الفصل الثاني والعشرون

آن وينبلاد

مؤسِّسة مشاركة، شركتا أوبن سيستمز وهامر وينبلاد

في عام ١٩٧٦، أسست آن وينبلاد شركة أوبن سيستمز وهي شركة متخصصة في برمجيات المحاسبة بمساعدة ٥٠٠ دولار اقترضتها من شقيقها. وقد ساعد ظهور المعالج الدقيق وأول أجهزة كمبيوتر شخصية أسعارها معقولة على إتاحة فرصة جديدة أمام المبرمجين. وقد كانت وينبلاد من الجيل الأول من مؤسسي الشركات الذين توصلوا عن طريق التجربة والخطأ إلى مواصفات شركة البرمجيات الناشئة. وبعد ست سنوات باعت هي وشركاؤها في التأسيس الشركة مقابل ما يزيد عن ١٥ مليون دولار.

وفي عام ١٩٨٩ شاركت في تأسيس شركة هامر وينبلاد فنتشر بارتنرز، أول شركة رءوس أموال مخاطرة تركز حصريًّا على البرمجيات. وعلى مدى السنين منذ ذلك الوقت، جرى الاستحواذ على ٤٥ شركة من الشركات التي استثمرت فيها أو طرح أسهمها للاكتتاب العام. والآن ربما تعد وينبلاد أقوى امرأة في مجال التمويل برءوس الأموال المخاطرة.

***

ليفنجستون : حدثيني قليلًا عن دراستك وخبراتك، وكيف دخلت في البداية إلى عالم البرمجيات، ولمَ فكرت في البداية في تأسيس شركتك الخاصة؟
وينبلاد : لقد كان لزامًا عليَّ دائمًا أن أتوصل إلى طرق لكسب العيش وتحسين دخلي، حتى عندما كنت فتاة صغيرة. فقد نشأت الأخت الكبرى من بين ستة أطفال. وكان والدي مدرب كرة سلة في مدرسة ثانوية ومدرس دراسات اجتماعية. وكانت والدتي ممرضة. ولم تكن تعمل عندما كنت فتاة صغيرة لأني كان لديَّ أربع شقيقات وشقيق وكانوا أصغر مني. وحتى نتمكن من توفير نقود إضافية، كان علينا دائمًا البحث عن طرق لكسبها. وكنت أحاول دائمًا البحث عن طرق للانتفاع من أي شيء كمصدر للنقود كي أذهب إلى السينما أو أشتري ملابس أو أشياء لا يمكن أن يوفرها دخل أسرة من الطبقة المتوسطة.
وقد أُتيحت لي فرصة غير عادية عندما التحقت بالجامعة. فقد انتقوا الطلاب الذين أحرزوا درجات عالية في اختبار الالتحاق بالجامعة والطلاب المتفوقين ليكونوا طلابًا «تجريبيين». ونتيجة لذلك لم أضطر لدراسة المواد التمهيدية، مما سمح لي بأن أدرس الكثير من البرامج التعليمية أكثر من معظم الطلاب. وأتيحت لي الفرصة أن أفعل ما أريد. فإذا أردت دراسة مادة حتى لو لم تكن تخصصي المعلن، كان عليهم الموافقة على ذلك. وفي كليات الآداب الحرة في ذلك الوقت كان من الصعب للغاية أن تتخصصي في مجالين مختلفين؛ لأنه عندما ينهي الطالب المواد التمهيدية لوضع أسس دراسته للآداب الحرة، لا يتسنى له وقت إلا للتخصص في مجال واحد. ومن ثَم فقد تمكنت من التخصص في الرياضيات وإدارة الأعمال معًا فضلًا عن التسجيل في مجموعة كاملة من المواد الدراسية الأخرى، مثل علوم الكمبيوتر والتمثيل، وهو ما لم يكن يفعله معظم الطلاب.

وفي السبعينيات في المنطقة التي تضم مدينتي سانت بول ومينيابوليس، كانت هناك عدة جامعات حديثة ناجحة مثل جامعة سانت توماس، وجامعة ماكاليستر، وجامعة سانت كاثرين، وجامعة أوجسبورج، وجامعة هاملين. وكانت تطبق ما يطلق عليه البرنامج التعاوني فيما بينها. وكانت جميعًا تقع على بعد بضعة أميال بعضها من بعض بالقرب من شارع ساميت أفنيو في سانت بول. وكان يمكن الالتحاق بدورات في جميع هذه الجامعات. ومن ثَم لما كنت غير مضطرة أن تقتصر دراستي على جامعتي فحسب ولديَّ تصريح لأي شيء، قررت أن أتخصص، إلى جانب الرياضيات التي كنت أنوي التخصص فيها، في إدارة الأعمال أيضًا. وقررت أيضًا الالتحاق بدورات في علوم الكمبيوتر. وكان الجمع بين التخصص في الرياضيات والعلوم ثم التعرف على إدارة الأعمال — بدلًا من الانتظار والانضمام فيما بعد إلى دورات في إدارة الأعمال مثل دراسة ماجستير إدارة الأعمال — أمرًا مبهرًا لي.

عندما التحقت بدورات المحاسبة في تخصُّص إدارة الأعمال، وكان كل الفتية في الصف — إذ إني كنت الفتاة الوحيدة — يصيبهم الذعر لعجزهم عن احتساب الحسابات الدائنة والمدينة، بينما كنت أنا أدرس نظرية المجموعات في تخصصي في مجال الرياضيات، وخطر لي أنه يمكنني اقتحام مجال الأعمال بسهولة. ولم أكن أعلم شيئًا عن عالم الأعمال. وكان أحد أعمامي مهندسًا معماريًّا ولديه شركة خاصة كانت تمثل كل علاقتي بعالم الأعمال. ومن ثَم لم تكن هناك أدنى فكرة عن كيفية تأسيس الشركات، وفي ذلك الوقت لم تكن تُنظم دورات في تأسيس الشركات. ونظرًا لأني كنت أجهل الكثير شعرت أنني على أتم استعداد، وكان ذلك من منطلق إيماني بقدرتي على تحدي الصعاب. وقلت لنفسي: «لقد تخصصت في إدارة الأعمال، وفي الرياضيات. فلا بد أني مستعدة.» ولم يكن لديهم تخصص في علوم الكمبيوتر، لكني درست جميع المواد. وفي النهاية، حصلت على عدد كافٍ من الدرجات التي تتيح لي التخرج، لكن كان لديَّ وقت إضافي، وفكرت في طريقة تجعلني متعددة الخبرات والقدرات. ولذلك قررت الالتحاق ببعض دورات التمثيل.

لقد حاولت فعلًا أن أكون متعددة الخبرات والمهارات، فلا يمكنك تصور مدى افتقار الطلاب قبل التخرج للمهارات المطلوبة. إذ يفتقرون لأي معرفة تجريبية من أي نوع. فلم يكن يطبق نظام الفترات التدريبية التي يحظى بها الآن جميع الطلاب في جامعة سانت توماس. ولم يكن لدينا رحلات دولية، ولا فصول دراسية بالخارج. أي إن الطالب الذي كان يتخرج في السبعينيات كان أكثر سذاجة بكثير، حتى إذا كان متخصصًا في مجالين ولديه مجال إضافي، إلى جانب بعض المواد الأخرى. لكني شعرت بأنني لديَّ مهارات كافية.

كانت بداية السبعينيات فترة تميزت بصعود سياسة التمييز الإيجابي، التي تقضي بإجبار الشركات على توظيف النساء. وقد أجريت مقابلات شخصية لعدد من الوظائف الرائعة، وأعجبتني إحدى تلك الوظائف وكانت في البنك الاحتياطي الفيدرالي. وكان يقع في بناية جديدة للغاية، بناها أحد المصممين العاملين تحت إشراف المعماري يو مينج باي. وكان رئيس البنك شابًّا. وكان يتميز البنك بأحدث وأفضل الأجهزة والبرمجيات والأثاث في ذلك الوقت، فقلت في نفسي: «أنا سعيدة لحصولي على فرصة للعمل في هذا المكان الجديد الرائع، ألا وهو البنك الاحتياطي الفيدرالي.» وهذه العبارة تبدو الآن متناقضة مع نفسها. إذ إن الحقيقة هي أنه فيما يتعلق بكل الوظائف المدرجة ضمن خطة سياسة التمييز الإيجابي، إذا لم تكن المتقدمة لتلك الوظائف مؤهلة لها فعلًا، فستفشل. وكانت هناك فجوة بين المهارات والوظائف؛ لأنهم اضطروا لتعييننا، كما اضطروا لتعييننا في وظائف تصلح لأكثر من تخصص بهدف توظيف النساء. وفي الحقيقة، درست للحصول على شهادة الماجستير ليلًا وفي أيام السبت أثناء فترة عملي في البنك الاحتياطي الفيدرالي، وكنت أنا ثاني امرأة فقط في النظام المصرفي الاحتياطي الفيدرالي بأسره التي تحمل درجة ماجستير. وكان ذلك على مستوى النظام الفيدرالي بأسره!

وعندما التحقت بالعمل هناك، كانت أول تجربة عمل حقيقية لي، مع أني سبق لي العمل في وظائف لنصف دوام. لكني لم يكن قد سبق لي العمل في مؤسسة قط، وسرني للغاية أن يكون لي مكتب. هذا علاوة على أن مينيابوليس مدينة نابضة بالحياة والحركة. ففيها المركز التجاري نيكوليت مول، ويقع البنك في منطقة وسط المدينة. فكان الأمر أشبه بالحصول على وظيفة في سان فرانسيسكو.

لكنها لم تكن تجربة ملهمة. فلم يكن أحد متلهفًا لبدء أي نشاط. وفي الواقع لا أذكر … كنت متأكدة أنني سأستقيل لكني لا أذكر اللحظة التي فكرت فيها أن أستقيل وأؤسس شركة. ومع ذلك كنت أشعر بحماس شديد، فكنت أقول لنفسي: «إنها ليست بالمهمة الصعبة. بل إنها تمثل خطوة مهمة، وقد حصلت بالفعل على ترقية في الشهور الثلاثة الأولى، وأثق أن بإمكاني تحقيق ربح. ويمكنني العودة إلى وظيفتي في أي وقت، فلمَ لا أنطلق من هنا؟» وبالنسبة للثلاثة الآخرين من البنك الاحتياطي الذين أسسوا الشركة معي، استقال أحدهم من عمله والآخران أخذا إجازة بدون راتب لمدة عام تحسبًا لعدم نجاح المشروع. أي أنهما أخذا احتياطهما.

إننا لم نكن مجموعة من المتحمسين الذين نقول: «دعونا نؤسس شركة. لنفعل ذلك. دعونا نبني كيانًا من نقطة الصفر.» لقد مر وقت طويل على هذا الآن حتى إنني لا أتذكر سوى الشعور العام بأنه لم يكن لدينا الكثير لنخاطر به. فأنا مدربة تمامًا على مواجهة أي شيء قد يظهر في طريقي. وبالطبع كان كل ذلك غير حقيقي؛ فهناك نسبة مخاطرة كبيرة، ولا يكون المرء مستعدًّا كما ينبغي … كل ما في الأمر أنه ينبغي أن يكون لديه قدرة كبيرة على التكيف مع ما قد يطرأ من ظروف جديدة. واتضح أنني أتمتع بهذه القدرة. لكنني لم أدرك ذلك إلا حين أسست الشركة، لكنه كان شعورًا بعدم الخوف لا أكثر. فكنت أسأل نفسي: «ما المجازفة التي ينطوي عليها الأمر؟ ماذا لديَّ لأخسره؟ أنا واثقة أن بإمكاني تحقيق هذا.» لم يكن ذلك غرورًا، بل هي تلك اللحظة التي تشعرين فيها وأنت في ريعان شبابك أن لديك القدرة على تحقيق الإنجازات.

وأظن أن ما يميز بعض مؤسسي الأعمال عن غيرهم من مؤسسي الأعمال هو أنهم لا يفرطون في الاستسلام للشعور بالقلق. فهم لا يقلقون حيال المجهول. ولا يقلقون حيال المخاطر التي ستواجههم مستقبلًا. لكن مع تقدم المرء في العمر وازدياد خبرته، فإنه يدرب نفسه على التفكير سلفًا في المخاطر التي سيواجهها بدلًا من الاندفاع إلى أقرب الحلول. لكن الذين يعزفون عن المجازفة ولا يقدمون على تأسيس شركات يمثل لهم الأمر مشكلة كبيرة. فهم يحتاجون إلى مستوى معين من الأمان.

وهذه سمة نبحث عنها في مؤسسي الشركات؛ أن تكون لديهم الشجاعة للتنفيذ. أن تكون لديهم القدرة على الحكم على موقف المشروع. والقدرة على القيادة. والقدرة على التفاعل مع السوق وإدراج الثقة كجزء لا يتجزأ من الاستراتيجية.
ليفنجستون : قرأت أنكم بدأتم في الأساس كشركة استشارية، وكنتم تعملون على مشروع الشركة «الحقيقية» ليلًا، مع أنكم لم تتوصلوا بالضبط إلى طبيعة النشاط الذي تنوون القيام به.
وينبلاد : نعم. هذا صحيح، لأنه لم يكن لدى أي منا أي أموال. فلم تكن هناك شركة مثل واي كومبيناتور كي تمنحنا حتى ٦ آلاف دولار. وفي الواقع، لقد استنفدت كل مدخراتي على رسوم التأسيس، ثم كنت لا أزال أحتاج إلى خمسمائة دولار، والتي اضطررت لاقتراضها من شقيقي الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية. لكنه كان يعمل. وكان هو الشخص الوحيد الذي أعرفه ولديه ٥٠٠ دولار. ومن ثَم كان علينا البحث عن طريقة لتغطية نفقاتنا.
ورأينا الكثير من مؤسسي الشركات يفعلون هذا. إذ يبحثون عن طريقة لكسب بعض المال، ولكنهم لا يغيرون رأيهم … فيبحثون عن طريقة لفصل ذلك عن المشروع نفسه. ويحاول مؤسسو الشركات مزج الاثنين معًا، وذلك بأن يحاولوا التنازل عن بعض ما يميز طبيعة المشروع الأصلي بهدف ربح المزيد من النقود بدلًا من محاولة البحث عن طريقة للحصول على النقود التي تكفي فقط لتغطية نفقات المشروع الأصلي دون المساس بمضمونه. لكن عليهم القيام ببعض الأمور غير التقليدية للبدء، وهذا ما فعلناه.

فقد وقع الاختيار علينا بموجب عطاء طلب تقديم عروض لتصميم نظام لمعالجة المعلومات المالية الخاصة بالطلاب لمدرسة مهنية في ولاية مينيسوتا، وهو ما ساعدنا على التركيز على ما كنا سنقوم به. واضطررنا لأن نسأل أنفسنا: «حسنًا، ما مدى براعتنا في المحاسبة؟» وهي لا علاقة لها بتسجيل حسابات الطلاب؛ فقد كان المشروع نظمًا تقييمية ترتبط بتسجيل حسابات الطلاب. لقد كانت فرصة تأتي مرة واحدة. وقد علمتنا أيضًا كيف يمكننا أن نبخس مشروعًا قدره، وكيف يمكننا إدارة مشروع، وكيف يمكننا التعامل مع المهندسين، وكيف يمكننا إدارة وقتنا. وهكذا حصلنا على أجر مقابل التعلم ونحن نقوم بعملنا. وإننا جميعًا ندين بالفضل لذلك الشخص الذي أقبل على مخاطرة التعامل مع أشخاص يبدون كالأطفال وليس لديهم أي خبرة عملية سوى … الشبان الثلاثة الآخرون عملوا في البنك الاحتياطي الفيدرالي لوقت أطول. وكان كل منهم يكبرني بأربع سنوات، ومن ثَم كانت خبرتهم العملية ثلاث سنوات ونصف في حين كانت خبرتي ١٣ شهرًا.

وكنا نبالغ في القلق حيال ما ننوي القيام به. وحين أصبح الأمر في النهاية يتلخص في المهارات الخاصة التي نمتلكها، عدنا ندرس المحاسبة وفتحنا كتب المحاسبة التي درسناها في الجامعة وقررنا أن نبدأ في عملية البرمجة من الصفر ونصمم نظم محاسبة تناسب أجهزة الكمبيوتر الصغيرة.
ليفنجستون : هل كان هذا قبل ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية؟
وينبلاد : كانت قد بدأت تظهر بسرعة. وكانت الأجهزة التي يصنعها الهواة قد ظهرت من قبل. كان ذلك عام ١٩٧٥، تذكري أن ذلك هو العام الذي تأسست فيه مايكروسوفت وكانت تكتب لغة بيسك لأجهزة الكمبيوتر الصغيرة. ولم نكن نتمتع بمهارات تجميع مثل بيل وبول على الأرجح. كما أننا بالطبع لم نكن نعمل على مستوى النظم ونكتب نظم التشغيل ولغات البرمجة، لذا طبقنا في البداية مهاراتنا على جهاز كمبيوتر صغير. ولم يكن يستخدم المعالجات المتوافرة في الأسواق. فكان يشبه إلى حد بعيد ما يكون عليه أحدث وأغلى أجهزة الكمبيوتر المتوافرة حاليًّا.
فقد تمكنا من تفادي عصر كامل من أجهزة الكمبيوتر التي اختفت دون أثر. وكانت مايكروسوفت تتحدث عن اختفاء أول ٨٠ من عملائها. ونحن أيضًا كان لدينا عملاء اختفوا عن الساحة، لكن كان عددهم قليلًا للغاية. انتقلنا إلى سوق الكمبيوتر الشخصي وقت ظهور المعالج ٨٠٨٠ إيه — الذي كان أول معالج تنتجه إنتل على المستوى التجاري — في كمبيوتر يطلق عليه كادو. وكانت الشركة تقع في مدينة تورانس بولاية كاليفورنيا وتمولها شركة سيكويا. وكان ذلك عام ١٩٧٨ تقريبًا، أو ربما ١٩٧٧. وكانت الشركة تستخدم معالجات تجارية — أول معالجات تنتجها شركة إنتل — لكن كانت تستخدم نظام تشغيل كان ملكية خاصة بها. ونتيجة لذلك، كان علينا أن نبحث عن جهة نشتري منها لغة برمجة لأن لغة بيسك التي تنتجها مايكروسوفت كانت ضعيفة للغاية، ولم يكن بإمكاننا برمجة نظام محاسبة قوي بها. فتعاونا مع جهة منتجة للغات البرمجة لدمج برنامجها المفسر في منتجنا، وهكذا بعنا منتجنا مع برنامج مفسر. وكان سريعًا للغاية ومن ثَم لم يضطر للتعامل مع لغات مايكروسوفت المبكرة قط، وهو ما كان أمرًا إيجابيًّا لأنه لم تكن هناك تعاملات تجارية في مجال تطبيقات البرامج. فالشركات المنتجة للتطبيقات التي ظهرت في ذلك الوقت كانت كلها قد أغلقت أبوابها أيضًا.

وقد أسهمت الثلاثة عشر شهرًا التي قضيتها في البنك الفيدرالي والسنوات الثلاث التي قضاها الآخرون في حصولنا على خبرة كبيرة في مجال الكمبيوتر مقارنة بمعظم أوائل مؤسسي الشركات في هذا المجال. فقد كانوا يبرمجون على أجهزة كمبيوتر بدائية؛ إذ كانوا مبرمجين هواة يعمل كل منهم من مرأب منزله. لقد كنا جيلًا جديدًا يظهر على الساحة، وصادف أننا تمكنا من التميز، ومع أننا لم نكن نختلف في السن عن هؤلاء الذين بدءُوا العمل في المجال في العام الأخير، فقد حصدنا بعض المعرفة الحقيقية بعلوم الكمبيوتر وقد جنبنا هذا المخاطر حقًّا وجعلنا غير مضطرين لإعادة تأسيس الشركة. وبدأنا نحقق معدل نمو ثابت منذ البداية.
ليفنجستون : هل تذكرين أي نقاط تحول رئيسية؟
وينبلاد : حدثت أشياء كثيرة. في بعض الأحيان تبدو كأنها قضاء وقدر.
كنا ننفذ ذلك العمل لمتخصصي الكمبيوتر في كادو. وكانت هناك أشياء كثيرة لم تكن لدينا دراية بها، مثل استراتيجية التسعير، أو طريقة تحصيل الأموال من الناس. أذكر حدثًا غريبًا أثناء عملنا مع كادو حين قالوا لنا: «إننا نعتزم دعوة جميع الموزعين الذين نتعامل معهم للحضور. وباعتباركم الشركة المنتجة للتطبيق، نرجو منكم الحضور وتقديم عرض تقديمي أمامهم للترويج لمنتجكم.»

وهكذا وقفت أمام ستين أو سبعين شخصًا وكانوا جميعًا على الأرجح في الخمسينيات من أعمارهم وأنا في العشرينيات من عمري، وقدمت لهم عرضًا مميزًا حيث أخبرتهم: «إذا منحتموني اليوم شيكًا بعشرة آلاف دولار، يمكن أن تحصلوا على حقوق غير محدودة للاستفادة بإحدى الوحدات التي ننتجها»، وكنت أقصد برنامجًا يؤدي مهام دفتر الأستاذ العام أو شيئًا من هذا القبيل. ثم أضفت: «لكن يجب أن تحرروا لي الشيك اليوم.» فتطلعوا إليَّ بنظرة تنم عن اعتقادهم بأنني حمقاء، فقلت لنفسي: «ربما لا يصدقون هذا العرض الرائع.» (وهذا لسذاجتي.) فقال أحدهم: «إننا لا نحمل دفاتر شيكات العمل معنا.» فقلت: «إذن لا بد أنكم تحملون دفاتر الشيكات الشخصية.» فأجابوا بالإيجاب. وكنت أنا أفكر كيف سيدفعون لنا. فقلت: «أنا واثقة من أن شركاتكم ستعوضكم، وإذا أردتم يمكنكم وضع ملحوظة بألا يصرف الشيك إلا يوم الاثنين، لكني أريد هذا الشيك اليوم.» فنظر إليَّ العاملون بالشركة في حيرة.

أذكر ذلك اليوم جيدًا … كان ذلك في الجانب الخلفي من مستودع؛ لأنهم كانوا يصنعون أجهزة الكمبيوتر تلك، وكان المكان مبنى كبيرًا في مدينة تورانس، وكان الجو لطيفًا ومشمسًا هناك. وقد منحوني صندوقًا لأقف عليه لأن المنصة كانت ضخمة عليَّ. فوقفت على ذلك الصندوق وبدأت أتناول مواصفات المنتج، وقال جورج رايان، الرئيس التنفيذي: «سنأخذ استراحة الآن.» ثم قال: «وبعد الاستراحة يا آن عليكِ أن تحاولي إضفاء المزيد من الحيوية على أسلوبك. فإن لم تتذأَّبي بين الذئاب، أكلتكِ.» وقد ساعدني هذا في الواقع كي أطلب عشرة آلاف دولار.

كان جورج رايان رجل مبيعات رائعًا. وكانت معه فتاة تقف في ذلك اليوم وهي تروج للبرنامج بنشاط، فيقول هؤلاء إنهم لا يستطيعون تحرير شيك. فأرد أنا قائلة: «ألن تعوضكم شركاتكم؟» وأظن أنني نجحت في الحصول يومئذٍ على ١٢ أو ١٥ شيكًا قيمة كل منها عشرة آلاف دولار. وبالنسبة لشركة صغيرة، بدا هذا مثل منجم ذهب. فقد أصبح لدينا ١٢٠ ألف دولار، دفعةً واحدة! وهكذا كانت هذه تجربة مؤثرة … بالطبع لن تُجدي حاليًّا أشياء مثل هذه. لقد كان ذلك القطاع سوقًا تفتقر بشدة إلى الخبرة، وكنا نحن خيارهم الوحيد. وعندما أفكر فيما حدث، على الأرجح أعتقد أن نصف الحاضرين قد حرروا لي الشيك بدافع رغبتهم في أن أحقق نجاحًا.

وأظن أن هناك أمرًا لا يقدره الناس حق قدره، وهو أن هناك دائمًا من يؤازرونك. وهذا على الأرجح جزء مما ينبغي للمرء تنميته. وفي الأغلب عاد هؤلاء إلى مكاتبهم وقالوا: «لقد حصلنا على صفقة رائعة بشأن هذا البرنامج، وتلك الشركة الصغيرة الرائعة التي تدعى أوبن سيستمز، وأظن أن هؤلاء قد يحققون نجاحًا. وتلك الفتاة التي وقفت كانت تتمتع بالجرأة — أو الغباء — إلى حد أن تطلب من كل منا أن يحرر شيكًا قيمته عشرة آلاف دولار.»

لقد كان نصرًا رائعًا ولم يكن لدينا هواتف خلوية في ذلك الوقت، فتحدثت إليهم من هاتف عمومي في المطار وأخبرتهم: «لديَّ في حقيبتي ١٢٠ ألف دولار!» لقد قمنا بالعديد من الأشياء المبتكرة التي عندما ننظر إليها الآن يتضح أنها كانت تنم عن تفكير عميق. لقد حالفني الحظ في أننا أنا وأولئك الثلاثة كنا يتحدى بعضنا بعضًا قليلًا، وأنه لم يظن أي منا أن فكرته أفضل من فكرة الآخر. ومن ثَم كنا ندرس أفكارنا مليًّا ونقارن بينها ثم نحدد من منا الذي «يفوز»، سواء على مستوى أفضل استراتيجية أو فكرة أو أي شيء. وأعتقد أن المرء يكون محظوظًا للغاية إذا كان منذ وقت مبكر جزءًا من فريق عمل متآلف لا يقبل أحد فيه أن تلقى المسئولية كلها على عاتق أحد أفراده وحده. ويكون محظوظًا أيضًا أن يعمل الجميع من البداية كفريق عمل.

عندما نمول شركات في المراحل الأولى، يظل فريق العمل من أهم جوانب الأمر، مع أنه في معظم الحالات يكون هناك رئيس تنفيذي محدد للكيان. وهذا هو ما نبحث عنه، وهو هل هناك فريق عمل منذ البداية يجدف أفراده بمجاديفهم وينتبهون إلى الاتجاه الذي يتخذه القارب الذي يستقلونه ويخاف كل منهم على الآخر؟ فيجب ألا يقتصر الأمر على وضع أفراد الفريق مخططًا تنظيميًّا للشركة واختيار أحدهم لقيادتهم فحسب.

كان لدينا مكتب في بناية سكنية، وعند أول إجازة حقيقية أخذتها تلقيت اتصالًا هاتفيًّا يفيد بأن حريقًا قد نشب، وهو ما كان بالطبع إشارة إلى ضرورة انتقالنا من البناية. وقد التهمت النيران خطابات التشجيع القديمة والكتب السنوية القديمة والتذكارات، لكنها — وعلى نحو أقرب للمعجزات — لم تمس أيًّا من أجهزة الكمبيوتر أو البرامج الخاصة بنا.

وقد تقبلنا الأمر؛ إذ إن النيران التهمت أشياء غير مفيدة. بالطبع من الرائع أن تكون لدينا هذه الأشياء، لكن المرء لا يتطلع إليها إلا مرة كل ثلاثين عامًا.
ليفنجستون : كيف نشبت النيران؟
وينبلاد : لقد اندلعت في وحدة تكييف في ظهر البناية. وكانت بسبب عطل في التوصيلات الكهربائية. كانت البناية قد شُيدت في العشرينيات وكانت بناية رخيصة. وكانت الشقة بها خمس غرف نوم استأجرتها في منطقة جميلة في مينيابوليس يُطلَق عليها كينوود، لكنها كانت بناية مزرية. كانت أرضياتها خشبية جميلة، وبها عدد كبير من الغرف وغرفة طعام كبيرة وغرفة معيشة. وكانت غرفة الطعام هي غرفة الكمبيوتر، والمطبخ كان كبيرًا. ومن ثَم كان لدينا أربعة مكاتب بالإضافة إلى غرفة نومي التي كنت أستخدمها كمكتب بعد ترتيبها كل يوم. ثم قسمنا غرفة المعيشة إلى وحدات مكاتب لباقي الموظفين، لكن كان ذلك هو أكثر وقت مناسب للانتقال من هناك. إذ كان ذلك الموقف من المراحل الحاسمة التي يضطر فيها المرء لاتخاذ قرار. فقررت أن علينا الانتقال إلى مكتب حقيقي.
ولعل ذلك يساعد على تغيير السلوك الحقيقي للشركة. ففور أن يبدأ المرء الالتزام بالإيجارات والأثاث وميزانية رأسمالية، لا شك أن ذلك يغير إيقاع عمل الشركة للأفضل. فلا يمكن الاستمرار في وجود الشركة افتراضيًّا إلا لوقت قصير للغاية.
ليفنجستون : هل حدث أن أساء الناس فهم ما تقومون به لأنه كان جديدًا للغاية؟
وينبلاد : ظن والداي أن قراري بالاستقالة غير مقبول بالمرة لأني كنت أحظى بوظيفة رفيعة في البنك الاحتياطي الفيدرالي وأذهب للعمل يوميًّا من شقتي إلى ذلك البنك الجميل وحصلت على ترقية وادخرت مبلغًا كبيرًا من المال مقارنة بمن هم في سني. فلمَ عساي أن أستقيل؟ وكان من الصعب جدًّا توضيح طبيعة نشاطنا لغير العاملين في مجال البرمجيات المحدود جدًّا. فلم يكن الناس يسألون، بل لم يكن أحد يتحدث معنا.
وفي الحفلات المقامة بمناسبة عيد الشكر كنت أجد من يقول لي: «ما عملك مرة أخرى؟ … آه، حسنًا، شكرًا لك، يبدو عملًا مثيرًا للاهتمام.» وكانت مينيسوتا في ذلك الوقت تختلف كثيرًا عن هنا. فلم يكن الناس معتادين على ترك وظائفهم وتأسيس مثل هذه الشركات.

ومع ذلك، فما إن أصبحت صاحبة شركة، حتى بدأت أحس وكأنني قد تحولت إلى مخلوقة من كوكب آخر. ثم بدأت أكتشف أن هناك مخلوقات من كوكب آخر غيري! ها هم وقد قاموا بنفس ما قمت به. تُرى كيف قاموا بذلك؟ وكان من الصعب الحديث عن الأمر، في معظم الأحوال … فلم يكن من الممكن الحصول على نصيحة من أحدٍ منهم. وكنت تسمعين تعليقات مثل: «ماذا ستفعلين بشركة البرمجيات هذه؟» «ما المقصود بشركة برمجيات؟» لقد كان مجالًا وليدًا، وأعتقد أنها هبة حقًّا أن تنضمي إلى مجال وليد يصبح فيما بعد مجالًا حقيقيًّا. فإذا كنت في مرحلة تكوين فريق العمل، قد ترتكبين مئات الأخطاء. وذلك لعدم وجود من ينافسك أو يضايقك. فقد كان مجالًا جديدًا تمامًا.
ليفنجستون : هل كان هناك منافسون يثيرون قلقك؟
وينبلاد : لم نقلق قط من المنافسين. لقد ظهرت، بمرور الوقت، شركات أخرى بدأت تقدم خدمات مختلفة فيما كان يطلق عليه «برمجيات المحاسبة». لكن لم تكن تحظى أي شركة بنصيب في السوق، فكانت نسبة ١٠٠ بالمائة متاحة للجميع، ولم يكن من المفترض أن نحصل نحن على تلك النسبة كلها على أي حال. ومن ثَم لم يكن المجال تسيطر عليه المنافسة.
وعندما دخلنا عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كان من الواضح أننا يجب أن نحاول البحث عن نقاط تميز للشركة بدلًا من مجرد تنفيذ العمل وحدنا، وأن نحاول أيضًا التعلم من نجاح الشركات الأخرى. ولم تكن هناك منافسة مباشرة للاستئثار بالعملاء، لأنه يمكن أن نتجه إلى فئة معينة من العملاء ويمكن أن يتجه الآخرون إلى فئة أخرى من العملاء. كان هناك معرض يطلق عليه كومدكس والذي قد توقف في الوقت الحالي، وكان الجميع يبيعون منتجاتهم عبر موزعي منتجات كمبيوتر، ثم بعد ذلك بفترة وجيزة، محال البيع بالتجزئة مثل كمبيوتر لاند أو بزنس لاند. وكان معرض كومدكس هو أفضل شيء صادفنا. فكان الجميع يحضرونه. وكان صغيرًا في البداية، فكان يقام في مركز هيلتون للمؤتمرات في لاس فيجاس. وقد مررنا ببعض التجارب المفيدة حقًّا هناك لأننا اضطررنا أن نقرر ما إذا كان يجب أن ننفق مبلغًا كبيرًا على إقامة كشك عرض لطيف بالمعرض.

ولكن كيف نقيم كشك عرض بغرض المشاركة في معرض تجاري؟ من ينبغي أن نستشيره؟ لا أحد يدري. لذا بدأنا نبحث عن شخص سبق له قبل ذلك إقامة أكشاك عرض بغرض المشاركة في معارض تجارية، ووجدنا امرأة. وكانت تدعى بيتي. وليس لديَّ أدنى فكرة عما حدث لبيتي الآن لأنها كانت على الأرجح في الستينيات من عمرها آنذاك، ومن ثَم فلا بد أنها في التسعينيات الآن.

كانت بيتي امرأة يُعتمد عليها — وكانت صغيرة الحجم وشديدة البراعة — وقالت: «بالطبع، إنني مستعدة لبناء كشك عرض لكم.» فقلنا لها: «حسنًا»، ولم نعِر الأمر أي اهتمام. فبنت هي كشكًا من الخشب الخالص. ولم يكن خشبًا رقائقيًّا بل مثل خشب البلوط. كان جميلًا وبه لافتات نيون. ثم سمعت من يقول: «والآن علينا شحنه.» هل تعرفون كم تكلفة شحن كشك خشبي من مينيسوتا إلى لاس فيجاس؟»

وبالطبع لم نكن نعرف أنه عندما تذهبين إلى كومدكس، يصبح لزامًا عليك أن تستعيني بمتعهد إذا ما كنت تريدين وضع أصيص نبات، وبمتعهد آخر إذا كنت تريدين توصيل أي جهاز بالكهرباء، أما إذا كان لديك لافتات نيون فلا بد أن تستعيني بمتعهد ثالث. وهكذا في أول حضور لنا في معرض كومدكس، قررت أن أذهب مبكرًا لأطمئن على وصول الكشك الخشبي الضخم وكيف يبدو وكيف سنرتب المعروضات داخله. فتجولت في أنحاء القاعة وأنا أقول لنفسي: «هذا كشك منافسنا. عجبًا، لقد وضعوا جميع معروضاتهم من الآن (وكان ذلك الليلة السابقة للمعرض)، سأقرأ ما كُتب عليها.» وهكذا ظللت أنتقل من كشك لكشك وأقرأ جميع ما كُتب على معروضات المنافسين. ثم خطر لي أنهم قد يكونون هم أيضًا قد جاءوا إلى هنا، وأقنعت نفسي أنني لا أتلصص. فالمسألة منافسة شريفة.

وهكذا قررت أن أسرع إلى الكشك الخاص بنا لأطلب منهم ألا يضعوا أي شيء بالخارج إلا في ساعات المعرض، لأنه من الواضح أن هؤلاء المنافسين ليسوا على قدر كبير من الذكاء في وضع معروضاتهم هكذا، لكنهم قد يصبحون أكثر ذكاءً نهارًا. وعندما اقتربت من كشكنا، رأيت طبيبًا وأضواء كثيرة، فخطر لي أن بيتي ربما تكون قد تعرضت لأزمة قلبية. لأن من هم في الستينيات حينئذٍ كانوا يبدون وكأنهم قد بلغوا المائة. واتضح أن هناك برجًا طويلًا — برجًا من الخشب الخالص — ويحمل لافتة نيون كبيرة مكتوبًا عليها «أوبن سيستمز». وقد تطلب الأمر استخدام رافعة صغيرة لرفعها وتوصيلها. وعندما كان الشخص الذي يعمل على الرافعة يوصل اللافتة النيون سقط في البرج على رأسه، وعلق في مكانه. وكان الطبيب يريد أن يشطر البرج إلى نصفين بالمنشار كي يخرجه. لكن بيتي كانت تحتضن الكشك وهي تقول: «سيتسبب ذلك في تدمير الكشك!»

فقلت بيني وبين نفسي: «يا ألله! لقد أنفقت على هذا الشيء نقودًا أكثر مما كنت أتخيل. وشحنت هذا الشيء الثقيل من أقصى البلاد في مينيابوليس إلى لاس فيجاس. وأنا الوحيدة التي لديها كشك من الخشب الخالص هنا، وهو جميل، ولكن من الخشب الخالص. والآن يريد شخص أن يشطره بالمنشار.» فسألتهم: «هل الرجل يُحتضَر؟» فردوا: «من الواضح أن عظمة الترقوة قد أُصيبت، ومن ثَم يمكن أن يدخل في صدمة، ولا ندري شيئًا عن حالته الصحية العامة.» فقلت: «ألا يمكنكم أن تسحبوه من قدميه؟» وبالطبع تسبب ذلك في تحطم اللافتة النيون بالكامل. وجذبوه من قدميه وأخرجوه دون أن يستخدموا المنشار ويشطروا الكشك إلى نصفين ولم يعد لدينا لافتات. ومن ثَم أصبح لدينا كشك من الخشب الخالص لكن بدون لافتات.

فقالت بيتي: «سأستدعي من يصلح اللافتة النيون. فنحن في لاس فيجاس.» واتضح أنه في ذلك الوقت كانت جميع أعمال النيون تتم في لوس أنجلوس. ومن ثَم كان علينا الاستعانة بمن يصنع لنا على الفور لافتة نيون جديدة مقابل آلاف الدولارات في عشية وضحاها. لقد عانينا حقًّا بسبب ذلك الكشك.

يمكن أن أقص عليك الكثير والكثير من الأمور التي يتعلَّمها المرء في العمل … كان علينا أن نغلف برامجنا بأغلفة بلاستيكية شفافة كي نوصلها لمتاجر البيع بالتجزئة. ولم تكن لدينا دراية عن طريقة التغليف بالبلاستيك الشفاف. لكنني أعلم الآن. واضطررنا لشراء ماكينات تغليف. ولم تكن لدينا فكرة عن المكان الذي يمكننا شراؤها منه. لذا بدأنا نبحث في الإعلانات المبوبة للأغراض الصناعية، ووجدنا شركة بيتزا كانت قد أغلقت أبوابها وتعرض آلة تغليف للبيع. فوضعناها في غرفة خلفية، وكلما كان علينا أن نشحن مائة منتج ذهبنا إلى تلك الغرفة وغلفناها فتصبح رائحة المكتب مثل الجبن المحروق. فنقرر أن نحاول أن نؤجل ذلك لبعد ساعات العمل حتى لا تصبح رائحة المكتب بأكمله مثل الجبن المحروق. وفيما بعد أصبح لدينا رافعات وسيور متحركة وكل ما يلزم لأنه كان لدينا مجموعات من البرامج كان علينا شحنها إلى جميع أنحاء البلاد. ولم أدرس في الجامعة عن أي من ذلك.
ليفنجستون : ألم يوجد أي موجِّهين؟ أقصد من سبق لهم خوض تجربة مماثلة من قبلُ؟
وينبلاد : كانت تجربة جديدة تمامًا. وكان لديَّ الكثير من الموجهين الذين عملوا في إدارة الأعمال، فقد كان لدينا محامٍ رائع. لكنه لم يسبق له قط تأسيس شركة برمجيات. ولم يشحن أكشاك عرض لمسافة طويلة أو يغلف برامج. أو يرخصها. ولم نجد من سبق له القيام بأي من ذلك. وكانت هناك شائعة تقول إن شركة لوتس بلغ إعجابها باقتناء ماكينات التغليف حدًّا جعلهم كلما شحنوا منتجًا جديدًا، غلفوا رئيس المبرمجين وفكوه سريعًا قبل أن يموت اختناقًا. لا أعرف ما إذا كان هذا حقيقيًّا أم قصة من وحي الخيال.
أما نحن، فلم يكن الأمر مثقلًا بالضغوط قط لأننا لم نكن نشعر بضغط المنافسين علينا. كان الأمر متعبًا وصعبًا لكنه كان ممتعًا للغاية. فكنا نتوق دائمًا لمعرفة الخطوة التالية.
ليفنجستون : هل جاء عليك وقت قررتِ فيه الانسحاب؟
وينبلاد : كلا. فالمرء يتعلم أيضًا كيف يستفيد أقصى استفادة من وقته، ويبرع في هذا. والبعض ينفذ ذلك بطريقة خاطئة؛ فأرى مؤسسي أعمال يقررون الاستيقاظ مبكرًا أكثر من المعتاد والسهر أكثر من المعتاد. أما أنا فكنت أضع الأشياء التي ينبغي لي قراءتها على الفراش، حتى أجدها فور استيقاظي كي أقرأها، ومن ثَم كنت أستفيد من وقتي لأقصى درجة. فقد كنت شابة، والشباب يشعرون أن لديهم قدرات خارقة. لكن لا يتقن المرء القيام بذلك، وهنا يبدأ من يصبحون زملاؤنا في العمل يقولون: «لن يفلح الأمر.» وهذه أمور يحتاج فيها المرء فعلًا إلى نصيحة من صديق أو مستشار. كأن يقول له أحدهم: «من الأفضل أن تأخذ إجازة لمدة شهر حتى تفكر في الأمر مليًّا وتأخذ قسطًا من الراحة التامة ثم تحاول مرة أخرى، فهذا أفضل من التفكير في إمكانية أن تعتمد على أربع ساعات فقط من النوم كل ليلة طوال حياتك.»
ليفنجستون : حين تتذكرين ما مضى، هل ترين أنك كنت من المؤسسين التقليديين؟
وينبلاد : نعم. أظن أنني أتمتع بجميع الجوانب الجيدة والسيئة التي تميز المؤسسين التقليديين. إذ يصبح المرء بارعًا في فهم الأمور حتى إنه يفطن أن كل مشكلة لا تحتاج إلى أسلوب جديد في حلها. ويتعلم المرء أثناء عمله أيضًا، ولذلك يؤدي الكثير من المهام على نحو أقل من المطلوب. فإذا لم يكن قد سبق له إدارة موظفين من قبل، لا يتقن ذلك على الوجه الأكمل. ومن ثَم فإنه يحتاج إلى تنمية مهاراته. وأظن أن العمل في مجال التمويل المخاطر ممتع حقًّا لأنه عندما يكون لديك ثلاثون عامًا من الخبرة، يكون التحدي هو التثقيف وليس التلقين. لأنك تريدين أن يتوصل الناس إلى المعرفة بأنفسهم. وأن تضمني أنك ستتمكنين من إنقاذهم في حالة وقوعهم في مأزِق، لكنك تريدين أن يكتشفوا هم أبعاد الموقف بأنفسهم.
ويعتبر هذا أكبر تحدٍّ عند الانتقال من دور إدارة شركة إلى دور المستثمر. إذ تصبح مهمتك التثقيف والإرشاد وليس التلقين.
ليفنجستون : أترين أنكِ أصبحتِ مؤهلة للحكم على فِرَق الإدارة الناجحة لأنكِ سبق لكِ تأسيس شركة ناشئة في وقت من الأوقات؟
وينبلاد : بالطبع. لأنني أشاهد أمثلة طوال الوقت. وأنا شخصيًّا أطلب الحصول على أسماء شخصيات يمكن الرجوع إليها طلبًا لمعلومات عن شخص معين. فكلما استعددت للانضمام إلى مجلس إدارة، طلبت من أعضاء المجلس أن يمدوني بأسماء شخصيات يمكن الرجوع إليها طلبًا للمعلومات. سواء من الأصدقاء أو الزملاء أو غيرهم. وأنا أتحدث إلى هؤلاء، لكن ذلك لا يعني أن الأمر يعتمد عليهم كليًّا، لكني أقوم بذلك بدافع رغبتي في فهم الشخص. فأنا أريد أن أعرف كيف يعمل وكيف يفكر؟ كيف يوقع نفسه في المآزق؟ أو كيف يتصرف وهو واقع تحت تأثير الوجد؟ وما الظروف التي تتيح له تحقيق النجاح؟
ويتعلَّم المرء أن الناس تكتمل شخصياتهم كراشدين في وقت مبكر، ومن الصعب تغيير سلوكهم، مع أنه مِن السهل التخفيف مِن حدة سلوكيات مَن يخففون مِن وطأة نقاط ضعفهم. وطوال تلك العملية، تكتسبين مزيدًا من الدقة في فهم الناس قبل أن تستثمري معهم، لا سيما إذا كنت ستنضمين إلى مجلس الإدارة. ولا يمكنك أن تثقي بأحكامك لأن بعض الأشخاص ممثلون بارعون، لكنه من المفيد دائمًا أن نتحدث مع الشخصيات التي يمكن الرجوع إليها طلبًا لمعلومات عن شخص معين.
ليفنجستون : ما أنواع الأخطاء التي ترين أن مؤسسي الشركات الجدد يرتكبونها؟
وينبلاد : من أكبر الأخطاء هو أنه — عند تكوين شركة — يجب أن ندرك وجود فرق بين كون المرء مبتكرًا وكونه شخصًا يقوم بقيادة شركة، ولا سيما عند القيام بمهام الرئيس التنفيذي أو القائد بالتحديد. فلم يعد الأمر يقتصر على الدفاع عن نفسه. بل إنه يدافع في الحقيقة عن حملة الأسهم.
فإنه لا يدافع عن راتبه، ولا عن صافي رأس المال فقط. بل عليه أن يولي جل اهتمامه لزيادة قيمة الشركة لجميع حملة الأسهم. ويبدو هذا الكلام أقرب لما يقوله المحامون، لكنه صحيح. فالبعض لا يمكنهم قط تحقيق هذه القفزة بالكامل. ومن ثَم فليس من الضروري أن يكون الالتزام ببناء الشركة استجابة لوجود آخرين مستعدين للمساعدة في كل المراحل. مثل جورج راين في شركة كادو، الذي تحدثت عنه آنفًا؛ لقد كان يرغب في أن تحقق شركتي النجاح حتى تحقق جميع البرمجيات نجاحًا لموزعيه. وكان يريدني أن أنجح لأنني كنت عنصرًا أساسيًّا من الشركة. ومن ثَم فإنه لم يكن يهتم بي فقط، بل كان يهتم بشركتي أيضًا ويحرص على التأكد من أنني تعلمت كيف أهتم بشركتي. وهذا يحيلنا إلى قفزة «الأمر لا يتعلق بك أنت بل بشيء أكبر ألا وهو الشركة، التي تعني بمعنى أوسع حملة الأسهم، أي بمعنى أوسع العملاء، أي بمعنى أوسع الموظفين، أي بمعنى أوسع مهمتك، أي بمعنى أوسع القيم التي تضفينها على الشركة.» هناك بعض مؤسسي الشركات الذين لا يتمكنون قط من الانفكاك من أسر فكرة أن الأمر يتعلق بمصلحتهم الشخصية. وهؤلاء لا يمكنهم التحول من دور مؤسس الشركة المبتكر إلى دور مؤسس الشركة الذي يرأس الشركة.
ليفنجستون : هل يمكنك توقع هذا على نحو أفضل الآن بعد أن أصبحت لديك خبرة كبيرة كمستثمرة؟
وينبلاد : سيصبح الأمر أسهل في حالة وجود وسائل تساعد على الفهم والتقييم. فمعظم الشركات لا تمنى بالفشل لأن منافسًا ما قضى عليها. فهناك بضع حالات لشركات مُنيت بالفشل بسبب سوء تقدير للمنافسين. وهناك بضع حالات في فئة البرمجيات لم يتحقق الإنجاز التقني المطلوب للتوصل إلى منتج عالي القيمة. لكن الأغلبية العظمى من الشركات تمنى بالفشل بفعل ضربات ذاتية يتسبب فيها فريق القيادة. فكل تلك الأمور تكون تحت سيطرتك التامة. وأكبر تحدٍّ نواجهه في شركات البرمجيات يتمثل في أن القيمة الأساسية هي رأس المال الفكري. فهي أهم ما في الأمر. وعندما تشوب فريق القيادة عيوب خطيرة ولا يمكنك معالجتها بسرعة، ستنهار الشركة بفعل الضربات التي تأتيها من الداخل.
ليفنجستون : لمَ لا تؤسس المزيد من النساء شركات برمجيات؟
وينبلاد : أنا لا أعرف إجابة لهذا السؤال. لقد حضرت حدثًا نظمته آي بي إم حديثًا، وقال سام بالميسانو في سياق حديثه الارتجالي في هذا الحدث: «ابنتي بارعة في الرياضيات، وكانت تهتم اهتمامًا شديدًا بالرياضيات والآن بعد أن أصبحت في الثالثة عشرة من عمرها تشعر بالقلق من أن تبدو مهووسة بالأمر.» كان ذلك فاصلًا ثم عاد للكلمة التي كان يلقيها مرة أخرى، وأضاف: «ولا أدري ما إذا كانت ستتمسك باهتمامها هذا فيما بعد.» فكتبت له ملحوظة أشكره فيها، قلت فيها: «لقد سعدت حقًّا بإتاحة الفرصة لي للمشاركة في هذا الحدث. لقد كان الحدث رائعًا، وقد استوقفتني تلك الملاحظة الجانبية الوجيزة التي ذكرتها عن ابنتك ذات الثلاثة عشر ربيعًا، وأتمنى أن نستطيع القيام بعمل أفضل … فبعض النساء الناجحات في صناعة البرمجيات — وفي ذلك أنا وكارول بارتز وهيدي رويزن — كن جميعًا بارعات في الرياضيات، وقد قضينا مرحلة ممتعة ونحن مراهقات، وكذلك حياة رائعة ونحن كبار وحققنا نجاحًا كبيرًا.»
لا يهتم بالرياضيات والعلوم إلا أعداد ضئيلة من النساء، وأعداد ضئيلة بشكل متزايد من الجنسين. إنها مشكلة كبيرة. وقد يقول المرء لنفسه: «جاء هذا الأسبوع في الأخبار أن الرئيس الصيني قضى وقتًا أطول مع أغنى رجل في العالم — وهو بيل جيتس — من الوقت الذي قضاه مع الرئيس الأمريكي. وها هو ستيف جوبز يبتكر ذلك المنتج الذي يحظى بإقبال قوي، وهو المشغل الموسيقي آي بود. فلمَ لا تريدون أن تكونوا مثلهما؟» فلديهما منتجات ملهمة ويتمتعان بحياة ملهمة، وأخبارهما متداولة في وسائل الإعلام. فهناك شيء مفقود في رسالتنا وهو إلهام الآخرين: «كل ما عليَّ القيام به هو اكتشاف تلك الموهبة التي تتعلق بالرياضيات والعلوم، وأنا هكذا أختار مصيري بنفسي.» وأنا لا أدري لمَ لا تنجذب النساء فضلًا عن الجميع للاقتداء بهؤلاء.

ستظنين أن الجميع يتمنون العمل في وظائف مثل وظائفنا. فنحن نحصل على أجور مجزية. ولكننا لسنا من أصول أرستقراطية ولم نولد وفي أفواهنا ملاعق ذهبية، ولم نشترِ طريقنا إلى هذا المجال بالمال. كل ما في الأمر أننا شققنا طريقنا إلى هذا المجال ﺑ «التفكير». فقوة التفكير والرياضيات والعلوم والكمبيوتر، كلها من المهارات المتاحة مجانًا، فالأمر خيار يمكن اتخاذه. وعندما تحددين هذا الخيار، فإنه يمنحك عصا سحرية تتيح لك أن تصبحي من الرواد في مجال لا يزال ناشئًا نوعًا ما، ولكنه يدفع اقتصاد العالم بأسره. لا أدري. إذ يبدو الأمر لغزًا غامضًا لي لماذا لا تقبل الكثيرات على هذا. فالنساء اللائي يُدِرن هذه الشركات يتمتعن بحياة متنوعة للغاية. لا أدري حقًّا السبب في هذا.
ليفنجستون : ما أهم نصيحة تسدينها للمؤسسين الذين ينشئون شركاتهم؟
وينبلاد : إننا نحاول ألا نفرط في إسداء النصائح التوجيهية. بدلًا من ذلك، نقول لهم: «فكروا بأسلوب تفكير الشركات الكبيرة ثم حاولوا التوصل لوسائل تتيح لكم تحقيق هذه المكانة.» تعتمد الاستراتيجيات على وجود تكتيكات، لكن يجب أن تكون لديك استراتيجية واضحة، وأن تحدد أوجه النقص التي لديك كي تصل إلى الهدف الطموح الذي تسعى إليه. فحتمًا ستجد نفسك بحاجة إلى موظفين، وحتمًا ستجد نفسك بحاجة إلى نقود، وكذلك إلى موارد. ومن ثَم عليك البحث عن الوسائل التي تساعدك على التقدم بشكل سريع بدلًا من التقدم بخطوات بطيئة. فكر بأسلوب الشركات الكبيرة، ثم ابحث عن الوسائل التي تتيح لك تحقيق هدفك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤