الفصل الحادي والعشرون

تشارلز جيشكي

مؤسس مشارك، شركة أدوبي سيستمز

طوَّر تشاك جيشكي وجون وارنوك في زيروكس بارك لغة يطلق عليها إنتربرس التي تتيح لأي جهاز كمبيوتر التواصل مع أي طابعة. وعندما تباطأت زيروكس في تحويل هذه التكنولوجيا إلى منتج تجاري، أسس جيشكي ووارنوك شركتهما الخاصة، وهي أدوبي، التي تخصصت في ابتكار لغة تحل محل إنتربرس يطلق عليها بوست سكريبت.

وقد أتاحت بوست سكريبت إمكانية وصف المستندات المعقدة في شكل بسيط. وفي عام ١٩٨٣، اشتركت أدوبي مع شركة أبل كمبيوتر لصنع طابعة أبل الجديدة ليزر رايتر. وعندما طُرحت عام ١٩٨٥ ساعدت على ظهور صناعة «النشر المكتبي». وقد طُرحت أسهم أدوبي للاكتتاب العام عام ١٩٨٦ وهي تعد الشركة الرائدة المعروفة في مجال برمجيات الرسومات والنشر المكتبي عبر أطقم الحروف المطبعية الخاصة بها وما تقدمه من تطبيقات نالت إقبالًا كبيرًا مثل فوتوشوب وإليستريتور وأكروبات.

***

ليفنجستون : لنعد إلى أيام العمل في بارك، والدافع الذي شجعك على تأسيس شركة أدوبي.
جيشكي : ذهبت للعمل في زيروكس بارك عندما كانت لا تزال في بدايتها. وكان ذلك في أكتوبر ١٩٧٢. وعند بداية التحاقي بالعمل هناك، كُلفت بمهمة محددة وهي صنع جهاز يحاكي جهاز كمبيوتر مركزي كان مستخدمًا في ذلك الوقت لم يكن بإمكان الباحثين شراؤه — لأسباب سياسية مختلفة — لكنهم كانوا يريدون استخدامه. لذا صممنا الجهاز المركزي الخاص بنا. وعندما انتهى ذلك المشروع، اشتركت في العمل في لغات البرمجة وطورت الأدوات التي استخدمت في صنع محطة عمل ستار التي تزامن طرحها تقريبًا مع طرح جهاز كمبيوتر آي بي إم الشخصي، بل قبله بقليل في الواقع.
وكانت بارك مكانًا مذهلًا. وكان يتولى التوظيف في قطاع علوم الكمبيوتر بشكل أساسي شخص اسمه بوب تايلور. وقد كان رئيس مجموعة تكنولوجيا معالجة المعلومات التابعة لوكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة، التي موَّلت الكثير من الجامعات التي أدخلت استخدام الكمبيوتر في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. وكان ملمًّا بأماكن وجود العناصر الماهرة وقد بذل قصارى جهده لتوظيف أكبر عدد ممكن منها. لذا عندما تفحصين القائمة التي تضم أسماء من عملوا في بارك في تلك السنوات الأولى، تبدو كأنها قائمة بالبارزين الذين انتقلوا إلى مزاولة أنشطة أخرى — كما فعلت أنا وجون — في أماكن أخرى من وادي السليكون.

وبحلول خريف عام ١٩٧٧، أصبح لديَّ في مكتبي هناك جهاز كمبيوتر شخصي مزود بشاشة صور نقطية، تعمل مثل صفحة وليس مثل جهاز تليفزيون لأسباب تتعلق بزيروكس. وكان لديَّ برنامج يعمل عليه يشبه برنامج مايكروسوفت وورد، وفي الواقع طوره ذلك الشخص الذي ترك بارك والتحق بالعمل في مايكروسوفت وصمم لهم مجموعة منتجات أوفيس وهو تشارلز سيموني. وكان الجهاز مزودًا بنظام بريد رائع يمكنه إرسال رسائل بالبريد الإلكتروني إلى أي شخص على شبكة وكالة مشروعات البحوث المتقدمة (أربانت)، وكذلك داخل زيروكس. وكان سلفًا لتكنولوجيا ثري كوم إيثرنت التي طوَّرها بوب ميتكالف الذي ترك بارك بعد ذلك وأسس شركة ثري كوم. وكانت الشبكة تربط أجهزة الكمبيوتر الشخصية بطابعات الليزر. وكان لدينا طابعة ليزر تطبع ٦٠ صفحة أبيض وأسود في الدقيقة، وطابعة تطبع ١٠ صفحات ملونة في الدقيقة. وكان لدينا خادم ملفات لحفظ الملفات ومشاركتها لأغراض تتصل بالمشروعات. وكانت جميع أجهزة الكمبيوتر تلك موصلة في شبكة داخلية وخارجية؛ في جميع أنحاء شركة زيروكس وأيضًا بشبكة أربانت التي كانت سلفًا للإنترنت. كل هذا كان في زيروكس بارك عام ١٩٧٧.

وفي ذلك الخريف، قدمنا عرضًا تجريبيًّا للإدارة العليا في زيروكس. وكانوا يدعون ٢٥٠ من كبار المديرين من جميع أنحاء العالم بصفة دورية لحضور مؤتمر وأيضًا لنسج علاقات اجتماعية. وقد خصصوا لنا يومًا لنضع رؤية لما يمكن أن يكون عليه مستقبل زيروكس. فاستأجرنا طائرتين من طراز دي-سي ١٠ (إذ إن أجهزة الكمبيوتر لم تكن صغيرة آنذاك) ونقلنا الأجهزة إلى فلوريدا وأقمنا ما يشبه معرضًا تجاريًّا لكي نعرض على مديري زيروكس ما لدينا.

وكانت تجربة أفادتنا كثيرًا. وكان المسئولون التنفيذيون في زيروكس يقفون وقد عقدوا سواعدهم أمام صدورهم ثم يتراجعون للخلف وهم ينظرون إلى الأجهزة، ويبدون بعض الملاحظات الوجيزة البليغة. وإذا سبق لك العمل من قبلُ في المبيعات، فستدركين أن من يتخذ هذه الوضعية لا يريد الشراء، ويكون على الأرجح متوجسًا بعض الشيء مما يراه، لأنه لا يفهمه تمامًا، ويأمل أن يتخلص منه سريعًا.

ولما كان ذلك حدثًا اجتماعيًّا أيضًا، فقد وُجهت الدعوة للجميع لإحضار زوجاتهم وبعض المعارف الآخرين المهمين. وأظن أن المائتين وخمسين مديرًا كانوا جميعًا من الرجال في ذلك الوقت. وكان معظمهم متزوجين بنساء يعمل معظمهن في مكاتب. وقد أعجبتهن الأجهزة. وجلسن أمامها وعبثن بالماوس وغيَّرن بضعة أشياء على الشاشة، وضغطن على زر الطباعة ولم تختلف الصورة المطبوعة على الورق عما يظهر على الشاشة. وقلن: «إنها تكنولوجيا رائعة حقًّا. ومن شأنها أن تغير أي مكتب تتوفر له.»

وعندما انتهى ذلك الحدث، وبدأنا المناقشات والأبحاث التالية له مع إدارة زيروكس، أصبح من الواضح أننا نخوض معركة مضنية لكي نشرح لهم ما نقدمه لهم ونوضح ما ينطوي عليه من إمكانيات. تذكري أن ذلك كان عام ١٩٧٧، أي قبل طرح جهاز كمبيوتر آي بي إم الشخصي بأربع سنوات وقبل ظهور جهاز ماكنتوش بزمن طويل. وكي أكون منصفًا في حق الإدارة، أظن أننا — أعني الباحثين — كنا سذجًا بعض الشيء فيما يخص متطلبات تحويل الأجهزة من مستوى النماذج الأولية النظرية إلى مستوى المنتجات المتكاملة القابلة للدعم. لكننا كنا نرجو أن يوظفوا من هم كفؤ لتنفيذ تلك المهمة.

بعد ذلك بوقت قصير، أتيحت لي فرصة تأسيس مختبر جديد داخل بارك يهتم في المقام الأول بتكنولوجيا الرسومات والطباعة، وكانت إحدى أولى مهام وظيفتي تعيين عالم كبير ليكون رئيس الباحثين. وكنت أعرف جون وارنوك من سمعته. وفي الحقيقة، كان قد ألقى محاضرة عندما كنت طالبًا بالدراسات العليا في جامعة كارنيجي ميلون. وكان ينهي أطروحته في جامعة يوتا في الرسومات. لكننا لم نلتقِ قط أو نمضي وقتًا معًا. وهكذا اتصلت به وتناولت معه الغداء. وكان كل منا ملتحيًا، وكان لديه ثلاثة أطفال (ولدان وبنت)، فضلًا عن أن كلًّا منا قد قام بدور الحَكم في مباريات كرة القدم. وسرعان ما نشأت بيننا علاقة صداقة. وعرضت عليه العمل، فوافق وأجرى مقابلة في بارك وأصبح رئيس فريق العلماء في ذلك المختبر.

بدأنا نركز اهتمامنا على مشكلة التعامل مع مجموعة مختلفة من الطابعات لها سرعات مختلفة ومميزات مختلفة بعضها أبيض وأسود والآخر ملون (وكانت لدينا دراية من قبل بتكنولوجيا نفث الحبر مع أنها لم تكن متاحة على نطاق واسع في ذلك الوقت)، وركزنا على كيفية دمج كل هذا بحيث يمكن لأي جهاز كمبيوتر التواصل مع أي طابعة؟ نفذنا مشروعًا لزيروكس يطلق عليه إنتربرس. وكان في الواقع سلفًا لبوست سكريبت التي كانت أول تقنية نطورها في أدوبي. وكانت الفكرة تقوم على إمكانية إنشاء شبكة من الطابعات وأجهزة الكمبيوتر يمكنها التواصل بعضها مع بعض.

وقد عرضنا إنتربرس على إدارة زيروكس فأبدوا تحمسهم الشديد لها. وقالوا: «سنرقي إنتربرس لتكون النموذج المعمم داخل الشركة الذي نستخدمه في جميع منتجاتنا.» فقلت: «هذا رائع. متى يمكننا أن نبدأ برنامج التسويق حتى نتمكن من التحدث علنًا عنه؟» فقالوا: «أوه، على رسلك. في زيروكس يستغرق طرح المنتج على الأقل سبع سنوات.» فقلت: «سبع سنوات؟ في مجالنا هذا يساوي من جيلين إلى ثلاثة أجيال. وسيصبح المنتج شيئًا قديمًا للغاية عند طرحه، وسيكون العالم قد سبقنا.» فأجابوا: «معذرة، لكن هذه هي السرعة التي يمكننا أن نطرح بها المنتج، ومن ثَم فهذا ما سنفعله.»

أصابني هذا أنا وجون بالإحباط الشديد. وكنا نتحدث ذات يوم فقال: «سأرحل وأحاول البحث عن طريقة يمكننا بها أن نأخذ أفكارنا ونؤسس مشروعنا الخاص.» وكان المشرف على رسالته في جامعة يوتا رجلًا اسمه ديف إيفانز، وقد انضم إلى مجلس إدارة شركة هامبريشت آند كويست وهي شركة رءوس أموال مخاطرة في سان فرانسيسكو. وقد قدمنا إلى بيل هامبريشت فذهبنا وقابلناه. وكانت الفكرة التي تحدثنا عنها هي صنع طابعات ليزر وأدوات تنضيد يمكنها إنتاج النصوص فضلًا عن الصور — ويطلق عليها الآن أجهزة تنضيد وطباعة الصور عالية الدقة — ونجمع هذا مع جميع البرمجيات ونسوقها لقائمة فورتشن ٥٠٠ كنظم نشر داخلية يمكنهم استخدامها للحصول على المزيد من التحكم واستجابة أسرع في احتياجاتهم للطباعة.

فأُعجب بيل بالفكرة — ويرجع هذا جزئيًّا إلى الإحباط الذي كان يصيبه دائمًا من الطابعات المالية التي يلجأ إليها لطباعة نشراته التمهيدية — فقرر أن يدعم المشروع. ثم قال: «لكن لم يسبق لأي منكم إدارة أي مشروع من قبل قط، أليس كذلك؟» فأخبرناه أن هذا صحيح. فقال: «حسنًا، لقد استقصيت ووجدت أنكما تحظيان باحترام كبير في وسط المتخصصين في التكنولوجيا، لكنني سأوظف متخصصًا في التسويق كي يكون مستشارًا لكما. وسيساعدكما في كتابة خطة عمل لأنه ينبغي أن يكون لديَّ خطة عمل لإجراء محادثات مع المستثمرين.»

فوافقنا. وكتبنا خطة العمل. وقد أدرت أنا وجون ما يكفي من مشروعات لنعرف التكلفة التي سيتطلبها إنتاج أول منتج. ووضعنا هذا في خطة وقدمناها إلى بيل، فقال: «حسنًا، يمكنكما الآن الاستقالة من عملكما.» فأخبرناه أننا لم نحصل على النقود بعد. فقال: «عليكما أن تضعا ثقتكما بي.» فاستقلت أنا وجون. وأقرضنا بيل ٥٠ ألف دولار كقرض شخصي حتى يمكننا بدء تأجير كمبيوتر في إيه إكس للقيام بعملنا عليه. واخترنا في النهاية اسم أدوبي سيستمز وبدأنا العمل.
ليفنجستون : كيف اخترتم اسم أدوبي؟
جيشكي : بدأنا أصلًا نفكر في أسماء ترتبط ارتباطًا مبهمًا بالنشاط الذي ننوي التخصص فيه، ثم واجهتنا مشكلة وجود الكثير من الشركات التي أُنشئت في كاليفورنيا حتى إنه كان من الصعب العثور على اسم فريد. لذا فكرنا أنه ربما لا ينبغي لنا أن نحرص على أن يرتبط الاسم أكثر من اللازم بطبيعة النشاط الذي ننوي التخصص فيه، فمن يدري إلى أين سيقودنا هذا. في بارك كنا حرفيًّا نلقي سهمًا على الخريطة عندما كنا نبدأ مشروعًا جديدًا ونحتاج إلى اسم كودي له. فإذا هبط السهم على نهر أو مدينة، يحمل المشروع اسمه. وكنت أتأمل خريطة لهذه المنطقة ولاحظت جدول أدوبي كريك — وهو يتدفق خلف منزلي مباشرة في الواقع — فقلت لجون: «ما رأيك بأدوبي؟» ففكر فيه جون ووافق عليه. ومن هنا جاء اسم أدوبي سيستمز.
ليفنجستون : وهل تركت أنت وجون عمليكما في الوقت نفسه؟
جيشكي : نعم. وقد ظن والداي أنني فقدت صوابي؛ لأنه كانت لديَّ وظيفة رائعة في زيروكس، ومكتب كبير جميل يطل على منطقة خليج سان فرانسيسكو بأكملها. فقالا: «ما الذي تفعله بنفسك؟» فأجبتهما: «أتعرفان، ربما يُجرح إحساسي بذاتي إذا لم ينجح هذا المشروع، لكني حتمًا سأجد عملًا. فمن يحمل درجة الدكتوراه في علوم الكمبيوتر لا يطول به البحث عن عمل لمدة طويلة. فالهدف من دخولنا هذا المشروع هو التجريب على أن نقوم بشيء مختلف وحدنا.»
ليفنجستون : كنت في الأربعين من عمرك تقريبًا عندما اتخذت هذه الخطوة. وكانت لديك أسرة، هل ساورك القلق بخصوص تأسيس شركة جديدة؟
جيشكي : كنت أنا وجون في أوائل الأربعينيات من عمرنا. ربما كان أولادي قلقين من أني قد لا أستطيع أن أسدد نفقات الدراسة بالجامعة، لكن في الحقيقة لا، أنا لم أكن قلقًا لأني كنت أثق أنه بإمكاني الحصول على وظيفة ممتازة أخرى، ويرجع هذا جزئيًّا إلى تجربتي في بارك وممن رأيتهم في عالم الاستثمار المخاطر. وكنت أعرف أحد مؤسسي الشركات كان يحصل فيما يبدو على المزيد من النقود بعد كل مرة تنهار فيها إحدى شركاته! فالمرء يفشل ويفترض الآخرون أنه لن يكرر الأخطاء نفسها في المرة التالية.
لذا لم أشعر بالخوف قط. الشيء الوحيد الذي كان سيصبح من الصعب التعامل معه هو وصمة عار الفشل. لكن رأيت أن لدينا فرصة معقولة للنجاح.

وأول ما قمنا به هو البحث عن مكان عن طريق صديق لجون كان يبيع وحدات عقارية تجارية. فحصلنا على مكان في ماونتن فيو، مساحته بضعة آلاف قدم مربعة. وبدأنا نجري مقابلات شخصية لتعيين موظفين، وكنا بالطبع نجري مقابلات مع أشخاص من معارفنا. وفي البداية، كان معظمهم يعملون في بارك آنذاك أو التحقوا بالعمل بها للتو.

وسرعان ما تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أساتذتي في جامعة كارنيجي ميلون، وهو جوردون بيل الذي كان قد ترك الجامعة منذ ذلك الحين وعاد إلى شركة ديجيتال إيكوبمنت وكان مسئولًا عن قسم البحث والتطوير بالشركة. وقال لي: «سمعت أنك أسست مشروعًا وأريد أن آتي إليك وأتحدث بخصوص نشاط ذلك المشروع.» فجاء وتحدثنا معه. وشرحنا له خطة المشروع التي تتناول صنع أجهزة الكمبيوتر والطابعات والجمع بين كل من الفئتين وقال: «كل هذا يبدو رائعًا، لكني لا أحتاج إلى أجهزة كمبيوتر. فأنا أعمل بشركة ديجيتال إيكوبمنت. ولديَّ صفقة مع شركة ريكو للحصول على طابعات ليزر، ومن ثَم لا أحتاج للطابعات. المشكلة أن لديَّ عددًا من فرق التطوير تحاول أن تصمم برنامجًا لتوصيل أجهزة الكمبيوتر بالطابعات عن طريق واجهة بينية لكنهم لا يتوصلون لشيء. وهذا يصيبني بالإحباط الشديد. فلمَ لا تبيعان البرنامج لي؟ فهذا ما أحتاج إليه»، وكنا قد عرضنا البرنامج عليه بالفعل، وهو سلف ما أصبح بوست سكريبت.

فقلنا: «لقد حصلنا على مليونين ونصف مليون دولار، وهذه هي خطة العمل الخاصة بنا، وهذا ما سنقوم به.» فقال: «لقد خيبتما ظني، لكن إذا غيرتما رأيكما اتصلا بي.»

وبعد شهرين تقريبًا تلقينا اتصالًا هاتفيًّا من شخص اسمه بوب بيليفيل كان يعمل في زيروكس ثم انتقل إلى أبل وكان مسئولًا عن إدارة الهندسة لماكنتوش بالكامل. فقال: «أريد أن أصطحب ستيف جوبز ونرى ما تقومان به.» فجاءا ودار بيننا الحديث نفسه، فقال ستيف: «سنطرح جهاز كمبيوتر جديد سنطلق عليه ماكنتوش» وعرضه علينا، ثم أضاف: «لذا لا أحتاج إلى كمبيوتر. ولديَّ صفقة مع شركة كانون سأحصل بموجبها على طابعات ليزر. لكن فريق التطوير يحاول أن يطور واجهة بينية توصل الكمبيوتر والطابعة دون جدوى. فما رأيكما أن تبيعا لي شركتكما؟» فقلنا: «إننا لسنا للبيع يا ستيف، إننا مصممان على بناء شركة خاصة بنا.» فقال: «حسنًا، فما رأيكما أن تبيعا لي البرنامج؟» فأجبناه: «لدينا خطة مشروع، وحصلنا على مليونين ونصف مليون دولار وهذا ما قلنا إننا سنقوم به.» فقال: «أظن أنكما فقدتما صوابكما. فكرا في الأمر قليلًا، وسأعاود الاتصال بكما.»

فذهبت أنا وجون لنتحدث للشخص الذي طلب منه بيل هامبريشت أن يكون رئيس مجلس الإدارة واسمه كيو تي وايلز. وكان يعمل في هذا المجال منذ وقت طويل، وعندما أخبرناه بما حدث في اللقاءَين قال: «إنكما مجنونان. اضربا بخطة العمل عرض الحائط. فالعملاء — أو من سيصبحون عملاءكم — هم من يحددون خطة العمل. لقد كان الهدف الوحيد من كتابة خطة العمل هو الحصول على الأموال. فلمَ لا تعيدان كتابتها بحيث تقتصر على توفير ما يريده عملاؤكما؟»

فاتصلنا بستيف جوبز وقال: «رائع! سأشتري شركتكما.» فأخبرناه أنها ليست للبيع. فقال: «حسنًا.» وساعد في صياغة مقترح لترخيص البرنامج له. ووافقنا على الحصول على عائد على كل طابعة. وأبرمنا صفقة بعد ذلك بقليل مع ديجيتال إيكوبمنت.

بدأنا نطور طابعة الليزر لمصلحة شركة أبل، وأصبحت تُعرف فيما بعد باسم ليزر رايتر. ووقَّعنا اتفاقًا مع أبل في ديسمبر ١٩٨٣، أي بعد عام تقريبًا من بدء العمل (فقد كونا الشركة في ديسمبر ١٩٨٢). وعلى عكس أي شركة ناشئة أعرفها، بدأت الشركة تدر ربحًا في غضون أول سنة لها نتيجة لذلك العقد مع أبل. ومن ثَم فإنها قصة غير تقليدية على الإطلاق. وقد سدد ستيف دفعة مقدمة من العوائد ليضمن حصولنا على الموارد اللازمة كي نستمر في العمل، واشترت أبل نسبة أقل قليلًا من ٢٠ بالمائة من الشركة، وهو ما ضاعف قيمة نقود المستثمرين الأصلية بخمسة أضعاف. وكان ستيف يريد أن يضمن أننا سننهي هذا المنتج لأنه كان حريصًا على الحصول على ليزر رايتر.

وفي الوقت نفسه، كنا نجري محادثات مع شركات أخرى، مثل آي بي إم وغيرها. وقد تعمدنا عدم اللجوء إلى آي بي إم في البداية لأننا كنا ندرك أنه لو لم يكن لدينا بضع صفقات، فسيكون من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن نتفاوض معها.

ووجدنا أن الشركة بدأت تكبر حتى ضاق بها المكان في ماونتن فيو، لذا بعد عام تقريبًا انتقلنا إلى مبنى أكبر في طريق إمباركاديرو على الجانب الآخر من نادي بالو ألتو للجولف. وبحلول خريف عام ١٩٨٤، كنا قد انتهينا من ليزر رايتر تقريبًا، وواجهتنا مشكلة بسيطة غير متوقعة. فقد ذهب ستيف إلى اجتماع المبيعات السنوي في هاواي مع إدارة المبيعات العليا في أبل، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها إليهم عن هذا المنتج الجديد، وهو ليزر رايتر. وقد انزعجوا جميعًا بشدة. وقالوا: «لا يمكننا أن نبيع طابعة تتكلف أكثر من الكمبيوتر!» (وفي الواقع كانت الطابعة مزودة بجهاز كمبيوتر أقوى من ماكنتوش.)
ليفنجستون : لأن هذا هو المسئول عن معالجة جميع الصفحات؟
جيشكي : نعم، هو المسئول عن معالجة الصفحات وإنتاج الحروف المطبعية. لقد كان جهاز كمبيوتر متطور لذا كان باهظ التكلفة. وكانت أسعار ذاكرة الوصول العشوائي قد ارتفعت العام السابق. ولحسن الحظ، حدث ذلك قبل طرح المنتج في الأسواق مباشرة، وعادت أسعار ذاكرة الوصول العشوائي إلى الانخفاض. فكان لا بد أن تكون مساحة ذاكرة الوصول العشوائي ١٫٥ ميجابايت، والتي تبدو مساحة ضئيلة اليوم، لكنها كانت مساحة ضخمة آنذاك.
فعاد جوبز من ذلك الاجتماع وأرسل إلينا مسئول التسويق وبوب بيليفيل ليتحدثا إلينا وقالا: «قد نضطر لإلغاء هذا المنتج في النهاية إذا لم نتمكن من التصرف حيال هذه المشكلة.»

فاتصلت أنا وجون بستيف واجتمعنا معه وقلنا له: «سيكون هذا القرار كارثة محققة. وينبغي لك إنتاج هذا المنتج لأنه هو الشيء الوحيد الذي سيميزك عن آي بي إم.» فوافق ثم أخبرنا أن أسعار ذاكرة الوصول العشوائي قد انخفضت مرة أخرى. لذا فلم يعبأ برأي مسئولي المبيعات في شركته، ووعد بإنتاج الجهاز.

وقد وفَّى بوعده، وأحدث المنتج ضجة كبيرة عند طرحه، ونال إعجاب المستهلكين. وكان هناك محللون متخصصون في هذا المجال أمثال جوناثان سيبولد الذين كانوا مقربين جدًّا من صناعة النشر وكانوا يتابعون تأثير أجهزة الكمبيوتر والتغيرات الجارية. وما إن رآه، حتى استوعب إمكانياته على الفور وفهم أهميته.

وفي الوقت نفسه الذي طُرحت فيه ليزر رايتر، قدمنا أداة تنضيد، وكانت أداة كاملة لتنضيد الصور، وذلك بالتعاون مع شركة لينوتايب كوربوريشن وأعلنا أننا رخصنا مكتبة أطقم الحروف المطبعية الخاصة بلينوتايب. وكان في غاية الأهمية للعملاء من الجهات المتخصصة في مجال النشر أن يضمنوا أننا سنوفر لهم الأسماء التجارية لموردي الحروف المطبعية الأصلية في المنتجات وفي التكنولوجيا التي كنا نطورها.

وهكذا طُرح المنتج ولاقى استقبالًا رائعًا، لكن عندما بدأنا نتتبع المبيعات، بدأت المبيعات تنخفض عندما اقتربنا من الصيف، مع أنه كان هناك إقبال قوي على الطلب في البداية. وأثار ما يحدث قلق الجميع. وآنذاك، كانت أبل تسوق أجهزة الكمبيوتر الخاصة بها وطابعات ليزر رايتر في برنامج تسويقي يطلق عليه «مجموعة ماكنتوش» والذي كان يمثل محاولة لمواجهة آي بي إم. وفي الحقيقة لم يكن يحقق النجاح المرجو. فقد كان من الصعب استبدال جميع مندوبي المبيعات في عالم الشركات الخاصة في أمريكا، وشعارات مثل «إنك لن تخسر قط بشرائك جهاز آي بي إم»، وجميع العبارات التي سمعتها.

ولحسن الحظ كان هناك شاب يعمل بالتسويق في أبل اسمه جون سكل كان يعي جيدًا ما يحدث (كما كنا نحن) في شركة ألدوس في سياتل لأن برنامج بيدج ميكر ظهر في الوقت نفسه تقريبًا الذي ظهرت فيه ليزر رايتر. وقد توصل لفكرة إقناع الشركات الثلاث — أبل وألدوس وأدوبي — بإطلاق حملة تسويقية يطلق عليها «النشر المكتبي». وكان لهذا تأثير كبير على أبل وأدوبي وألدوس، وعلى صناعة النشر؛ إذ قلبت الموازين تمامًا لمصلحة ماكنتوش، وليزر رايتر.
ليفنجستون : ألأن فكرة النشر المكتبي كانت جديدة تمامًا؟
جيشكي : نعم. فحتى ذلك الحين كان الناس يستخدمون بصفة أساسية تكنولوجيا تناظرية تتطلب عمالة أكبر.
ويصادف أن والدي وجدي كانا يعملان في نقش الصور في الطباعة البارزة، لذا كنت أعرف طريقة العمل بأحواض التنميش والصفائح النحاسية وجميع الطبقات الحساسة وغيرها. لقد كان كل ذلك يسبب التسمم، كما كان مكلفًا ويتطلب عددًا كبيرًا من العمالة. وقد بدأنا نثبت في وقت مبكر أنه يمكن الحصول على نتيجة على القدر نفسه من الكفاءة — إن لم يكن أكثر كفاءة — باستخدام جهاز كمبيوتر ولغة بوست سكريبت بدلًا من تقنيات التناظر القديمة.

اكتسب النشر المكتبي انتشارًا واسعًا. فأصبح من المتاح أن يكون المرء فعليًّا الطابع والناشر في الوقت نفسه في مقابل استثمار قدره بضعة آلاف من الدولارات. ومن ثَم فقد فُتح المجال أمام الكثير من المشروعات الجديدة. وعندما بدأ فنانو ومصممو الرسومات يتعلمون كيفية استخدام الكمبيوتر، أنتجنا منتجات مثل أدوبي إليستريتور. وفجأة بدأت الصناعة بأكملها تتقدم، وفي غضون أقل من عِقد انتقلت صناعة الطباعة والنشر بأكملها من عالم تقنية التناظر القديمة إلى العالم الرقمي. وكان ذلك تقدُّمًا رهيبًا، وبالطبع كان ذلك مفيدًا للغاية لنا.
ليفنجستون : عندما بدأتم، خططتم لصنع الكمبيوتر والطابعة ولغة البرمجة التي ستجعل جميع الأجهزة تتواصل. هل كان لديكم اسم لها قبل أن تطلقوا عليها بوست سكريبت؟
جيشكي : كلا، كان بوست سكريبت هو الاسم الذي اخترناه بعد أن أسسنا المشروع بقليل.
ليفنجستون : هل استخدمتم الأفكار نفسها التي كانت تقوم عليها إنتربرس؟
جيشكي : كانت هناك عدة أشياء لم ننفذها في إنتربرس. فإنها في الواقع لم تكن لغة برمجة مثل بوست سكريبت؛ فقد كانت أقل ديناميكية قليلًا. وفي تصميم إنتربرس، لم نستطع قط التوصل إلى طريقة التعامل مع الحروف المطبوعة. فقبل أدوبي، كان عليك أن تضبطي الصور النقطية يدويًّا لكل نمط من أنماط الحروف المطبعية ولكل حجم نقطة، وذلك للحصول على حروف مطبعية عالية الكفاءة في دقة وضوح طابعات الليزر، فضلًا عن دقة وضوح الطابعات التي تعمل بنفث الحبر. وهو ما يتطلب قدرًا كبيرًا من العمالة. كما أن ما سيبدو جيدًا باستخدام طابعة ليزر لن يبدو كذلك بالضرورة باستخدام طابعة حبر، وغالبًا لن يبدو جيدًا على الإطلاق على شاشة الكمبيوتر. ومن ثَم لا يصبح من الضروري فقط أن تصممي لأحجام نقاط مختلفة وأطقم حروف مطبعية مختلفة، بل عليك أن تصممي لأجهزة تصوير مختلفة أيضًا. فإذا بدأت في تنفيذ جميع هذه المهام المتزايدة، فلن يكفيك أن توظفي جميع العاملين بمجال التكنولوجيا المتقدمة في الصين. أي إن الأمر لم يكن سينجح.
ليفنجستون : لذا ابتكرتم أطقم حروف مطبعية قابلة للزيادة؟
جيشكي : ابتكرنا فكرة استخدام وصف رياضي صرف للإطار العام للحروف المطبعية ثم استخدمنا بعض الخوارزميات المعقدة التي تساعد على تحديد أي من البتات نشغلها وأيها لا نشغلها كي نقدم أعلى درجة من وضوح الكتابة على جهاز محدد. وكان ذلك يمثل في الواقع الطفرة التكنولوجية التي ميزت بوست سكريبت عن أي شيء سبقها بما في ذلك إنتربرس.
ليفنجستون : عندما كنت تعمل لإنجاز إنتربرس، ما الأفكار المهمة التي لم تصدق أن زيروكس لم تقدرها؟
جيشكي : على المستوى النظري، كانت فكرة إنتربرس لا تختلف عن فكرة بوست سكريبت. فيمكن للمستخدم، عبر الشبكة، من أي جهاز كمبيوتر يشغل أي برنامج تطبيقي، أن يتصل بأي طابعة على أي درجة من دقة وضوح الصورة أيًّا كانت مواصفاتها ويكون على يقين أن الملف سينتقل بين الاثنين. وبخصوص شركة تعمل في مجال الطباعة مثل زيروكس، كان هذا معناه أن عليها أن توفر واجهة رقمية واحدة على النهاية الأمامية ويمكنها الاتصال بأي شيء. وكان العكس صحيحًا أيضًا لمصممي البرمجيات؛ لأنه كان بإمكانهم الطباعة إلى سلسلة بوست سكريبت وستبدو جيدة على أي طابعة تعمل بلغة بوست سكريبت. وكان الأمر نفسه ينطبق أيضًا على الشركات المتخصصة في إنتاج الأنظمة الأساسية مثل أبل ومايكروسوفت: كل ما عليهم هو كتابة برنامج واحد لتشغيل الطابعة لضمان إنتاج صفحات مطبوعة لأي جهاز يعمل بلغة بوست سكريبت، أو أي جهاز زيروكس يشغل إنتربرس.
ليفنجستون : هل صممت المكونات المادية للطابعة أيضًا؟
جيشكي : ساعدنا في تصميمها بالتعاون مع بعض العاملين في أبل. إننا لم نصنِّعها لكننا كنا على دراية ببعض خصائص التصميم التي ينبغي أن تتوافر بها كي تتمكن من التعامل مع كل من تحويل بوست سكريبت إلى رسومات نقطية، وبعض الأشياء الخاصة بكيفية التحكم في المحرك للحصول على أفضل صفحات مطبوعة. لكن تلك كانت مهمة مشتركة، وكانت المكونات المادية من إنتاج أبل. وفي النهاية، وضعنا بالفعل بعض تصميمات المكونات المادية، وكنا مستعدين لعرض التصميمات على العملاء من مصنِّعي الأجهزة الأصليين حتى لا يضطروا للبدء من نقطة الصفر، وهكذا يمكنهم الوصول إلى السوق أسرع. لكننا لم ندخل قط مجال التصنيع.
ليفنجستون : لماذا عجزت أبل وديجيتال إيكوبمنت كوربوريشن عن صنع ما قمتم به أنتم؟
جيشكي : أظن أن الأمر كان يرجع جزئيًّا إلى نقص في فهم متطلبات صناعة الطباعة والنشر. فمع أن خبرة جون لم تكن وثيقة الصلة بها كخبرتي، فقد سبق له العمل في شركة يطلق عليها إيفانز آند ساذرلاند التي كانت تنفذ تعاقدات تطوير للكثير من شركات التكنولوجيا المتقدمة بما في ذلك آر آر دونللي بولاية شيكاجو، وكانت تلك الشركة تعتبر في وقت من الأوقات أكبر شركة متخصصة في الطباعة في الولايات المتحدة، وربما في العالم. ومن ثَم فقد كان ملمًّا إلمامًا كافيًا بالجوانب المختلفة للأمر. بالإضافة إلى هذا، بفضل خبرته في مجال الرسومات، فقد كان لديه دراية بالأمور المتعلقة بالتحويل من تعريف مجرد من حيث رياضيات أحد الأشكال، وكيفية تحويل ذلك إلى بيانات نقطية تشغل طابعة نقطية، أو شاشة نقطية.
لقد كان الفضل يعود لكل هذه المهارات والخبرات التي كنا نتمتع بها أنا وهو في وصولنا إلى مكانة فريدة. ويأتي بعد ذلك حسن الحظ الذي أتاح لنا الحصول على صفقات عمل مع عميلين أو ثلاثة مهمين للغاية منذ وقت مبكر.
ليفنجستون : هل منحك عملك في بارك على لغة البرمجة ميسا قدرة أفضل على الفهم مما ساعدك على تحسين بوست سكريبت؟
جيشكي : ليس على نحو مباشر. فقد كانت ميسا من لغات البرمجة التقليدية، وهو نوع البرمجة الذي كان يُستخدم لتصميم نظم تشغيل. وكانت تشترك مع بوست سكريبت في سمة واحدة تتشابه نظريًّا، ففي كل من ميسا وبوست سكريبت، لم يكن يتحتم علينا البرمجة على مستوى الجهاز. ففي بوست سكريبت، يمكنك البرمجة على مستوى أعلى، في لغة تتناسب أكثر مع طبيعة ما تريدين طباعته بدلًا من طريقة طباعته. وفي ميسا، طوَّرنا لغة برمجة للمبرمجين تتيح لهم تنظيم برامج كبيرة ومعقدة، وطورنا أيضًا جهازًا يأخذ مخرجات هذه اللغة ويعمل عليها بكفاءة شديدة. وقد ضُمِّن هذا في محطة عمل ستار التي قدمتها زيروكس عام ١٩٨١.
ليفنجستون : ماذا كانت أهم نقاط التحول الأخرى؟
جيشكي : إذا كنت تذكرين في ذلك الوقت سوق الطباعة المكتبية، فستعرفين أن إتش بي كانت تتمتع بمكانة رائدة قوية للغاية بفضل طابعات ليزر جت الخاصة بها. وعندما أخطرتنا إتش بي أنهم يريدون استئناف المحادثات معنا، كانت تلك لحظة مهمة للغاية لأننا تمكنا في الواقع من توقيع اتفاق مع إتش بي يقومون بموجبه باستخدام بوست سكريبت على طابعات ليزر جت. وكان ذلك إنجازًا كبيرًا لنا كشركة. وقد تزامن ذلك مع قيامنا بتوقيع صفقة مع آي بي إم. ومن ثَم فإن استراتيجية عدم اللجوء إلى آي بي إم مبكرًا قد أثمرت. فما إن لاحظت كل من آي بي إم، وإتش بي أن أبل تحقق نجاحًا ملحوظًا في السوق، بدأت الشركتان تبديان اهتمامًا بالأمر، وهذه هي الطريقة التي حصلنا بها على هاتين الصفقتين.
ومع ذلك، فالدرس الآخر الذي تحتم علينا تعلمه هو أنه لا يمكن أن يقصر المرء مجال عمل شركته على منتج واحد. فهناك خطورة كبيرة عندما يكون للشركة منتج واحد؛ أنه ستأتي في النهاية مجموعة من التغيرات على الصعيد التكنولوجي والصعيد التنافسي وتتسبب في خسارة نصيبك من السوق. وما إن تخسري نصيبك من السوق، حتى تبدأ العائدات والأرباح في الانخفاض. ومن حسن الحظ أننا قررنا عدم الاعتماد على التطبيقات التجارية المتعارف عليها — ولا حتى تطبيقات الرسومات — التي كانت موجودة، وذلك كي نتمكن من إثبات القدرات التي تتمتع بها ليزر رايتر. وإذا كنت تذكرين كان لدى أبل منتج يطلق عليه ماك درو، وآخر اسمه ماك بينت. وكانا يعتمدان على فكرة أن المستخدم سيقوم بعملية الطباعة على جهاز إيمج رايتر، وكانا يفتقران إلى الخصائص التي يمكن أن تبرز قدرات ليزر رايتر الحقيقية باعتبارها آلة طابعة متكاملة. وفي ليزر رايتر، يمكن الجمع بين الرسومات والصور والنصوص بطرق مبتكرة لم تكن توفرها أي من مجموعات التطبيقات. والأهم من ذلك، كان المصممون يدركون أنهم بحاجة للوصول إلى مستوى أفضل من الابتكار، لكن لم تكن لديهم الأدوات اللازمة التي تمكنهم من التعبير عن قدراتهم الإبداعية.

لكن كان هناك سبب آخر لتطوير إليستريتور. إذ كانت زوجة جون مصممة رسوم، وما إن أنتجنا ليزر رايتر، حتى أرادت أن تنفِّذ بعض أفكارها التصميمية على ذلك الجهاز. لذا كان جون يبرمج في لغة بوست سكريبت يدويًّا كي يحصل على هذه المخرجات ثم قال: «هذا أمر سخيف. أحتاج لتصميم أداة يقترب أداؤها مما يتوقعه مصمم رسومات من حيث وجود الأقلام والحبر والرسم وغيرها، ثم نترك الأداة تكتب كود بوست سكريبت.» ومن هنا نشأت فكرة إليستريتور.

وقد طرح البرنامج في شتاء ١٩٨٧. وكنا نعمل أيضًا بصور وأدوات للمسح الضوئي. وكانت الماسحات الضوئية لا تزال باهظة الثمن للغاية في ذلك الوقت ومن ثَم لم تكن هناك فرصة كبيرة في عالم التصوير الفوتوغرافي بعد، لكننا كنا نعرف بفطرتنا أنها ستصبح متاحة.

وقد تعرفنا على شقيقين من ميشيجان هما توم نول وجون نول. وقد صمما حزمة برمجيات تمكن المستخدم من التعامل مع صور فوتوغرافية وتغييرها وتعديلها وتحسينها والقيام بأشياء مختلفة عليها. لكنها بالطبع كانت تقوم بذلك على جهاز ماكنتوش تبلغ مساحة ذاكرة الوصول العشوائي به ٥١٢ كيلوبايت، وله شاشة صغيرة تعرض الصور بالأبيض والأسود وليس بها ألوان، ومحرك الأقراص يتسع ﻟ ١٠ أو ٢٠ ميجابايت. ولم تكن تتوافر كاميرات رقمية وكانت الماسحات الضوئية سعرها ٢٠ ألف دولار. لكن البرنامج بدا رائعًا. ورأينا أنها فكرة رائعة وأنها هي الحلقة المفقودة. فقد كانت هناك تطبيقات تنتج نصوصًا. ولدينا إليستريتور، وهو تطبيق يمكن أن ينتج فنونًا خطية ورسومات. لكن لم يكن لدينا تطبيق يمكنه التعامل مع الصور الفوتوغرافية، مع أن الطابعات كان بإمكانها طباعتها. لذا بدأنا العمل في برنامج فوتوشوب ومنحنا اهتمامًا كبيرًا لليابانيين الذين بدءُوا العمل على تصنيع الكاميرات الرقمية والماسحات منخفضة التكلفة. وقد قدمنا فوتوشوب على الأرجح قبل عامين أو ثلاثة من استعداد السوق له.

أنا لا أجيد الصيد البري، ولم أطلق بندقية قط، لكني سمعت أنني إذا كنت أريد أن أصطاد بطة فعليَّ أن أطلق النار على المكان الذي ستكون البطة موجودة فيه، وليس على المكان الذي توجد فيه حاليًّا. والأمر نفسه ينطبق على تقديم التكنولوجيا: فإذا لم تركزي إلا على السوق اليوم، فعندما تقدمين حلًّا للمشكلة فستصبح هناك على الأرجح عدة حلول أخرى ترسخت بالفعل. وسيكون من الصعب إزاحتها من مكانها، وسيكون من الصعب إقناع الناس بالتغيير لأن ما لديك أفضل بكثير. من الأفضل أن تتوقعي الاتجاه الذي ستتجه إليه السوق في غضون بضع سنوات، وتركزي على تقديم حل لهذا، وتجعلي قوى السوق تسعى للحاق بك. وهذا ما فعلناه مع فوتوشوب واتضح أنه كان قرارًا مفيدًا لنا، ومفيدًا كذلك للأخوين نول. فقد حصلا من ورائه على عوائد عن عملهما، وساعد ذلك على إنشاء صناعة كاملة تعتمد على الكاميرات الرقمية والتصوير الفوتوغرافي الرقمي.
ليفنجستون : إذا كنت تطرح المنتجات قبل أن تكون السوق مستعدة لها بوقت قليل، هل كان هناك من لم يفهموا مدى روعة تلك المنتجات؟
جيشكي : في الإصدارات الأولى من المنتج كنا نركز على فئات مختارة من المستهلكين ممن يفهمون في التكنولوجيا وإمكانياتها. ومن ثَم كنا نسوق في المقام الأول عن طريق المحللين المتخصصين في شئون التكنولوجيا، والمتخصصين في أبحاث المنتجات، دون أن نحاول الاتجاه إلى السوق المخصصة للعامة، لعدم وجودها من الأساس.
وكان علينا أيضًا أن نحارب الأصوات المعارضة لكل ما هو جديد داخل الشركة. فعندما قدمنا إليستريتور أدركنا أن هوامش الربح ستختلف تمامًا لأنه كان علينا تجميع البرنامج وتوزيعه وتكوين علاقات تجارية مع قنوات مبيعات مختلفة، لأننا عندما بعنا بوست سكريبت، بعناه مباشرة إلى كبار مصنعي الأجهزة الأصليين، ومن ثَم لم يكن لدينا سوى عشرات العملاء لبوست سكريبت. لكن أصبح لزامًا علينا أن نحصل على آلاف العملاء، وفي النهاية الملايين. إنه مقترح عمل مختلف تمامًا وسوق مختلفة تمامًا وقنوات مبيعات مختلفة تمامًا. وقال الكثيرون من العاملين في الشركة: «هذا جنوني. هل سنستثمر كل هذه النقود في هذا؟ ماذا سيحدث لو لم ينجح الأمر؟ سنخسر أرباحنا.»

كنت أنا وجون مقتنعين منذ وقت مبكر بأننا لا يمكن أن نحصر أنفسنا في منتج واحد، بل، أيضًا، بأننا لا يمكن أن نحصر تعاملنا في قناة بيع واحدة كي نوصل منتجاتنا إلى السوق. فعلاقات العمل قد تضعف أو تنهار في نهاية الأمر، ومن ثَم تجدين نفسك في مأزق. ولن يكون لديك وسيلة لطرح منتجاتك وتلبية متطلبات السوق.
ليفنجستون : هل عانت أدوبي أي تضرر كبير لعلاقاتها التجارية؟
جيشكي : بالطبع. كان أشهرها في خريف عام ١٩٨٩. وكنا نعمل على إنجاز تقنية لعرض النصوص بجودة عالية على شاشات العرض وليس فقط على الصفحات المطبوعة. فحتى ذلك الوقت، كانت جميع النصوص على شاشات الكمبيوتر تظهر على هيئة صور نقطية مصممة يدويًّا. فكنا نريد أن نثبت أنه يمكن استخدام التقنية نفسها التي سبق استخدامها على الصفحة المطبوعة على الشاشة أيضًا.
وكانت أبل في الواقع مشغولة بإنجاز ذلك منذ فترة قصيرة. وكانت التقنية التي قدموها تحمل اسم ترو تايب. وكنا نحاول أن نسوق الحل الذي ابتكرناه لأبل، لكن دون تحقيق نجاح كبير. وفي ذلك الوقت كان ستيف جوبز قد رحل. وكان هو المناصر الرئيسي لأدوبي داخل أبل. وتولى جان-لوي جاسيه رئاسة قطاع المنتجات، ولأي سبب كان، لم تسِرْ علاقة جان-لوي بأدوبي على ما يرام قط. ومن ثَم بدأنا نواجه مشكلة مع أبل. فقد بدءُوا يسأمون من سداد عائدات لنا على ليزر رايتر، وقرروا عدم دفع المزيد من النقود.

وقررنا في محاولة للتغلب على ذلك أن نجرب إقناع مايكروسوفت بضرورة استخدام التنقية التي نقدمها مع ويندوز. وفي الواقع نجحنا في إقناع أحد أكبر عملائهم آنذاك — وهي شركة آي بي إم — بالموافقة على استخدام التقنية التي ابتكرناها على نظام التشغيل أو إس/٢ وعلى إصداراتهم من ويندوز. لكن عندما حاولنا بيعه لمايكروسوفت، لم نستطع إبرام صفقة. وما كان مخيبًا للآمال هو أنها كانت تقنية أثبتت كفاءتها من قبلُ. وكان بإمكاننا تقديم عرض تجريبي لها. وكنا قد انتهينا من قبل من استخراج جميع تراخيص أطقم حروف الطباعة مع كبريات الشركات التي تبيعها، ومن ثَم فقد كانوا على دراية بأننا نفي بهذه الفئة من المتطلبات، والأهم من ذلك لم نكن سنفرض رسومًا. لقد كنا نحاول أن نمنح عملاءنا الانطباع نفسه عند استخدامهم لأجهزة ماكنتوش وويندوز على حد السواء، ومن ثَم فلم نكن ننوي إرغامهم على اتخاذ قرار بشأن أي الشركتين يشترون منتجاتها كي يستخدموا التقنية التي نقدمها. فلطالما كانت استراتيجيتنا تقوم على الالتزام بالحياد بخصوص نظام التشغيل.

وصل الأمر إلى ذروته في مؤتمر سيبولد في سان فرانسيسكو في سبتمبر ١٩٨٩. فأخبرتنا مايكروسوفت أنها ستتوقف عن ترخيص التقنية التي نقدمها، وأنهم سيقومون بإنشاء تحالف مع أبل. ومن ثَم فقد تحالف أكبر عميل لنا وأكبر منافس لنا على الساحة، وأعلن بيل جيتس أنه سيستخدم ترو تايب في ويندوز، وأنه حصل على تنفيذ مُستنسَخ من بوست سكريبت، سيرخصه لأبل ومن ثَم لن تضطر أبل لسداد عائدات لأدوبي. وكان جيتس وستيف جوبز يتحدثان على المنصة ذلك الصباح عن نيكست وكان جون وارنوك هناك (وكنت أنا وهو نتبادل الحضور وقد حالفه الحظ بالصعود إلى المنصة ذلك العام).

وقد تكرر الاستشهاد بما قاله جون لأنه تحدث بعد جيتس، وكان جيتس قد تحدث عن مدى مساهمة ذلك في الارتقاء بعالم النشر والطباعة، لكنهم لم يستطيعوا تقديم عرض تجريبي للتقنية التي قدموها في ذلك الوقت. فنهض جون وقال: «لم أسمع مثل هذا الهراء طوال حياتي.» ثم بدأ الحديث عن برنامج أدوبي تايب مانيجر وما ننوي القيام به. وفور معرفتنا بظهور تحالف أبل ومايكروسوفت، قررنا أن يكون رد فعلنا الوحيد هو طرح المنتج في السوق على الفور، وإتاحة برنامج أدوبي تايب مانيجر على أجهزة أبل ومايكروسوفت كمنتج إضافي زهيد التكلفة. أنا لم أعد أتذكر السعر، ربما كان ٩٩ دولارًا، وهو ما كان يعد آنذاك ثمنًا زهيدًا للغاية للبرمجيات.

بعنا مئات الآلاف من الوحدات في العام الأول، ولم تتمكن أبل ومايكروسوفت من طرح أي منتج إلا بعد ثلاث سنوات. وبحلول ذلك الوقت، كان الأمر قد أصبح محل خلاف من الجميع. وفي ذلك الوقت قررت أبل عدم صنع منتج باستخدام تنفيذ مستنسخ لذا عادوا إلينا وجددوا إبرام صفقة بوست سكريبت معنا.

وأهم ما في الأمر لنا كشركة ناشئة — مع أننا لم نكن كذلك في ذلك الوقت فقد كنا شركة طرحت أسهمها للاكتتاب العام، وإن كانت ما زالت شركة حديثة العهد — هو العلاقة التي وثقنا أواصرها مع عملائنا. فقد كنا نحرص على أن يشعروا بأننا نمنحهم خدمة مقبولة وبأنهم يثقون بقدرتنا على إرشادهم إلى الوصول للمكانة التي يريدونها. لذا قرر المنظمون بسرعة، في المؤتمر نفسه، أن يستعينوا بجماعة إضافية من المتحدثين في ذلك اليوم الأخير لإدارة نقاش مباشر حول ما إذا كان الحاضرون — وكانوا جميعًا من كبار الأطراف المشاركة في مجال الطباعة والنشر — يفضلون أن تسيطر أبل ومايكروسوفت على مستقبلهم أم يريدون البقاء مع أدوبي. وقبل أن يبدأ المتحدثون، نهض رقيب المناقشة وقال: «أود أن آخذ فكرة عما سيكون عليه رأي المجموعة قبل أن نبدأ المناقشة. فأريد من كل من يريد أن تنجح أبل ومايكروسوفت في إقصاء أدوبي عن هذا المجال أن يرفع يده.» وكان هناك حفنة من موظفي أبل ومايكروسوفت بين الجمهور، لكن من بين ١٥٠٠ شخص تقريبًا لم يقم سوى بضع عشرات برفع أيديهم.

ومن ثَم فقد أكد هذا الموقف على رسالة لطالما كنت أرددها أنا وجون داخل الشركة عن كيفية معاملة العملاء. إذ كنا نقول إن علينا أن نستمع إليهم بكل عناية. ويجب أن نفهم متطلباتهم واحتياجاتهم. ولا يتحتم علينا بالضرورة أن ننفذ كل ما يطلبونه منا فقط، بل أن تكون لدينا القدرة على الاستشراف لتنفيذ أكثر مما توقعوا. وقد عملنا بمنتهى الإخلاص على هذا. ورسخنا في كل الموظفين ضرورة معاملة العملاء بالطريقة التي يحبون أن يُعامَلوا هم بها. وأكدنا لهم أنهم مسئولون عن نجاح العملاء، وأنهم إذا فشلوا في عملهم، ربما يتسبب ذلك في فشل شركات العملاء. وأظن أنه في بعض الأحيان ينظر بعض المتشككين المتشائمين إلى هذا ويقولون: «هذا الكلام ينم عن تصنُّع الفضيلة. ربما يكثر هذا الشخص من قراءة الإنجيل أو ما شابه.» لكن الأمر لا يعدو كونه تأدية العمل بإتقان. وقد أسهم ذلك الموقف في البرهنة على ذلك، فقد صوَّت لنا الجميع تقريبًا. ومع أنه قد حدثت مشكلة مؤقتة في الأسهم بسبب إعلان أبل ومايكروسوفت، فإن عملنا لم يتعثر قط.
ليفنجستون : لماذا لم تتمكن مايكروسوفت وأبل من صنع منتج منافس؟
جيشكي : كانوا غالبًا ما يعملون بِناءً على افتراض لما يظنون أن بإمكانهم تنفيذه. عندما كنا نجري محادثات مع مايكروسوفت وأبل بخصوص ترخيص هذه التقنية منا، كان لدينا بالفعل نماذج أولية عاملة. وكانت الشركتان مثالًا لما يفعله صائد بط ضعيف المستوى. فكانوا يطلقون النار على المكان الذي كنا فيه من قبلُ، ومن ثَم كنا قد سبقناهم بكثير حين طرحوا ذلك المنتج. ومن ثَم أصبح غير ذي فائدة للسوق.
ليفنجستون : أكان هناك أي منافس أثار قلقك في فترة البدايات؟
جيشكي : كان هناك بعض المنافسين. وعندما حصلنا على التمويل على أساس خطة العمل الأصلية، كانت خمس شركات قد حصلت على تمويل للقيام بأنشطة مشابهة. وهي ليست مماثلة لعملنا، لكن مشابهة له. ولحسن الحظ، نفذت الشركات الخمس الأخرى خطة العمل، أما نحن فلم ننفذ خطة العمل الخاصة بنا. وقد اختفت جميعها.
وهذا يوضح مدى أهمية الحصول على نصيحة جيدة والتمتع بالشجاعة الكافية للعمل بهذه النصيحة. فها قد ظهرت ست شركات تقريبًا جميعها تأسست في غضون من ١٢ إلى ١٨ شهرًا برأس مال مخاطر في الساحل الشرقي وهنا في وادي السليكون، وكانت جميعها تسعى للقيام بالشيء نفسه. وفي بعض الأحيان عندما كانوا يتحدثون في المناسبات والمؤتمرات، تجدين حديثهم مروعًا.

وقد ظلت إتش بي تنافسنا بالطابعة ليزر جت، وقد أدركنا أن هناك احتمالًا أنه بمرور الوقت ستصبح بعض منتجاتهم — لا سيما المنتجات المكتبية — على مستوًى جيد من الكفاءة. وأصبح من الواضح أيضًا أنه ما إن تصبح تقنية نفث الحبر أعلى كفاءة وأقل سعرًا وتتميز بسرعات مقاربة، فلن يكون بإمكاننا وضع برامجنا على جهاز تحكم في الطابعة لأن الطابعات أصبحت أجهزة سرعان ما يتخلص منها المستهلك بعد استعمالها. لقد كانت أشبه بأمواس الحلاقة التي على نصالها النقود. ومن ثَم بدأنا نسعى بقوة لترويج منتجات أخرى ونسعى لفرص أخرى في السوق لأننا كنا نعلم أن بوست سكريبت سيختفي في النهاية كمصدر عائدات لنا.

ولا يزال لدينا اليوم عقود لطابعات ليزر مع عدة جهات تصنيع — ومن المفارقات أنه ربما تكون أكبرها الآن هي زيروكس — والعديد من عقود أجهزة تنضيد الصور مع الشركات المتخصصة في تصنيع معدات الطباعة عالية الجودة باهظة التكاليف، لكن لا تشهد سوق الكمبيوتر المكتبي تعاملات تجارية كثيرة، ولا تشهد تقنية نفث الحبر لبوست سكريبت أي تعاملات تجارية على الإطلاق. ومن ثَم فمع أنه لا يزال جزءًا مربحًا من عملنا، فإنه لم يعد مهمًّا. فقد حل برنامج أكروبات ومنتجات التجزئة الأخرى، والآن الاستحواذ على ماكروميديا، محل بوست سكريبت.

وهكذا فإن الدرس الآخر هو أنه يجب أن يكون المرء راغبًا في التقدم حتى إذا ما حقق نجاحًا حقيقيًّا. وكانت هذه هي في الواقع المشكلة التي واجهتها زيروكس. لأن جهاز نسخ المستندات الأصلي ٩١٤، حقق نجاحًا كبيرًا، ولم يكونوا يعيرون أي اهتمام لأي تعاملات تجارية لا تُقدَّر قيمتها بالمليارات. وللأسف، فإن الشركات الجديدة تبدأ صغيرة ثم تكبر. ويجب أن يكون المرء مستعدًّا لاتخاذ بعض القرارات التي تنطوي على مجازفة، ويستثمر فيها على أمل أن يحقق بعضها نجاحًا. ولم تكن زيروكس تجيد ذلك. وأتمنى أن يكون أداؤهم قد تحسَّن على مدى السنوات.
ليفنجستون : كانت بارك تشتهر بإغفال القيمة التجارية للأشياء. هل فاجأك أنهم لم يقدروا قيمة ما كنت تسعى لإنجازه أنت وجون؟
جيشكي : لم أتفاجأ كثيرًا بتجربتنا مع إنتربرس؛ لأنني رأيت ما حدث مع كل التقنيات الأخرى التي سبقتها. فإنهم لم يتوصلوا قط لطريقة للانتفاع تجاريًّا من تقنية الإيثرنت. وقد تمكنوا من ذلك مع طابعة الليزر الأصلية (كان يطلق عليها ٩٧٠٠) لكنها كانت مخصصة لأجهزة الكمبيوتر المركزية وقد حلت محل الطابعات السطرية. والطابعات السطرية هي الطابعات القديمة التي كانت مدمجة في أجهزة الكمبيوتر المركزية، وكانت آلات ضخمة ومزعجة لا تطبع سوى النصوص. أما الطابعة ٩٧٠٠ فكانت تطبع صفحات أكثر تطورًا. لكنها كانت طابعة مخصصة لأجهزة كمبيوتر مركزية، وليست طابعة مكتبية، ولم تكن مخصصة لمجال النشر والفنون الرسومية. فإذا نظرتِ إلى مذكرة مكتبية عادية تُطبع اليوم، لم يكن من الممكن أن تري شيئًا مثلها قبل عشرين عامًا. إذ كانت المذكرات المكتبية تطبع على آلة كاتبة باستخدام إما أطقم حروف مطبعية كوريير وإما إيليت. ولكن الأمر بأسره مختلف تمامًا الآن، وأصبح الأمر من المسلَّمات للمستخدمين. فكل ما يتوقعونه هو أن يبدو النص عالي الجودة، وأن تكون المسافات متناسبة، وأن تحتوي الصفحات على رسوم توضيحية وصور.
ليفنجستون : لقد أصبحنا نتعامل مع ما ابتكرتموه على أنه من المسلمات.
جيشكي : هذا هو الرائع في الأمر. ففي ذلك الوقت ندرك أننا تركنا بصمة. وأعلم أنه يمكنني التحدث نيابة عن جون في هذا الشأن أيضًا، فأكثر ما يسعدنا بأمانة ليس النجاح المالي، بل القدرة على ترك بصمة. لأننا في الأصل مهندسان، ولأن هذا هو حلم كل مهندس، ألا وهو تصميم شيء يستخدمه الملايين من الناس.
لقد أصبح الآن بإمكان مَن لم يتلقوا تدريبًا في الفنون الرسومية إعداد مواد توصل الرسالة المطلوبة بكل كفاءة. أذكر في وقت مبكر للغاية أنني ألقيت محاضرة في مكان ما في شيكاجو، فقد أقنعني شخص يعمل في شركة صغيرة متخصصة في السمسرة أن ألقي محاضرة. وقال: «إننا نستخدم برامجكم، لكننا نطبع دائمًا باستخدام كوريير (وهي طقم حروف للآلة الكاتبة) لأن من يرون الأشياء مطبوعة باستخدام طقم حروف مطبعية عالية الجودة يعتبرون أنها قديمة.» والمفهوم مما قاله أنه كان على عتبة التغيير. أما الآن فلا يفكر الناس في الأمر بهذه الطريقة، لكن آنذاك لو لم تطبع بحروف كوريير، يظن الناس أنها أُرسلت إلى مطبعة وجهاز تنضيد، وأنها استغرقت من أسبوعين لثلاثة لإعدادها.
ليفنجستون : ما أكثر ما فاجأك في فترة البدايات؟
جيشكي : كانت أكبر مفاجأة لي هي مدى استجابة العاملين في مجال النشر في قبول التغيير واعتناقه. وبعد أن فكرت في هذا فيما بعد، أدركت عندما كنت أستمع إلى والدي يتحدث عن مهنته — وقد نصحني بالطبع ألا أدخل أبدًا مجال الطباعة — أنه كان قد أدرك بحدسه أن التغيير لا بد أن يحدث في هذا المجال. ولم يكن يدري من أين سيأتي، لكنه كان واثقًا أن ذلك التغيير لن يقتصر على القيام بما يقوم هو به بطريقة أفضل أو أكثر كفاءة. بل إنه سيأتي من مكان آخر. لذا أظن أن سوق الطباعة كانت سوقًا تبحث عن حل من قبل ونحن قدمناه لها في الوقت المناسب.
ولم تنخفض كميات الطباعة بسبب شعار «مكتب بدون أوراق» بل ازدادت. فنحن (أدوبي وغيرنا ممن تعاونا معهم) من ننتج تلك الكتالوجات التي تصل للمستخدمين بالبريد. فمنذ ٢٥ سنة مضت، لم يكن أحد يتلقى أي كتالوجات. فقد كانت تكلفة إنتاجها باهظة للغاية.
ليفنجستون : إذا كانت لديك خبرة في الطباعة، هل تعمَّدت صنع المنتجات لتشجيع الجودة في التصميم؟
جيشكي : كنت على دراية بالفرق بين التصميم الجيد والتصميم الرديء. وكنا ندري أيضًا أنه إذا كنت تعملين في مجال تصنيع المطارق، فلا يمكن أن تشترطي على مَن يشتري المطرقة أن يكون نجَّارًا بارعًا، لذا فقد أتحنا أدواتنا لمجتمع أكبر بكثير. وبعض المطبوعات الأولى كانت تبدو مثل الخطابات التي يرسلها المختطفون طلبًا لفدية. إذ كان المستخدمون يضعون كل أطقم الحروف المطبعية المتاحة على صفحة واحدة، وهذا ليس بالتصميم الجيد. ومن ثَم فقد ظهر الكثير من التصميمات السيئة. ولم يكن السبب في ذلك يعود إلى خطأ في التقنية، بل إلى أن المستخدمين أتيحت لهم وسيلة جديدة من وجهة نظرهم — في مقابل وجهة نظر المحترفين — وكانوا يحاولون اكتشاف طريقة استخدامها ببراعة.
أظن أن الأمر قد طرأ عليه تحسُّن كبير، فلم يصل الأمر إلى حد الكمال، لكنه أفضل. والأهم أن المصممين المتميزين قد أتيحت لهم حرية إبداعية أكبر الآن. فيمكنهم تنفيذ تصميمات بتكلفة أقل وسرعة أكبر من ذي قبل. فالكثير من أعمال التصميم الآن لم يكن من الممكن محاولة تنفيذها باستخدام الطرق اليدوية، لكن الآن في ظل توافر القدرة على التحكم في الطبقات داخل الصور الفوتوغرافية وتنفيذ جميع أنواع الفنون المعقدة، أصبح بإمكان الناس وضع تصميمات لم يكن بإمكانهم وضعها من قبلُ. وكنا نؤمن فعلًا أن قواعد جودة التصميمات الناتجة لم تكن تتحكم فيها صناعة الكمبيوتر، بل صناعة النشر. فلم يكن مهمًّا أن تنال إعجاب شخص في آي بي إم مثلًا أم لا. بل المهم هو أن يقدرها شخص يعمل في راندوم هاوس أو تايم-لايف أو أوجيلفي آند ماثر أو غيرها.

أذكر في فترة البدايات أنني أخذت معي أول عمل لفصل الألوان إلى المنزل وأريته لأبي. وكان لا يزال يحتفظ بالعدسة المكبرة الصغيرة المستخدمة في مجال الحفر على الخشب والمعادن. فأخرج عدسته المكبرة ونظر إلى الأشكال المطبوعة بطريقة النقط السوداء ثم رفع رأسه إليَّ وقال: «ليست جيدة جدًّا.» فقلت: «أعرف، لكنها ستتحسن.» ثم بعد بضع سنوات أخذت معي شيئًا إلى منزلنا كنت متأكدًا أنه رائع للغاية. وأريته لأبي ولم أتحدث كثيرًا. فنظر إليَّ وقد علت وجهه ابتسامة كبيرة وقال: «الآن هذا جيد.» وكانت تلك لحظة رائعة.
ليفنجستون : هل هناك إجراءات تقوم بها أدوبي الآن للحفاظ على الكفاءة أو السمات التي تميز الشركات الناشئة؟
جيشكي : يزداد الأمر صعوبة، كلما كبرت الشركة. وقد حاولت أنا وجون بصفتنا رئيسي مجلس الإدارة التأكيد للرئيس التنفيذي الحالي بروس تشيزن على أهمية الابتكار وأهمية أخذ بعض استثمارات الشركة وعدم إعادتها مباشرة إلى الأنشطة التجارية الحالية.
وكما ذكرت من قبل، عندما كنا نحاول تطوير قنوات البيع بالتجزئة، ظن البعض أن هذا يعتبر مضيعة للوقت والمال. وكان القائمون على خطوط الإنتاج التي تدر معظم الأرباح يعتقدون أن لهم حق الاستفادة من جميع موارد الشركة. وأعتقد أن من جوانب الإدارة الناجحة ومن سمات سلوك الشركات الناشئة أن ندرك، مع أن تلك الشركات حققت نجاحًا باهرًا اليوم، وتأمل أن يستمر نجاحها لفترة طويلة، أن الخبرة وقانون المتوسطات يؤكدان أنها في مرحلة ما ستصل إلى الذروة ثم تبدأ في التدهور على الأرجح. ومن ثَم يتحتم عليك أن تستثمري اليوم فيما سيكون فيه مستقبلك في غضون ٥ أو ١٠ سنوات.

ونحن نحاول فعلًا أن نحافظ على هذا الأسلوب؛ إذ نحاول ولدينا مشروعات تقوم على أفكار ومفاهيم جديدة، لكن هذا صعب. ومن ثَم فقد جمعنا بين الاستثمار الداخلي على مدى سنوات وصفقات الاستحواذ. فقد أجرينا عدة صفقات استحواذ على غرار ما قمنا به مع برنامج فوتوشوب، حيث رأينا فكرة جديدة ومفهومًا جديدًا جرى إنجازه جزئيًّا، ويمكننا أن نحضر الموارد اللازمة لطرحه في السوق، وتضمينه مع منتجات أخرى كي نساعده على تحقيق نجاح أكبر مما كان يمكن أن تحققه المجموعات الأصلية القائمة عليه بمفردها.
ليفنجستون : أنت وجون مهندسان وباحثان، ومع ذلك كنتما المسئولين التنفيذيين الرئيسيين حتى قبل بضع سنوات. وقد اتضح أنكما كنتما تجيدان الإدارة المؤسسية خلافًا لما توقع البعض في البداية عندما حصلتما على تمويل.
جيشكي : لا أظن أن إدارة الشركات تنطوي على أي غموض. وأظن أن من العوامل التي قد أفادتنا كثيرًا أننا كنا في الأربعينيات من عمرنا، وأنه سبق لنا العمل في مؤسسات مختلفة. فقد عملنا في شركات أخرى، لكننا حاولنا ألا نقلد أفكارها السيئة. وننتقي أفضل ما كنا نراه فيها.
وعندما بدأنا كنا نريد أن نبني شركة يطيب لنا العمل بها، وظللنا نطبق هذا المعيار. وأذكر أننا عندما عيَّنا موظفين في فترة البدايات، كنت أنا وجون نتبادل الأدوار في توزيع باقات من الزهور على زوجات الموظفين، وزجاجات الكونياك على أزواج الموظفات ثم شمبانيا على الموظفين رجالًا ونساءً.

وظللنا نقوم بذلك لمدة الثمانية عشر شهرًا الأولى، ثم بدأ الأمر يصبح عبئًا وبدأنا نعطيهم هذا في العمل. وأظن أننا لم نعد نقوم بذلك. وقد ساعد القيام بأشياء من هذا القبيل، بهدف جعل الموظفين يشعرون أنهم جزء من جماعة معينة، في بناء علاقات طيبة داخل الشركة، ولهذا كان معدل دوران العمالة لدينا بين أدنى المعدلات في وادي السليكون منذ أن بدأنا العمل. لا سيما مع الموظفين المتميزين، فلم يكن معدل دوران العمالة يتكون من رقم من خانة واحدة فحسب بل أيضًا بلغ في المعتاد ١ أو ٢ بالمائة. ويعود ذلك لأننا جعلنا الشركة مكانًا جذابًا ومجزيًا لمن يعملون به. لذا في بعض الأحيان أصاب بالإحباط حين أرى أن من لم يسبق لهم إدارة الشركات قط يسنون تشريعات مثل حساب خيارات الأسهم وغيرها. فليست لديهم أدنى فكرة عما تتطلبه إدارة الشركات.
ليفنجستون : هل هناك نصيحة أخرى تسديها لمن يفكر في تأسيس شركة؟
جيشكي : إذا لم تكن متحمسًا لما تنوي القيام به، فلا تقم به. واحرص على التنفيذ بذكاء ولا تستغرق وقتًا طويلًا؛ لأنك بحاجة للحفاظ على حياتك بالكامل، وليس حياتك العملية. ومن بين الأمور التي أثلجت صدري هو أننا — منذ تعيين الموظفين الأوائل وفيهم أنا وجون — شغلنا إمكانية العمل عن بُعد منذ اليوم الأول. ومن ثَم كان لدى كل شخص خط هاتف ومودم وجهاز طرفي في منزله منذ أول يوم انضم فيه إلى الشركة. (الآن بالطبع لديهم أجهزة كمبيوتر شخصية وكل شيء.)
وهذه حيلة، لأنني أظن أننا بذلك تمكنا من دفعهم للعمل لساعات أطول بكثير. وهذا هو السبب نفسه الذي يجعلنا نمنحهم وجبة غداء رائعة بسعر مخفض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤