إلى أين؟

أنت في الحقيقة لا تخدع إلا نفسك؛ منذ سنين لا تدري عددها وأنت تذرع هذا المكان، في المساء، عندما تبزغ النجوم البعيدة في السماء الصافية تُغادر غرفتك الباردة، تسير في خطواتك الوئيدة مُطرِق الرأس، تُحاذِر أن تقع عينك على شيء فتلمسه وتستقر عنده، تخشى أن ترفع عينيك إلى وجه من الوجوه التي تعرفك أو يُخيَّل إليك أنها تعرفك، تنفض الضحكات عن أذنيك حتى لا تتسلل إلى قلبك المُنكمِش في زنزانته!

وإذا رأيت الشرطيَّ أو سمعت خطواته على الرصيف التفت إليه كأنك تتحدى نظرته الفاحصة، كأنك دائمًا على استعداد لأن تُخرِج له بطاقتك، وتُبين له اسمك وعنوانك، وتُثبِت له أنك مواطن صالح، ثم تُعرِّج على الكازينو الراقد على صدر الماء؛ يداك مشبوكتان خلف ظهرك، ابتسامتك الذابلة على شفتيك، نظراتك تُصافِح العشاق الجالسين تحت الأشجار والفوانيس الشاحبة كعناقيد كَرْم ذهبي مهجور بلا جسد ولا بهجة. الجرسون الأسود يُسرِع إليك، يُلقِي عليك التحية، ابتسامته ترثي لك، وابتسامتك تعترف بالرثاء وتشكره وتسأمه.

ثم تخرج بعد أن تشرب القهوة المُرة، وتحاسب الجرسون، وتطمئن إلى أنك وفيت ديونك. وتسير على الشاطئ؛ تقف عند كل جسر، ترمقه من بعيد وأنت ذاهل عن الحياة التي تضج عليه، تبتسم في سرك حين تفكر بالدور الذي يقوم به، بالأمانة التي يُؤديها، بالحمل الذي يصبر عليه، وتبتهج حين ترى الناس يسيرون عليه؛ مجهولون يلتقون فوق الماء ويفترقون، يتشابكون لحظة ويعبُرون، لا أحد يعرف أحدًا، لا أحد يدري بهموم أحد؛ لكنهم يعبُرون، يكاد الإحساس يجمعهم بأنهم في لحظة العبور مُشترِكون في المصير نفسه، وأنت تسير مثلهم على الجسر؛ تتحسس سوره، تُطل منه على الماء، تفكر في كل مرَّة في هدوء التيار وصفائه، كما تفكر كم ستكون جثتك مرتاحة وهو يحملها على صدره؛ لكنك تتركه وتمضي إلى جسر آخر — ربما وقف على جانبيه سبُعانِ عجوزان تجمَّدت مع الزمن وثْبتهما؛ فما عاد أحد يخشاهما، وماتت تكشيرتهما فما عادا يُؤمِنان بها — وتتحسس السور، وتمر بسبَّابتك على ألواحه (عبثًا تحاول عدَّها فهي كثيرة)، وتقف لحظة مُطرِق الرأس إلى الماء، وتفكر كم ستكون جثتك مرتاحة وهي محمولة على جسده الأسمر الثقيل في أيام الفيضان!

ويفاجئك القمر حين ترفع عينيك، فترى وجهه المُستدير، وجه طفل شاحبًا في تابوت فضي قديم. تُدير له ظهرك، تُسرِع في خطواتك، تفكر أن الذين يقذفون بأجسادهم من فوق الجسور لا يعرفون تأنيب الضمير.

القمر يتبعك؛ وإن كنت تحسب أنه لا يرى إلا ظهرك، شعاعه الرحيم ينفذ إلى صدرك، يُعرِّيه، يفضحه، يضحك من سره المُعتِم الصغير؛ هل تحسب أن غرفتك الباردة ستُنجيك منه؟

أنت تريد أن تنسى أنه كان يراك منذ سنين، كان يكشف صدرك المُظلِم في تلك الليلة التي لا تستطيع أن تنساها، كنت تسير معها في الغابة؛ رذاذ بسيط يتقطر من الأشجار فوقكما، أقدامكما المترددة تغوص في الطين، تصطدم هي وجذوع الشجر الناتئة، تجوس فوق الأوراق؛ فتئنُّ تحتكما، تتكسر ضلوعها تحت ثقل أحذية الشتاء ذات الرقبة الطويلة والكعب السميك، على جسدها معطف من النايلون الشفاف (ستُفرِده بعد قليل على الأرض لترقدا عليه) على جسدك معطف من الكتان الرقيق، تكذب إن قلت: إنه يُدفئك — على الرغم من أنك رفعت ياقته حول رقبتك — وتكذب مرة أخرى إن قلت: إن حبك لها يُدفئك أكثر! الظلام في الغابة يُطبِق عليك، يطمس عينيك، يبتلعك، يُغيِّبك معها في جوفه المُعتِم الواسع العميق. وأنت تضع ذراعك في ذراعها، معصمك يُحِس نبض العروق في معصمها، جسدك الظمآن المُرتعِش يُمنِّي نفسه بالنوم بعد قليل في أحضانها. يا أيها السندباد التعس، ماذا يكتشف السائر في الظلام؟ يا أيها الفارس القميء، ماذا يقدر عليه اللصوص؟

والقمر يرفع وجهه من بين السحب الدكناء، ينظر إليك بعين ويُغلِق الأخرى، يريد أن يُذكِّرك، حين يُطل عليك من بين أوراق البلوط والصبار؛ أنه هناك، يحميك من ظلك، يُبعِد أنفاس الظلام عن وجهك، يهمس لك بأنه يراك، وربما يسامحك.

وتذكر أنه في تلك الليلة أيضًا كان هناك، يُطل من خيمته المُضيئة على مقبرة القرية الصغيرة الوديعة كأجنحة الحمام، البيضاء كظهر الموت. هناك كان الشيخ محمد يُهيل حفنتين من التراب على جسد أخيك الصغير الذي يرقد الآن في المقبرة الضيقة الحقيرة، إلى جانب أخيه الذي سبقه منذ أسبوع. وعم مرجان الأسمر الطويل يُحرِّك في كسل شفتيه بآيات من القرآن، وربما لم يُحرِّكهما على الإطلاق. وأبوك مع رجلين آخرين يقرآن في ملل بعض الآيات، ويرفعان السبَّابتين بالشهادة؛ أداءً للواجب وكسبًا للثواب، ويستعجلان اللحاد قبل أن ينفد زيت المصباح، ويبرد في البيت العشاء.

لكن الشيخ «محمد» عاد مع أبيك، هذا القمر نفسه كان ينظر إليه وهو يصعد عتبة بيتكم القديم، يدق على الباب الذي كان مفتوحًا، يتنحنح، يقول: يا ساتر، يميل على أمك في ثقة ليطمئنها بقوله: هناك مكان للأخير. كنت راقدًا على حجر إحدى العجائز، جاءت تُعزِّي أمك في موت التوءمين. على رأسك الصغير المُنحدِر بشدة من الخلف طرطور متعدد الألوان، على وجهك الذابل العنيد ابتسامة الخجول من بقائه بعد ذهاب أخويه، المُعتذِر عن وجوده بالسكوت.

كنت هناك أيضًا وكان القمر هناك حين صرخت أمك: فال الله ولا فالك يا شيخ محمد! تستخسر فيَّ هذا الولد المسكين؟ ويُؤكِّد الشيخ «محمد» استعداده لتأدية الخدمات قبل أن يغادر باب الدار، ويضحك في سره من سذاجة أمك ويقول في نفسه: لتنتظر يومين، سوف تعرف كلامي! لكنه سينتظر طويلًا؛ لأنك ستُثبِت له أنك برغم ضعفك أخبث منه، وسيُواريه شيخ آخر في التراب، كما يواري أمك وأباك وقارئ القرآن، وعم مرجان اللحاد الأسمر الطويل قبل أن تشغل الحفرة الصغيرة الباقية لك.

تسألك وأنت تسير ساهمًا مُطرِقًا برأسك المُتعَب المنفوش الشعر إلى جانبها، وجسدك كله ينتفض من البرد والخوف وتوقُّع المُهاجِمين الذين سمعت عن حوادثهم في الغابة: هل عدت من رحلتك؟ وقبل أن تفتح فمك لترد عليها — لم تكن قد وجدت الجواب بعد — تشدك من ذراعك حتى لا تقع في حفرة، وتسكت فلا تُحدِّثها عن الحفرة الشاغرة التي تنتظرك في مقبرة قريتك، فتعود تسألك: هل عاد سندباد من رحلته؟ فتُجيب بصوت توَد ألا تسمعه: أنت أيضًا تعرفين السندباد؟ فتضحك ضحكة تُفزِع أرواح الغابة، وتقول وهي تُقبِّلك فجأة: ومن الذي لا يعرف السندباد؟ نحن أيضًا نقرأ ألف ليلة وليلة، صحيح أنني لا أعرف كثيرًا مثلك، لكن أمي حكت لي عنه، كما حكت لك أمك عن رحلاته السبع في الجزر النائية، عن الرخ الذي ربط نفسه فيه، والأسود العملاق الذي أكل أصحابه، عن جبل الألماس وجبل القرود، عن حبه للبحر. قلت وأنت تقف أمامها وتُطوِّقها بذراعيك وتُفرِّق فمك المحموم الخائف في شفتيها: وحبه للعيون الخضراء والشعر الأشقر والأجساد البيضاء.

سيعود إلى الغابة بعد أيام؛ سيسير في الوحل ويدوس على الأوراق الجافة، ويسمع دقات قلبه الخائفة، سيُطوِّق الجسد الأبيض، ويُقبِّل العيون الخضراء ويُمرِّغ الوجه في الشعر الأشقر، ويصعد على التل الناعم، ويفترش المعطف البارد الشفاف.

والطفل سينمو ويتحرك، والبطن سيعلو ويستدير، والصيحة ستنطلق في المستشفى الكبير النظيف، ولن تستطيع قوة أن تُغيِّبها من جديد في جوف الرحم. وأنت ستعود إلى غرفتك وتقول كل ليلة: يا إلهي! كم هي باردة! وستنظر في مرآتك وتقول: يا إلهي! كم أنا دميم! وسترن في أذنيك صيحات الطفل الذي لن تراه ولن تستطيع أن تُعيده إلى جوف الرحم، وتضم ذراعيك على الفراغ وأنت تتذكر أن ذراعًا أخرى تضمه، وشفة أخرى تُقبِّله، ويدًا أخرى تسحب عليه الغطاء.

وسوف تصمت وتصمت، تمد حولك أسوار القلعة المنيعة التي سمعت أو قرأت — لا تذكر أين ومتى — أن شاعرًا كبيرًا مدها حول نفسه، ستحلم في بعض الليالي وأنت تُسنِد رأسك بين كفيك وترفعهما لتحدق في الفراغ أنك كنت تريد أن تكون مثل المعرِّي أو مثل جوته أو الحلَّاج، وستعرف أنك أصبحت تمثالًا أجوف يرن فيه الصدى الوحيد، وحتى هذا الصدى سيخرس من جديد. بماذا تحلم أيضًا؟ ألم يكن أورفيوس يُغنِّي فتلتفت رءوس الأشجار، وتفزع إليه الوحوش، وتُحدِّق في عيونها الواسعة، وتمد رءوسها راضية ليضعها في سلاسل الألحان؟

ألم تكن تتمرَّغ عند قدميه، وتلعن قيثارته وتُقدِّم له الدهشة والبراءة والامتنان؟ فماذا تريد بصمتك؟ من نظرتك التي تلامس الأشياء والوجوه ثم ترتد عنها؟ تقطع كل الخيوط التي تريد أن ترتبط بك، تهدم كل الجسور التي تحاول أن تعبُر إليك.

أنت تذكر عصر اليوم الذي عدت فيه إلى قريتك؛ كنت في الصحراء الصامتة الواسعة تتدرب على القتال حين وصلتك البرقية، وعندما دلفت من الباب كان كل شيء قد انقضى؛ المأتم انفض، الصوان هُدِم، المُعَزون عادوا إلى بلادهم؛ حتى الرمل الذي فرشوه على الأرض لم يبقَ له أثر! قلت لنفسك وأنت تدخل إلى الحجرة المُعتِمة، على ضوء لمبة الغاز لا تتبين أباك المُمدَّد على الفراش كأنه أبو زيد الهلالي: يا إلهي! الحجرة باردة بدونها، يا إلهي! ماذا أفعل بدونها؟ هتفت امرأة عجوز — قالوا لك فيما بعد إنها قريبة أبيك — حتى يجذبوا انتباهك إليها ويعتذروا لها عن إهمالك في حقها قائلة: كان لها ابن عسكري. أردتَ أن تبكي، حاولت أن تُنهنِه، وقف شيء في حلقك، اختنق شيء في صدرك، بقي وجهك جامدًا كوجه تمثال. قال لك أبوك في ارتياح لم يستطع أن يُخفيه: هذا حال الدنيا! ثم سُمع شخيره. اقتربت منك أختك وربَّتت على كتفيك، وقالت — بالرغم من أنها لم تلمح دمعة واحدة في عينيك: لا تُدمِ عينيك من البكاء، البركة فيك.

أخذك أخوك من يدك إلى حجرة في السطوح، وقال وهو يصعد السلم معك ويضغط على يدك: اسمك كان آخر شيء نطقت به، كانت تتمنى أن تراك. قلنا لها هو بعيد، يخدم في سبيل الوطن. لم تفهم. قالت: ربنا ينجيه. اسمك آخر ما جاء على لسانها. (ثم وهو يخبطك بقوة على ظهرك ويكاد لولا الكسوف يُقهقِه) أصبحت شاويشًا قد الدنيا. تذكرت آخر مرة رأيت أمك فيها؛ هل تقول: رأيت؟ ربما لم تملأ عينيك منها كما كان ينبغي، لم تقف نظرتك على الوجه الذي لم تكن تدري أنك تراه لآخر مرة — وإن كان إحساسك قد أخبرك من قبل في الليالي الطويلة التي قضتها تتقلب إلى جانبك وتدعو الله أن يُنجيك من مرض القلب — كنت مشغولًا بنفسك، كنت سعيدًا بسجنك، تستعجل السفر لتتفرغ — كما كنت تحلم — للأبيات الركيكة التي تحلم بأنها ستجعلك مثل المتنبي، أو تضع إكليل المجد على رأسك مثل فرجيل!

هل نسيت أنها لم تُفلِح حتى في أن تُقرِّبك إلى الحبيبة؟ ألم تكن في كل مرة تُقدِّم القصيدة إليها كالشحاذ الذي يجرب لأول مرة في حياته أن يُعطِي لكي يأخذ أكثر مما أعطى؟ ألم تكن تبتسم لك في رثاء وهي تأخذها منك؟ هل كانت تغفل عنها رعشة يدك، واصفرار وجهك، وإهمال شعرك وأظفارك؟

ثم رثاؤها مرة أخرى وهي تبتسم وتُعيدها إليك، وتقول لك لتتخلص من عينك المُتسوِّلة: عظيمة. لكنني لم أفهم منها شيئًا!

هل نسيت الشحاذ وبنت السلطان؟ أعجبك التشبيه وأحببت أن تتشبث به! العربة الفخمة السوداء كانت تمرق إلى جانبك فتراها فيها — وربما عزيت نفسك بأنها رأتك — وتحث رجليك القصيرتين الغارقتين في الحذاء القديم على السير — تحت لفح شمس الظهيرة، في الشارع الطويل الذي لا يرحم، نسيته السماء فلم تُرسِل فيه نسمة!

دخلت إلى الحجرة التي ماتت فيها أمك، قالوا لك: إنها عندما أحسَّت بالموت وهي راقدة في الشقة المُعتِمة في الدور الأول؛ طلبت أن تطلع إلى فوق، أن تشم الهواء، أن ترى نور ربنا، أشفقوا عليها من السلم؛ لكنها طلعت عليه وحدها، رفضت أن يُسنِدها أحد، أبت أن يأخذ أحد بيدها، ارتاحت حين رأت الشمس لا تزال طالعة، قالت: أموت هنا أحسن. قال لك أخوك: أنت تعبان من السفر، اخلع هدومك واغسل وجهك.

فاطمة — هل نسيتها؟ — ستُحضِر لك العشاء وتُرتِّب لك السرير، نم للصبح واترك الأمر لله، هذا هو حال الدنيا.

جلستَ على الفراش، تحسست بيدك الجامدة الملاءة التي نامت عليها أمك، والمخدة التي وضعت عليها رأسها، حاولت أن تتصور ما رأته عيناها لآخر مرة، حاولت أن تستعيد ما فكرت فيه وهي تنادي باسمك، حاولت أن تجد دمعة واحدة؛ دمعة واحدة تفلت من عينيك الجامدتين على وجهك الجامد المشدود. جاءت وفوق رأسها صينية العشاء، تذكرتها، حاولت أن تُبعِد جسدها عن خيالك لتنفرد بأمك. وضعت الأكل على المائدة، رتبت الحجرة وقالت من وراء ظهرها كلامًا لتُعزِّيك، اقتربت منك وجلست على الفراش، بكت وهي تحكي لك عن أمك، عن طيبة قلبها وهي تدعو لك وتُوصيها عليك، عن نفسها وقد راحت في النوم على الأرض من التعب والسهر وما تُحِس إلا بيد أمك على جبهتها؛ فزعت وقالت: اللهم اجعله خيرًا. قالت لها أمك: نامي يا حبيبتي؛ كانت الناموسة وخفت تصحيك.

وعندما طلع النفس الإلهي كنا كلنا نائمين، أخوك أيقظني، نزلت الدموع من عيني بحرًا وصرخت، أخوك ارتفع صوته وكبر ومد يده فلثمها، وأسبل عينيها وغطاها بالملاءة البيضاء؛ هذه الملاءة.

حاولت أن تبكي وأنت تسمعها، وبَّخت نفسك لأنك لم تذرف دمعة واحدة.

انتهيت حتى انتهت من حكايتها المُمِلة الطويلة، اقتربت منها ومددت ذراعك وربَّت على كتفها (هل رأى أحد هذا؟ أنت الذي كنت تعزيها!) لما زاد بكاؤها ونهنهتها! اقتربتَ أكثر وطوقتها بذراعيك ومسحت الدموع من على خديها بشفتيك؛ هل في الحزن ما يُدفئ الجسد؟ هل في الدموع ما يُثير الحواس؟ نسيت كل شيء إلا ظمأك في الصحراء الواسعة المُلتهِبة، على الملاءة التي ماتت عليها أمك منذ يومين نمت مع الجسد الدافئ البديع، على المخدة التي وضعت عليها وجهها العجوز عانقت الوجه الجميل. استسلمت لك البضة الغبية، استسلمت أنت أيضًا كالثور المعصوب. وعندما أغلقت الباب وراءها لتنام لم تجد النوم؛ لأن البرد كان هناك والقمر أيضًا كان هناك، رآك طول الوقت ولم يُدارِ وجهه من الخجل. وحين وجدت نفسك وحدك، وصعد الذل والضياع والندم ليخنق رقبتك؛ أخذت رأسك بين كفيك ورحت تنشج وتبكي، بكيت كما لم تبكِ في أي يوم، بكيت حتى خفت أن يسمعوا صوتك ويأتوا إليك ليُعيدوا عليك كلامهم المُمِل من جديد. لما تعبت من البكاء رحت في النوم، مددت جسدك في المكان الذي تمددت عليه نفْسِه جثةُ أمك، والبرد كان هناك ولم تستطع أن تهرب منه، والقمر كان هناك يُطِل من زجاج الشباك المكسور، كطفل شقي يسخر منك، كطفل شاحب يستيقظ في تابوته الذهبي!

الطفل أيضًا كلمتك عنه، أنت تعرف أنها كانت تأتي إلى حجرتك لتنام معك، أنت تعرف أيضًا أنها لم تكن تذكره إلا لتنتقم منك، لتُذِلك، لتضمن ألا يتمرد جسدك مرة واحدة عليها. قالت لك بعد أن ارتدَت ثوبها ونظرت في المرآة وسوَّت شعرها وأصلحت الأحمر على شفتيها: ماذا نفعل الآن؟ قلت في صوت مكتوم: لماذا تقولين نفعل؟ لماذا لا تسألين نفسك؟ قالت وهي تقترب منك وتتفرس عيناها الخضراوان العميقتان في عينيك اللتين طالما أحبتهما، لتتيقن ضعفك الذي لم يخْف يومًا عليها: ألسنا شركاء؟ قلت في عدم مبالاة كأنك أفلحت في أن تُبرئ نفسك: أنت التي أردت كل هذا. قالت في هدوء وهي تُشعِل سيجارتها وتنظر إليك لتُذكِّرك إهمالك في أن تُشعِلها لها: وأنت؟ ألم تُرِد شيئًا؟ أبعدت عينيك وقلت في قحة دُهشت أنت نفسك منها: أردت جسدك. عادت تقول في صوتها الهادئ العميق وهي تنظر من النافذة إلى الثلوج التي تتساقط على الزجاج كما كانت تفعل دائمًا لتُريك أنها لا تُحِس بوجودك: نعم، أنا التي أردته. قلت في غضب مُصطنَع: إذن فأنت وحدك مسئولة عنه.

استطردت تقول وهي تُتابِع نُتَف الثلج الرقيقة ترِف على فروع الشجر النحيلة العارية، وتُلامِس زجاج النافذة كأجنحة طيور بيضاء تسقط ميتة: وأنا سعيدة به؛ بشعره وعيونه وجبهته العريضة وعناده وغبائه أيضًا! إنه لي، لن تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعه مني، لا يمكنك أن تتصور كم أنا سعيدة به!

قلت في حنق لم تستطع أن تُخفِي ضعفك المُستتِر وراءه: بل قُولي كم أنت سعيدة بالانتقام مني!

رمقتك بنظرة بعينيها الخضراوين العميقتين اللتين تحب على الرغم من كل شيء أن تُقبِّلهما وتتملى من صفائهما دون أن تقول كلمة واحدة، جذبت نفسًا من سيجارتها كأنها تُثبِت لك أن كلامك لا يستحق الرد عليه، شجَّعك هذا على التمادي، وبالانتقام أيضًا من زوجك: أنت تكرهينه لا تُنكِري، وتكرهينني أيضًا، لا تحاولي أن تُقاطِعيني. ثم تستطرد في صوت مرتفع تستغرب صدوره عنك وفي حركات تمثيلية ربما كنت تُجرِّبها لأول مرة: إنني لم أُرِده لذلك فهو غير موجود بالنسبة لي، إننا لا نعترف بوجود شيء إلا إذا كنا نريده، العالم كله ليس موجودًا بالنسبة لي ما دامت إرادتي لا تُسلِّم بوجوده؛ فما بالك بمن لا أعرف عنه شيئًا، ولم أفكر فيه ولم أره ولا أفكر في أن أراه؟

قالت في سخرية أقرب إلى الرثاء: ألا تفكر حقًّا أن تراه؟

قلتَ في قسوة تُداري بها ارتجافك من السؤال وخوفك من أن يتم اللقاء: ولو نادى عليَّ بنفسه!

ظننت أنك أغلقت باب الحديث أو أنك على الأقل ستنتقل إلى موضوع آخر، لم تكن قط تتوقع أن تُفاجئك بصوتها الهادئ المُتكبِّر يقول: جبان! كان هذا دائمًا رأيي فيك.

لم تَثُر الثورة التي كنت تتوقعها من نفسك، وتتوقعها هي أيضًا منك، لم نجد الشجاعة المُفاجئة التي تهز كياننا كله في لحظة واحدة كزلزال مُظلِم غريب، فنقوم بعمل ما ندريه ولا نتصور بعد انقضائه أننا قمنا به.

ارتجفتَ مرة واحدة؛ ارتجفت كل أعضائك وتفككت وانهارت، وتصببت عرقًا، وتجمعت كلها، وحاولت أن تلم شتاتها؛ لتُخرِج صوتًا حزينًا ضعيفًا مُرتعِشًا يقول: لم أكن أتصور أنك تُهينينني إلى هذا الحد! لنُسدِل الستار على كل شيء.

نهضت من على الكرسي بحركة مفتعلة، أدَرت لها ظهرك الذي ينتفض كله من الخوف والخجل وخيبة الأمل لتفتح الباب، انتظرت قليلًا، فلما لم تسمع حركتها التَفتَّ فوجدتها تُصوِّب عينيها العميقتين الخضراوين إلى قلبك، لم تقل شيئًا بل نهضت هي الأخرى ولمَّت أطراف معطفها على كتفيها، ونظرت في المرآة فسوَّت شعرها، ثم جاءت فوقفت أمامك حتى أحسست بعطر أنفاسها وجسدها الذي تعرف رائحته، ومالت برأسها، وطبعت على خدك قُبلة لم تفاجئك كثيرًا، وقالت وهي ترفع ذراعها وتحرك أصابعها حركة الوداع: موعدنا مساء السبت مثل كل أسبوع.

بقيت وحدك في غرفتك الكئيبة؛ الأثاث الكلاسيكي القديم الذي طالما أبدَت صاحبة البيت حرصها عليه يُحدِّق فيك في سكون وينتظر! البرد كان هناك والثلج كان يتساقط من خلال النافذة ويستريح على أسطح البيوت وفروع الشجر، وأرض الشارع الساكن، والقمر أيضًا كان هناك، يُطِل عليك من وراء الغيوم الداكنة التي تحاول أن تخنقه في غضب أسود دون أن تُفلِح في أن تحجب عنك وجهه المُضيء، كوجه طفل صامت في تابوته الذهبي. وتسرع بارتداء معطفك، برغم أنك تعرف أنك تنجو من الإصابة بالبرد الذي لا يتركك، وتسير في الشارع الذي تتلاعب نُتَف الثلج بفوانيسه الشاحبة دون أن تسأل نفسك وأنت تجذب نفسًا من الهواء الرطب المُنعِش الخالي من رائحة الدخان والفحم والعرق وعطر الجسد وعفونة الملاءة المتسخة؛ لا تسأل نفسك إلى أين؟ لأنك في العادة تتجه إلى المقبرة القريبة المهجورة (أفما زلت تذكر تمثال الحبيبة الصغيرة المُمدَّدة على التابوت وبين يديها كتاب كانت تقرأ فيه؛ الحبيبة الشابة التي كانت تأخذك دائمًا إليها، ثم تقف بك عند كل قبر؛ لتشرح لك قصة صاحبه، وتقرأ معك الكلام المكتوب على شاهده بحروف ذهبية).

تذهب إلى هناك، فلا تجول في هذه الساعة المتأخرة من الليل — كيف تجسر على تعكير صفو الموتى بوقع حذائك الذي ترن حديدته على الأرض كأقدام حصان عجوز عائد مع جيش مهزوم؟ — بل تجلس على الأريكة «الوحيدة» هناك، يمر عليك العشاق متعانقين، ويفطنون إلى وجودك فيتضايقون ويبحثون عن أريكة أخرى في حديقة المقبرة، أو يسيرون صامتين في طرقاتها وبين أشجارها العتيقة العالية.

في قريتك الصغيرة كنت تحب دائمًا أن تسير بين القبور الصغيرة الفقيرة المستسلمة، كانت قبورًا مُتواضِعة أشد تواضعًا من ساكنيها؛ طلاؤها مُتآكِل، أطرافها مُهدَّمة، معظمها مفتوح في جانب منه؛ فتحته الذئاب أو النيابة أو لصوص الجثث، عليها شجرة صبار على أحسن الفروض، وفوقها كتابة بخط رديء لم يتجاوز صاحبه كتاب الشيخ: الاسم وتاريخ الوفاة — فتاريخ الميلاد دائمًا منسي — واقرأ له الفاتحة.

كانت تسليتك أن تمر بينها وتقرأ الكتابات المنقوشة عليها كنبش الفراخ، وتنقل أبيات الشعر السخيفة التي تعثر عليها، وتملأ عينيك وصدرك برائحة الرطوبة والعفونة والزمن والتراب والمسكنة، وتتصور جسدك مُمدَّدًا في واحد منها، على تلة مرتفعة قليلًا عن الأرض، فوق رأسك شجرة صبار مُهمَلة تعتمد على نفسها في الحصول على غذائها.

أنت الآن ستعود إلى حجرتك، ستمر على الجسور التي تمر عليها كل يوم، وتفكر في أن تُلقي بنفسك من فوقها؛ فيُشِل التفكير إرادتك، ستقول لنفسك في هذه الليلة أيضًا: لا بأس! أنا أيضًا لم أكن جادًّا في المحاولة، وستحاول من جديد بغير اكتراث ولا دافع جِدي، ثم يأتي يوم تنسى فيه — ولعلك نسيت بالفعل — ولا تتذكر كلما مررت بجسر منها سوى أنك في يوم من الأيام كنت غبيًّا وطائشًا (هذه الكلمة الأخيرة ستقولها من قبيل المجاملة ليس غير!) وستعود دائمًا إلى حجرتك (الوحيدة) الباردة، تذكر الوجوه التي أحببتها ولم تُقبِّلها، العيون التي تسولت منها نظرة عطف ولم تنتبه إلى وجودك، الأشعار التي حلمت بأن تكتبها فبقيت تتخبط كالوطاويط المجنونة في رأسك، الأجساد التي عشت سنوات إلى جانبها لم تفكر في أن تلمسها وكانت تشتاق إليك بكل خلجة وكل لمسة وكل نظرة، وحين تأتي ليلة الوداع، وتريد أنت أن تُسلِّم في احترام؛ تُفاجأ بها تثِب عليك فتُقبِّلك في زحمة الشارع أمام الناس، تحت أعين النجوم، تتشبث بك وتُطوِّقك تريد أن تنتقم منك؛ لكنك تعرف أن الوداع أكيد، والحقائب تنتظرك، والساعات الباقية من الليل لا تكفي لكي تحقق الأمنية التي تمنَّتْها إلى جانبك أربع سنوات!

ودائمًا ما تعود إلى شقتك بعد ليلة طويلة، قضيتها على القهوة المُطِلة على الميدان في نقاش طويل تسأل نفسك: كيف لم تملَّه من زمان؛ وظيفة الأدب في المجتمع، العلاقة بين الشكل والمضمون، موقف الكاتب من الشعب وموقف الشعب من الكاتب؟ وتتحمس فتخطب وتثور، أو تتجمد فتغيب عن الجميع وتُحدِّق صامتًا في الفراغ؛ لأنك تسأل نفسك في هذه اللحظات لماذا يعيش هؤلاء الناس؟

وتسأل نفسك أيضًا السؤال نفسه، وتعود فتُحدِّق في الفراغ؛ فراغ نفسك من الحياة، ومن إنسان نقول له بدون أن تتحرك شفاهنا: ما أصعب الحياة بدونك! وتترك القهوة مُتكاسِلًا، وتسير في الطريق نفسه، وتركب الترام نفسه، وربما قابلت المُحصِّل والسائق أنفسهما، ولا تسأل إلى أين؟ لأنك دائمًا تعرف الطريق إلى غرفتك (الوحيدة) الباردة، ولأنك ستضع فيها المفتاح، ولأن البرد دائمًا ما يكون هناك، والفراش المُهمَل، والكتب والصحف التي تجعل منها كهفًا أو مقبرة، ولأن القمر أيضًا قد يكون هناك. حين تفتح الشباك لتُجدِّد الهواء وتراه يتطلع إليك مثل طفل شاحب بعيد، يستيقظ فجأة في تابوته الفضي؛ ليقول لك: إلى أين؟

(١٩٦٥م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤