البيت
كان الوقت ليلًا عندما وصل الدكتور، وكانت المحطة الريفية هادئة، والقمر تفاحة مشتعلة تتوسط السماء، والسكون يُغرق القرية والحقول المحيطة بها؛ فلا يكاد يسمع الإنسان — فيما عدا نباح كلاب متفرقة — سوى صوت أنفاسها البطيئة تتصاعد إلى السماء. وعندما وقف القطار راح أخوه الأكبر سليمان وابن عمه حامد — لعله لا يذكر الآن أن له ابن عم — يجريان بين النوافذ بحثًا عنه. وأخيرًا سمِعا صوته ينادي عليهما، هروَلا نحوه وهما يشعران بالارتياح؛ لأنه أراحهما من عناء البحث بين وجوه الناس، وربما شعرا كذلك بالامتنان نحوه؛ لأنه لم يُتعبهما كثيرًا في تذكُّر وجهه الذي لا بد أنه تغيَّر كثيرًا. عانَقه أخوه بحرارة واستعذب طعم شفتيه على فمه وبين عينه. قال الدكتور لنفسه: لماذا هزل سليمان إلى هذا الحد؟ ربما كان السكر أو البلهارسيا اللعين! وسقط ضوء القمر على رأس أخيه فخنقته الدموع. ها هو ذا الرأس قد شاب ولم يبلغ أخوه الأربعين. يا لبلدنا الذي لا يعرف الشباب ولا يرحمه! وأقبل ابن عمه فشده إليه بعنف كاد يخنقه، وأخذ يخبط على يده فأحس كم هي خشنة أيدي الفلاحين!
حلف شقيقه أغلظ الأيمان وحمل حقيبته، وخاف شهامة ابن عمه فسلَّم له الأخرى قبل أن يفتح فمه، وسار في الوسط وهو يبتسم لذكرياته، ويعانق القمر والأشجار والأرض المخضرة بنظرته وضحكاته. خبط حامد على ظهره وقال: والله سلامات؛ خمس سنين يا رجل! وانتزع سليمان نفسه من أحلامه وأحزانه ورفع رأسه إلى وجهه الأبيض الناعم، وقال: شرفتنا يا دكتور، البلد نورت. قال الدكتور: والله وحشتموني، هل تعرف ما في نفسي الآن؟ أن أذهب إلى بيتنا، وألبس الجلابية والطاقية، وأتمدد على الكنبة في المنظرة. وَجَم سليمان ونظر إلى ابن عمه، سكتا ولم يقولا شيئًا. سبَح الدكتور في ذكرياته: المزلقان، شريط السكة الحديدية، الكرة الشراب، خناقاته مع الأولاد، والشعر الذي كان يكتبه باللغة الإنجليزية وهو يتمشى على هذا الطريق.
غطَّت سحابة سوداء وجه القمر، هبَّت نسمة برد، فندِم؛ لأنه لم يلبس «البلوفر». بدأت قطرات المطر تُسقِط رذاذها على شعره ووجهه، وسمعا من بعيد جلبة وصياحًا. هتف حامد متسائلًا: فرح محمد ابو اسماعيل الليلة؟
وأقبلت زفة في اتجاههم، وعندما اقتربت منهم لمح الدكتور رجالًا وصبية يصيحون ويهتفون. كان بعضهم يحمل الكلوبات في يده، وفي الوسط يخطو العريس الأسمر الطويل في معطفه الأسود والطربوش على رأسه. ابتسم الدكتور، بانت السعادة على وجهه وملأت قلبه، هتف الرجال: يحيا العريس، يحيا العريس. وعندما مر الموكب الصغير بهم أوقفوه، وقالوا: سلام للجدعان، عقبال عندكم وعند أولادكم يا رجال.
تقدم الدكتور وسط الرجال وصافح العريس في حرارة، هتف رجل مُنبهًا العريس: الدكتور احمد ابو المعاطي يا اسماعيل. عانقه العريس وشد على يده، سأله في إخلاص: إزي حال أمريكا يا دكتور؟ ورفع فلاح صوته: أين «العروسة الأمريكاني»؟ ضحك الدكتور وقال: وبنات بلدنا يا جماعة عيبهم إيه؟ قال الجميع: والله فيك الخير. فتحت امرأة باب بيت مجاور وزغردت، صاحت بأعلى صوتها: والله لازم تشربوا الشربات، هتف العريس عندما أقبلت المرأة بالصينية وعليها الأكواب الحمراء: والله لا انت شارب الأول يا دكتور. زغردت المرأة وشرب الجميع. شد الدكتور على يد العريس مرة أخرى، وقال له وهو يضحك: مبروك، شد حيلك «يا ابو اسماعيل».
كانت قطرات المطر لا تزال تسقط متفرقة، والقمر يحاول أن يُطل بين السحب السوداء، وكان الدكتور يبتسم في سره؛ فلم يلاحظ أن حامدًا يهمس في أذن شقيقه الذي سار مُطرِق الرأس. قال سليمان: والله أوحشتنا يا دكتور، حمدًا لله على السلامة. قال الدكتور ضاحكًا: الله يسلمك، والله أنتم الذين أوحشتموني، كيف حال صلاح وجميلة؟ (كان هذان هما اسمَي طفلَي سليمان).
قال شقيقه: «يبوسان الأيادي»، إن شاء الله تقعد معنا يومين؟ قال الدكتور: كله على الله، الشغل في مصر ينتظرني.
قال سليمان: في الجامعة إن شاء الله؟ قال الدكتور: لا، في المؤسسة.
هتف حامد: مؤسسة اللحوم؟
ضحك الدكتور بصوت جعله يتعجب من نفسه: كل شيء جائز؛ لكنهم طلبوني في مؤسسة الطاقة الذرية. قال حامد: الذرية؟ يعني حضرتك دكتور في الذرية. قال سليمان ينبهه: يا جدع ده دكتور في الذرة، أول واحد في المديرية كلها. قال حامد وكأنه فهم: آه! طيب كنت «قول» من الأول. ضحك الدكتور وأمسك برأس حامد وقبَّله. لم يدرِ لماذا فعل هذا؟
سار الثلاثة صامتين. كان الدكتور يسأل بين حين وحين عن الزرع والمحصول، أو يستفهم عن غيط يبدو من بعيد، أو عن التقاوي الجديدة، وحال الناس مع الجمعية والدودة التي قرأ وهو في البعثة عن بهدلتها للقطن والفلاحين. وعاد يسأل عن البيت والمنظرة، وهل يسهرون فيها كالعادة في رمضان؟ ثم التفت لأخيه، وقال: لم تُفدني عن صحة الوالد؟ هل وصلتكم آخر شحنة من الدواء؟ سمع حامد يهمس في أذن أخيه بصوت مسموع: قل له، يا رجل قل له.
قال سليمان بعد أن تغلَّب على تردُّده: اسمع يا دكتور.
قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرًا، أو يقول شيئًا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأَوا جماعة من الفلاحين مُلتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدًا عنهم بقليل، ورجلًا يُمسك بحبل مربوط حول رقبتها. أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعًا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يُمسِك برأسه أو قرينه، وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يُقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.
تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور. قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي، وقال آخر: عنَّك انت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد؛ ليساعدا في رفع الثور عن الأرض. لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الميت، أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان؟ قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور، ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله. نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل؛ فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة؛ لكن يظهر أن الثيران مثلنا ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.
سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟ قال سليمان: والله انتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!
ضحك الرجال وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!
نجح الرجال أخيرًا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره. قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر، وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربَّت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلَّم على الجميع، تذكَّر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران، تعجَّب لأنه لا يزال يذكر الشيخ «دسوقي» حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف، وقال: يسعد الله مساءكم.
سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه. قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟
قال سليمان: نتمشى شوية في الطراوة.
كان المطر قد توقَّف والسحابة اختفت من على وجه القمر. سأل الدكتور بعد أن تطلَّع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تُخفِي عني شيئًا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة؛ أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجَّع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك؛ لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلًا، تطلَّع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهدْ عمر البلد ما شافته؛ نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت. قال سليمان: الله يرحمه كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرًا. قال الدكتور: تعب الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك. كان ساعات يغيب عن وعيه، ولما يفوق يسألني: ابننا مش ها يرجع يا ابني؟ أقول له: إنت مش فاكر اسمه يا آبه؟ ابننا اللي في بلاد بره؟ أقول له: إن شاء الله يرجع لما ياخد الدكتوراه. يقول لي ربنا يسلمه يا ابني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له ده ابننا أحمد يا آبه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه، وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.
صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت! والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئًا ليقنع أخاه بأنه سلَّم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء، حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه! البركة فيك أنت يا دكتور. ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتُحيي اسم والدك وبلدك. وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئًا، ففتح فمه مترددًا وقال: الموت علينا حق يا سي الدكتور وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدًا على الكنبة العتيقة في المنظرة، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأُحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي؛ ولكنه تشكَّك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يُخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.
قال لأخيه ضاحكًا: المهم انك معمر البيت. تجهَّم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئًا. لاحظ أن حامدًا قد بدا عليه الحرج وتأوَّه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع. ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطع الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه. اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تُظهِر بؤس أصحابها أكثر مما تُخفيه، تأمَّلهم طويلًا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء، ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل …»
لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء، وجلاليبهم القذرة، وطواقيهم التي تُغطي رءوسًا مُتعَبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.
قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين. تذكَّر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية. قال لنفسه إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: تُرى هل يَظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراه إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثًا، تمثَّل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق، بدا له أنه طوفان أسود يُغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها، والمعادلات التي شقي في اكتشافها. قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم: ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائمًا ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.
عبَروا المزلقان وساروا في الطريق المُؤدِّي إلى البيت. وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة. سأل الدكتور مستغربًا: عندك؟
أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت، عقبال عندك إن شاء الله تبني لك فيلا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضًا. قال سليمان محاولًا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه وقال: لا، نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان. أشاح حامد بوجهه بعيدًا. ضحك الدكتور وقال: الله! يالـله بنا على البيت.
سار الدكتور في المقدمة، لم يجد سليمان وحامد بدًّا من متابعته، تهامَسا قليلًا؛ ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته. كان هو أيضًا مشغولًا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائمًا ينزلق فيه. وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارَّة والتطلع إلى البيوت التي لم يُغيِّر شكلَها الزمانُ، والابتسام لكل ما يراه من مبانٍ أو أشجار أو بهائم أو مخلوقات.
لم يكن البيت بعيدًا عن المزلقان؛ فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترًا في الطريق المُنحدِر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تُطِل على سوق القرية من ناحية وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى؛ حتى يرى البيت بعدهما بقليل.
كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين. حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئًا؛ لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألَح عيله حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره؛ لكنه كان يهمس له: خبر أبيه أهون. قل له انت يا عم؛ لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتْهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه ووضعا الحقائب على الأرض، نفخ سليمان في يده، وطقطق حامد أصابعه. لم تُخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يُطيل البحث عن البيت. كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مُكدَّسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل، يرفع التراب في مقطف، ويُكومه على جانب الطريق.
هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟ تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.
قال مُطرِقًا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور؛ البيت وقع وجاءته الإزالة.
سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟ قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي. أختك أخذت حقها، وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟
أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه. لم يستطع أن يفتح فمه؛ بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهامًا لا داعي له!
نظر إلى سليمان وحامد فوجدهما صامتين، رأى في صمتهما طلبًا للصفح ورغبة في التسليم، أشار إلى البيت وأراد أن يسأل: هل هذا هو بيتنا؟ وجد أن السؤال سيضيع في الفراغ.
توقف في مكانه كأنه شُد إلى الأرض بمسامير، أخذ يراقب العمال الذين يقذفون بالأخشاب في رتابة على ظهر العربة والصوت الذي تُحدِثه كأنه تُكسَّر ضلوعه.
لم يُحس بأخيه الذي اقترب منه، ومد ذراعه فوضعها على كتفه، وعندما شعر بلمسته انتفض جسده، وانزلقت قدماه فجأة فسقط على وجهه!
تناثر الطين حوله، غاص بصدره في الوحل، دخلتْ قِطع منه في عينه ولطخت جبهته.
أسرع أخوه وابن عمه يساعدانه. وجد نفسه يتشبث بالأرض، وينشج وهو يشير للبيت، ويضرب بيديه في الطين. قال لنفسه: الدكتور غرق في الوحل، الدكتور لن يُنقذه منه أحد.
انفجر البركان من صدره واشتد نشيجه، سمع نفسه يقول: أبي، أبي، انهدم برج بابل، سُدَّت كل الأبواب!