.
ما أعجبني في هذا الأمر هو أنه أتيحت لي الفرصة للعمل مع أربع شركات يختلف أسلوب إدارة كل منها كل الاختلاف. وكان ذلك هو الدرس الذي تعلمته فيما يتعلق بكيفية عمل الشركات. فكانت شركة ثنكنج ماشينز من المؤسسات التي تنتهج نظامًا تراتبيًّا يبدأ من الصفوف الدنيا انتهاءً بالإدارة العليا. فغالبًا ما كان المهندسون الشباب هم من لهم الكلمة العليا ويبتكرون الأفكار. إذ كانوا يرون الاتجاه الذي تسير إليه الأمور أفضل من الإدارة العليا لأن كل شيء كان جديدًا للغاية.

أما داو جونز فكانت شركة تنتهج أسلوبًا يسير من أعلى المستويات إلى أقلها. فإذا أقنعت الشخص المسئول تجده يقرر تنفيذ ما أقنعته به. ثم يصدر أمرًا بهذا، وتجد من يليه يطيعه على الفور.

أما أبل كمبيوتر فكانت أشبه بالمقعد الإسفنجي. حيث يتحتم عليك دفعه ليس فقط من الجانب الأعلى وإنما من الأسفل والوسط أيضًا في الوقت نفسه لكي تحركيه. وفي ذلك الوقت كان جون سكولي هو المسئول عن أبل، ولا أدري ما إذا كان الحال يختلف الآن أم لا، لكن آنذاك، كان عليك مواصلة الدفع على جميع المستويات وإلا فلن تتحرك الشركة قيد أنملة. فتجدين نفسك تدفعين وتظنين أنك تحرزين تقدمًا، لكن دون جدوى.

أما كيه بي إم جي بيت مارويك فكانت شركة ديمقراطية. فقد كانت شركة تضامن. وكل شريك يظن أنه يمسك بزمام الأمور في الجزء الموكول إليه. وكان الأمر هكذا فعلًا إلى حد بعيد. وكانوا يتحكمون بعائداتهم، ولهم حرية إنفاقها؛ أي إنها شركة تقوم على النهج الديمقراطي. وفي الواقع، كانوا يجتمعون من حين لآخر وينتخبون الإدارة العليا التي يتبعونها. وإذا لم ترُقْ لهم الإدارة العليا — التي كانت مجلسًا استشاريًّا، مثل أي مجلس — كانوا يعزلونها بالتصويت. وهذا هو ما قاموا به فعلًا. وبعد بضع سنوات هذا ما حدث مع المؤيدين لمشروع وايس في كيه بي إم جي بيت مارويك. ولم يكن وايس السبب في ذلك، ولكن الشركاء كانوا يريدون تغيير الإدارة.

وهكذا كان المشروع لا يزال يجري تنفيذه داخل ثنكنج ماشينز، لكني وجدت أن الشركة لن تصنِّع بعض الأجزاء المطلوبة لتحقيق عالم النشر على الإنترنت. وقد ابتكرنا مصطلح «النشر على الإنترنت» وحاولنا أن نؤكد للجميع بأن الفكرة ستتحقق حتمًا. وتعهدت شركة أبل بتنفيذ الجزء الخاص بها وكذلك بيت مارويك، لكن لم يكن هناك من لديه استعداد لتنفيذ المجموعة الأساسية من الأدوات، وهي البرمجيات المطلوبة. فقررت أن أنفذ هذا بنفسي. وأسست شركة لتنفيذ هذا.

وكان علينا اتخاذ القرار الخاص بالمكان الذي يجب أن تؤسس فيه الشركة. أيجب أن يكون في بوسطن؟ أم في وادي السليكون؟ أم في مكان آخر؟ لذا لجأت لمن يتمتعون بالفطنة من معارفي وسألتهم: «أين يجب أن يصبح مقر الشركة؟ فأنا أسعى لإنشاء صناعة.» فلم يكن الهدف بناء شركة وإنما بناء صناعة، لذا سينطوي الأمر على وجود جميع المكونات والعناصر التي ستسهم في ظهور صناعة النشر على الشبكات إلى النور. وكان يرى البعض أن التفكير في تأسيس صناعة فكرة مجنونة بعض الشيء، لكنها بدت معقولة في نظري.

وأفضل نصيحة تلقيتها أسداها لي بيل دون، وهو أحد مَن تعلمت منهم في حياتي العملية. إذ قال لي: «اذهب إلى مكان يخلو ممن يعتقدون أنك فقدت صوابك.» وهي مقولة تبدو بسيطة لكن في الحقيقة اتضح أنها نصيحة حكيمة للغاية. وكانت بوسطن — لا سيما عام ١٩٩٠ / ١٩٩١ — في حالة كساد وتواجه مشكلات. وكانت كاليفورنيا أيضًا في حالة كساد لكنها كانت تتميز بوجود الحالمين على أرضها. وهم من كان لديهم استعداد لتقبل كل أمر جديد ومختلف، ومن غير المفترض أن يظنوا بنا الجنون لأننا نحاول تنفيذ هذه الفكرة.

لذا قررت أن أؤسس الشركة هناك — وكانت تمول نفسها بنفسها — وبدأت بعقد لوضع نظام المعلومات لحملة مرشح الرئاسة، روس بيرو، للانتخابات الرئاسية لعام ١٩٩٢. إذ كان يتسنى لهم استخدام نظام معلومات يتحكم في شبكة ما. وبالطبع لم يكن لديهم دراية عن نوعية الشبكة المطلوبة، لكننا كنا ندري. لذا استطعنا أن نصمم تلك الشبكة باستخدام أجهزة المودم وخطوط مؤجرة وغير ذلك مما يساعدنا على إنشائها. وانهارت حملة بيرو، لكن تبقى لدينا ما يكفي من نقود للاستمرار لمعظم العام الأول لتصنيع منتجاتنا.

ولعل من بين الأفكار اللافتة التي تميز بها وايس كان استخدامه البرمجيات المجانية والبرمجيات المشتركة. وكانت فكرة جديدة نوعًا ما. وقد كانت هناك بعض الأمثلة للبرمجيات المجانية مثل برنامج جنو لكن كانت هناك أيضًا نماذج مختلطة مثل برنامج كيرميت الذي يتيح للمستخدمين عرض كود المصدر على الإنترنت وبيع أشياء ذات صلة. وقد وزَّعنا نسخة العميل مجانًا، وهي تعتبر المكافئ لبرنامج تصفح الويب. وكان المنتج خادم ومتصفح وايس، مما يتيح لكل مستخدم بناء النظام الخاص به.

وشهدت تلك الفترة المجانية إنشاء المئات والمئات من الخوادم. ووصل عدد الخوادم لدينا إلى نحو ١٠ آلاف خادم، كل هذا قبل ظهور جوفر والويب، بالاعتماد على البرمجيات المجانية. وما إن بدأ المستخدمون يقبلون على البرمجيات المجانية، حتى أصبحوا بحاجة للحصول على تحديثات أو خدمات. وهكذا كنا مستعدين لبيعها لهم بصفتنا شركة. وقد صنعنا نسخة مجانية وأخرى يمكن الحصول عليها بمقابل مادي. لقد كانت الفكرة نفسها التي رأيناها الآن مع نت سكيب. وأصبحنا نشهد الكثير من الشركات التي تحاول أيضًا أن تتيح سلعة ما مجانًا وتبيع سلعة أخرى.
ليفنجستون : هل كانت شركتك هي أول شركة تقوم بذلك؟
كايل : أظن أنه ربما كنا أول جهة تفكر في الإنترنت كنظام توزيع للبرمجيات يقوم على إتاحة البرامج مجانًا وبيع أشياء مرتبطة بها أيضًا. فليست لديَّ فكرة عن وجود أمثلة سابقة.
ليفنجستون : لقد أصبح هذا هو نموذج العمل للكثير من الشركات هذه الأيام، فمن الرائع أن تكونوا أول مَن تفكرون فيه.
كايل : لا أعرف إذا ما كنا كذلك أم لا، لكننا كنا بلا شك من أوائل الشركات التي تتبعه. ووجدنا أيضًا أن المستخدمين — حتى إذا بعنا لهم البرمجيات — كانوا غالبًا لا يعرفون الغرض من استخدامها. وكانوا يريدون الحصول على خدمات استشارية. فأنشأنا ما أظن أنه أصبح أول استديو ويب، أو مشروع لخدمات الويب. وقد عملنا مع جهات رائدة — سواء أكانت صحفًا أم مجلات — كانت ترغب في النشر على الإنترنت. وهذا أتاح لنا فرصة العمل مع الكبار مبكرًا.
وقد بذلنا قصارى جهدنا للعمل مع أفضل الجهات. ولطالما كان التعامل مع تلك الفئة أصعب، لكننا استمتعنا بالتجربة فور بدء التعاون معهم، ومن بين تلك الجهات: جريدة «ذا وول ستريت جورنال»، والموسوعة البريطانية، ومكتب الطباعة الحكومي. وقد عملنا مع كل من مجلس النواب والشيوخ. أي إننا كنا نعمل مع جهات لديها رؤية محددة لما تطمح لتحقيقه. ومن الصعب الحصول على مثل هؤلاء العملاء في البداية، لكنهم كانوا رائعين لأنهم لم يكونوا يحاولون اللحاق بالآخرين. ولم يكونوا يحاولون أن يصلوا إلى المرتبة الثانية. بل كانوا يحتلون المرتبة الأولى في مجالاتهم، وكنا نتعلم منهم.

وعندما ظهر الويب واتضح أنه نظام أساسي أفضل، أصبحنا شركة تقدم خدمات ويب. وأعتقد أننا وضعنا أول ناشر على الإنترنت، وهو إسكلاستيك. وكان ذلك في عهد جوفر. ووضعنا أول خدمة تعتمد على الإعلان وكان ذلك لحساب شركة سي إم بي. وأنشأنا أول خدمة تعتمد على الاشتراك والتي كانت خاصة بجريدة «ذا وول ستريت جورنال». أي إننا كنا نسعى لوضع الناشرين على الإنترنت، وكانت تلك هي مهمة نظام وايس.

كنت أقف في المؤتمرات عام ١٩٩٠ / ١٩٩١ وأقول: «أنا أمثل الشركات الإلكترونية في القاعة. ومهمتي هي مساعدة الناس على تحقيق الأرباح عن طريق النشر على الإنترنت.» وكانت الفكرة تقوم على إضفاء صبغة تجارية على الإنترنت بما يكفي لدعم النشر.
ليفنجستون : هل كان يرى كبار الناشرين هؤلاء في البداية أن هذا ضرب من الجنون؟
كايل : عادةً ما كان الأمر يستغرق من تسعة إلى اثني عشر شهرًا تتخللها عدة اجتماعات قبل أن يتحول أي شيء إلى إنجاز ملموس على أرض الواقع. وفي نهاية الأمر، كانوا يقررون تنفيذ مشروع ما ويخصصون له مبلغ ١٠٠ ألف دولار. ونظرًا لأن تكلفة العمل معنا كانت زهيدة — إذ إننا كنا نستخدم قطع أثاث غير متناسقة، وقد تعلمنا أن نقتصد في نفقاتنا إلى أقصى حد — كنا ننفذ منتجات بالتكلفة نفسها التي يدفعونها لشركة إرنست آند يانج لإجراء دراسة فقط.
وكان بإمكاننا إنجاز شيء يتعلمون منه، وكنا نتعلم منه نحن أيضًا. وهذا النوع من الشراكات استفدنا منها. لكن كم كان من الصعب أن نعمل معتمدين على هذا النذر اليسير من المال.
ليفنجستون : عندما تركت العمل في ثنكنج ماشينز، هل تقبلوا الأمر؟
كايل : لقد شاعت حالة من التخوف بينهم. وظهر الكثير من التساؤلات حول ما إذا كانت الشركة تمتلك الفكرة وأشياء من هذا القبيل. وقد حرصت على التأكد من أن جميع المهام التي تتطلبها شركة وايس (كما أصبحت بعد ذلك) تعتمد على البرمجيات غير المحمية بقوانين الطبع والنشر. فقد كانت تعتمد على البرمجيات مفتوحة المصدر. لذا لم تكن هناك أي براءات اختراع أو حقوق ملكية، لكن كان هناك ارتباط. وقد طرح البعض أسئلة على غرار: هل يجب أن تمتلك ثنكنج ماشينز الأفكار الخاصة بي؟ وكيف ينبغي أن يتم ذلك؟ لكن لم يكن هناك الكثير ليعلن أحد ملكيته له. فلم تكن مثل شركة بدأت برأس مال مخاطر حيث يمكن تقييمها. فلم يرحل غيري أنا وهاري موريس لتأسيس الشركة.
وأعتقد أن الأجواء كان يسودها بعض القلق، لكننا لم نستطع التوصل إلى طريقة لإبرام اتفاق. ولعل من أكثر المشكلات التي تعطل المشروعات هي تلك التي تتصل بالملكية الفكرية — لا سيما عندما لا يتوافر المال — فحينئذٍ قد يظل المرء يتحدث دون التوصل إلى حل. ويكون الأمر أسهل بكثير إذا توفر المال. لأنه عندئذٍ ستصبح لديك آلية تتيح لك معرفة طريقة تحديد ملكيتها. لكن قبل هذا يكون الأمر صعبًا للغاية.

واكتشفت أنه من المفيد كثيرًا أن أؤسس شركة في منطقة الساحل الغربي. ومع أني كنت قد انتقلت إلى هناك، فقد كوَّنت شراكة مع شخص اسمه جون ديورينج، وهو من العناصر الأساسية لي، فهو مؤسس مشارك في وايس. وكان مشاركًا أساسيًّا نظرًا لوجوده لخبرته الطويلة في إدارة الشركات، لذا كان ملمًّا بكل المهام ذات الصلة. ومنها: كيفية التعاقد مع شركة متخصصة في الحسابات، وشركات المحاماة، وبنود الإنفاق، وكيفية إبرام عقد إيجار، أي جميع الأشياء التي لم أتعلمها قط من عملي مهندسًا في شركة أخرى.
ليفنجستون : كيف تعرفت عليه؟
كايل : كان يعمل مستشارًا لداو جونز. واكتشفت أن هناك من يتخصصون في مراحل مختلفة من الأعمال التجارية. فالبعض لا يكف عن تأسيس الشركات الناشئة. والبعض الآخر مميز في مرحلة دراسة الفكرة. فالكثيرون ممن رأيتهم في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي يعملون في عالم الإنترنت هذا سبقت لهم المشاركة في ثورة الكمبيوتر الشخصي قبل ذلك بعشر سنوات. وشهدوا جميعًا النجاح الذي تحقق في هذا المجال، وبدءوا يبحثون عن الخطوة التالية، وفيما يبدو أن الإنترنت كان هو الخطوة التالية. وكان جون ديورينج يتمتع بخبرة كبيرة في ذلك.
ليفنجستون : لذا قررت أن تنفذ ما عزمت عليه؟
كايل : نعم، وانتقلت إلى سان فرانسيسكو، وأسست الشركة في قصر بمدينة منلو بارك، يشبه مقر ثنكنج ماشينز. وكان المكان يقع في أقصى بقعة في الشمال يمكن إقامة الشركة فيها بحيث أظل في الوقت نفسه على اتصال بأبل وصن وغيرهما من شركات التكنولوجيا.
وفي عام ١٩٩٢ لم تكن سان فرانسيسكو هي المكان المناسب للشركات. وقد حدث هذا في منتصف التسعينيات إبان إعادة بناء منطقة ساوث أوف ماركت. وكان ذلك أيضًا نموذجًا آخر لدرس التوجه إلى مكان يخلو ممن يعتقدون أنك فقدت صوابك. وكنت أحتاج حقًّا إلى مساعدة من يعملون في وادي السليكون، مع أني كنت أعرف أنه مع نمو هذه الصناعة، سيزداد الاعتماد على المبدعين. ومن ثَم فإنها ستتحول أكثر وأكثر إلى سان فرانسيسكو. وعندما نقلنا مقر الشركة عام ١٩٩٤، اخترنا الانتقال إلى المدينة حتى يتسنى لنا العمل مع الناشرين، وهي الجهات التي سيصبح لها حضور على الإنترنت، ولن يقتصر دورها على بناء التقنية، بل ستستخدمها في غرض ما.
ليفنجستون : أي إنك كنت تحصل على مبالغ مالية بسيطة من العملاء. هل عينت أحدًا؟
كايل : نعم، عينت هاري موريس المهندس الأساسي الذي صمم الجانب الأكبر من التقنية. وقد كبرت الشركة حتى أصبحت تضم ٣٠ أو ٣٥ موظفًا تقريبًا عندما اشترتها إيه أو إل.
ليفنجستون : حدثني عن أكثر المواقف المروعة.
كايل : الإفلاس. عندما لا تتوفر لديك نقود كافية لتسديد الفواتير. وكنا عادة ما نعتمد على رصيدنا في البنك الذي يكفي لتسديد الفواتير المستحقة لفترة من أسبوعين إلى أربعة أسابيع. ولم يكن لدينا أكثر من هذا قط. وعندما كنا نحصل على ما يكفي لشهرين أو ثلاثة كنا نعتبر أنفسنا أثرياء. ولأننا كنا نعتمد على أنفسنا ونعمل في مجال لا سوق له؛ إذ كنا نحاول إقامة سوق اعتمادًا على بناء خوادم في بيئة نشر العميل/الخادم على الإنترنت، وهو ما لم يفهمه الناس. لذا كان الأمر صعبًا للغاية، لكنها كانت فترة تدريبية جيدة.
أتريدني أن أتحدث عن الأوقات الرائعة حقًّا؟ لقد تمثلت في العمل مع عملاء مهمين. قد يبدو كلامي مكررًا وتقليديًّا، ولكن أكثر شيء ممتع في التجربة بأكملها كان التعلم من القائمين على الموسوعة البريطانية، وصحيفة «ذا نيويورك تايمز»، وجريدة «ذا وول ستريت جورنال»، ومحاولة اكتشاف نظرتهم لعملهم وحياتهم.
ليفنجستون : ما الذي تعلمته من عملائك وفاجأك؟
كايل : أحب العمل مع رجال الأعمال لأنهم يتميزون بالوضوح. فنحن نسمع الآن عن الكثير من الدعاوى القضائية المتعلقة بحقوق الملكية في صناعة الموسيقى وغيرها. لكن إذا عملت مع رجال الأعمال الحقيقيين — وليس المحامين الذين يعملون لحساب رجال الأعمال، بل رجال الأعمال أنفسهم — تجدينهم واضحين للغاية. وكل ما يريدونه هو الربح. وهم يريدون تحقيق ربح يفوق ما يجنونه حاليًّا. وهم يدركون أنه ستحدث تحولات وتغيرات في التكنولوجيا. لذا فإذا وصفت لهم طريقة تساعدهم على زيادة أرباحهم، فمن المحتمل في نهاية المطاف أن ينضموا إلى صفك.
وفي تلك الأثناء، نشرنا الصحف على الإنترنت. وأصبح من المفروغ منه أن تجدي أن معظم الصحف أصبحت متاحة على الإنترنت الآن. وأصبحت تلك الصحف تتحكم في توزيعها بنفسها. ولديها مواقعها. ولا يتدفق كل شيء عبر تطبيق آي تيونز، كما هو الحال في صناعة الموسيقى. فقد باع القائمون على صناعة الموسيقى أنفسهم، ولا أدري لمَ فعلوا هذا. فشخص آخر يتحكم ليس في توزيع منتجهم فقط، بل في تحديد الأسعار أيضًا. ماذا يتبقى للمرء إذا كان شخص آخر يتحكم في توزيع منتجه وتسعيره؟!

لذا كان رجال الصحافة والنشر رائعين لأننا كنا نسألهم: «أتودون التحكم في توزيع عملكم؟» فيومئون برءوسهم بالإيجاب، فنخبرهم أن هناك بعض البدائل. ففي أوائل التسعينيات، ظهرت إيه أو إل، وظهرت ليكسس نيكسس من الثمانينيات، حيث كانوا سيفقدون السيطرة على توزيع عملهم. فكنا نسألهم عما إذا كانوا يقبلون بذلك. فيجيبون: «كلا لا نريد هذا. بل نريد أن نتحكم في توزيع عملنا.» فنقول لهم: «انضموا إلينا لفترة وجيزة ونحن نصمم الإنترنت. دعونا ننشيء الإنترنت معًا بناءً على نظم مفتوحة.» ومن ثَم فقد كان رجال الأعمال هؤلاء بحاجة في الواقع لنظام مفتوح.

وكنا نريد أن نصمم ذلك النظام المفتوح قبل أن يظهر المحتكرون في الأفق ويقولوا لهم: «أنتم لا تحتاجون لنظام مفتوح. بل إلى نظام مغلق سنصنعه لكم، وإننا سننفذه لكم على أكمل وجه.» لذا بذلنا جهدًا كبيرًا لإطلاقه في بداية التسعينيات، كي نؤسس نظامًا مفتوحًا. ونجح الأمر. وفي الوقت الذي أعلنت فيه إيه أو إل عام ١٩٩٤ أنها ستدعم بروتوكولات الإنترنت، وعندما أعلنت مايكروسوفت في أغسطس ١٩٩٥ أنها ستدعم شبكة الويب العالمية، كان ذلك معناه أننا ربحنا. فقد أتحنا النشر على الإنترنت، وفي ذلك الوقت كان بإمكاني التقدم وتنفيذ الخطوة التي كنت أريدها.
ليفنجستون : هل هناك ما أساء المستخدمون فهمه تمامًا بخصوص ما كنت تحاول القيام به؟
كايل : تعلمت أن أحاول ألا أقوم بقفزات أكثر مما ينبغي في الوقت نفسه. ويواجه الكثيرون صعوبة في تخيل شيء لا يمكنهم رؤية عرض تجريبي له على الأقل. فإذا كان بإمكانك إعداد عرض — أو في أسوأ الظروف شريط فيديو — فإن هذا يوصل الفكرة على نحو أفضل من التلويح بالأيدي لساعات. لذا فمن الأفضل المسارعة بإعداد عرض تجريبي.
كان ذلك صعبًا عندما لم يكن الإنترنت منتشرًا. وفي الغالب لم يكن لدى المسئولين التنفيذيين أجهزة كمبيوتر على مكاتبهم. فقد كان لديهم سكرتارية تقوم بالأعمال الكتابية لهم على الكمبيوتر. وتذكري أن ذلك لم يكن منذ وقت بعيد. ولم تكن تلك الأجهزة موصلة بأي شيء. ربما كانت مزودة بمودم، لكن كان الأمر يقتصر على ذلك فقط. وكان علينا أن نقدم العروض عن تلك الأشياء عن طريق أجهزة المودم. وقد استغرقت عملية الحصول على تصريح حتى يمكنهم الاتصال من كمبيوتر بالإنترنت لعرض هذا النظام داخل المقر الرئيسي للمخابرات المركزية الأمريكية عدة أيام. لذا كان من الصعب أن نشرح عدة قفزات للأمام.

وكنت دائمًا أؤكد أن ما أريد تنفيذه حقًّا — بعد تشغيل خدمة النشر — هو بناء مكتبة … لأن هذا ما كنت أريد تحقيقه دائمًا. لكنني رأيت أنه ينبغي تصميم أجهزة الكمبيوتر الفائقة أولًا، ثم إطلاق خدمة النشر، وفور تنفيذ ذلك يصبح بإمكاننا بناء مكتبة. وهكذا لم نتمكن من الوصول إلى مكانة تمكننا من تحقيق هدفنا الذي حلمنا به في أواخر السبعينيات — ألا وهو بناء مكتبة عظيمة — إلا عام ١٩٩٦.
ليفنجستون : أكان هذا هدفك دائمًا؟
كايل : نعم، كان هذا هو الهدف دائمًا. كان علينا فقط أن ننجز بعض المهام أولًا. لكنها استغرقت وقتًا أطول مما توقعت. إننا الآن في عام ٢٠٠٦، وأشعر بالأسف حيال ما آل إليه الحال. فلم نستطع حتى الآن نشر كتب على الإنترنت. ولا أعلم لماذا يتحرك هذا العالم بمنتهى البطء. الجميع يقولون إنه يتحرك بسرعة كبيرة. أما أنا فلا أرى هذا. فقد مر وقت طويل للغاية.
ليفنجستون : بعيدًا عن تعرضك الدائم لنفاد الأموال منك، كيف يختلف امتلاك شركة خاصة عن العمل في ثنكنج ماشينز من وجهة نظرك؟
كايل : امتلاك المرء لشركته يزيد من صعوبة أن يلقي المرء باللوم على غيره. فإذا كان يعمل داخل شركة كبيرة، يتسنى له دائمًا أن يلقي باللوم على الإدارة أو التسويق أو الهندسة أو أي قسم. لكن عندما يكون هو من يديرها، لا يمكنه هذا لأنه يتحمل المسئولية بأكملها. واكتشفت أن لهذا أيضًا أثرًا إيجابيًّا. فمنطقة الساحل الشرقي يميل سكانها إلى التذمر بعض الشيء، وأظن أنني تغلبت قليلًا على هذا.
هناك رؤية أخرى أظن أن دون يانياس في الموسوعة البريطانية قد أجاد التعبير عنها. فقال: «الآن بعد أن أصبحت مسئولًا عن الموسوعة البريطانية، أجد نفسي مضطرًّا أن أكون في أفضل حالاتي كل صباح.» فالناس يولون وجوههم إليك، ليس فقط لاستلهام الأفكار، بل لاستلهام التوجه العام الذي يرمي لإنجاح الأمر برمته. فتحمل مسئولية شركة عبء كبير. ويجب أن يحرص من يتحملها دائمًا على تحقيق التقدم، ليس فقط ماديًّا بل أيضًا من حيث السعي لجعل الشركة بيئة ممتعة يرغب الناس في العمل بها.
ليفنجستون : هل كان لديك أي منافسين في فترة العمل في وايس؟
كايل : كانت تتوافر أنظمة أخرى، لكني دائمًا أطمح إلى أن أتمكن من تحقيق شيء يفوق كل التوقعات إلى الدرجة التي لا يجرؤ أحد يتمتع بكامل قواه العقلية على أن يطمح إليه. وبوجه عام أنا عادة ما أثابر على ما أقوم به بدءًا من المرحلة التي يظن فيها الآخرون أنني فقدت صوابي إلى المرحلة التي أنفذ فيها الأمر. وفور الوصول إلى هذه المرحلة، يظهر منافسون حتمًا وبذلك ينتهي دوري. لأن هدفي عادة ما يكون تشجيع الآخرين على القيام به. والطريقة المثلى للقيام بذلك هو إثبات أنه ممكن.
ومن ثَم فإن مهمة وايس كانت تتمثل في محاولة تشجيع الآخرين على تقليدنا. وقد تحقق ذلك الهدف، وسار الأمر على أفضل وجه. وقد تفوقوا علينا في ذلك وحققوا نجاحًا هائلًا. فقد تفوقت علينا بكثير استوديوهات الويب الأفضل منا، وشركات تصنيع الخوادم، وجهات تصنيع خوادم الويب. لكن كانت فكرة وايس تكمن في محاولة توجيه ذلك النشاط، لأن وايس لم تكن هي الهدف. لم يكن تأسيس تلك الشركة هو الهدف. فقد كان هدفي هو إتاحة النشر على الإنترنت، ثم بعد ذلك يصبح بإمكاني تحقيق شيء.
ليفنجستون : بدأ النشر على الإنترنت يصبح متاحًا، ثم بعت وايس لشركة إيه أو إل، فماذا حدث بعد ذلك؟
كايل : حاولت أن أعمل داخل إيه أو إل، وكان ذلك صعبًا للغاية. إذ يواجه مؤسسو الأعمال صعوبة شديدة في إدارة عمليات الاستحواذ. وهذا بمنزلة تحذير. فقد مررت بصفقتي استحواذ. كانت وايس إحداهما والتي اشترتها إيه أو إل. أما في الجولة التالية فقد أسست شركتين في الوقت نفسه. إحداهما كانت أليكسا إنترنت (وكلمة أليكسا اختصار للمقابل الإنجليزي لمكتبة الإسكندرية)، والأخرى كانت إنترنت آركايف وهدفها حفظ كل محتويات المكتبة. وكانت أليكسا شركة تهدف إلى الربح، أما إنترنت آركايف فكانت غير ربحية. ولم أربح ما يكفي من نقود لتأسيس شركة غير ربحية وتمويلها بنفسي، ولم أكن أجيد طريقة طلب تمويل لمؤسسة غير ربحية، لكني كنت أجيد تصنيع المنتجات.
كانت أليكسا إنترنت نظام تصفح للإنترنت. وقد أسستها أنا وبروس جيليات هنا في سان فرانسيسكو في منزل يقع في منتصف حديقة بريزيديو. ويقع مقر الشركة في حديقة مساحتها ١٥٠٠ فدان في منتصف سان فرانسيسكو. ونحن ثاني جهة تستأجر المكان.
ليفنجستون : هل أسست الشركتين في الوقت نفسه؟ هل كان هناك فريق مختلف يدير كل منهما؟
كايل : كان الجميع يعملون في أليكسا. والفكرة تقوم على أن كل ما جمعته أليكسا سيجري التبرع به لإنترنت آركايف. وعلى المدى الطويل، كانت الشركات تظهر للوجود وتمضي. فهي عادة لا تستمر لفترة طويلة. لكن لم يكن أهم ما يستمر في ظل الإنترنت هي التكنولوجيا. فحتمًا ستتغير التكنولوجيا يومًا. بل هي المعلومات، وجميع الناس. وهكذا بدأنا نجمع محتوى شبكة الويب العالمية ونقدم خدماتنا في شركة تجارية، لكننا كنا نتبرع بجميع المواد التي نجمعها إلى مؤسسة غير ربحية أُنشئت بهدف البقاء لسنوات طويلة. لقد كان الهدف منها تحديدًا هو إمعان التفكير فيما سيحدث بعد أن ينتهي أمر الشركة التجارية.
ليفنجستون : في بداية العمل بأليكسا، هل حصلت على تمويل؟
كايل : مولت الجزء الأول منها بالاشتراك مع بيل دون. وشاركت في تأسيسها مع شخص متخصص في عالم الأعمال، وهو بروس جيليات، لأنني أميل أكثر للجانب النظري التأملي. وقد كانت فكرة التعاون مع رجل أعمال فكرة جيدة. فالعثور على شريك جيد أمر شديد الصعوبة. وهو على قدر صعوبة العثور على شخص تريدين أن تتزوجيه وتظلي معه للأبد. فمسألة اختيار شريك العمل أمر صعب للغاية، وإذا استطعت العثور على شريك جيد، فتمسكي به.
ليفنجستون : ما مواصفات شريك العمل المناسب؟
كايل : التوافق. والاحترام المتبادل في المحن. وربما وجود حدود واضحة تحدد الأدوار والمسئوليات. لكن العثور على شريك عمل مناسب يعتبر أمرًا مهمًّا للغاية. لذا عند تأسيس الشركة الثانية أليكسا، تعاونت مع شريك كمؤسس مشارك، وقد نجح ذلك نجاحًا رائعًا.
ليفنجستون : هل حصلت على تمويل؟
كايل : حصلنا على مليون دولار لنبدأ الجولة الأولى، ثم بدأنا نتحدث إلى أصحاب رءوس أموال مخاطرة. وكان ذلك عام ١٩٩٦، وكانت بعض الشركات بدأت تطرح أسهمها للاكتتاب العام، ومن ثَم كان هناك بعض المال في السوق. لكن لم نستطع أن نوصل كل ما كنا نتحدث عنه لهم بطريقة مفهومة لهم. لذا حصلنا على استثمار خاص قدمه فرد واحد. وقد ساعدنا ذلك كثيرًا. وكبرت الشركة وأصبحت تضم ما يقرب من ٤٥ أو ٥٠ موظفًا ثم بعناها لأمازون دوت كوم.
ليفنجستون : كانت فكرة شريط الأدوات جديدة تمامًا. كيف أغريت المستخدمين بتنزيله؟
كايل : كانت فكرة أليكسا تقوم على مساعدة المستخدم على التجول عبر الإنترنت. فقد ظننا أن محركات البحث ستتوقف. فلم نظن أنها ستكون قادرة على التوسع. وكنت مخطئًا للغاية في هذا. لكن ما كنا نريد القيام به هو مساعدة المستخدمين في تصفح الإنترنت. كنا نريد أن نضع فهرسًا للويب، أي أن نصممها بحيث تتمكنين من معرفة المواقع التي سبق لك زيارتها والتي قد تودين زيارتها بعد ذلك. إذ كانت فكرة الشركة تقوم على إطلاع المستخدم على الروابط ذات الصلة بكل صفحة يزورها.
وهكذا إذا كنت تزورين صفحة ويب وتشاهدين سيارة ما أو كتابًا ما أو موقعًا عن كمبيوتر جديد، فستجدين ما يخبرك أنه إذا كنت تزورين هذه الصفحة فربما تودين زيارة تلك الصفحات أيضًا. وربما تظهر تلك الاقتراحات دون رغبة صاحب الموقع.
ليفنجستون : هل هذا هو ما أصبح يعرف بالتصفية التعاونية؟
كايل : أصبح يُطلق عليه تصفية تعاونية. وتقوم طريقة عملها على تتبع المواقع التي زارها المستخدم. وذلك على غرار ما تفعله أمازون عندما تقول إن من اشترى هذا الكتاب اشترى ذاك أيضًا. فكانت فكرتنا تقوم على أساس: من زار صفحة الويب هذه، زار تلك الصفحات أيضًا. وقد نفذنا ذلك قبل تلك النظم الأخرى بسنوات. وقد قامت تلك الفكرة على أساس العمل الذي أنجزه كارل فينمان، وبدأ الأمر عندما كنا نتحدث عن هذا في ثنكنج ماشينز. فكنا نتساءل عن مصير هذه الفكرة، فقال: «ربما يمكننا تكليف محررين للقيام بذلك، وربما يكون بإمكانكم اكتشاف محررين»، وذلك بِناءً على هذه الفكرة التي أصبحت التصفية التعاونية.
وانتقل هو إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأسسوا شركة تدعى فاير فلاي قامت على أفكاره. ولذا، على أي حال، كانت فكرة التصفية التعاونية على مستوى الويب تلك — أي من أعجبتهم هذه الصفحة أعجبتهم أيضًا هذه الصفحات — هي التي نفذناها. وصممنا شريط الأدوات لهذا الغرض وليعرض المعلومات على المستخدمين وهم يتصفحون الإنترنت. وفي المقابل، يمنحنا جميع هؤلاء المستخدمين معلومات فيما يخص المواقع التي زاروها، والمسارات التي اتخذوها، وهو ما سنتعلم منه بعد ذلك.
ليفنجستون : ماذا تعلمتم؟
كايل : تعلمنا الصلة التي تربط بين الأشياء المختلفة. لكن ما أعجبني على النطاق الأوسع كان مراقبة بعض هؤلاء المستخدمين، مع أننا لم نكن مطلعين على هوية أي منهم ولم نعبأ بذلك. وفي الحقيقة كان ذلك شديد الأهمية لأنها معلومات خاصة للغاية. وهناك شيء أظن أننا نغفله وهو أن بعض النظم الأخرى تجمع تلك المعلومات، وتهتم بالاطلاع على هوية أصحابها. مثل شريط أدوات جوجل على سبيل المثال. فعند الاطلاع على معلومات تخص المواقع التي يزورها الناس، تكتشفين أنك تطلعين على أكثر مما كنت تريدين الاطلاع عليه. فيصبح لزامًا عليك حذف بعضها وإلا لوصل الأمر لمستوى مخيف.
ليفنجستون : وهل كانت شركة أليكسا تحذفها؟
كايل : نعم، كانت أليكسا تحذف هذه الأشياء. ولكن الشركات الأخرى التي تفعل مثلنا لا تحذف شيئًا. وذلك من شأنه أن يؤدي إلى مشكلة كبيرة. وفي أليكسا بدأنا نطبق ميثاقًا لأخلاقيات المهنة على كل المستويات؛ لأننا كنا ندرك أننا نجمع معلومات لا يدري الناس في الغالب أننا نجمعها، أو لم يكونوا يشعرون بهذا. وفي مثل هذه الظروف يكون التخلص من قدر كبير من المعلومات أمرًا جوهريًّا.
ليفنجستون : ما الذي لم يحقق نجاحًا مع أليكسا؟
كايل : لم نتمكن من الاستفادة من نموذج الإعلان على الإطلاق. إذ كانت فكرتنا تقوم على وضع إعلانات مرتبطة بالسياق إلى حد بعيد. فلما كنا نعرف صفحات الويب التي يدخل عليها المستخدمون، فمن الأفضل إذن أن نقدم لهم إعلانًا يتناسب مع ميولهم. لكننا لم نجد طريقة ناجحة لبيع الإعلانات بهذا الشكل. وكنا نحظى بعدد هائل من مرات التنقل بين الصفحات. وكان لدينا الكثير من الفرص لوضع إعلانات أمام المستخدمين، لكننا لم نستطع الاستفادة من ذلك بتحقيق أرباح من ورائه.
ومن ثَم فقد أخفقت فكرة المشروع الأساسية. ولكننا حققنا نجاحًا كبيرًا في تشجيع الكثيرين على استخدام منتجنا. وقد أُعجب به الناس. وقد أدخلته نت سكيب في متصفحها. وفور قيام نت سكيب بذلك، كان من السهل إقناع مايكروسوفت بوضعه مع برامج التصفح الخاصة بها. (فقد اكتشفنا أن أفضل طريقة لإقناع مايكروسوفت بتنفيذ فكرة ما هي إقناع المنافسين بتنفيذ شيء ما بشأنها.)

وهكذا حصلنا على عدد هائل من المستخدمين — ملايين بل عشرات الملايين من المستخدمين — لكننا لم نستطِع التوصل إلى طريقة تضمن نجاح المشروع تجاريًّا. وفي ذلك الوقت، عندما كان بعض العاملين في شركة أمازون يبحثون عن تكنولوجيا للتنقيب في البيانات، جاءوا إلينا وقالوا: «أينبغي لنا أن نشتري شركتكم من أجل تكنولوجيا التنقيب في البيانات؟» فقلنا لهم: «أولًا، لا ينبغي أن تشتروا شركتنا، وثانيًا، إن نشاطنا يختلف كثيرًا عن التنقيب في البيانات. فنحن نقدم شريط أدوات يمكن عرضه أمام المستخدمين، وأشياء من هذا القبيل.»

وفي المحادثات التي أجريناها مع جيف بيزوس مؤسس أمازون دوت كوم، قلت له: «لقد جربت إبرام صفقة استحواذ من قبلُ، ولم تسِر الأمور على ما يرام. وقد تمت لمصلحة إيه أو إل — وهي شركة كبيرة — لكن شركتي تعرضت للتشتت، وأنا لا أجيد إدارة قسم، بل أجيد إدارة شركة.» فقال: «إذا كنا سنشتري شركتك، فما رأيك أن تديرها كشركة؟ ما طريقتك للقيام بذلك؟» فأخبرته: «أن يكون لها مجلس إدارة، وأنا أجتمع كل شهر مع مجلس الإدارة وأن يصدر أعضاء المجلس توجيهات عامة على أن أدير أنا الشركة.» فقال: «حسنًا، أنا موافق على هذه الطريقة.»

وهكذا استحوذت الشركة علينا، وظللنا ندير عملنا كشركة منفصلة. ولا تزال الشركة تعمل. وهي على بعد ما يقرب من ٢٠٠ ياردة من إنترنت آركايف، التي أعمل بها الآن. فقد ظللت معهم ثلاث سنوات ثم انتقلت لتحويل شركة إنترنت آركايف — التي لم يكن يعمل بها أحد — إلى مؤسسة حقيقية. لأنه فور توافر المواد الكافية لدينا أصبح بإمكاننا بناء المكتبة. لذا كانت أليكسا تهدف إلى وضع فهرس للمكتبة، أما إنترنت آركايف فهدفها بناء المواد التي تحتاج إليها المكتبة.
ليفنجستون : أكان هذا هو حلمك؟
كايل : نعم. وقد تعلمت من مارفن مينسكي (أحد مؤسسي مجال الذكاء الاصطناعي) نصيحة تقول «اختر مشروعًا كبيرًا بما يكفي، على أن يكون قويًّا فعلًا، ويمكن أن يواصل المرء إنجازه على مدى السنين.» وقد اكتشفت أن هذه حكمة إرشادية رائعة. فإذا عقدت العزم على تحقيق أرباح طائلة فحسب، تصبح المشكلة هي التوصل لما سيحدث عند تحقيق أرباح هائلة. إذ عندئذٍ ستنضب أفكارك.
إن فكرة نشر كل شيء على الإنترنت تعتبر عملًا ضخمًا وصعبًا. فكيف تقيمين مكتبة تتيح للجميع إمكانية الوصول إلى كل شيء؟ أذكر أني تحدثت إلى ريتشارد فينمان وكنا نتصفح الموسوعة البريطانية، في إحدى غرف مقر ثنكنج ماشينز ذات الطابع الذي يميز القرن التاسع عشر. فكان لدينا نسخة من الموسوعة البريطانية وكانت تتألف من فهرس من مجلد واحد، ثم موسوعة مصغرة — من عشرة مجلدات تقريبًا — ثم المستوى الثاني الموسوعة الضخمة التي كانت من ثلاثين مجلدًا تقريبًا. وفكرنا في عدد المستويات الأخرى الباقية قبل أن نتمكن من نشر أي شيء على الإطلاق. واتضح أن هناك ما يقرب من خمسة مستويات أخرى، فقلت: «إن الأمر ليس صعبًا للغاية. فما قدر المعلومات الموجودة هنا؟ إنه ليس كبيرًا للغاية.» لذا حتى في فترة العمل في ثنكنج ماشينز، كنا ندرك طبيعة ما نحاول بناءه. فالأمر فقط يستغرق وقتًا أطول مما يظن المرء. كان ذلك قبل عشرين عامًا تقريبًا.
ليفنجستون : أتظن أنه من الأفضل لمن يراوده حلم كبير مثل هذا أن يقسمه إلى أجزاء؟ بمعنى أن يحاول تأسيس شركة ناشئة ناجحة كي يحصل على المال الذي يكفل له الحرية التي تمكنه من تحقيق حلمه؟
كايل : نعم. فأنا أحرص على أن يكون لديَّ كل عام إنجاز ما يمكنني أن أشير إليه وأقول: «حسنًا، هذا العام سأفعل هذا.» وهذا العام أنا أسعى لرقمنة الكتب. وفي العام الماضي كنت أحاول أن أخصص جهاز كمبيوتر للتخزين يعمل على مستوى دولي، حتى تكون لدينا نسخ في أوروبا وفي العالم العربي، وتحديدًا في مصر. وقد صنعنا نسخًا حتى، إذا اختفينا، تبقى المعلومات. لذا حاول كل عام أن تفعل شيئًا يمكن أن تشير إليه. وإلا فستمر بضع سنوات وتجد نفسك تقول: «ما الذي أنجزته حقًّا؟»
ليفنجستون : من الأشخاص الذين تسترشد بآرائهم؟
كايل : كان لديَّ اثنان. وأغلب الناس ليس لديهم مرشدون مثل هذا. إذ يقولون: «كان لديَّ معلمون تأثرت بهم. وقد تعلمت الكثير من هذا وذاك.» لكنهم لا ينظرون إليهم على أنهم مرشدون. فالمرشد يصبح موجهًا للمرء مدى الحياة، وقد يكون زميلًا في العمل، لكنه يساعدك على استبصار مسائل كبرى تمس كل ما يدير دفة حياتك.
فكان داني هيليس، الذي يكبرني بأربع سنوات، والذي عملت تحت إشرافه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وفي شركة ثنكنج ماشينز، موجهًا ومصدر عون لي منذ ذلك الحين. والآخر هو بيل دون. ووجدت أن لدى كليهما — وهما شخصان يتمتعان بقدر كبير من الطيبة والذكاء — القدرة على استشراف ما هو آتٍ، حتى لو لم يكن لديهما سوى أقل القليل من المعلومات. وكنت دائمًا أدون أفكارهما الجامحة وأسأل نفسي عما إذا كانت ستُحقق. وبعد بضع سنوات أجد أنهما كانا على حق. فبعض الناس يتضح أنهم على حق أكثر بكثير مما كان نظن.
ليفنجستون : لقد أسست شركات ناشئة في الساحل الشرقي والساحل الغربي. فهل يعتبر أحدهما أفضل من الآخر بالنسبة للشركات الناشئة؟
كايل : أظن أنه من الأسهل كثيرًا تأسيس شركة ناشئة في الساحل الغربي. إذ تتوافر فيه جميع التسهيلات والخدمات. فيمكنك إنشاء قسم تسويق من مجموعة من الموظفين غير المتفرغين. ويمكنك تعيين محاسب ليقوم بالمهام التي تحتاجين إليها بالضبط. وفي الساحل الغربي تحتاجين إلى قدر أقل بكثير من البنية التحتية التي تتحكمين بها لإنشاء شركة ناشئة مقارنة بالساحل الشرقي.
فإذا بدأت بمبلغ ٨ ملايين دولار يمكنك شراء كل ما تريدين، أما إذا كنت تؤسسين شركة وحدك دون مشاركة من أحد فيمكنك تأسيسها من غرفة نومك. وفي الحقيقة يقوم الكثيرون بذلك. بل أظن أن معظم غرف النوم ما هي إلا شركات ناشئة! فمن المقبول تمامًا في الساحل الغربي أن يبدأ المرء بمبلغ ضئيل، ويعقد اجتماعًا في مقهى، فلا بأس بهذا.
ليفنجستون : لمَ ليس في مدينة كامبريدج؟
كايل : ربما يمكن تنفيذ هذا الآن في مدينة كامبريدج، فربما تكون قد تغيرت. لكن هناك فكرة مترسخة بضرورة أن يكون المرء قد حقق مكانة مرموقة. وسان فرانسيسكو تزخر بالحالمين. فهؤلاء يتميزون بالأفكار الجديدة. قد تكون سيئة وقد يكونون هم غير مناسبين، وقد يفشلون، لكني أعشق فكرة إمكانية تنفيذ شيء جديد ومختلف، شيء لم يسبقني إليه أحد من قبل، شيء سيؤثر على كثيرين. وتسود فكرة مفادها أنه بإمكانك النجاح في تحقيق شيء هنا. فالطبيعة المبهجة لسان فرانسيسكو ومنطقة خليج سان فرانسيسكو بصفة عامة تظل باقية. إنها مدينة الحالمين، وهذا ما يجعلها مكانًا رائعًا للعيش والعمل.
ليفنجستون : حين تتذكر جميع تجاربك، ما أكثر ما فاجأك؟
كايل : الوقت الطويل الذي تستغرقه الأمور. لتأسيس شركة والوصول إلى الحجم المناسب، حين يكون لديك مكتب ومسئول مالي والبنية التحتية اللازمة حتى تصبح الشركة كيانًا يمكنه تحقيق النجاح. وأظن أن الشركة التي يتراوح عدد موظفيها من ٢٠ إلى ٤٠ شخصًا تقريبًا يعتبر حجمها مناسبًا تمامًا، لأنك لن تقضي وقتك في تنفيذ أمور لا تبرعين فيها. فهناك آخرون في المؤسسة متخصصون أكثر في مجالات مختلفة. ويستغرق الأمر بضع سنوات للوصول لأفضل مستوى للأداء.
يمكنك العمل على توسعة الشركة على الفور. ويمكنك توظيف أربعين شخصًا في عصر يوم واحد، لكنهم لن يعملوا بانسجام معًا بالضرورة؛ فلن يفهموا سير العمل. فالأمر يستغرق بعض الوقت. وهكذا غالبًا ما تمر ستة أو تسعة أشهر لتنسيق جميع جوانب البنية التحتية. وفي حالة أليكسا، استغرق الأمر عامًا لبناء الشركة حتى تصل إلى الحد الذي يمكننا معه طرح أول منتج حقيقي لنا. وكذلك كان الحال مع وايس. فأول منتج طُرح جاء بعد عام من تأسيس الشركة. ولكن دائمًا ما كنت أشعر أن وتيرة الأحداث يجب أن تكون أسرع من ذلك.
ليفنجستون : ما الذي يمكن أن تقوم به الشركات الكبرى للحفاظ على طبيعة الشركات الناشئة التي تستحوذ عليها؟
كايل : اشترت إيه أو إل شركتي الأولى، وكان الأمر يبدو وكأنها تريد أن تحقن الإنترنت في أوردتها. لذا فقد اشترت مجموعة من الشركات. وفي رأيي — لو كنت أكثر خبرة وقتها — أنهم حققوا الهدف الذي اشتروا الشركة من أجله. لكنه لم يكن ما كنت أبحث أنا عنه. لقد أسست شركة صغيرة. وكانت تحقق ما يقرب من ٣ ملايين دولار سنويًّا، وهو ما كان رائعًا في رأيي. وكنت أريد أن تصل إلى ١٠ أو ٢٠ مليون دولار، لكن كان ذلك قليلًا للغاية في نظر إيه أو إل. وقد كانوا يحتاجون إلينا للمساعدة في المسائل الكبرى. لذا عملت على وضع استراتيجية للشركة لمدة ١٢ شهرًا بهدف اقتحام مجال الإنترنت. وهذا ما كانوا يحتاجون إليه حقًّا. لكني لم أكن أجيد ذلك. لقد كنت أفضل إدارة شيء أجيد طريقة إدارته.
عندما أسست الشركة الناشئة التي اشترتها أمازون قلت: «دعونا وشأننا. إننا على القدر الكافي من الذكاء والاستقلالية بما يتيح لنا أن نقوم بعمل متقن سيدخل أشياء إضافية إلى مؤسستكم.» وقد قام جيف بيزوس بخطوة عبقرية من وجهة نظري وهو أنه أدار شركتنا عن طريق مؤسسته، وأدار شركات أخرى عن طريق شركتنا. لقد استخدمنا — على الأقل للسنوات القليلة الأولى — كفريق من الخبراء المكلفين بإجراء الأبحاث، وهو مثال حي على قدرتهم على القيام بالمهام بوسائل بديلة.

وكانت تكمن أهم قيمة لشركة أليكسا في العام الأول من استحواذ أمازون عليها وهي تطبيقها لبعض الدروس التي تعلمناها عن الاقتصاد في النفقات على نحو أفضل مما تعودوا عليه هم. فقد مروا بمرحلة نمو سريع مفاجئ وكانوا ينفقون ١٠٠ مليون دولار على الأجهزة سنويًّا. ولم نصدق هذا. فشركتنا لم تنفق طوال تاريخها ١٠ ملايين دولار.

لذا قال جيف: «حسنًا يا بروستر إنك تجيد تنفيذ هذه الأمور بتكلفة زهيدة. ماذا يجب أن نفعل؟» فقلت له: «توقفوا عن شراء الأجهزة. فقد اشتريتم الكثير منها.» فوافق على التوقف عن شرائها. وقد تسبب ذلك في معاناة شديدة للمؤسسة، لكنه كان التصرف الصحيح. فقد كانوا بحاجة لتحقيق الأرباح. وقد تعلموا عدة دروس من هذا. لقد تمكنوا من الاستفادة من شخص من خارج الشركة، لكنه لا يزال يعمل داخلها أيضًا. فلم نكن شركة استشارية مستقلة مثل باين كونسلتنتس أو غيرها، لكننا كنا ملمين بما نتحدث عنه لأنه سبق لنا تصنيع منتجات من قبلُ. وقد خفضنا تكلفة وصلات الإنترنت الخاصة بهم بنسبة ٩٠ بالمائة لمجرد أننا أخبرناهم بضرورة إبرام الصفقات بطرق معينة. وهكذا دفعنا مقابل استحواذ شركتنا في العام الأول من خلال تكاليف رأس المال التي وفروها.

لقد أخذت إيه أو إل أفكارنا ونفذتها في شركتها وتسببت في تشتيت شملنا، وإن كان كما ينبغي، في رأيي. أما أمازون فقد أبقت شركتنا كنشاط إضافي، وتركتها تتقدم وتستحدث أفكارًا جديدة. كما كانت تغدق علينا من وقتها؛ إذ كنا نعقد اجتماعًا يستمر ليوم كامل مع كبار المسئولين التنفيذيين في أمازون كل شهر. أي إنهم كانوا يمنحوننا قدرًا هائلًا من وقتهم، لكن هذا يرجع لأن جيف بيزوس قال: «سيكون هؤلاء هم مصدر الأفكار الجديدة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤