القبض على «بيزا»!
أحمد: كنت أشعر أنه قريب منَّا، ولكن ما الذي يُخفيه عنَّا؟
إلهام: أيكون في هذه الطائرة المختفية بين الأشجار …
أحمد: لا أعرف، وسأراسله لأعرف.
حاول «أحمد» إرسال رسالة ﻟ «عثمان» عن طريق ساعته الإلكترونية، فلم ينجح، فغادر السيارة … وجرى بين الأشجار محاولًا استطلاعَ أمر الطائرة. كانت الطائرة صغيرة ولا تسمح له بتسلُّقِها دون أن يُثيرَ انتباه الحارسَين الجالسين بجوارها … فتسلَّق شجرة قريبة منها، ليرى إن كان بداخلها أحد، فرأى على مرمى بصره … شابًّا أسمر يُسرع بالنزول من أعلى قمة شجرة متسلِّقًا ساقَها، ولم يستطع تحديدَ ملامحه، ولكن هيكله ليس بغريب عنه، فشعر وكأن هذا الشاب يراقب المنطقة … وقد رآه، وهو في الطريق للإبلاغ عنه، فأسرع بالهبوط والعودة إلى السيارة؛ حيث كان هناك ما يشغل «إلهام». فقد التفَّ جمعٌ من السائحين حول فتاة زنجية جميلة تلتفُّ في «ساري» حرير أصفر، وبجوارها رجلان ضخمَا الجثة تبدو على ملامحهما الشراسة، مما يدل على أنهما حارساها. فنظر إليها «أحمد» معجبًا بجمالها وهو يقول: أليست هذه «بيزا»؟
إلهام: نعم؛ إنها جميلة … وجذَّابة.
أحمد: وأين «روبيرت»؟
إلهام: أعتقد أنه لن يظهر إلا عند حضور الطائرة.
وبجوار الطائرة المختبئة دخلت سيارة جيب، فنهض الحارسان يُثبِّتان بها حبلًا من الصلب، ثم ثبَّتاه بالطائرة، وبعدها خرجت السيارة تجرُّ الطائرة بعيدًا عن الأشجار. وتوقَّفَت ليحلَّ الرجلان الحبلَ ويفتحَا بابها … ليصعد رجلٌ أشقر … فيُدير محركاتها، وتهدر مروحتها، ثم يُشير بإبهامه فتقترب «بيزا» ومعها حارساها وتصعد الطائرة … ويُغلق بابها … ثم تُحلِّق قريبًا من الأرض وتقطع مسافة قصيرة ثم تعاود الهبوط بجوار طائرة أخرى، ومن الطائرات الواقفة بأرض السافاري مكتوب عليها رقم - ٤٥٥ - ٢، فيهبط منها رجلٌ زنجي ومعه رجلان أوروبيان، ويستقلُّونها، وقبل أن تُقلِع … كان «أحمد» و«إلهام» قد أخذَا مكانهما في الطائرة ٤٤٥، وعندها أغلق قائدها الباب … وازداد هديرُ مروحتها … وارتفعت في الوقت الذي ارتفعت فيه طائرة «بيزا».
تلفَّتَ «أحمد» حوله في حذر يبحث عن «عثمان» … ولم يجده، فنظر إلى «إلهام» فوجدها وقد لصقَت وجهها بزجاج النافذة المجاورة لها تشاهد مجموعة أقواس قزح التي يصنعها الشلال، ومعها مجموعة السائحين الذين أخرجوا آلات التصوير من نوافذ الطائرة؛ لتسجيل هذه المشاهد النادرة الوجود في أي مكان في العالم، فوجدها «أحمد» فرصة للوقوف خلف قائد الطائرة، ليُتاح له المجال أكثر لمتابعة طائرة «بيزا» … وقد كان هناك شابٌّ أسمر يجلس بجوار الكابتن … فطلب منه «أحمد» أن يُعيرَه مكانه لوقت قصير، وعندما التفت الشابُّ إليه، اتسعت حدقتا «أحمد»؛ فقد كان هو «عثمان» الذي أشار له بإصبعه … ليرى من الزجاج الأمامي للطائرة … نهر «الزامبيزي» على الحدود بين «زامبيا» و«زيمبابوي» عريضًا … ليصبَّ في بحيرة تهوي بكل مياهها من فوق حافة عريضة … فتصنع شلالات فيكتوريا ويتصاعد منها الرذاذ وكأنه أعمدة الدخان الأبيض.
وتقطع الطائرة الشلالات … من أولها حتى آخرها. ويلاحظ «أحمد» أن طائرة «بيزا» قد أنهت جولتها فوق الشلالات وابتعدت عنهما؛ لتدور في حلقات واسعة … كادت تغيب فيها عن عينه … فدفع «عثمان» برفق في كَتِفِه قائلًا له: ماذا بعد؟
فأتاه صوتٌ أجشُّ من خلفهما يقول: لا شيء، إنكما مختَطفان. ثم وجَّه كلامَه لقائد الطائرة قائلًا: الطائرة مختطفة يا كابتن، توجَّه إلى منطقة المحميات.
وتحت وطأة القلق البالغ على مصير الركاب … وخوفًا عليهم … لم يجد قائد الطائرة من بُدٍّ من الانصياع لأمره، وتوجَّه بالطائرة إلى البراري. فظهرت على مدى البصر طائرةُ «بيزا»، وهنا فَهِم «أحمد» الخطة؛ فقد أمر المختطف قائد الطائرة بتتبُّعها. وبعد مسيرة عشر دقائق، والركاب في حالة ذُعْر هبطَت الطائرة المقلَّة ﻟ «بيزا» وخلفها الطائرة المقلَّة للشياطين، والتي توقَّفت على مسافة قريبة منها، فأمر المختطف بنزول «عثمان»، ثم بعد فترة قصيرة أمر بنزول «أحمد»، وأخيرًا أمر بنزول «إلهام». وأعقب ذلك إطلاق للنار متبادَل بينهم صعدت على أثره الطائرة المختطفة بأمر من مختطفها … وغابت عن العيون …
وبعد فترة قصيرة، خرج من الطائرة حارسَا «بيزا»، ففتَّشَا الشياطين الذين لم يُبدوا أيةَ مقاومة، ثم سمحوا لهم بالصعود إلى الطائرة، إلا أنهم امتنعوا؛ فهم يريدون معرفةَ ما يتم أولًا، إلا أن الحارسَين كانَا نافذَي الصبر فحاولَا الاعتداءَ بالضرب على «أحمد» و«عثمان»، فانتهى الأمر بهما إلى جذع شجرة … قيَّدوهما بها وأغلقَا فمهما ببعض الحشائش، ثم اتفقَا أن تصعد «إلهام» أولًا … لإشعارهم بالاطمئنان … وكان اللقاء ﺑ «بيزا» رائعًا، وقد بدأَته بسؤالها قائلة: لماذا أتيتم خلفنا؟
إلهام: أنتِ مطلوبة في مصر.
بيزا: أنا الآن على أرضي.
إلهام: ولو كنتِ على القمر؛ لقد ارتكبتِ جرائم في حقنا … ولن نتركك.
بيزا: أنتم تحت رحمتي، وسأنتهي منكم … وأُكمل ما قد بدأتُه.
كل هذا الحوار … وكان الرجل الأسمر الهادئ … يجلس بجوارها مبتسمًا … فأشارت إليه «إلهام» قائلة: أنت «روبيرت» … أليس كذلك؟
الرجل: نعم.
في هذه اللحظة … دخل «أحمد» إلى الطائرة، شاهرًا مسدسَه وهو يقول: لم نكن نريد أكثر من ذلك «بيزا» و«روبيرت» …
روبيرت: كيف تركوك مسلَّحًا؟
أحمد: من … حارسَيك؟ إنهما مقيَّدان بإحدى الأشجار …
وفي ابتسامة ثقة سألَته «بيزا»: وماذا ستفعل بنا؟
أحمد: سأُسلِّمكم للسلطات.
روبيرت: بأية تهمة؟
إلهام: الاختطاف.
بيزا: مَن اختطفكم … ومَن أرسلكم للتفاوض معنا، فلم تعودَا له … هرب ومعه باقي الركاب. أما الاختطاف فهو ما تفعلون الآن.
في هذه اللحظة … دخل «عثمان» قائلًا: لا تشغلوا بالكم … لقد قتلتم في بلدي الأبرياء ونحن هنا لمطاردتكم، وليس لدينا دليلٌ عليكم لنسلِّمَكم للشرطة، ولا أحدَ يملك دليلًا علينا … إن عاقبناكم.
لاحظَ «أحمد» في هذه اللحظة أن قائد الطائرة يعبث بمفاتيحها، وقد كان «عثمان» يقف خارجها ورأسه بين ريشات المروحة، وقد صدق ظنُّه؛ فقد دارت المروحة ولكن بعد أن دفع «عثمان» فسقط على الأرض، وفي نفس اللحظة انطلقَت من مسدسه رصاصة أصابَت كتفَ قائد الطائرة فصرخ متألِّمًا. وبدأت أعصاب «أحمد» تتوتَّر … إلا أن «عثمان» انتزع منه ابتسامة بقوله: كنت ستراني جميلًا بدون رأس. وكان الغروب قد بدأ يزحف على البراري، ويزحف معه القلق على وجوهِ كلِّ مَن في الطائرة. وبعد اجتماع قصير بين الشياطين، قرروا الانتهاء منهم في الغابة؛ فأدلة إدانتهم واضحة لهم … فأنزلوهم من الطائرة، وأحضروا حبلًا من معدَّاتهم … ثم قيَّدوهم حول جذوع الأشجار، وقرءوا عليهم حيثيات الاتهام، والعقاب الذي ارتضَوه لهم … وهو بأن يتركوهم طعامًا للحيوانات المفترسة.
كانت نظراتُ الدهشة هي ردَّ الفعل الوحيد الذي ظهر على مجموعة «روبيرت»، والتي لم يكن «مارلو» بينهم. ودخل الشياطين الطائرة، وكأنما لم يكن قائدها يظنُّ أنهم يُجيدون قيادتها … ويحسب أنهم سيحتاجون إليه؛ فقد صرخ جزعًا حين دارَت مروحتُها، وبدأت في الصعود عموديًّا، وصرخات «بيزا» ومن معها تعلو لتملأ جنبات الغابة. ومن الطائرة … بعث «أحمد» برسالة لرقم «صفر» … يُخبره فيها بانتهاء العملية والنتيجة التي وصلوا إليها … فأمرهم رقم «صفر» بتحديد مكانهم بدقَّة وإبلاغ السلطات، على أن يعودوا ولا يبرحوا مكانهم إلَّا بعد أن يقبض الإنتربول على «بيزا» و«روبيرت» ومَن معهما. فدار «أحمد» دورةً واسعةً بالطائرة حول المكان … وعاد يهبط قريبًا منهما، وكان الليل قد بدأ يُسدِل أستاره على الغابة، وأصوات خطوات الحيوانات المفترسة الثقيلة … يحملها الهواء من قلب الغابة إلى أسماعهم. فخشيَ «أحمد» ألَّا يصلَ رجال السلطة في الوقت المناسب.
ففكَّ قيدهم هو و«عثمان» و«إلهام» … وقبل أن ينقلوهم إلى الطائرة كان صوت طائرة أخرى يقترب عن بُعد حتى هبطَت بجوارهم، ونزل منها بعضُ الرجال المسلحين … والشياطين قد اختبئوا في الطائرة شاهرين أسلحتهم، ويسألونهم: مَن أنتم؟ فأخبروهم بأنهم من الإنتربول … وهم هنا لتسليم المجرمين … وبعد أن تشاور الشياطين، سمحوا لهم باصطحاب «بيزا» ورفاقها معهم، على أن يعودوا هم بالطائرة التي بحوزتهم. وانتظر الشياطين حتى صعدت الطائرة التي يُقِلُّها رُبَّان الإنتربول وما لم يكن في حسبانهم … أن تخرج رصاصة من نافذتها لتصطدم بمروحة طائرتهم، تبعَتها رصاصة أخرى.
فأسرع «أحمد» بإدارة محرك الطائرة … والصعود بها … ليتحرك في مسارٍ متعرِّج كالثعبان بين الأشجار العالية، مراقبًا للطائرة المُقِلَّة لأفراد العصابة وهو في دهشة لما حدث، ولكنه وجدها تطير في اتجاه الحدود مع «زامبيا»، وهناك لن يستطيع الحصول عليهم، إلا أن «عثمان» لم يصدِّق أنهم سيعبرون الحدود إلى «زامبيا» فهذه مسألة معقَّدة، وقد يتعرَّضون لإسقاط الطائرة. فقال له «أحمد»: ومَن يدريك بأنهم ليس لديهم تأشيرة دخول؟
إلا أن ما حدث بعد ذلك خالف كلَّ توقعاتهم؛ فقد رأوا الطائرة تهبط على مياه البحيرة التي يصنعها نهرُ «الزامبيزي» على الحدود بين «زيمبابوي» و«زامبيا» بجوار قارب ضخم، وأفراد العصابة يخرجون منها ليركبوا القارب.
ومن لاسلكي الطائرة حاول «أحمد» الاتصال بالسلطات في «زيمبابوي» فلم يُفلح، فاتصل برقم «صفر» من جهاز إرساله الخاص، وأبلغه بما حدث وحدَّد له مكان القارب ثم عاد … محاولًا الهبوط بالطائرة فوق القارب … إلا أنه لاحظَ أن عداد الوقود يتحرَّك مؤشرُه في اتجاه سلبي؛ مما يدل على قرب نفاده، والمسافة بين موقعه وأقرب نقطة هبوط آمنة لا تقل عن خمس عشرة دقيقة …
وكان القمر في هذه الليلة بدرًا … وأقواس قزح تفرش مساحة الشلال بالأنوار الجميلة، إلا أن الشياطين لم يستطيعوا الاستمتاع بها، وقرَّرُوا متابعة القارب حتى ولو نفد منهم الوقود … ولكن ماذا لو لم يُسعفهم الإنتربول أو سلطات الأمن؟ ستكون نهايتهم في أحضان هذا الشلال الوحشي. ومن وسط هذه التوقعات والأفكار المترقبة … أخرجهم صفير جهاز الإرسال في الطائرة … وقد كان المتحدث أحد الضباط في الشرطة يطلب تحديد موقعهم بالضبط، وقبل أن تنفد آخرُ قطرة بنزين في الطائرة … كان رجال الشرطة في «زيمبابوي» قد قبضوا على مَن في القارب، وفي نفس الوقت كان الشياطين قد نزلوا بالحبال من الطائرة، وتركوها تهوي في قاع الشلال السحيق …