مقدمة عن علم الجريمة
قال كارل ماركس في إحدى ملاحظاته القليلة حول الجريمة، التي تبدو في هذا الإطار ساخرةً بعضَ الشيء: «يُنتِج الفيلسوف أفكارًا، والشاعرُ قصائدَ، ورجلُ الدِّين عِظاتٍ، والأستاذُ الجامعي كُتبًا، وهلمَّ جرًّا. ويُنتِج المجرمُ جرائم.» كانت وجهة نظره أنه بينما قد نكون معتادين على التفكير في الجريمة من منظورٍ أخلاقي، بوصفها شيئًا يجب تجنُّبه أو مَنْعه، يمكن أيضًا اعتباره فرعًا من فروع الإنتاج. وتساءلَ: «هل كانت الأقفال لتبلغ قطُّ ما بلغَتْه الآن من درجات الإتقان لو لم يكُن هنالك لصوص؟» إن رؤيةَ بعض الأفعال على أنها جرائم، وأن الأشخاص الذين يرتكبون هذه الأفعال مجرمون، يؤدِّي إلى ظهور مجموعة متنوِّعة من المِهَن والوظائف: بَدءًا من ضباط الشُّرطة، وضباط السجون، وضباط المراقبة، إلى موظفي المحاكم والقضاة، وبالطبع خبراء علم الجريمة. وهذه «الفوائد» العديدة الناجمة عن الجريمة — التي تشمل أشخاصًا مثلي — تذكِّرنا، إن استدعى الأمرُ تذكيرًا، بأن مجالَ علمِ الجريمة ليس مجالًا محايدًا.
في الواقع، إن علم الجريمة هو مشروع «سياسي» إلى حدٍّ بعيد. وإنْ كان به ما يمكن دراسته، فهذا يرجع فقط إلى وجود قواعد اجتماعية، وهذه القواعد تُنتهَك من حين لآخَر، وبعض أولئك الذين ينتهكونها يُعاقَبون. «البعض» فقط وليس الجميع. ففي حين أنه يمكن القول جدلًا إن القانون يقيِّد حتى أصحابَ أقوى المناصب، فنادرًا ما يُعاقَب مَن هم في مثل هذه المناصب على السرقة، وإلحاق الضرر بالممتلكات وتدميرها. بل إنه في كثير من الأحيان لا يُطلق حتى على أفعالهم «جريمة». لذلك، نحن بحاجة إلى التفكير مليًّا في سببِ توصيف أفعال معيَّنة بأنها إجرامية، وفيمَن لديه السلطة لاتخاذ مثل هذه القرارات. سنعود إلى هذا الشأن في الفصل الثاني.
لاحظ الباحث الأمريكي البارز، إدوين سذرلاند، الذي نُشرت أعماله منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، أن علم الجريمة هو مجموعة من المعارف المتعلِّقة بالجريمة بوصفها ظاهرةً اجتماعية تشمل في نطاقها عمليةَ سنِّ القوانين، وخرْقَ القوانين، وردَّ الفعلِ تجاه خرْق القوانين. وعلى الرغم من وجودِ مجموعة متنوِّعة من القضايا التي يمكن أن تندرج تحت هذا التعريف — لا سيَّما نتيجة للملاحظة السابقة حول سلوك أصحاب النفوذ — فإنه يظلُّ مَدخلًا مفيدًا لمحتوى الموضوع.
تعود أصولُ علم الجريمة إلى أواخر القرن الثامن عشر وقد بدأ، كما زُعِم، كسلسلة من المجالات الصغيرة المحدودة النِّطاق، الناتجة عن مجموعاتٍ صغيرة من الأشخاص الذين يهتمون بالتفسيرات الخاصة بالجريمة إلى جانب وظائفهم الرئيسة، مثل إدارة المصحات أو جمع الإحصاءات المتعلِّقة بالسجون أو الإجراءات القضائية. استمَرَّ هذا العمل يُمارَس على نحوٍ مستقل إلى حدٍّ كبير بدلًا من أن يَتخذ أيَّ شكل من أشكال المشروعات الجماعية حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. عِلاوةً على ذلك، أشار القليل من هؤلاء العلماء — إنْ وُجدوا — إلى أنفسهم بمُسمَّى «خبراء علم الجريمة». وفي هذه المرحلة، كان من الأرجح أن يُطلَق على هذا العمل اسمُ علم الإنسان، أو علم التشريع، أو الاقتصاد السياسي، أو الطب النفسي، أو علم الفِراسة، أو العلم الشُّرطي، أو الإحصاء.
على مدار القرن العشرين، وبخُطًى بطيئة، نشأ هذا العلم الذي نعرفه الآن باسم «علم الجريمة» تدريجيًّا وترسَّخ. وتشمل فروعه التأسيسية (وذلك على أقل تقدير) علم الاجتماع، والتاريخ، وعلم النفس، والقانون، والإحصاء. وعلى الرغم من تنامي مجال علم الجريمة بوصفه موضوعًا للدراسة له كتبٌ دراسية، وشهادات، وأقسام جامعية، ودوريات أكاديمية، ومؤتمرات سنوية، وجوائز، وأوسِمة، فلا يزال من الأفضل النظرُ إليه باعتباره موضوعًا أو مجالًا للدراسة، لا تخصُّصًا في حد ذاته. وهذا يعني، على حد قول ديفيد جارلاند، أن علم الجريمة «ليس له موضوع نظري مميَّز ولا طريقة مميَّزة للتحقيق خاصة به». فهو يعتمد على نظريات التخصُّصات الأخرى وأساليبها، وعلى هذا النحو، من الأفضل اعتباره «موضوعًا تجميعيًّا»؛ أيْ موضوعًا يجتمع فيه أشخاص من منظورات أكاديمية مختلفة.
من النتائج المترتِّبة على ذلك عدمُ وجود قَدْر كبير من الاتفاق حول كيفية النظر إلى علم الجريمة وتطبيقه. إذَن، مَن هو الخبير بعلم الجريمة؟ عندما يسألني أحدُهم عمَّا أفعله، لا أكون متأكدًا أبدًا بشأن ردِّ الفعل الناجم عن قولي: إنني «خبير بعلم الجريمة». فمن المعروف أن بعض الأشخاص يستقبلون هذا الخبر بخُطَبٍ لاذعة مطوَّلة حول الحالة المزرية لمنظومة العدالة الجنائية، ولماذا نحتاج إلى وضع الناس في السجون مدى الحياة. بينما سيُبدي آخَرون ردَّ فعلٍ حماسيًّا، راغِبِين في معرفةِ ما يعنيه الشروع في القبض على المجرمين. ولا يزال هناك آخَرون، ممَّن تأثَّروا كثيرًا بسلسلة المسلسل التليفزيوني «التحقيق في موقع الجريمة» (سي إس آي)، سيسألون عن أحدثِ تقنيات التنميط الجنائي، وبالطبع عن القتَلة المتسلسلين.
وبالرغم من خطورةِ فقدان القرَّاء في الصفحات الأولى من الكتاب، فقد حان الوقتُ للاعتراف بأن هذه الافتراضات حول علم الجريمة، على أفضل تقدير، تفتقر إلى الدقة بعض الشيء. فمعظم زملائي، بمَن فيهم أنا، غير منخرطين في التحقيق في الجرائم، بأي طريقة يومية بالتأكيد. وعلى الرغم من وجود متخصِّصين في الطب الشرعي، فإن العمل بأسلوب التحقيق في موقع الجريمة لا يَظهر عمومًا في علم الجريمة السائد. وعلى الرغم من أن وظيفتي تنطوي على الإثارة من حينٍ لآخَر، فإن الإثارة المتعلِّقة برؤية طلَّابي ينجحون تتجاوز بكثير الإثارةَ الناجمة عن مطاردة القَتَلة المتسلسلين.
وعلى أملِ أنكم مستمرون في القراءة حتى هذه النقطة، سأذكر الآن بعضًا ممَّا يدور حوله هذا الكتاب في الواقع. والهدف من ذلك هو مَنْحُك رؤيةً ثاقبة لطبيعة علم الجريمة، وإثارة بعضٍ من أهم الأسئلة التي تواجه علم الجريمة؛ ودَحْض بعض الخرافات حول الجريمة والمجرمين، واستخدام بعضٍ من أحدَث الأبحاث لتقديم فكرة عمَّا نعرفه عن الجريمة والإجرام، وبالطبع عمَّا لا نستطيع ادِّعاء معرفته بعدُ أيضًا.
سنبدأ بالبحثِ بشيء من التفصيل في أحدِ الشواغل الأساسية لعلم الجريمة وهو: الجريمة. تبدو فكرةً بسيطة ظاهريًّا، لكن سرعان ما سنرى أنها تنطوي على الكثير، أكثر بكثير مما يبدو للوهلة الأولى. في الواقع، إن هذا الجزء من موضوع علم الجريمة إشكالي إلى حد كبير، ولا بد أولًا وقبل كل شيء أن نتعلم كيفيةَ التعامل معه بحذر شديد. ومع أَخْذ هذا الحذر في الاعتبار، سنركِّز بعد ذلك على سؤالين مُهِمَّين. أولًا: مَن يرتكب الجريمة؟ ثانيًا، ما الاتجاهاتُ الرئيسة السائدة في الجريمة في العقود الأخيرة؟ هل تعرُّض مجتمعاتنا للجريمة يزداد أم يقل؟ وكيف يمكن أن نفسِّر مثل هذه الاتجاهات السائدة؟
بعد النظر في طبيعة الجريمة والإجرام، جنبًا إلى جنب مع الاتجاهات السائدة في الجريمة، سنتحوَّل إلى مسألةِ كيفية الاستجابة إلى الجريمة والتعامل معها. وسنتعرف على القليل عن حدود منظومة العدالة الجنائية الرسمية (الشُّرطة، والمحاكم، والسجون، وما إلى ذلك)، ونفكِّر قليلًا في دور المصادر غير الرسمية للرقابة المجتمعية مثل: الأسَر، والمدارس، والجيران. وأخيرًا، سنُلقي نظرةً على ما هو معروف عن منْع الجريمة: ذلك النشاط المزدهر الذي يركِّز على كيفيةِ جَعْلِ ارتكاب الجريمة أمرًا أصعبَ أو أقلَّ جاذبية.
في كتابٍ مكوَّن من ٥٠٠ صفحة نُشر قبل بضع سنوات بعنوان «ما هو علم الجريمة؟» بحثَ أكثرُ من ثلاثين مؤلِّفًا في جوانبَ مختلفة من علم الجريمة المعاصر. وتباينَت اهتماماتهم من طبيعة علم الجريمة وكيفية تطبيقه، إلى الغرضِ منه وتأثيره. إن الصورة التي تبرُز من الكتاب لعلم الجريمة هي صورة لموضوعٍ متنوِّع للغاية، ومليء بالاستبطانات النقدية، يضم أفرادًا لهم وجهات نظر وأولويات شديدة التباين. وفي رأيي أن هذا الكم الوفير من الاختلافات والخلافات يُعتبر مصدرَ قوة أكثر منه مصدر ضعف. فهو دلالة على أنه موضوع غنيٌّ بالاحتمالات ومليء، وهو ما آمُل أن أقنعك به، بالأسئلة المثيرة والمهمة.